معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ١

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ١

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٣

فإن قلت : ما الحكمة فى تعبيره فى آية البقرة بالسراح (١) فى مكان الفراق هنا.

والجواب لاكتناف آية البقرة النهى عن مضارّة النساء وتحريم أخذ شىء منهن ما لم يكن منهن ما يسوّغ ذلك من ألّا يقيما حدود الله ، فلما اكتنفها ما ذكر وأتبع ذلك بالمنع عن عضلهنّ ، وتكرر أثناء ذلك ما يفهم الأمر بمجاملتهن والإحسان إليهن حالى الاتصال والانفصال لم يكن ليناسبها ـ قصد من هذا أن يعبّر بلفظ : (أَوْ فارِقُوهُنَّ) ، لأن لفظ الفراق أقرب إلى الإساءة منه إلى الإحسان ، فعوّل إلى ما يحصل منه المقصود مع تحسين العبارة ، وهو لفظ التسريح ؛ فقال تعالى (٢) : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ؛ وليجرى مع ما تقدم من قوله تعالى (٣) : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ). وقيل هنا : بإحسان ليناسب به تعالى المذكور من قوله : أو تسريح. وقد روعى فى هذه الآى كلّها مقصد التلطّف ، وتحسين الحال فى الصحبة والافتراق ؛ ولما لم يكن فى سورة الطلاق تعرّض لعضل ، ولا ذكر مضارة ـ لم يذكر ؛ وورد التعبير بلفظ : أو فارقوهنّ ، على الانفصال ، ووقع الاكتفاء فيما يراد [٢٤٢ ا] من المجاملة فى الحالين بقوله : معروف ؛ وبان افتراق القصتين فى السورتين ، وورود كلّ من العبارتين على ما يجب.

(فأنفقوا عليهنّ حتى يضعن حملهنّ (٤)) : اتفق العلماء على وجوب النفقة المطلقة الحامل ، عملا بهذه الآية ، إذا (٥) كان الطلاق رجعيّا. وإن كان بائنا

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩ : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وفيها (٢٣١) : فأمسكوهن معروف أو سرحوهن بمعروف.

(٢) البقرة : ٢٣

(٣) البقرة : ٢٢٩

(٤) الطلاق : ٦

(٥) والقرطبى : ١٨ ـ ١٦٧

١٤١

اختلفوا فى نفقتها. وأمّا المتوفّى عنها إذا كانت حاملا فلا نفقة لها عند مالك والجمهور ؛ لأنهم رأوا أنّ هذه الآية إنما هى فى المطلقة. وقال قوم : لها النفقة فى التركة.

(فإنّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين (١)) : هو أبو بكر الصديق على قول من قال إنه مفرد (٢). وقيل على بن أبى طالب. وعلى القول بأنه جمع محذوف النون للإضافة فهو على العموم فى كلّ صالح. والخطاب لنبينا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ يعنى إن تعاونتما (٣) عليه بما يسوؤه من إفراط الغيرة وإفشاء سره ونحو ذلك فإنّ له من ينصره.

ومولاه هنا يحتمل أن يكون بمعنى السيد الأعظم فيوقف على مولاه ، ويكون جبريل مبتدأ وظهير خبره وخبر ما عطف عليه. ويحتمل أن يكون المولى هنا بمعنى الولىّ الناصر ، فيكون جبريل معطوفا ، فيوصل مع ما قبله ، ويوقف على صالح المؤمنين ، ويكون الملائكة مبتدأ وظهير خبره. وهذا أرجح وأظهر ؛ لوجهين :

أحدهما ـ أن معنى الناصر أليق بهذا الموضع ؛ فإن ذلك كرامة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشريف له. وأما إذا كان بمعنى السيد فذلك يشترك فيه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع غيره ؛ لأنّ الله مولى جميع خلقه بهذا المعنى ؛ فليس فى ذلك إظهار مزيّة له.

__________________

(١) التحريم : ٤

(٢) أى كلمة صالح. وفى القرطبى (١٨ ـ ١٨٩) : وقيل صالح المؤمنين ليس لفظ الواحد ، وإنما هو صالحو المؤمنين ، فأضاف الصالحين إلى المؤمنين ، وكتب بغير واو على اللفظ.

(٣) فى القرطبى : يعنى حفصة وعائشة (١٨ ـ ١٨٨).

١٤٢

الزيغ فيظنون (١) تأويله ، ولا يبلغون كنهه ؛ فيرتابون به فيفتتنون.

وقال ابن الحصار : قسّم الله آيات القرآن إلى محكم ومتشابه ، وأخبر عن المحكمات أنها أم الكتاب ؛ لأنه إليها تردّ المتشابهات ، وهى التى تعتمد فى فهم مراد الله من خلقه ، أى فى كل ما تعبّدهم به من معرفته وتصديق رسله ، وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه. وبهذا الاعتبار كانت أمهات. ثم أخبر عن الذين فى قلوبهم زيغ أنهم هم الذين يتبعون ما تشابه منه.

ومعنى ذلك أن من لم يكن على يقين من المحكمات ، وفى قلبه شك واسترابة ، كانت راحته فى تتبع المشكلات المتشابهات ؛ ومراد الشارع منا التقدم إلى فهم المحكمات ، وتقديم الأمهات ، حتى إذا حصل اليقين ، ورسخ العلم لم تبال بما أشكل عليك.

ومراد هذا الذى فى قلبه زيغ التتبع (٢) إلى المشكلات ، وفهم المتشابه قبل فهم الأمهات ؛ وهو عكس المعقول والمعتاد والمشروع ، ومثل هؤلاء من المشركين الذين يقترحون على رسلهم آيات غير الآيات التى جاءوا بها ، ويظنون أنهم لو جاءتهم آيات أخر آمنوا عندها جهلا منهم ، وما علموا أن الإيمان بإذن الله تعالى. انتهى.

[الآيات ثلاثة أضرب]

وقال الراغب فى مفردات القرآن (٣) : الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب : محكم على الإطلاق. ومتشابه على الإطلاق. ومحكم من وجه ومتشابه من وجه.

__________________

(١) فى الاتقان : فيطلبون.

(٢) فى الاتقان : التقدم.

(٣) صفحة ٢٥٤

١٤٣

[أضرب المتشابه]

فالمتشابه بالجملة ثلاثة أضرب :

متشابه من جهة اللفظ فقط ؛ ومن جهة المعنى فقط ؛ ومن جهتهما.

فالأول ضربان : أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة ، إما من جهة الغرابة ، نحو : اللاذب وينزفون (١). أو الاشتراك كاليد والعين (٢).

وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب ؛ وذلك ثلاثة أضرب :

ضرب لاختصار الكلام ، نحو (٣) : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ).

ضرب لبسطه. نحو (٤) : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ؛ لأنه لو قيل : ليس مثله شىء كان أظهر للسامع.

وضرب لنظم الكلام ؛ نحو (٥) : (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً). تقديره : أنزل على عبده [٢٦ ا] الكتاب قيما ، ولم يجعل له عوجا.

والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى ، وأوصاف القيامة ؛ فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذ كان لا يحصل فى نفوسنا صورة ما لم نحسه ، أو ليس من جنسه.

والمتشابه من جهتها خمسة أضرب :

الأول ـ من جهة الكمية ، كالعموم والخصوص ؛ نحو (٦) : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

__________________

(١) فى الاتقان والمفردات : ويزفون.

(٢) فى الاتقان : واليمين.

(٣) النساء : ٣

(٤) الشورى : ١١

(٥) الكهف : ١ ، ٢

(٦) التوبة : ٥

١٤٤

والثانى ـ من جهة الكيفية ؛ كالوجوب والندب ؛ نحو (١) : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ).

والثالث ـ من جهة الزمان ، كالناسخ والمنسوخ ؛ نحو (٢) : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ).

والرابع ـ من جهة المكان والأمور التى نزلت فيها ؛ نحو (٣) : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها). (إِنَّمَا (٤) النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ). فإن من لا يعرف عادتهم فى الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه الآية.

والخامس ـ من جهة الشروط التى يصح بها الفعل ويفسد ، كشروط الصلاة والنكاح.

قال : وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون فى تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم.

ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب :

ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه ، كوقت الساعة ، وخروج الدابة ، ونحو ذلك.

وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته ؛ كالألفاظ الغريبة ، والأحكام الغلقة.

وضرب متردد بين الأمرين يختص بمعرفته بعض الراسخين فى العلم ، ويخفى على من دونهم ، وهو المشار إليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [لابن عباس :](٥) اللهم فقّهه فى الدين ، وعلمه التأويل.

وإذا عرفت هذه الجملة عرفت أن الوقوف على قوله (٦) : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ

__________________

(١) النساء : ٣

(٢) آل عمران : ١٠٢

(٣) البقرة : ١٨٩

(٤) التوبة : ٣٧

(٥) من الاتقان.

(٦) آل عمران : ٧

١٤٥

إِلَّا اللهُ) ، ووصله بقوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ـ جائزان ، وأن لكل واحد منهما وجها حسبما دل عليه التفضيل المتقدم. انتهى.

[لا يصرف اللفظ عن الراجح إلا بدليل]

وقال الإمام فخر الدين : صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل ؛ وهو إما لفظى وإما عقلى. والأول لا يمكن اعتباره فى المسائل الأصولية ؛ لأنه لا يكون قاطعا ؛ لأنه موقوف على انتفاء الاحتمالات العشرة المعروفة ، وانتفاؤها مظنون ، والموقوف على المظنون مظنون ، والظنى لا يكتفى به فى الأصول.

وأما العقلى فإنه يفيد صرف اللفظ عن ظاهره لكون الظاهر محالا. وأما إثبات المعنى المراد فلا يمكن بالعقل ؛ لأن طريق ذلك ترجيح مجاز على مجاز وتأويل على تأويل ؛ وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدليل اللفظى ؛ والدليل اللفظى فى الترجيح ضعيف لا يفيد إلا الظن ؛ والظن لا يعوّل عليه فى المسائل الأصولية [القطعية ؛](١) فلهذا اختار الأئمة المحققون من السلف والخلف ـ بعد إقامة الدليل القاطع على أن حمل اللفظ على ظاهره محال ـ ترك الخوض فى تفسير التأويل. انتهى.

وحسبك بهذا الكلام من الإمام.

فصل

من المتشابه آيات الصفات. ولابن اللبان فيها تصنيف مفرد ؛ نحو (٢) : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى). (كُلُ (٣) شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ...).

__________________

(١) من الإتقان.

(٢) طه : ٥

(٣) القصص : ٨٨

١٤٦

(يَدُ (١) اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ، ونحوها.

وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها ، وتفويض معناها المراد إلى الله تعالى ، ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها.

أخرج أبو القاسم اللّالكائى (٢) من طريق فى السنة (٣) ، عن الحسن ، عن أمه ، عن أم سلمة فى قوله (٤) : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ؛ قال : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإقرار به من الإيمان ، والجحود به كفر.

وأخرج أيضا عن محمد بن الحسن ، قال : اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه.

وقال الترمذى فى الكلام على حديث الرؤية : المذهب فى هذا عند أهل العلم من الأئمة ـ مثل سفيان الثورى ، ومالك ، وابن المبارك ، وابن عيينة ، ووكيع ، وغيرهم ـ أنهم قالوا : نروى هذه الأحاديث كما جاءت ونؤمن بها ، ولا يقال كيف؟ ولا نفسر ولا نتوهّم.

وذهبت طائفة من أهل السنّة أنّا نؤوّلها على ما يليق بجلاله تعالى ؛ وهذا مذهب الخلف. وكان إمام الحرمين يذهب إليه ، ثم رجع عنه ؛ فقال فى الرسالة النظامية : الذى نرتضيه دينا وندين الله به [٢٦ ب] عقدا اتباع سلف الأمة ، فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها.

وقال ابن الصلاح (٥) : وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها ، وإياها

__________________

(١) الفتح : ١٠

(٢) هو هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائى ، كان من فقهاء الشافعية ، وصاحب كتاب السنن ، توفى سنة ٤١٨ (تاريخ بغداد : ١٤ ـ ٧٠).

(٣) فى الإتقان : فى السنة من طريق قرة بن خالد عن الحسن.

(٤) طه : ٥

(٥) البرهان : ٢ ـ ٧٨

١٤٧

اختار أئمة الفقهاء وقادتها ، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ، ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها.

[مذهب التأويل]

واختار ابن برهان (١) مذهب التأويل ؛ قال : ومنشأ الخلاف بين الفريقين : هل يجوز أن يكون فى القرآن شىء لم يعلم معناه أم لا؟ بل يعلمه الراسخون.

وتوسّط ابن دقيق العيد ، فقال : إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر ، أو بعيدا توقفنا عنه ، وآمنا بمعناه على الوجه الذى أريد به التنزيه. قال : وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب قلنا به من غير توقيف ، كما فى قوله (٢) : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ). فنحمله على حق الله وما يجب له.

وكذا استواؤه على العرش بالعدل والقهر ؛ كقوله (٣) : (قائِماً بِالْقِسْطِ) ؛ فقيامه بالقسط والعدل هو استواؤه ، ويرجع معناه إلى أنه أعطى كل شىء خلقه موزونا بحكمته البالغة.

وقد أكثر الناس فى جواب هذه الآية حتى أنهاه إلى عشرين حذفناها للاطالة.

[النفس]

ومن ذلك قوله تعالى (٤) : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي). خرج على سبيل المشاكلة ، مرادا به الغيب ؛ لأنه مستتركا لنفس.

__________________

(١) هو أبو الفتح أحمد بن على بن برهان الشافعى أحد علماء الأصول وصاحب كتاب البسيط والوجيز ، توفى سنة ٥٢٠.

(٢) الزمر : ٥٦

(٣) آل عمران : ١٨

(٤) المائدة : ١١٦

١٤٨

وقوله (١) : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ؛ أى عقوبته ، وقيل إياه.

وقال السّهيلى (٢) : النفس عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد. وقد استعمل من لفظها النفاسة ، والشيء النفيس ؛ فصلحت للتعبير عنه سبحانه.

وقال ابن اللبان : أوّلها العلماء بتأويلات ؛ منها أن النفس عبّر بها عن الذات ؛ قال : وهذا وإن كان سائغا فى اللغة ، ولكن تعدى الفعل إليها ب فى المفيد للظرفية محال عليه تعالى. وقد أوّلها بعضهم بالغيب ؛ أى ولا أعلم ما فى غيبك وسرك. قال : وهذا حسن ؛ لقوله آخر الآية : إنك أنت علّام الغيوب.

[الوجه]

ومن ذلك «الوجه» ، وهو مؤوّل بالذات.

وقال ابن اللبان ـ فى قوله (٣) : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ). (إِنَّما (٤) نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ). (ابْتِغاءَ (٥) وَجْهِ اللهِ) : المراد إخلاص النية.

وقال غيره فى قوله (٦) : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ؛ أى الجهة التى أمر بالتوجه إليها.

[العين]

ومن ذلك «العين» ، وهى مؤولة بالبصر أو الإدراك ؛ بل قال بعضهم : إنها حقيقة فى ذلك ، خلافا لتوهم بعض الناس أنها مجاز ؛ وإنما المجاز فى تسمية العضو بها.

__________________

(١) آل عمران : ٢٨

(٢) هو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلى ، صاحب كتاب الروض الأنف على سيرة ابن هشام. توفى سنة ٥٨١ (إنباه الرواة : ٢ ـ ١٦٢).

(٣) الأنعام : ٥٧

(٤) الدهر : ٩

(٥) البقرة : ٢٧٢

(٦) البقرة : ١١٥

١٤٩

وقال ابن اللبان : نسبة العين إليه تعالى اسم لآياته المبصرة ، بها سبحانه ينظر للمؤمنين وبها ينظرون إليه. قال (١) : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ : آياتُنا مُبْصِرَةً). نسب البصر للآيات على سبيل المجاز تحقيقا لأنها المرادة المنسوبة إليه. وقال (٢)(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ. فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها).

قال : فقوله (٣) : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) ؛ أى بآياتنا تنظر (٤) إليها بنا وننظر بها إليك ؛ قال : ويؤيد أن المراد بالأعين الآيات كونها علّل بها الصبر لحكم ربه صريحا [فى قوله :](٥)(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) (٦). قال : وقوله فى سفينة نوح (٧) : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) ؛ أى بآياتنا ، بدليل قوله (٨) : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها). وقال (٩) : و (لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) ؛ أى على حكم آيتى التى أوحيتها إلى أمّك : (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ...) الآية. انتهى.

وقال غيره : المراد فى الآيات كلاءته وحفظه.

(اليد)

ومن ذلك اليد [فى قوله تعالى (١٠) : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ). (يَدُ (١١) اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ). (مِمَّا (١٢) عَمِلَتْ أَيْدِينا). (إِنَ (١٣) الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) ، وهى](١٤) مؤولة بالقدرة.

وقال السهيلى : اليد فى الأصل كالمصدر (١٥) عبارة عن صفة لموصوف ،

__________________

(١) النمل : ١٣

(٢) الأنعام : ١٠٤

(٣) الطور : ٤٨

(٤) فى الإتقان : تنظر بها إلينا.

(٥) من الإتقان.

(٦) الإنسان : ٢٣

(٧) القمر : ١٤

(٨) هود : ٤١

(٩) طه : ٣٩

(١٠) ص : ٧٥

(١١) الفتح : ١٠

(١٢) يس : ٧١

(١٣) آل عمران : ٧٣

(١٤) من الاتقان.

(١٥) فى الاتقان : كالبصر. والمثبت فى البرهان أيضا (٢ ـ ٨٥).

١٥٠

ولذلك مدح سبحانه بالأيدى مقرونة مع الأبصار فى قوله (١) : (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) ؛ ولم يمدحهم بالجوارح ، لأن المدح إنما يتعلق بالصفات لا بالجواهر. قال الأشعرى : إن اليد صفة ورد بها الشرع.

والذى يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة ، إلا أنها أخص ، والقدرة أعم ، كالمحبة مع الإرادة والمشيئة ، فإن فى اليد تشريفا لازما.

وقال البغوى (٢) فى قوله : «بيدىّ» : فى تحقيق الله التثنية فى اليد دليل على أنها ليست بمعنى القدرة والقوة والنعمة ، وأنهما هنا صفتان من صفات ذاته.

وقال مجاهد (٣) : اليد هاهنا صفة (٤) وتأكيد ؛ لقوله (٥) : (وَيَبْقى وَجْهُ) [٢٧ ا] (رَبِّكَ).

قال البغوى : وهذا تأويل غير قوى ؛ لأنها لو كانت صفة لكان لإبليس أن يقول : إن كنت خلقته فقد خلقتنى ؛ وكذلك فى القدرة والنعمة لا يكون لآدم فى الخلق مزيّة على إبليس.

وقال ابن اللبان (٦) : فإن قلت : فما حقيقة اليدين فى خلق آدم؟ قلت : الله أعلم بما أراد ، ولكن الذى استفسرته من تدبر كتابه أن اليدين استعارة لنور قدرته القائم بصفة فضله ولنوره (٧) القائم بصفة عدله ؛ ونبه على تخصيص آدم وتكريمه

__________________

(١) ص : ٤٥.

(٢) البرهان : (٢ ـ ٨٦).

(٣) البرهان : (٢ ـ ٨٦).

(٤) فى البرهان ، والاتقان : صلة.

(٥) الرحمن : ٢٧.

(٦) هو محمد بن أحمد بن عبد المؤمن الدمشقى ، مفسر من علماء العربية ، وله كتاب «رد معانى الآيات المتشابهات إلى معانى الآيات المحكمات». توفى سنة ٧٤١ (الدرر الكامنة : ٣ ـ ٣٣).

(٧) فى ا : ولنورها.

١٥١

بأن جمع له فى خلقه بين فضله وعدله ؛ قال : وصاحبة الفضل هى اليمين التى ذكرها فى قوله (١) : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ).

[الساق]

ومن ذلك قوله تعالى (٢) : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ). معناه عن شدة وأمر عظيم ؛ كما يقال : قامت الحرب على ساق.

وأخرج الحاكم فى المستدرك من طريق عكرمة ، عن ابن عباس ـ أنه سئل عن قوله (٢) : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ). قال : إذا خفى عليكم شىء من القرآن فابتغوه (٣) فى الشعر ؛ فإنه ديوان العرب ؛ أما سمعتم قول الشاعر :

اصبر عناق إنه شر باق

قد سنّ لى قومك ضرب الأعناق

وقامت الحرب بنا على ساق

قال ابن عباس : هذا يوم كرب وكرب وشدة.

[الفوقية]

ومن ذلك صفة الفوقية فى قوله (٤) : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ). (يَخافُونَ (٥) رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ). المراد بها العلو من غير جهة. وقد قال فرعون (٦) : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ). ولا شك أنه لم يرد العلو المكانى.

[المجيء]

ومن ذلك صفة المجيء فى قوله (٧) : (وَجاءَ رَبُّكَ). أو يأتى ربّك ؛

__________________

(١) الزمر : ٦٧.

(٢) القلم : ٤٢.

(٣) فى الإتقان : فابتغوه.

(٤) الأنعام : ١٨.

(٥) النحل : ٥٠.

(٦) الأعراف : ١٢٧.

(٧) الفجر : ٣٢.

١٥٢

أى أمره ؛ لأن الملك يجيء بأمره أو بتسليطه ، كما قال تعالى (١) : (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ؛ فصار كما لو صرح به.

وكذا قوله (٢) : «اذهب (أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) : أى اذهب [بربك ، أى](٣) بتوفيقه وقربه (٤).

[الحب]

ومن ذلك صفة الحب فى قوله (٥) : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ). (فَاتَّبِعُونِي (٦) يُحْبِبْكُمُ اللهُ).

[الغضب والعجب والرضا والرحمة]

وصفة الغضب فى قوله : (غَضِبَ اللهُ). وصفة الرضا فى قوله : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ).

وصفة العجب فى قوله (٧) : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) ـ بضم التاء. وقوله (٨) : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ).

وصفة الرحمن فى آيات كثيرة.

وقد قال العلماء : كل صفة يستحيل حقيقتها على الله تعالى تفسّر بلازمها.

[جميع الأعراض النفسانية]

قال الإمام فخر الدين : جميع الأعراض النفسانية ـ أعنى الرحمة ، والفرح ، والسرور ، والغضب والحياء والكره (٩) والاستهزاء لها أوائل ولها غايات ؛ مثاله

__________________

(١) الأنبياء : ٢٧

(٢) المائدة : ٢٤

(٣) من الإتقان.

(٤) فى الإتقان : وقوته.

(٥) المائدة : ٥٤

(٦) آل عمران : ٣١

(٧) الصافات : ١١

(٨) الرعد : ٥

(٩) فى الإتقان : والمكر.

١٥٣

الغضب ؛ فإن أوله غليان القلب ، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه ، فلفظ الغضب فى حق الله لا يحمل على أوله الذى هو غليان دم القلب ؛ بل على غرضه الذى هو إرادة الإضرار.

وكذلك الحياء له أول ، وهو انكسار يحصل فى النفس ، وله غرض وهو ترك الفعل ؛ فلفظ الحياء فى حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس. انتهى.

وقال الحسين بن الفضل (١) : العجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه. وسئل الجنيد عن قوله : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) ؛ [فقال : إن الله لا يعجب من شىء ، ولكن الله وافق رسوله ، فقال : وإن تعجب فعجب قولهم](٢) ؛ أى هو كما تقول.

[العندية]

ومن ذلك لفظة (عِنْدَ) فى قوله (٣) : (عِنْدَ رَبِّكَ). و (٤) (مِنْ عِنْدِهِ). ومعناها الإشارة إلى لتمكين والزّلفى والرفعة.

[المعيّة]

ومن ذلك قوله (٥) : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ؛ أى بعلمه.

وقوله (٦) : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ). قال البيهقى : الأصح أن معناه أنا المعبود فى السموات وفى الأرض ؛ مثل قوله (٧) : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ).

__________________

(١) البرهان : ٢ ـ ٨٨

(٢) من الإتقان.

(٣) الأعراف : ٢٠٦

(٤) المائدة : ٥٢

(٥) الحديد : ٤

(٦) الأنعام : ٣

(٧) الزخرف : ٨٤

١٥٤

وقال الأشعرى : الظرف متعلق بيعلم ، أى عالم بما فى السموات والأرض.

ومن ذلك قوله تعالى (١) : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) ، أى نقصد جزاءكم.

قال ابن اللبان : ليس من المتشابه قوله تعالى (٢) : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) ، لأنه فسره بعده بقوله : إنه هو يبدئ ويعيد ، تنبيها على أن بطشه عبارة عن تصرفه فى بدئه وإعادته ، وجميع تصرفاته فى مخلوقاته.

[من المتشابه أوائل السور]

ومن المتشابه أوائل السور. والمختار فيها [٢٧ ب] أنها أيضا من الأسرار التى انفرد الله بعلمها. وقد كثرت الأقوال فيها ، ومرجعها كلها إلى قول واحد ، وهو أنها حروف مقطعة ، كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى.

والاكتفاء ببعض الكلمة معهود من العربية ، قال الشاعر (٣) :

قلت قفى فقالت قاف

أى وقفت. وقال (٤) :

بالخير خيرات وإن شرّا فا

ولا أريد الشرّ إلا أن تا (٥)

قالوا (٦) جميعا كلهم ألافا

أراد ألا تركبوا ألا فاركبوا. وهذا القول اختاره الزجاج. وقال : العرب تنطق بالحرف الواحد تدل على الكلمة التى هو منها.

__________________

(١) الرحمن : ٣١

(٢) البروج : ١٢

(٣) الأغانى : ٥ ـ ١٣١ ، تفسير الطبرى : ١ ـ ٢١٢ ، الصاحبى : ٩٤

(٤) الموشح : ١٥ ، سيبويه : ٢ ـ ٦٢ ، شرح شواهد الشافية ٢٦٢ :

(٥) أراد وإن شرا فشر. وإلا أن تشاء.

(٦) فى الإتقان : قبله : وقال : نادهم ألا الجموا؟ الأناء؟ وهو لازم ليوافق تفسيره الآتى بعد.

١٥٥

وقيل : إنها الاسم الأعظم ، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها ، وكذا نقله ابن عطية.

وأخرج ابن جرير بسند صحيح عن ابن مسعود ، قال : هو اسم الله الأعظم.

قال السهيلى : لعل عدد الحروف التى فى أوائل السور مع حذف المكرر للاشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة.

قال ابن حجر : وهذا باطل لا يعتمد عليه ؛ فقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن عد «أبى جاد» والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر ؛ وليس ذلك ببعيد ؛ فإنه لا أصل له فى الشريعة.

وقد قال القاضى أبو بكر بن العربى فى فوائد رحلته : ومن الباطل علم الحروف المقطعة فى أوائل السور. وقد تحصّل لى فيها عشرون قولا ، وأزيد ، ولا أعرف واحدا يحكم عليها بعلم ، ولا يصل فيها إلى فهم. والذى أقول إنه لو لا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولا متداولا بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. بل تلا عليهم حم فصلت وص وغيرهما فلم ينكروا ذلك ؛ بل صرحوا بالتسليم له فى البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى عثرة ، وحرصهم على زلة ؛ فدل على أنه كان أمرا معروفا عندهم لا إنكار فيه.

وقيل : هى تنبيهات كما فى النداء ـ عده ابن عطية مغايرا للقول بأنها فواتح. والظاهر أنه معناه. قال أبو عبيدة : الم افتتاح كلام. وقال الحوفى (١) : القول بأنها تنبيهات جيد ؛ لأن القرآن كلام عزيز وفوائده غزيرة ؛ فيريد (٢) أن يرد على سمع متنبّه ، فكان من الجائز أن يكون الله قد علم فى بعض الأوقات كون

__________________

(١) فى الإتقان : اخويى. والمثبت فى ا ، ب.

(٢) فى الإتقان : فينبغى.

١٥٦

النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى عالم البشر مشغولا ، فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله الم ، والمر ، وحم ؛ ليسمع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صوت جبريل ، فيقبل عليه ويصفى إليه ، وإنما لم يستعمل الكلمات المشهورة فى التنبيه كألا وأمّا ، لأنها من الألفاظ التى يتعارفها الناس فى كلامهم ، والقرآن كلام لا يشبه الكلام ، فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد ليكون أبلغ فى قرع سمعه.

وقيل : إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه ، فأنزل الله هذا النظم البديع ليعجبوا منه ويكون تعجبهم منه سببا لاستماعهم ؛ واستماعهم له سبب لاستماع ما بعده ؛ فترقّ القلوب وتلين الأفئدة.

عدّ هذا جماعة قولا مستقلا. والظاهر خلافه ؛ وإنما يصلح هذا مناسبة لبعض الأقوال لا قولا فى معناه ، إذ ليس فيه بيان معنى.

وقيل : إن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف : ألف ، ب ، ت ، ث ؛ فجاء بعضها مقطعا وبعضها مؤلفا ؛ ليدل القوم الذين نزل القرآن بلغتهم أنه بالحروف التى يعرفونها ، فيكون ذلك تقريعا لهم ، ودلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله ، بعد أن علموا أنه منزل بالحروف التى يعرفونها ، ويبنون كلامهم عليها. وفى المحتسب لابن جنّى أن ابن عباس قرأ حم سق ، بلا عين ويقول : السين كل فرقة تكون. والقاف كل جماعة تكون. قال ابن جنى : وفى هذه القراءة دليل على أن الفواتح فواصل بين السور ، ولو كانت أسماء لله لم يجز تحريف شىء منها.

وقال الكرمانى فى غرائبه : فى قوله (١) : (الم : أَحَسِبَ النَّاسُ)؟ الاستفهام هنا يدل على انقطاع الحروف عما بعدها فى هذه السورة وفى غيرها.

__________________

(١) العنكبوت : ١ ، ٢

١٥٧

فإن قلت : هل للمحكم على المتشابه مزيّة أم لا؟ فإن قلتم بالثانى فهو خلاف الإجماع ، أو بالأول فقد نقضتم أصلكم فى أن جميع [٢٨ ا] كلامه سبحانه سواء ، وأنه منزل بالحكمة.

وأجاب أبو عبد الله البكرآباذي (١) بأن المحكم كالمتشابه من وجه ، ويخالفه من وجه ؛ فيتفقان فى أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع ، وأنه لا يختار القبيح. ويختلفان فى أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد ، فمن سمعه أمكنه أن يستدل به فى الحال. والمتشابه يحتاج إلى فكرة ونظر (٢) ، ليحمله على الوجه المطابق ، ولأن المحكم أصل ، والعلم بالأصل أسبق ، ولأن المحكم يعلم مفصلا ، والمتشابه لا يعلم إلا مجملا.

[لما ذا اشتمل القرآن على المتشابه]

فإن قلت : وقد أراد الحق البيان والهدى لعباده ، وأمر بذلك رسوله فى قوله : ليبيّن للناس ما نزّل إليهم.

والجواب أن له فوائد :

أحدها الحث للعلماء على النظر فيه الموجب للعلم بغوامضه والبحث عن دقائقه ، فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب إن كان مما يمكن علمه.

وثانيها إظهار التفاضل وتفاوت الدرجات ؛ إذ لو كان القرآن كله محكما لا يحتاج إلى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلق ، ولم يظهر فضل العالم على غيره.

وإن كان مما لا يمكن علمه فله فوائد : منها ابتلاء العباد بالوقوف عنده

__________________

(١) البرهان : ٢ ـ ٧٦. وفى اللباب : هذه النسبة إلى محلة معروفة بجرجان ، يقال لها بكراباذ ، وقد ينسب إليها البكراوى.

(٢) فى البرهان : والمتشابه يحتاج إلى ذكر مبتدأ ونظر مجدد عند سماعه ليحمله ...

١٥٨

والتوقّف فيه ، والتفويض والتسليم ، والتعبّد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ ، وإن لم يجز العمل بما فيه. وإقامة الحجة عليهم ، لأنه لو أنزل بلسانهم ولغتهم وعجزوا عن الوقوف على معناه مع بلاغتهم وإفهامهم دل على أنه نزل من عند الله ، وأنه الذى أعجزهم عن الوقوف.

وقال الإمام فخر الدين : من الملحدة من طعن فى القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات ؛ وقال : إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم القيامة ؛ ثم إنا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه ، فالجبرى يتمسك بآيات الجبر ؛ كقوله (١) : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً). والقدرى يقول : هذا مذهب الكفار ؛ بدليل أنه تعالى حكى ذلك عنهم فى معرض الذم لهم فى قوله (٢) : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ). وفى موضع آخر (٣) : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ). ومنكر الرؤية يتمسك بقوله (٤) : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ). ومثبت الجهة يتمسك بقوله (٥) : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ). (الرَّحْمنُ (٦) عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى). والباقى يتمسك بقوله (٧) : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). ثم يسمى كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة ، والآيات المخالفة له متشابهة ؛ وإنما آل فى ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفيّة ، ووجوه ضعيفة ؛ فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذى هو المرجوع إليه فى كل الدين إلى يوم القيامة هكذا؟

__________________

(١) الأنعام : ٢٥

(٢) السجدة : ٥

(٣) البقرة : ٨٨

(٤) الأنعام : ١٠٣

(٥) النحل : ٥٠

(٦) طه : ٥

(٧) الشورى : ١١

١٥٩

[لوقوع المتشابه فوائد]

قال : والجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فوائد لوجوه :

منها أنه يوجب مزيد المشقة فى الوصول إلى المراد منه ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب.

ومنها أنه لو كان القرآن كله محكما لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد ، وكان بصريحه مبطلا لما سوى ذلك المذهب ؛ وذلك مما ينفّر أرباب سائر المذاهب عن قبوله ، وعن النظر فيه ، والانتفاع به ؛ فلما كان مشتملا على المحكم والمتشابه طمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مذهبه وينصر مقالته ؛ فينظر فيه جميع أرباب المذاهب ، ويجتهد فى التأمل فيه صاحب كل مذهب ؛ وإذا بالغوا فى ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات ؛ وبهذا الطريق يتخلص المبطل من باطله ، ويتصل إلى الحق.

ومنها أن القرآن إذا كان مشتملا على المتشابه افتقر إلى العلم بطريق التأويلات ، وترجيح بعضها على بعض ، وافتقر فى تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو والمعانى والبيان وأصول الفقه ، ولو لم يكن الأمر كذلك لم يحتج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة ؛ فكان فى إيراد المتشابه هذه الفوائد الكثيرة.

ومنها أن القرآن مشتمل على دعوة [٢٨ ب] الخواصّ والعوامّ ؛ وطبائع العوامّ تنفر فى أكثر الأمر عن درك الحقائق ، فمن سمع من العوام فى أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفى ، فوقع فى التعطيل ؛ فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب

١٦٠