دروس في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

الاعتداء وسلب الغير حقّه ، وهذا يعني افتراض ثبوت حقّ في المرتبة السابقة ، وهذا الحقّ بنفسه من مدركات العقل العملي ، فلو لا أنّ للمنعم حقّ الشكر في المرتبة السابقة لما انطبق عنوان الظلم على ترك شكره ، فكون شيء ظلما وبالتالي قبيحا مترتب دائما على حقّ مدرك في المرتبة السابقة ، وهو في المقام حقّ الطاعة. فلا بدّ أن يتّجه البحث إلى أنّ حقّ الطاعة للمولى هل يشمل التكاليف الواصلة بالوصول الاحتمالي أو يختصّ بما كان واصلا بالوصول القطعي بعد الفراغ (١) عن عدم شموله للتكليف بمجرّد ثبوته واقعا ولو لم يصل بوجه.

الرابع : ما ذكره المحقق الاصفهاني (٢) أيضا تعميقا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، على أساس مبنى له في حقيقة التكليف ، حاصله : انّ التكليف انشائي وحقيقي ، فالانشائي : ما يوجد بالجعل والانشاء ، وهذا لا يتوقّف على الوصول ، والتكليف الحقيقي : ما كان إنشاؤه بداعي البعث والتحريك ، وهذا متقوّم بالوصول ، إذ لا يعقل أن يكون التكليف بمجرّد انشائه باعثا ومحرّكا ، وانّما يكون كذلك بوصوله ، فكما أنّ بعث العاجز

__________________

(١) أي بعد الفراغ عن عدم شمول حقّ الطاعة للتكاليف الغير محتملة ولو لعدم الالتفات والتوجّه ، وبكلمة أخرى لا وجوب عقلي لتكليف ثابت في الواقع إلّا إذا كان له كاشف ولو بنحو الاحتمال.

(٢) المصدر السابق.

__________________

«بشرط كونه قبيحا» وذلك لأن كل ظلم هو قبيح ، وهذا معنى قولهم بان الاحكام العقلية لا تقبل التخصيص. وعليه فيصحّ عندنا النقاش الثاني ـ المذكور في هذا الكتاب ـ دون الأوّل

٤١

غير معقول ، كذلك بعث الجاهل ، وكما يختص التكليف الحقيقي بالقادر كذلك يختص بمن وصل إليه ليمكنه الانبعاث عنه ، فلا معنى للعقاب والتنجّز مع عدم الوصول ، لأنّه يساوق عدم التكليف الحقيقي ، فيقبح العقاب بلا بيان ، لا لأنّ التكليف الحقيقي لا بيان عليه ، بل لأنّه لا ثبوت له مع عدم الوصول.

ويرد عليه :

أولا (١) : إنّ حقّ الطاعة إن كان شاملا للتكاليف الواصلة بالوصول الاحتمالي فباعثية التكليف ومحرّكيته مولويا مع الشك معقولة ايضا ، وذلك لأنّه يحقق موضوع حقّ الطاعة ، وإن لم يكن حقّ الطاعة شاملا للتكاليف المشكوكة فمن الواضح أنّه ليس من حقّ المولى أن يعاقب على مخالفتها ، لأنّه ليس مولى بلحاظها ، بلا حاجة إلى هذه البيانات والتفصيلات. وهكذا نجد مرّة أخرى انّ روح البحث يجب أن يتّجه إلى تحديد دائرة حقّ الطاعة.

وثانيا (٢) : إنّ التكليف الحقيقي الذي ادّعي كونه متقوّما بالوصول

__________________

(١) هذا ردّ على قول المحقّق الاصفهاني بأنّ بعث الجاهل غير معقول ، فردّ عليه السيد المصنّف رحمه‌الله بأنّ بعث المحتمل معقول.

(٢) وهذا ردّ على حصر المحقق الاصفهاني للمحرّك بالتكليف الواصل ، فانّه هو الذي يكون محرّكا وباعثا ، وهو الذي يطلق عليه اسم «التكليف الحقيقي».

فأجابه السيد المصنّف رحمه‌الله انّه ما الدليل على حصر المحرّكية بما ذكرت ، فما الدليل مثلا على عدم كون «احتمال الحكم الانشائي» محرّكا؟! بل ما الدليل على عدم منجزية «احتمال وجود مبادئ الحكم» ومحرّكيّته؟!

٤٢

إن أراد به الجعل الشرعي للوجوب مثلا النّاشئ من ارادة ملزمة للفعل ومصلحة ملزمة فيه فمن الواضح أنّ هذا (١) محفوظ مع الشك أيضا ـ حتّى لو قلنا بأنّه غير منجّز وان المكلّف الشاكّ غير ملزم بامتثاله عقلا ـ لأنّ شيئا من الجعل والارادة والمصلحة لا يتوقّف على الوصول (٢) ، وإن أراد به ما كان مقرونا بداعي البعث والتحريك فلنفترض انّ هذا (٣) غير معقول بدون وصول إلّا أنّ ذلك لا ينهى البحث ، لأنّ الشكّ في وجود جعل (٤) بمبادئه من الارادة والمصلحة الملزمتين موجود على أيّ حال ـ حتّى ولو لم يكن مقرونا بداعي البعث والتحريك ـ ، ولا بدّ أن يلاحظ أنّه هل يكفي احتمال ذلك في التنجيز أو لا؟ وعدم تسمية ذلك بالتكليف الحقيقي مجرّد اصطلاح ، ولا يغني عن بحث واقع الحال.

__________________

(١) أي الجعل الشرعي أو قل الحكم الانشائي ، وليس مراد المحقق الاصفهاني (قده) من التكليف الحقيقي هذا المعنى ، لأنّه لا يشترط في الحكم الانشائي الوصول.

(٢) وبتعبير آخر ان الاحكام الشرعية ـ كوجوب الصلاة وحرمة الخمر ـ مشتركة بين العالم بها والجاهل ، أي ليس وصول الاحكام والعلم بها دخيلة في ملاك الاحكام الانشائية ، وانما هي دخيلة في تنجّزها فقط.

(٣) مرجع «هذا» إلى «التكليف الحقيقي» الذي هو محور الكلام.

(٤) أي لان الشك في وجود حكم انشائي الزامي موجود ، ولا بد أن ننظر هل يكفي وجود هكذا شك في اثبات التنجيز أي التحريك.

٤٣

٢ ـ مسلك حقّ الطاعة

وهكذا نصل إلى المسلك الثاني وهو مسلك حقّ الطاعة المختار ، ونحن نؤمن في هذا المسلك بأنّ المولوية الذاتيّة الثابتة لله سبحانه وتعالى لا تختصّ بالتكاليف المقطوعة بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالا ، وهذا من مدركات العقل العملي (١) وهي غير مبرهنة ، فكما انّ اصل حقّ الطاعة للمنعم والخالق مدرك أوّلي للعقل العملي أي غير مبرهن ، كذلك حدوده سعة وضيقا (٢).

وعليه فالقاعدة العملية الأوّلية هي اصالة الاشتغال بحكم العقل (*)

__________________

(١) ليعلم أن جميع الأحكام العقلية ـ كوجوب اطاعة المولى ـ هي من مدركات العقل العملي ، فان العقل العملي يدرك ما ينبغي أن يفعل وما لا ينبغي أن يفعل ، بخلاف العقل النظري فانه يدرك ما ينبغي أن يعلم ككون أن الجزء أصغر من الكل ، ولذلك يكون العقل النظري منشأ لادراكات العقل العملي.

(٢) قال في الحلقة الثانية : «... إذ كيف يفترض انّ التحرّك مع عدم العلم بالتكليف بلا مقتضي ، مع أنّ المقتضي للتحرّك هو حقّ الطاعة الذي ندعي شموله للتكاليف المشكوكة أيضا.»

__________________

(*) هذا تمام ما ذكره السيد الشهيد رحمه‌الله هنا وفي بحث الخارج ـ على ما في تقريرات استاذنا السيد الهاشمي ج ٥ ص ٢٦ ـ ٢٩ ـ ولعلك تدري أن محل الكلام هو ما بعد الفحص في الأدلّة ، وأما قبل الفحص فانه يجب الاحتياط بالإجماع ، فعلى هذا إن فحص المجتهد ولم يجد دليلا شرعا على الحكم المجهول فان عليه أن يحتاط عند السيد المصنّف وهو بريء الذمّة عند المشهور ، والصحيح ما عليه المشهور ـ مع غضّ نظر المشهور والسيد الشهيد عن قضيّة العلم الإجمالي بوجود تكاليف الزامية في الشريعة ـ.

٤٤

__________________

بيان ذلك : إن الذي يوقع الانسان في هذه المقالة هو وضعه لجهنّم أمام عينيه عند ما يسأل عقله ، وهذا الوضع يوجب انحرافا مزاجيا عند العقل ، وذلك كما لو علم شخص بأنّ النائم بجنبه في الليل ميت وهما لوحدهما في البيت فانّه رغم علمه بموته لكنّك تراه يخاف منه ولا ينام مطمئنّا ، هذا الانحراف المزاجي هو الذي يعطّل العقل السليم من أن يحكم على طبق فطرته الأوّليّة. فعلى الانسان اذا أراد أن يسأل عقله ان يجتنب كلّ المؤثّرات الخارجية ثمّ ينظر. وهنا لو اعتقدنا من الشارع المقدّس أنّه لن يعاقب أصلا حتّى مع المخالفة وانّما يكتفي باللوم فقط ، فهل لله تعالى أن يلوم الشخص الذي يحتمل أو يظنّ بوجود تكليف الزامي رغم سؤاله بالفحص؟

قال السيد المصنّف (قده) : نعم ... وقد يستدل على مقالته بلزوم دفع الضرر المحتمل عقلا ، فمن يحتمل دخوله للنار يوم القيامة مع عدم احتياطه ـ مع عدم وجود مؤمن بحسب الفرض ـ يلزمه عقله بالاحتياط. ولك أن توضّح هذا الأمر بنحو آخر بأن تقول إنّ الشارع المقدّس لم يقيّد الأحكام الشرعية أو متعلقاتها ـ في الغالب ـ بالعلم بها ، فكان يقول مثلا الخمر حرام ، لا معلوم الخمرية حرام أو الخمر حرام فعلا ان علمت بحرمته جعلا ، وكذا في سائر الالزاميات ، فخوفا من أن نقع في مخالفة الواقع المجهول ونرتكب ما فيه مفسدة وقبح أو نترك ما فيه ملاك الواجب والمصلحة الالزامية يلزمنا العقل بالاحتياط في موارد الاحتمال.

(أقول) إنّ ما ذكر في النحو الأوّل يتوقّف دفعه على العلم ببراءة الذمّة ، وهذا ما سنبيّنه إن شاء الله بعد قليل ، فلا نعود نحتمل الضرر. وأمّا ما ذكر في النحو الثاني فجوابه انّ الموارد تختلف ، ففي الموارد المهمّة كما في موارد احتمال التسمّم لا يحكم العقل فيها ببراءة الذمّة ، وأمّا في غير ذلك فانّ العقل يحكم فيها ببراءة الذمّة سواء كان المورد من الشبهات الحكمية أم من الشبهات الموضوعية ، وجوبية كانت الشبهة أم تحريميّة ، وان كان الأمر في الشبهات الحكمية أوضح ، وفي خصوص الوجوبية أشدّ وضوحا ، ولعلّ هذا هو السرّ في ورود بعض الروايات في خصوص الشبهات الموضوعية التحريمية لتأكيد البراءة في هذا المورد.

٤٥

__________________

وبيان أوضحيّة براءة الذمّة في الشبهات الحكمية أن نقول : إنّ سكوت المشرّع الحكيم عن ايصال الأحكام الشرعية للمكلفين مع قدرته الطبيعية على ايصالها بطرق كثيرة إلى الناس لكاشف عن الترخيص به ، ولذلك ترى انّ الله تعالى يرشد رسوله الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى استعمال هذه البراءة العقلية في جداله مع احبار اليهود الذين ينكرون نبوّته ولو ظاهرا وفي مقام الجدال ، فقال تعالى : (قل لا أجد فى ما أوحى إلىّ محرّما على طاعم يطعمه إلّا أن يكون ميتة أو دما مّسفوحا أو لحم خنزير ...) ، فلو لم تكن اصالة الحليّة أصلا عقلائيا واضحا لما صحّ هذا البرهان بهذا الاسلوب ، وقد بيّنا هذا الأمر أكثر في بحث البراءة الشرعية عند الاستدلال بهذه الآية على البراءة ، وواضح عدم الفرق بين احتمال الحرمة واحتمال الوجوب إن لم يكن حكم العقل بالبراءة في الثاني أولى ، وذلك لوجود مفسدة في ارتكاب الحرام بخلاف ترك الواجب فان فيه ترك المصلحة الملزمة ، وارتكاب القبيح أشدّ ضررا من ترك الواجب مع فرض تساويهما في الأهمّية.

(ولك) أن تقول : إذا تردد الحكم الشرعي عند المجتهد بين الالزامي وغير الالزامي فحينئذ يستكشف العقل الترخيص ، وذلك يظهر ممّا يلي :

إنّه لا شكّ في أنّ الرسول الأعظم والأئمّة الهداة كانوا في عصرهم المبارك بصدد بيان تمام الشريعة الالهية إلى الناس كما ورد في بعض الآيات القرآنية الكريمة من قبيل قوله تعالى : (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول فإن تولّوا فإنّما عليه ما حمّل وعليكم مّا حمّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرّسول إلّا البلغ المبين) ، فلو كان الشارع المقدّس مهتمّا بهذا التكليف المعيّن كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو وجوب السورة في الصلاة لا وصله إلينا بطرق صحيحة وهو قادر على إيصالها بشكل طبيعي وبأساليب متعدّدة ، وإنّ كثرة الروايات أالواردة في السواك والقياس تصلح أن تكون منبّهة على ما ذكرنا ، فعدم إيصال حجج تنجّز علينا التكاليف المشكوكة ـ مع القدرة على إيصالها ـ أمارة.

__________________

(أ) فقد ورد في كتاب (الآداب الطبّية في الاسلام ص ٢١٣) أنّ الروايات الواردة في السواك تفوق المائة رواية بكثير جدّا ، أقول وذكر في جامع أحاديث الشيعة (الجزء الأوّل) روايات في حرمة العمل بالقياس قد تزيد على روايات السواك.

٤٦

__________________

أهمّيتها في نظره ، وقد أشار إلى ذلك الهداة الميامين (عليهم‌السلام) ، نكتفي باثنتين منها لوضوح الأمر وهما :

١ ـ ورد بطرق العامّة أنّ الرسول الأعظم خطب الناس فقال : «ايّها النّاس قد فرض الله عليكم الحجّ فحجّوا» ، فقال رجل : أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو قلت نعم لوجب ، ولما استطعتم» ، ثمّ قال : «ذروني ما تركتكم ، فانّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فاذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» (محاضرات السيد الخوئي ج ٢ ص ٤٧٧).

٢ ـ وفي نهج البلاغة : قال (عليه‌السلام): «إنّ الله افترض عليكم الفرائض فلا تضيّعوها ، وحدّ لكم حدودا فلا تعتدوها ، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلّفوها» (جامع أحاديث الشيعة ج ١ ص ٣٣٠).

ورواها في الفقيه بمتن شبيه بالمذكور قال : «... وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلّفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها» (المصدر السابق). وهذا كلّه اقرار بل إرشاد للناس للاستفادة من حكم العقل بالبراءة.

وقد تتساءل فتقول : لعلّ الهداة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين قد بلّغوا رسالات ربّهم ولكن لم تصلنا بشكل معتبر إمّا لجهالة بعض رجال السند عندنا وإمّا لجهالة معاني بعض الألفاظ ، فانّ ذلك أمر طبيعي إذا أخذنا بعين الاعتبار ما مرّ على الاسلام والمسلمين من المحن والفتن بدء بيوم السقيفة مرورا بكربلاء وما حصل على المؤمنين في عصري الأمويين والعبّاسيين ... وقد جرت سنّة الله أن يجري الأمور بأسبابها.

(أقول) إنّ الهداة المعصومين عليهم‌السلام ينظرون في تبليغهم الأحكام الشرعية إلى الموجودين في عصر الصدور وإلى الذين سيوجدون فيما بعد ، وهذا أمر لا شكّ فيه ، ويعلمون أيّ رواية سوف تصل إلى الأزمنة اللاحقة صحيحة السند والدلالة وأيّها لن تصل كذلك ، وقد صرّح الامام الثاني عشر (عج) بذلك بقوله ـ في صحيحة أبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي ـ «فانّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنا ثقاتنا ، قد عرفوا

٤٧

__________________

بأننا نفاوضهم بسرّنا ونحمّله إيّاه إليهم ، وعرفنا ما يكون من ذلك إن شاء الله تعالى» ، بل هذا اوضح من أن يذكر ، والروايات فيه متكاثرة.

فالهداة المعصومون صلوات الله عليهم أجمعين سواء كانوا بصدد تبليغ تمام احكام الشريعة أم المهم منها لا يبلّغونها كاناس عاديّين حتّى نقول بان الظروف القاسية منعت من إيصال جميع ما صدر عنهم ، ولكنهم يبلّغون كخلفاء الله في أرضه ولهم كل القدرة التكوينية في إيصال الاحكام إلى العصور المتأخّرة وهم بمقتضى مقامهم ووظيفتهم الرسالية يبلغون رسالات ربّهم سواء (قلنا) بوجوب التبليغ عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما فى قوله تعالى السابق (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول فإن تولّوا فإنّما عليه ما حمّل وعليكم مّا حمّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرّسول إلّا البلغ المبين) ، وقد ذكر فيه وجوب التبليغ عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرتين ، بل هذا أمرّ واضح من كونه رسولا في تبليغ رسالات ربّه ، ام (قلنا) بعدم الوجوب ، لكن على الثاني نعلم أيضا أنهم قد بلّغوا تمام احكام الشريعة المهمّة التي لا مجال للترخيص فيها ، وهذا امر لا ينبغي الارتياب فيه ، فانّ غرضهم هو بيان الشريعة الالهية للنّاس ، ولذلك كانوا يحثّون على كتابة رواياتهم وحفظها.

إذن كما أنّ غاية الشارع المقدّس تبليغ الناس في عصر ظهورهم المبارك كذلك غايته ايصال الاحكام إلى العصور اللاحقة ، بل الايصال إلى العصور اللاحقة أهم من جهات ، منها أكثرية اتباعهم فيها على اتباعهم في عصرهم بأضعاف مضاعفة ، ومنها عدم وجود مبلّغ عن الله ظاهر ، ومنها هذا الفاصل الزمني الطويل الذي يوجب عادة خفاء الكثير من موجبات العلم بالاحكام كما في معرفة بعض الالفاظ التي كانت معروفة آنذاك او معرفة الرجال الذين نجهلهم اليوم إلى غير ذلك ، كلّ هذا يجعلنا نعلم أنهم صلوات الله عليهم كانوا بصدد ايصال تمام الأحكام المهمّة إلينا والكثير جدا من غيرها كما ورد في ابواب الأخلاق والاطعمة والاشربة والاخبار الغيبيّة وغيرها.

وعلى ضوء ما ذكرنا تعرف انه إن لم يصل إلينا حكم ما بنحو معتبر سندا أو دلالة فهذا يكشف لا محالة عن رضا الشارع بتركه والترخيص به. ولم أر من صرّح بهذا الكلام إلّا المحقّق الحليّ (قده) وارتضاه غيره كما ذكرنا ذلك سابقا ص ٣٨

٤٨

__________________

ومن هنا تعرف :

(أولا) إن ما ذكرناه هو المنشأ أيضا لدليل «الاطلاق المقامي» المعروف إنّما الفرق بين هذا الاطلاق المقامي الصغير وما ذكرناه وهو الاطلاق المقامي الكبير أعمّية ما ذكرناه من مورد الاطلاق المقامي الصغير ، فانّ الاطلاق المقامي الصغير عبارة عن سكوت الشارع عن قيد ما في مقام ذكر تمام خصوصيات الماهيّة الشرعية المركبة ، وامّا اطلاقنا المقامي الكبير فهو يعتبر كل الروايات الواردة في مقام بيان احكام الموضوعات بمثابة الرواية الواحدة الواردة في مقام بيان احكام موضوع واحد كالصلاة مثلا ، فكما ان الفقهاء يستدلون على عدم وجوب جلسة الاستراحة مثلا بعدم ورودها في الادلة المحرزة مع كونها في مقام البيان فكذلك نستدلّ على عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال. مثلا. بنفس هذا الدليل ، وهو دليل سكوت الشارع مع كونه في مقام البيان. وقد علّمنا الشارع المقدّس ذلك وعوّدنا عليه ، ولذلك ترى جميع علماء المسلمين يعملون على هذا الأمر بارتكازهم فيعتبرون كل الروايات الواردة في مقام بيان تمام احكام الشريعة بمثابة الرواية الواحدة الواردة في مقام بيان تمام تفاصيل الصلاة مثلا ، ولذلك تراهم يعتبرونها ناظرة إلى بعضها البعض فيقدّمون بعضا على بعض بالتقييد او التخصيص أو الحكومة أو الورود ، ولذلك ترى هذا الاطلاق المقامي الكبير يجري في كل تكليف مشكوك سواء كان متعلّقه ضمنيّا كالسورة في الصلاة أو استقلاليا كشرب التتن ، بخلاف الاطلاق المقامي المصطلح (أي الصغير) فانّ مورده المتعلّقات المركّبة للاحكام كالصلاة.

(ثانيا) انّ البراءة المستكشفة من هذا الاطلاق المقامي الكبير هو دليل محرز لانّه. كما عرفت. كاشف عن عدم اهتمام الشارع به ، وأماريّتها إنّما هي في الشبهات الحكمية لا في الشبهات الموضوعية التي ليس من شأن الشارع تبيينها ، بل لم يتضح حكم العقل بالبراءة في الشبهات الموضوعية ، كما لو شك المكلف في كون المائع الذي أمامه خلا أو خمرا.

(لكن) هذه الامارية التي لاحظتها لا تجعل هذه البراءة العقلية كخبر الثقة في الأمارية

٤٩

__________________

والكاشفية ، وذلك لأنّ هذه البراءة اقصى ما تقيدنا ترخيص الشارع في الأحكام الغير مهمّة ولا تحدّد لنا شخص الحكم ولا تدّعي الكاشفيّة عنه ، ولذلك ينبغي تقديم خبر الثقة عليها.

هذا ولكن علماؤنا اطلقوا على هذه البراءة تعبير الاطلاق المقامي واجروه في المركبات ، وإن كان من الضروري لاصحاب القول بالبراءة العقلية اجراؤها في موارد الاحكام المستقلّة ايضا كمورد شرب التتن مثلا.

وبما أنه سياتيك في بحث جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية عدم جريانه فيها لا طولا ـ اي بلحاظ العدم الازلي ـ ولا عرضا ـ اي بلحاظ المجعول ـ ، وبما انه لا يصحّ ايضا جريان اصالة الاشتغال فيها. وذلك لانّ أصالة الاشتغال العقلية هي فرع من فروع الاستصحاب في الشبهات الموضوعية ١ ولا مورد لها في الشبهات الحكمية. ، فبالتالي ستكون البراءة العقلية هي المسيطرة على الموقف في مجال الشبهات الحكمية.

(فان قلت) هناك حالة لا تجري فيها البراءة العقلية في الشبهات الحكمية وهي حالة ما لو كان هذا الموضوع مستحدثا ، فان سكوت الهداة المعصومين عليهم‌السلام عنه انما يكون من باب السالبة لانتفاء الموضوع ، فهنا لا تجري البراءة العقلية ، وتجري النقلية فقط.

(قلت) ان قدرة المعصومين عليهم‌السلام ـ مع علمهم الغيبي بما سيحدث. على بيان حكم اي مسألة سوف تحدث امر مسلّم ، فبقدرتهم عليهم‌السلام ان يعطوا قواعد عامّة تشمل ما يريدونه ، بل لو شاءوا لصرّحوا ولو باسلوب يفهمه الآتون كما ورد عن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بضع روايات الحكم بتحريم البنج الذي لم يكن موجودا في عصر الرسول ، إذ قال في بعضها «سيأتي زمان على أمّتي يأكلون شيئا اسمه البنج ، انا بريء منهم وهم بريئون مني» (راجع جامع احاديث الشيعة ج ٢٤ باب ٥٨ من ابواب الاشربة ص ٢٦٥ ، وتجدها في

__________________

(١) وموردها الشك في تحقيق المكلّف به ، كالاكرام في قول المولى «اكرم العلماء» ، فان شككنا في تحقيق الاكرام بمجرّد التسليم عليه فان العقل يحكم بعدم الاكتفاء به ، ويعبّر عن ذلك باصالة الاشتغال.

٥٠

__________________

المستدرك الباب الاخير من ابواب الاشربة المحرّمة).

(اعترافان ارتكازيان من السيد الشهيد بصحّة البراءة العقلية) :

الأوّل : لقد اعترف السيد الشهيد (قده) بدلالة آية (وما كنّا معذبين حتى نبعث رسولا) على نقي استحقاق العذاب على الجاهل بالحكم ، وهو يناقض قوله باستحقاق العذاب عليه أي يبطل مسلك حق الطاعة. ولعلك تعلم أن مراد السيد المصنف من الجاهل بالحكم في الآية هو الذي يحتمل وجود تكليف ولكن لم يجده رغم الفحص ، وليس مراده الغافل أو قل القاطع بعدم وجود تكليف الزامي لأن هذا لا تجري في حقه البراءة حتما وذلك لحجيّة القطع ، وعلى أي حال فالقدر المتيقن هو مورد المجتهد الذي فحص ولم يجد دليلا محرزا على الحكم.

والثاني : اعتقد السيد الشهيد (قده) في هذه الحلقة (مسألة صحّة التمسك بالعام في الشبهة المفهومية من بحث نتائج الجمع العرفي بالنسبة إلى الدليل المغلوب. الجزء الرابع) بصحّة التمسّك بالعام في الشبهة المفهومية ، واستدلّ لذلك بعدم احراز دلالة على التخصيص في المقدار الزائد وهو. في مثال «لا يجب اكرام الفسّاق» «واكرم العالم الفاسق». مرتكب الصغائر ، (اقول) وهذا يعني ان لفظة «الفسّاق» حينما كانت غير واضحة الدلالة على مرتكبي الصغائر فان العقل في مثل ذلك. عند السيد الشهيد (قده). لا ينجز هذا الحكم المخصص في المقدار الزائد المشكوك للجهل به ، وهو يعني الاعتقاد ارتكازا بالبراءة العقلية وإلّا لقال يجب الاحتياط في المقدار الزائد المشكوك ويجب اكرام العالم وان كان مرتكب الصغائر دون مرتكب الكبائر.

وبتعبير آخر ، يقول السيد الشهيد في البحوث ج ٣ ص ٢٩٨ :

نتمسّك بعموم العام لانه هو المقتضي لوجوب الاكرام. في مثال «اكرم العالم» و «لا تكرم العالم الفاسق». ولا نلتفت إلى احتمال شمول «الفاسق» لمرتكب الصغائر لكونه غير محرز ، فمع احراز وجود المقتضي وعدم احراز شمول المانع يصحّ التمسّك بعموم العام في المورد الزائد المشكوك ، (أقول) وهو اعتقاد ارتكازي بالبراءة العقلية عند الجهل

٥١

__________________

بالحكم ، ولا تتوهّم ان هذه براءة شرعية ، وذلك لانه يتكلّم الآن على صعيد العقل ، وثانيا لعدم صحّة جريان الاصول العمليّة في موارد تواجد ادلّة محرزة من باب السالبة بانتفاء الموضوع او قل من باب عدم وجود اصل عملي في هكذا حالات ..

(والنتيجة) :

١. ان البراءة العقلية والتي يسمّونها احيانا الاطلاق المقامي هي سيدة الموقف في مجال الشبهات الحكمية ولم يتضح حكم العقل بالبراءة في مجال الشبهات الموضوعية. (ولا شك) انك تعلم ان المشكوك في الشبهات الحكمية هو الحكم كحكم التدخين مثلا ، والمشكوك في الشبهات الموضوعية هو الموضوع ، فنحن نعلم بحلية الخلّ وحرمة الخمر ولكننا خارجا شككنا في هذا المائع الخارجي المعين هل انّه خلّ او خمر ، فهنا لم يتّضح حكم العقل بالحلية ، ولذلك نرجع في هذه الشبهة الموضوعية إلى البراءة الشرعية.

٢. إنّ البراءة الشرعية تجري في كلتا الشبهتين الحكمية والموضوعية.

٣. إنّ اصالة الحل هي فرع من فروع البراءة العقلية ، وان نفس دليل البراءة العقلية يجري لاثبات اصالة الطهارة ـ لا قاعدة الطهارة ـ ايضا بمعنى أنها ترفع المنجزيّة المحتملة.

٤. إنّ بعض ما ورد من ادلّة في الشرع على اثبات البراءة هو ارشاد إلى البراءة العقلية كما سيتّضح ذلك اكثر في آية («قل لا اجد فيما أوحي اليّ ...»)

٥. ان البراءة العقلية هي في الحقيقة امارة ، وان كانت اماريتها ضعيفة لانها تكشف عن الترخيص فقط وعن ان هذه المنطقة قد جعلها المولى تعالى منطقة للاجتهاد والخلاف بين العلماء لحكمة عنده تعالى في ذلك .... بخلاف خبر الثقة الذي يكشف ـ ولو ادّعاء ـ عن شخص الحكم الشرعي.

٦. امّا الاستصحاب فمجاله الشبهات الموضوعية فقط بخلاف البراءة التي قلنا ان مجالها الشبهات الحكمية والموضوعية

٥٢

ما لم يثبت الترخيص الجادّ في ترك التحفّظ ، على ما تقدّم في مباحث القطع. فلا بدّ من الكلام عن هذا الترخيص وامكان إثباته شرعا ، وهو ما يسمّى بالبراءة الشرعية.

__________________

٧. انّ بعض الادلّة الجارية في الشبهات الموضوعية هي اصول عملية كالاستصحاب والاشتغال وأصالة الحل وقاعدة الطهارة ، وبعضها امارات كقواعد اليد والفراغ وسوق المسلمين.

٨. من ثمرات وفوائد المسألة إذا قلنا بالتعارض بين ادلة وجوب الاحتياط وادلة البراءة الشرعية فاننا نرجع الى حكم العقل بالبراءة على رأي المشهور او بالاحتياط على رأي السيد الشهيد (ره).

وهذه النتائج والتفريعات يظهر وجه بعضها ممّا مرّ ويظهر وجه البعض الآخر ممّا يأتي في محلّه المناسب.

٥٣
٥٤

(الوظيفة الثانوية في حالة الشكّ)

والقاعدة العملية الثانوية في حالة الشك التي ترفع موضوع القاعدة الاولى هي البراءة الشرعية ، ويقع الكلام عن إثباتها في مبحثين :

أحدهما : في ادلتها.

والآخر : في الاعتراضات العامّة التي قد توجّه إلى تلك الادلّة بعد افتراض دلالتها.

ـ ١ ـ

أدلة البراءة الشرعية

وقد استدلّ عليها بالكتاب الكريم والسّنة

(أدلّة البراءة من الكتاب الكريم)

أمّا من الكتاب الكريم فقد استدلّ بعدّة آيات :

ـ منها : قوله سبحانه وتعالى (لا يكلّف الله نفسا إلّا ماءاتاها)(١)

__________________

(١) قال تعالى في سورة الطلاق / آية ٧ (لينفق ذو سعة مّن سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممّاءاتاه الله لا يكلّف الله نفسا إلّا ماءاتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا.)

٥٥

بدعوى ان اسم الموصول يشمل التكليف بالاطلاق كما يشمل المال والفعل ، فيدلّ على انّه لا يكلّف بتكليف إلّا إذا آتاه ، وايتاء التكليف معناه عرفا وصوله إلى المكلّف ، فتدلّ الآية على نفي الكلفة من ناحية التكاليف غير الواصلة.

وقد اعترض الشيخ الانصاري (قده) (١) على دعوى اطلاق اسم الموصول باستلزامه استعمال الهيئة القائمة بالفعل والمفعول في معنيين ، لأنّ التكليف بمثابة المفعول المطلق ، والمال والفعل بمثابة المفعول به ، ونسبة الفعل إلى مفعوله المطلق مغايرة لنسبته إلى المفعول به ، فكيف يمكن الجمع بين النسبتين في استعمال واحد؟! (*)

وهناك جوابان على هذا الاعتراض :

الأوّل : ما ذكره المحقق العراقي رحمه‌الله (٢) من أخذ الجامع بين النسبتين ، (ويرد) عليه انّه إن اريد الجامع الحقيقي بينهما فهو مستحيل ، لما تقدّم في مبحث المعاني الحرفية من امتناع انتزاع الجامع الحقيقي (٣)

__________________

(١) فرائد الاصول ص ٣١٦.

(٢) نهاية الافكار القسم الثاني من الجزء الثالث ص ٢٠٢.

(٣) الجامع الحقيقي هو الذي يجمع ذاتيات افراده المشتركة كالانسان ، فانّ الحيوانية والناطقية ذاتيات موجودة في أفراد الانسان وتقوّمه ، بحيث إذا نزعناها منه لم يبق إنسانا ، وفيما نحن فيه النسبة الايقاعية (بين الفعل والمفعول به) هي الهيئة القائمة بينهما ، وكذلك النسبة التأكيدية ـ إذا صحّ هذا التعبير ـ فهي الهيئة القائمة بين الفعل والمفعول

__________________

(*) الصحيح امكان ارادة اكثر من معنى من استعمال واحد في كلام البشر بل هو واقع ،

٥٦

بين النسب ، وإن أريد بذلك افتراض نسبة ثالثة مباينة للنسبتين إلّا أنها تلائم المفعول المطلق والمفعول به معا فلا معيّن لارادتها من الكلام ـ على تقدير تصوّر نسبة من هذا القبيل ـ.

الثاني : وهو الجواب الصحيح ، وحاصله انّ مادة الفعل في الآية هي الكلفة ، بمعنى الادانة (١) ، ولا يراد باطلاق اسم الموصول شموله

__________________

المطلق ، وكل هيئة منهما جزئية بلحاظ قيامها بطرفيها ، فان حذفنا الفوارق بينهما لنبقي الذات المشتركة بينهما وأزلنا المفعول به والمفعول المطلق فقط لما بقي نسبة ايقاعية ونسبة تأكيدية ، إذن لا ذات مشتركة بينهما ، ولا معنى لمطلق الهيئة ـ اي من دون طرفيها ـ ، إذن لا جامع حقيقي بينهما ، بل لا جامع حقيقي بين كل المعاني الرابطة ، لانّها تكون قائمة بطرفيها ، فإذا حذفنا اطرافها لنأخذ القدر المشترك بينها انعدمت هذه المعاني الرابطة.

(١) الإدانة مشتقّة من الدّين. وعلى أي حال فمعنى «لا يكلّف الله نفسا إلا ما آتاها» انه لا يكلّف الله تكليفا ما إلا إذا آتاها إيّاه وأعلمها به ، فالمراد من «ما» الموصولة التكليف ، وايتاؤه هو موضوع الإدانة ، ف «تكليفا» المحذوف بعد «نفسا» هو مفعول به ، و «ما» هي المستثنى من هذا

__________________

فضلا عن امكانه في كلام الباري عزوجل ، وعلى هذا تحمل الرّوايات الظاهرة في أنّ للقرآن «ظهر وبطن» او ان له «سبعة بطون» ، نعم اعتاد النّاس على ارادة معنى واحد من الاستعمال الواحد.

(وامّا) قول بعضهم ان الاستعمال هو افناء اللفظ في المعنى فكيف يمكن ارادة معنى آخر منه وقد فنى؟! فجوابه انه يمكن للمستعمل قبل الاستعمال ان يريد استعمال لفظ واحد في اكثر من معنى واحد افناء له في كلا المعنيين في نفس الوقت

٥٧

لذلك بل لذات الحكم الشرعي الذي هو موضوع للادانة ، فهو اذن مفعول به ، فلا إشكال.

ثمّ إنّ البراءة التي تستفاد من هذه الآية الكريمة إن كانت بمعنى نفي الكلفة بسبب التكليف (١) غير المأتي فلا ينافيها ثبوت الكلفة بسبب وجوب الاحتياط إذا تمّ الدليل عليه ، فلا تنفع في معارضة ادلّة وجوب الاحتياط ، وإن كانت البراءة بمعنى نفي الكلفة في مورد التكليف غير المأتي (٢) فهي تنفي وجوب الاحتياط وتتعارض مع ما يدعى من أدلّته.

__________________

المفعول به ، ف «ما» اذن في محل مفعول به أيضا. وعليه فيصير المعنى : لا يكلّف الله تكليفا ما ـ سواء كان التكليف بانفاق مال أو بالقيام بفعل ما أو غير ذلك من أنواع التكاليف ـ إلا التكليف الذي آتاها اياه ، فاذا لا يراد من اطلاق «تكليفا» المحذوفة انها استعملت في معنيين معنى المفعول المطلق ومعنى المفعول به ، وانما هي مفعول به فقط.

(١) فيصير معنى الآية الكريمة هكذا : لا يكلّف الله نفسا ـ إلّا ما آتاها ـ لسبب عدم اعلامها بالتكاليف ، فعدم التكليف كان بسبب عدم الاعلام ، كما تقول «اكرم العالم» فان سبب ايجاب الاكرام هو عالمية ذاك الطرف ، وكذلك في «الخمر حرام» فان سبب التحريم هو الخمرية ، وهكذا الامر هنا : فلأنه تعالى لم يعلمنا لم يكلّفنا ، فاذا اعلمنا ولو بوجوب الاحتياط فقد كلّفنا ـ ولو بالاحتياط ـ وبناء على هذا الفهم لا تفيدنا هذه الآية قاعدة البراءة.

(٢) فيصير معنى الآية هكذا : لا يكلّف الله نفسا في الموارد التي لم يعلم فيها الشارع ، او قل ان الله تعالى ينفي الكلفة مطلقا إلّا في الاحكام التي اعلمها إيّاها في كل مورد ، فاذا لم يعلمنا بحرمة التدخين مثلا فلا كلفة.

٥٨

والظاهر هو الحمل على المورديّة لا السببيّة ، لأنّ هذا هو المناسب بلحاظ الفعل والمال أيضا (١) ،

فالاستدلال بالآية جيد (*).

وبالنسبة الى مدى الشمول فيها ، لا شك في شمولها للشبهات الوجوبية والتحريمية معا ، بل للشبهات الحكمية والموضوعية معا ، لان الايتاء ليس بمعنى إيتاء الشارع بما هو شارع ليختصّ بالشبهات الحكمية ، بل بمعنى الإيتاء التكويني. لانه المناسب للمال والفعل.

كما ان الظاهر عدم الاطلاق في الآية لحالة عدم الفحص ، لأن ايتاء التكليف تكفي فيه عرفا مرتبة من الوصول ، وهي الوصول الى مظانّ

__________________

(١) أي ان الظاهر من الآية الكريمة (... ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ، لا يكلّف الله نفسا إلا ما آتاها) ان الله لا يكلّف نفسا الّا بمقدار ما اقدرها عليه ، واذا اقدرها واعلمها ببعض التكاليف فقد كلّفها بها ، والموارد التي لم يعلمها بها لم يكلّفها بها ، إذن هذه الآية تفيدنا البراءة ، فلو وردنا من الشارع قاعدة الاحتياط لحصل تعارض.

__________________

(*) الحق ان الموردية لا تنافي السببية ، بل الجمع بينهما هو الصحيح ، فان المولى تعالى اذا اراد معنى الموردية فان المعنى سيصير هكذا : ان الله لا يكلف نفسا بتكليف ما إلا اذا آتاها إياه ، فكل مورد آتاها إياه ، فهي مكلّفة به ، وكل مورد لم يؤتها اياه لم يكلفها به ، وهذا المعنى لا ينافي السببية ، وذلك لان المولى تعالى انما كلّفنا بهذا المقدار من الموارد بسبب اعلامنا به ، ولم يكلّفنا بالمقدار المجهول عندنا بسبب عدم اعلامنا به ، فليست النكتة في معارضة الاحتياط لهذه الآية أو تقديم البراءة هي السببية والموردية إذن.

(ثم) انه لو كان المولى تعالى يريد افادة معنى يناسب شمول الايتاء للاحتياط لعبّر في الآية باسلوب التكليف لا باسلوب نفي التكليف ، إذ ان هذا الاسلوب يفيد معنى ـ والله

٥٩

العثور بالفحص.

ومنها : قوله سبحانه وتعالى (وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولا)(١).

وتقريب الاستدلال واضح بعد حمل كلمة رسول على المثال للبيان.

وقد يعترض على ذلك (تارة) بانّ الآية الكريمة إنّما تنفي العقاب لا استحقاقه ، وهذا لا ينافي تنجّز التكليف المشكوك ، إذ لعلّه من باب العفو ، (واخرى) بانّها ناظرة إلى العقاب الربّاني في الدنيا للامم السالفة وهذا غير محلّ البحث.

والجواب على (الاول) انّ ظاهر النفي في الآية انّه هو الطريقة العامّة للشارع التي لا يناسبه غيرها كما يظهر من مراجعة أمثال هذا التركيب عرفا ، وهذا معناه عدم الاستحقاق (٢) ، ومنه يظهر الجواب على الاعتراض

__________________

(١) الاسراء / آية ١٥. واليك سياق هذه الآية (مّن اهتدى فإنّما يهتدى لنفسه ومن ضلّ فإنّما يضلّ عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولا (١٥) وإذا أردنا أن نّهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميرا (١٦) وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربّك بذنوب عباده خبيرا بصيرا.)

(٢) بيان ذلك : إنّ قوله تعالى «وما كنّا معذّبين» ظاهر في انه ليس من شأن الله تعالى ولا من طبيعته التعذيب حتّى يبعث رسولا يبيّن لهم ما يتّقونه.

(ثمّ) إنّ نفي صفة المعذبية بقوله تعالى (وما كنا معذّبين) فيه نكتة ، فانه لو

__________________

العالم ـ ان الله تعالى لا يكلف نفسا بتكليف ما الّا اذا آتاها اياه ، وأما إذا لم يؤتها اياه فهي ليست مكلّفة ، وهو عين البراءة.

٦٠