دروس في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

الامامين بعد ان تكون قد زرت أحدهما ، ومثل هذا العلم الاجمالي غير منجّز بلا شكّ حتّى لو كان التردّد فيه بين المتباينين (١) فضلا عمّا إذا كان بين الأقلّ والأكثر ، وخلافا لذلك حالات الدوران الاعتيادية (٢) فانّ التردّد فيها يحصل قبل الاتيان بالأقل فإذا تشكّل منه علم إجمالي كان منجّزا (٣).

__________________

(١) كما في المثال المذكور (زيارة احد امامين) ، وإنّما لم ينجّز هذا العلم الاجمالي لأنّ العلم لم يحصل إلّا بعد خروج احد الطرفين من دائرة التكليف ، ففي الواقع لم يحصل علم إجمالي منجّز ، بمعنى اننا الآن ـ بعد امتثال احد الطرفين ـ نشك في وجوب زيارة الإمام الثاني ، فهو شك بدوي لأنّه غير مقرون بعلم إجمالي منجّز ، وفي مثله تجري البراءة.

ووجه قوله (قده) «فضلا عما إذا ...» انّه في المتباينين المكلّف لم يمتثل الطرف الآخر ولا بعضه ، بخلاف حالة الأقلّ والأكثر فانّه قد امتثل اكثر المتعلّق ، بحيث يصدق عليه عرفا انّه صلّى مثلا ، فجريان البراءة عن وجوب الاعادة له وجه عرفي واضح ، بخلاف حالة التباين فانّ العرف يستبعد الاكتفاء بالطرف الممتثل ، ووجه جريان البراءة عن وجوب امتثال الطرف الآخر التعبّد الشرعي المحض. وقد سبق ذكر مثل هذه الحالة في آخر الصورة الاولى من مسألة الاضطرار إلى بعض الأطراف من بحث «تطبيقات منجّزية العلم الاجمالي» عند قوله «ويطّرد ما ذكرناه في غير الاضطرار ايضا من مسقطات التكليف ...».

(٢) كما لو تردّدنا بين وجوب الصلاة مع السورة (وهو الاكثر) أو وجوبها بدون السورة (وهو الأقل) فانّ التردد فيها يحصل عادة قبل الإتيان بالصلاة.

(٣) ولكن سبق أن ذكر السيد الماتن رحمه‌الله انحلال هذا العلم الإجمالي الى وجوب الاقلّ والشك في الزائد فتجري فيه البراءة.

٣٤١

(ب) الشكّ في الاطلاق لحالة التعذّر :

إذا كان الجزء جزء حتّى في حالة التعذّر كان معنى ذلك أنّ العاجز عن الكل (١) المشتمل عليه لا يطالب بالنّاقص ، وإذا كان الجزء جزء في حالة التمكّن فقط (٢) فهذا يعني انّه في حالة العجز لا ضرر من نقصه وأنّ العاجز يطالب بالناقص.

والتعذّر تارة يكون في جزء من الوقت واخرى يستوعبه.

ففي الحالة الاولى يحصل للمكلّف علم إمّا بوجوب الجامع بين الصلاة الناقصة حال العجز والصلاة التامّة (٣) ، أو بوجوب الصلاة التامّة

__________________

(١) كمجموعة واحدة. ويمكن التمثيل لذلك بمن عنده مرض العطاش ويستطيع تطبيق الصيام بشروطه إلّا شرب الماء فان المشهور بين الفقهاء سقوط وجوب الصيام عنه ، فهذا الجزء جزء مطلقا ـ اي حتّى في حالة التعذّر ـ بحيث إنّه لا يطالب بالناقص (وهو في مثالنا الصيام إلّا عن الماء) ، وكالمرأة إذا كانت حائضا في بعض النهار ، أي ان الصيام كلّ لا يتجزّأ. ومع ذلك كان الاولى ان يعبّر كالتالي : .. كان معنى ذلك أنّ العاجز عن البعض عاجز عن الكلّ المشتمل عليه بمعنى انه لا يطالب بالناقص فانه اوضح لمراده.

(٢) كالسورة بعد الفاتحة فانها جزء في حالة التمكن فقط ولذلك هي مطلوبة في سعة الوقت دون ضيقه وفي حال الأمن دون الخوف والصحة دون المرض ..

(٣) بعد ارتفاع العجز ، على نحو التخيير بينهما ، فيكون الدوران ح بين التخيير والتعيين والذي قال فيه سابقا انه تجري فيه البراءة عن خصوصيّة التعيين. والمراد بالجامع ـ كما عرفت مرارا ـ إحدى الصلاتين.

٣٤٢

عند ارتفاع العجز [بنحو التعيين] ، لأنّ جزئية المتعذّر إن كانت ساقطة في حال التعذّر فالتكليف متعلّق بالجامع (١) ، وإلّا كان متعلّقا بالصلاة التامّة عند ارتفاع التعذّر ، وتجري البراءة حينئذ (٢) عن وجوب الزائد وفقا لحالات الدوران بين الأقلّ والاكثر. ويلاحظ ان التردّد هنا بين الأقلّ والاكثر يحصل قبل الاتيان بالأقلّ خلافا لحال النّاسي ، لأنّ العاجز عن الجزء يلتفت إلى حاله حين العجز.

وفي الحالة الثانية يحصل للمكلّف علم إجمالي إمّا بوجوب الناقص في الوقت أو بوجوب القضاء ـ إذا كان للواجب قضاء ـ ، لأنّ جزئية المتعذّر إن كانت ساقطة في حال التعذّر فالتكليف متعلّق بالناقص في الوقت ، وإلّا كان الواجب القضاء ، وهذا علم إجمالي منجّز (٣).

* * *

__________________

(١) أي فيكون الانسان مخيّرا بين أن يأتي بالصلاة الناقصة حال العجز أو الصبر الى ارتفاع العجز ـ داخل الوقت ـ فيأتي بها كاملة.

(٢) أي اذا تردّدنا بين التخيير والتعيين فانها تجري البراءة عن خصوصية التعيين. وبتعبير آخر : إذا تردّدنا بين التخيير (الذي هو وجوب الجامع والذي يكتفى بتحصيله بإحدى الصلاتين اي حتى ولو كانت الناقصة) والتعيين (الذي هو وجوب خصوص الصلاة التامّة بعد ارتفاع عذره ضمن الوقت) فانه تجري البراءة عن التعيين وذلك ينتج التخيير والاكتفاء بالصلاة الناقصة.

(٣) لأنّه بين متباينين ، فوجوب الناقص في الوقت يغاير وجوب التام خارجه. ولذلك لا بد من الجمع بين المتعلّقين.

٣٤٣

وليعلم انّ الجزئية (١) في حال النسيان أو في حال التعذّر إنّما تجري البراءة عند الشك فيها إذا لم يكن بالامكان توضيح الحال عن طريق الادلّة المحرزة ، وذلك بأحد الوجوه التالية :

أوّلا : ان يقوم دليل خاص على إطلاق الجزئية [لحالتي النسيان والتعذّر] أو اختصاصها [بحالتي التذكر والتمكن] ، من قبيل حديث «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس ...» (٢).

ثانيا : أن يكون لدليل الجزئية إطلاق (٣) يشمل حالة النسيان أو

__________________

(١) أو الشرطية

(٢) ذكره في جامع احاديث الشيعة ج ٥ ص ٥٤٨ ح ١ و ٢ ، وسنده في الفقيه صحيح ، وقد ذكره فيه هكذا :

روى زرارة عن ابي جعفر عليه‌السلام انه قال لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود. ثم قال : القراءة سنّة والتشهّد سنّة فلا تنقض السنّة الفريضة. وروي في التهذيب بنفس المتن ، وزاد في الهداية «والتكبير سنّة» ونقله في الخصال عن ابي عبد الله عليه‌السلام وايضا زاد فيه «والتكبير سنّة».

وعلى اي حال فهذا الحديث يدلّ على اطلاق جزئية هذه المذكورات الخمسة في احوال التذكر والنسيان والتمكن والتعذر ، بخلاف القراءة والتشهد ونحوهما فانها مختصّة بحال التذكر والتمكّن.

هذا مع غضّ النظر عن سائر الأدلّة ، فإذا ثبت اطلاق جزء او شرط في واجب ما فهذا يكشف لنا ـ بالكشف الإنّي ـ انها اركان مقوّمة لماهيّة الواجب ، بخلاف غيرها.

(٣) كالطهور فقد ورد في حديث «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس : الطهور وو ...» ممّا يعني ان الطهور مطلوب مطلقا بحيث حتى لو نسي وصلّى

٣٤٤

التعذر فيؤخذ باطلاقه ، ولا مجال حينئذ للبراءة.

ثالثا : أن لا يكون لدليل الجزئية إطلاق (١) بان كان مجملا من هذه

__________________

يجب عليه إعادة الصلاة ، ومن هنا قالوا إن الأصل في الأجزاء والشرائط التي وردت الأدلّة في مطلوبيتها الركنية كالركوع والسجود والوقت بحيث لو نسي الركوع او الطهور لوجبت عليه الإعادة

(١) مثال الجزء السورة ومثال الشرط الاستقرار المعتبر في الصلاة فانّ أهم ادلتهما الاجماع وهو دليل لبّي ليس له إطلاق ، والثابت منه وجوبهما في حالتي التذكر والتمكّن ، على تفصيل في محلّه.

ثمّ على هذا الفرض قد يكون لدليل الواجب إطلاق لحالات التذكر والنسيان والقدرة والعجز كدليل الامر بالصلاة فاطلاق الامر بالصلاة يدلّ على مطلوبيتها المطلقة وقيام المصلحة بها في تمام الحالات وعدم سقوطها بنسيان أو تعذّر جزء أو شرط منها ، وقد فهموا اطلاق الأمر بصلاة الفريضة رغم تعذّر بعضها أو نسيانه ـ إلا ما خرج بالدليل ـ من حرمة قطعها ، بمعنى أن اطلاق الامر بالصلاة يدلّ على مطلوبيتها المطلقة وعدم سقوطها حتّى لو نسي المكلّف جزء أو شرطا منها أو تعذّر عليه ، وبتعبير آخر إن المركّب يكون مطلوبا في تمام الحالات ـ التي منها حالة نسيان الجزء ـ ويجب الاتيان بما يتمكّن منه ، وقد لا يكون له إطلاق كذلك ، فهنا صورتان :

الاولى : ان لا يكون لدليل الجزئية إطلاق ويكون لدليل المركّب اطلاق ، وهي الصورة التي ذكرها السيد الشهيد (قده) ، وفي هذه الحالة يؤخذ باطلاق دليل المركّب ، بمعنى لو تذكّر المكلّف السورة بعد ما ركع يحكم بصحّة الصلاة لكون الامر بهذه الصلاة الناقصة مطلقا وشاملا لهذه الحالة ، أي لكون هذه الصلاة مطلوبة حتى وإن ترك جزء منها نسيانا أو تعذّرا ، فانّ معنى حرمة قطعها حرمته مطلقا أي حتى لو نسي السورة مثلا.

والثانية : ان لا يكون لهما إطلاق ، وهذا كما تعلم لا يتصوّر وقوعه في

٣٤٥

الناحية وكان لدليل الواجب اطلاق يقتضي في نفسه عدم اعتبار ذلك الجزء رأسا (١) ، ففي هذه الحالة يكون دليل الجزئية مقيّدا لاطلاق دليل الواجب بمقداره (٢) ، وحيث ان دليل الجزئيّة لا يشمل حال التعذّر او

__________________

عالم الثبوت ، لأنّ عدم العلم بالاطلاق او التقييد متصوّر في المكلّفين ، وامّا الشارع المقدّس فهو يعلم بحقيقة اوامره هل انها مقيّدة ام مطلقة ، ومن هنا يكون المرجع في تصحيح العمل او عدم تصحيحه هو الاصول العملية ، فان نسي المكلّف جزء من مركّب ـ كما لو نسي صيامه فشرب ـ وشك في وجوب تتميمه تجري البراءة عن وجوب تتميمه مع عدم تمكّن المكلّف من إعادة المركب كما لو كان وقته مضيّقا ، وإلّا فان تمكن من إعادته فقد يقال يتعيّن عليه إعادته لعدم العلم بمطلوبية هكذا مركّب ناقص ، وقد يقال تجري البراءة لان عدم الاطلاق في دليل الجزئية لحالة النسيان يجعلنا نشك في مطلوبية هذا الجزء في حال النسيان ... وهو مورد البراءة ، والصحيح هو الثاني أيضا لرجوع هذه الحالة إلى التردّد في مقدار الواجب بين الأقلّ والأكثر ، هذا كلّه مع غضّ النظر عن الاستصحاب الذي سياتيك في التذييل اللاحق .. راجع إن شئت مصباح الاصول ج ٢ ص ٤٦١ ـ ٤٦٥ والتنبيه الثالث ص ٤٧١ .. وتقريرات السيد الهاشمي ج ٥ ص ٣٧٥ ... ومنتهى الدراية ج ٦ من ص ٢٨٠ ..

وانما لم يذكر سيدنا الشهيد رحمه‌الله هذه الصورة الثانية لأنها داخلة في نطاق الاصول العملية وليس هاهنا محلّها كما ذكر هو ذلك في اوّل هذا التذييل

(١) أي سواء أتيت بهذا الجزء ام لم تأت به نسيانا او للعجز عنه فالمركب مطلوب ويجب إكماله ويحرم قطعه

(٢) المتيقّن وهو حالتا التذكر والمكنة ، بمعنى أنه حينما كان دليل وجوب

٣٤٦

النسيان فيبقى اطلاق دليل الواجب محكما في هاتين الحالتين ، ودالّا على عدم الجزئية فيهما (*).

__________________

السورة الإجماع ـ والإجماع دليل لبّي لا إطلاق له ـ وكانت الصلاة مطلوبة ويحرم قطعها مطلقا أي حتى لو نسي المكلّف السورة ، فلو نسي الإنسان السورة فاننا لا يمكن لنا إبطال الصلاة بدعوى وجوب السورة ، وذلك لأن دليل وجوب السورة هو الإجماع والإجماع دليل لبّي لا إطلاق له في حالات الشك كحالتنا هذه فلعلّه ليس هناك اجماع على ركنية السورة أي وجوبها حتى في حال التعذّر والنسيان ، فيتعيّن علينا أن نتمسّك بإطلاق مطلوبية الصلاة وحرمة قطعها ويثبت بذلك صحّة هذه الصلاة الناقصة للسورة نسيانا ، وهذا معنى قوله «ففي هذه الحالة يكون دليل الجزئية مقيّدا لاطلاق دليل الواجب بمقداره» فان دليل مطلوبية الصلاة يفيدنا مطلوبية الصلاة مطلقا حتى لو تعمّد الإنسان ترك السورة ، ولكن دليل جزئية السورة قيّد من هذا الاطلاق بمقدار التذكّر والمكنة ، (وانما قلنا بمقدار التذكر والمكنة لما عرفت من كون دليل جزئية السورة هو الاجماع والاجماع لا اطلاق له) فنبقى نتمسّك باطلاق مطلوبية الصلاة في حال نسيان السورة ، فافهم.

__________________

(*) (تذييل)

ما ذكره سيدنا الشهيد (قده) في هذا البحث غير تام كما لا يخفى على المتأمّل ، ولعلّه ترك التكملة لمرحلة الخارج ، ولما كان تتميم البحث ولو بالمقدار الضروري امرا راجحا رأينا أن نذكر هاهنا ما يتدارسونه عادة في هذا الموضع وهو البحث التالي :

إنّه قد يقال ان في الصورة الثانية (وهي عدم وجود إطلاق في الدليلين) لا تجري البراءة وانّما يجري احد دليلين : الاستصحاب او قاعدة" الميسور لا يسقط بالمعسور".

(امّا الاستصحاب) فتقريبه بأن يقال انه إذا وجب مركّب وجبت اجزاؤه ، وشرائطه ضمنا ، فيستصحب هذا الوجوب الضمني (الثابت قبل طروء النسيان او التعذر) ، وذلك.

٣٤٧

__________________

لان هذا الوجوب المستصحب امتداد للوجوب الاوّل.

وقد يصحّ التمثيل بمن اصابه العطش الشديد في شهر رمضان ـ مع غضّ النظر عن الادلّة الخاصّة فيه ـ فانه بلا اشكال يحقّ له الشرب بمقدار الضرورة ، ويستصحب وجوب صيام الباقي ...

(والجواب عليه) إننا في الشبهات الحكمية نحتمل دائما مقوّمية الحصّة المتروكة للماهية كالركن في الصلاة فلا يصحّ استصحاب الباقي لما سيأتيك ـ إن شاء الله تعالى ـ في تعليقتنا المطوّلة على الركن الثالث من اركان الاستصحاب من اشتراط احراز وحدة الموضوع في القضيتين المشكوكة والمتيقنة في الشبهات الحكمية التي هي (اي الشبهات الحكمية) محط انظار العلماء من هذه القاعدة ، فراجع دليلنا هناك.

وهذا الكلام إنما هو فيما لو علمنا بالوجوب من اوّل الأمر ، ولكن قد تختلف الحالة فيكون التعذّر (بما يشمل النسيان بعد فوات المحل) حاصلا قبل دخول الوقت كالحيض مثلا فانّ الصيام لم يكن مشروعا لمن كانت حائضا عند دخول وقت الصيام ، فإذا ارتفع العذر فلا يمكن الاستصحاب وذلك لعدم ثبوت وجوب الصيام في بادئ الأمر فما ذا نستصحب؟ وهذا الأمر ليس فقط اوضح بل القول هنا بعدم الاستصحاب بطريق أولى.

هذا موجز الكلام في الاستصحاب.

(وامّا) قاعدة «الميسور لا يسقط بالمعسور»

فقد يستدلّ عليها بالآيات والروايات.

* أمّا الآيات فكقوله تعالى (لا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها) و (لا يكلّف الله نفسا إلّا ماءاتاها) و (وما جعل عليكم فى الدّين من حرج) ،بتقريب ان غير المقدور مرفوع عن المكلّف ولكن يبقى عليه ما هو في وسعه ، فان واجه مثلا غريقين لا يستطيع على انقاذهما فهو غير مكلّف بالجمع بينهما ولكن يجب عليه ما هو في وسعه وهو انقاذ احدهما ، وكذا الأمر في المركّبات كالصلاة ، فمن عجز عن القيام فيها فهو مكلّف بما في وسعه فيصلّي من جلوس فان لم يستطع فمضطجعا وهكذا ، وقد ورد ذلك في بعض الروايات كموثقة سماعة عن المريض لا يستطيع الجلوس ، فقال عليه‌السلام : «فليصلّ وهو

٣٤٨

__________________

مضطجع وليضع على جبهته شيئا إذا سجد فانه يجزئ عنه ولم يكلّف الله ما لا طاقة به» ، ومثلها روايات الجبيرة كخبر المرارة «يعرف هذا واشباهه من كتاب الله عزوجل ، قال الله تعالى (وما جعل عليكم فى الدّين من حرج) امسح عليه».

(أقول) في هذا التقريب ـ الذي ذكره بعض المعاصرين ـ نظر ، فان هذه الآيات الثلاث وامثالها ورواية «لم يكلّف الله ما لا طاقة به» (ونحوها المستخرجة من قوله تعالى : (ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به) وقوله : (وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين) والآيات السابقة) ناظرة إلى عدم تكليف العاجز وانّ الله تعالى لا يكلّف الانسان إلّا بالمقدار الممكن له ، فلو فقد السدر والكافور مثلا فلا نكون مكلّفين بغسل الميت ح بهما ، ولكن هل يسقط وجوب تطهيره أساسا ، أم يسقط وجوب غسله فقط ويجب علينا تيممه ، ام يجب ان نغسله بالماء القراح ثلاث غسلات اثنتين منها عوضا عن غسلي السدر والكافور (وهو مفاد قاعدة الميسور) فهذا ما لم نعلم بنظر الآيات له ، فقد لا يكون تكرار الغسل بالماء القراح مطلوبا لاحتمال ان يكون السدر والكافور مقوّمين لهذين الغسلين ، وكذا فيمن عجز عن اكمال صومه لشدّة عطشه فشرب لجواز الشرب ح ، فمن اين نعلم ان متابعة صيامه واجبة ، فقد تكون ماهية الصيام قد انتفت لمقوّمية استمرار الامساك بنيّة الصيام لماهية الصيام ، والذي يثبت من الآيات ان الله تعالى لا يكلّف هذا العاجز بالصيام فيجوز له الشرب ، وانّه جلّ وعلا انما يكلّف الانسان بما في وسعه وقدرته لا أكثر ، فان استطاع صام وإلّا فلا ، هذا هو القدر المتيقّن من نظر هذه الآيات ، امّا هل يجب على هذا العاجز متابعة الصيام ام لا يجب فهذا غير ظاهر منها. ومجرّد احتمال ارادة ذلك من قاعدة الميسور لا يكفي في الحكم بوجوب المتابعة بل يكون المورد ح للاصول وهو هنا البراءة.

وامّا التمثيل بالغريقين فهو مما لا كلام فيه لكون انقاذ كلّ منهما واجبا مستقلا ، ومثله كل الواجبات المستقلّة كمن كان مدينا لآخر بالف دينار ولا يستطيع إلّا على سدّ بعضها ، فهنا يجب عليه دفع هذا البعض ويؤجّل بالباقي إلى حين الاستطاعة ، وهذا المقدار

٣٤٩

__________________

من مورد قاعدة الميسور ثابت بلا اشكال.

وأمّا الاستدلال بالتنزل من حالة الى حالة في الصلاة فجوابه احتمال اختصاص الصلاة ونحوها كوضوء الجبيرة بهذا الحكم ، فقد ورد في الصلاة مثلا انها لا تسقط بحال ، فكيف نجري هذا الحكم على غيرهما ، وهل هو إلّا قياس؟! ولو اردنا ان نسري التنزّل في الصلاة ووضوء الجبيرة الى غيرهما ، لقلنا. لو لا وجود الروايات. إن من اجنب ووجد ماء يكفيه لوضوئه فقط عليه ان يغسل من بدنه ما يصل إليه بناء على فهم معنى «لا يسقط الميسور بالمعسور» أو «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» مع أننا نرى الائمة العظام عليهم‌السلام افتوا بالتيمّم.

ومن هنا تعرف ان في المقام مرحلتين : مرحلة عدم تكليف العاجز ونحوه ، ومرحلة الوظيفة بعد سقوط الحكم الاولي ، وإن نظر الآيات المباركة إلى المرحلة الاولى ، وأمّا المرحلة الثانية والتي هي محلّ الكلام فلم نعلم بنظر هذه الآيات الكريمة إليها.

* وامّا الروايات ، فما وجدناه منها في هذا المجال ثلاثة :

١. ما رواه ابو هريرة ـ المرويّة بطرق العامّة ـ قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «ايها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجّوا. فقال رجل : أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله : «لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم» ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ذروني ما تركتكم ، فانّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على انبيائهم ، فاذا امرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» رواها المتأخّرون عن كتاب عوالي اللئالئ (مصباح الاصول ج ٢ ص ٤٧٧).

وقد رويت في صحيح النسائي بالنحو التالي : «.. فإذا امرتكم بشيء فخذوا به ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه».

ومثل المتن الثاني ذكر في البحار في باب صلاة العراة ص ٩٥ قال «فأتوا به ما استطعتم».

٢. ما ارسله في كتاب العوالي أيضا عن امير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه». (المصدر السابق).

٣. ما أرسله أيضا في العوالي عن امير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «الميسور لا يسقط

٣٥٠

__________________

بالمعسور». (نفس المصدر).

والبحث في هذه الروايات يقع في جهتين : سندا ودلالة :

أمّا سندا فنؤخّره لطول البحث فيه وفي اصل الكتاب المأخوذة عنه ،

وامّا دلالة ، فالحديث الاوّل هو في مقام الاجابة عن وجوب الحج كلّ عام فيفهم من الجواب ان حجّوا على نحو الاستحباب بقدر استطاعتكم وانما قلنا بنحو الاستحباب لقوله «لو قلت نعم لوجب» اذن التكرار غير واجب وانما هو مستحب.

وعليه فلا دلالة لهذا الحديث الاوّل على المراد من جهتين كما رأيت ، الاولى انها في مقام الاستحباب بقرينة : «لو قلت نعم لوجب» ، والثانية انّها في مقام الاتيان بما استطعتم من الجزئيات لا من الاجزاء كما هو واضح ايضا من السياق وهذا الذي يفهمه العرف لا غير ، ولذلك فهذا الحديث خارج عن محلّ البحث بالكلّية ، لأنّ البحث في المركبات المجموعية كالصيام ، لا في المركبات الاستقلالية كالواجبات المالية ، فانّ الثانية واضحة لا شك ولا خلاف فيها.

وأمّا الرواية الثانية فلا إشكال في إفادتها لما نريد ، فانها تفيدنا في الكلّي (كما في قولنا اكرم العلماء ، فان لم يستطع المكلف إكرام الكل لا يترك الكل بل يكرم ما استطاع منهم) والكل (كما في الوضوء. مثلا. لمن عليه جبيرة ، بمعنى انه إن لم يستطع ان يدرك وضوء المختار فلا يترك كل الوضوء بل يتوضأ ولو على الجبيرة).

ومثلها في وضوح الدلالة الرواية الثالثة ، وتقريب الاستدلال بها ان نقول : لا شك ان هذه الرواية تشمل بظهورها حالتي الكل والكليّ كما ذكرنا في الرواية السابقة تماما ، بمعنى إذا تعسّرت المرتبة الكاملة من الركوع أو السجود لا تسقط المرتبة الدانية منهما وهو ما امكنه من الايماء إليهما ، نعم هذه الرواية لا تثبت نوعا آخر من الركوع والسجود كالايماء باليد أو بالعين ، بل هذا الايماء المتغاير نوعا يحتاج إلى بيان من الشارع المقدّس.

تنبيهات :

١. إنّ اجراء هذه القاعدة في المحصّلات كالوضوء واخويه والتطهير فيه إشكال كما قال السيد الحكيم في مستمسكه والسيد البجنوردي في قواعده ، فمثلا : بناء على لزوم

٣٥١

__________________

تعدّد الغسل في التطهير من البول بالماء القليل لو امكن غسلة واحدة فهل نكتفي بها؟! ومثله لو امكنه غسلة واحدة لاناء ولغ فيه كلب ، فهل يكتفى بها من دون تعفير؟! وهكذا في امثال هذه الحالات.

٢. لو تعذّر عتق الرقبة المؤمّنة فهل يكتفي بعتق غير المؤمنة ، فلعلها ليست مطلوبة من الاصل ، ولذلك لم يجر القاعدة هنا السيد البجنوردي.

وأمّا في غسل الميت إذا تعذّر السدر والكافور او أحدهما فهل يغسّل بالماء القراح (اي المطلق) ثلاث مرّات ، مرتين بدل الغسل بماء السدر والغسل بماء الكافور؟ أم يتيمّم بدلهما؟ لا شك ان المشهور شهرة عظيمة القول بالأول ولكن هل معتمد المشهور في الغسل هو قاعدة الميسور هذه؟

فيه شك واضح ، فقد ذكر في الجواهر ج ٤ ص ١٣٨. ١٤٠ اربعة وجوه على حجية القول بالغسل بالماء القراح ثلاث مرّات احدها قاعدة الميسور ، قال ـ باختصار منّا ـ :

الوجه الأوّل : انّه لا اشكال فيه «ولا خلاف اجده بين كل من تعرّض لذلك من الاصحاب كالشيخ وابن ادريس الحلّي في السرائر والفاضلين (اي المحقق والعلّامة) والشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم من متأخّري المتأخّرين ، فاحتمال القول حينئذ بالانتقال الى التيمّم ـ بناء على انّ غسل الميت عمل واحد وقد تعذّر بتعذّر جزئيه ـ لا التفات اليه».

الثاني : قاعدة الميسور ، لظهور بعض الاخبار بان المكلّف به «ماء وسدر» بنحو ان كلّا منهما ولو بنحو الاستقلال مطلوب ـ لا «ماء بالسدر» بنحو المجموع بحيث اذا فقد السدر لا مطلوبية للغسل بالماء ـ فتتمشى القاعدة.

الثالث : الاستصحاب ، لاستلزام وجوب المركّب وجوب أجزائه ، ولم يعلم سقوط ذلك بعد انتفائه فيستصحب وجوبه حينئذ (راجع الرسائل الجديدة ص ٤٠٢).

الرابع : كون الميت المحرم كالميت المحلّ غسلا وغيره ، إلّا ان المحرم لا يقربه الكافور ، والمتعذّر عقلا (كما في فرض مسألتنا اي بلحاظ المحلّ) كالمتعذّر شرعا (بالنسبة الى المحرم).

٣٥٢

__________________

وقريب منه جدّا ما ذكره السيد في مستمسكه وكأنه مأخوذ منه ، ومن هنا تعرف أنّه لا يعلم استناد الاصحاب على هذه القاعدة هنا وإن ادّعى ذلك السيد البجنوردي في قواعده.

وأمّا بالنسبة الى سند هذه الروايات فيمكن أن يعتبر حجّة من جهتين :

(الجهة الاولى) دعوى انجبارها بعمل المشهور كما قال في الرسائل وشرح الميرزا الآشتياني والميرزا فتّاح والسيد البجنوردي ...

(أقول) لم نعلم استناد الاصحاب على هذه القاعدة في كلّ او جلّ الموارد الكثيرة المدّعاة ، ممّا يجعلنا لا نعلم باعتمادهم على رواياتها ولعلّه من اهمّ ما ادّعي اعتمادهم عليها فيه مسألة غسل الميت السالفة الذكر وقد رأيت فيها الشك الكبير في اعتمادهم عليها فيها ... وقد قال السيد المروّج ج ٦ ص ٣٦٨ «إلّا ان المتتبّع في الاخبار يجد ان اكثر تلك الفروع منصوصة وليس مستند الحكم فيها هذه القاعدة ..» ومثله قال السيد الخوئي (قده) في مصباحه ج ٢ ص ٤٧٨.

نعم هناك موارد خاصّة كالصلاة دلّ فيها دليل خاصّ على عدم جواز قطعها بحال إذا تعذّرت بعض اجزائها كالقيام. وليس الدليل فيها على لزوم الاتيان بالباقي هو قاعدة الميسور.

(والجهة الثانية) من حيث اعتبار الكتاب في نفسه فقد ادّعى فيه صاحبه وهو الشيخ محمد بن علي بن ابراهيم بن ابي جمهور المعاصر للمحقّق الثاني (الكركي) المتوفي عام ٩٤٠ ه‍ ان كل طرق رواياته فيه صحيحة ، قال : «في كيفية اسنادي وروايتي لجميع ما انا ذاكره من الاحاديث في هذا الكتاب ، ولي في ذلك طرق» ثم قال بعد بيان طريقه السابع : «فهذه الطرق السبعة المذكورة لي جميعها تنتهي عن المشايخ المذكورين الى الشيخ جمال المحققين ثم منه ينتهي الطريق الى الائمة المعصومين الى رسول رب العالمين» ، ثم قال «فبهذه الطرق وبما اشتملت عليه من الاسانيد المتّصلة المعنعنة الصحيحة الاسناد المشهورة الرجال بالعدالة والعلم وصحّة الفتوى وصدق اللهجة اروي

٣٥٣

__________________

جميع ما أرويه وأحكيه من احاديث الرسول وأئمة الهدى عليه وعليهم افضل الصلاة والسلام ..»

وقال السيد الجزائري في شرحه على عوالي اللئالئ (المسمّى بالجواهر الغوالي): «إنّا تتبّعنا ما تضمّنه هذا الكتاب من الاخبار فحصل الاطلاع على أماكنها التي انتزعها منه مثل الاصول الاربعة وغيرها من كتب الصدوق وغيره من ثقات اصحابنا اهل الفقه والحديث».

وعلّق السيد المروّج على كلام جدّه السيد الجزائري بقوله : «والأمر كما افاده (قده) فانّ كثيرا من تلك الروايات موجودة في الكتب الاربعة وغيرها ، فمن الممكن ان المؤلف ظفر بكتاب او اصل معتبر ونقل بعض الاخبار منه».

هذا بالنسبة الى مضمون الكتاب.

وأمّا بالنسبة إلى ما قيل في هذا الرجل فقد وصف بالعالم الفاضل المحدّث (كما في أمل الآمل) الفاضل المجتهد المتكلم (كتاب اللؤلؤة) وانّه في سلك المجتهدين (القاضي في مجالس المؤمنين) وانه في الفضل معروف (البحار) وبالفقيه الحكيم المتكلّم المحدّث الصوفي المعاصر للشيخ علي الكركي (كما قال في الرّياض) ، وأنّ له مناظرات مع العامّة ... إلى أمثال ذلك من عبارات الاصحاب.

وأمّا القول في منهجه الفقهي فلعلّه اصولي لا اخباري فقد قال هو في رسالته بعد ما يؤكّد على ضرورة الاهتمام كثيرا بعلم اصول الفقه .. «وأمّا الرجال فهو علم يحتاج إليه المستدلّ غاية الحاجة ، لأنّ به يعرف صحيح الاحاديث من فاسدها وصادقها من كاذبها ، لأنّه متى ما عرف الراوي عرف الحديث ومتى جهل جهل ، فلا بدّ من معرفة الرجال الناقلين للاحاديث عن الأئمة عليهم‌السلام من زمان الامام الحقّ امير المؤمنين عليه‌السلام إلى زمان العسكري عليه‌السلام ومنه إلى زماننا هذا إمّا بعدالة او تفسيق او يجهل احدهما ليكون على بصيرة ، فيقبل ما رواه العدل بلا خلاف ، ويرد ما رواه الفاسق بلا خلاف ويتوقّف فيمن جهله .. (إلى ان قال) فما عدّلوه فمعدّل وروايته صحيحة ، وما مدحوه فممدوح وروايته حسنة ، وما وثّقوه فثقة وروايته موثّقة ، وما فسّقوه ففاسق وروايته

٣٥٤

__________________

مردودة ، وما جهلوا حاله فمجهول يجب التوقف في روايته. وفي كيفية العمل بهذه الأحاديث بحث يأتي إن شاء الله تعالى». وقال في الفصل الثالث في الاستدلال : «وفيه بحثان : الاوّل في الادلة ، وهي بالاتفاق من الاصوليين أربعة : الكتاب والسنة والاجماع وادلّة العقل ...» (ثم شرح حال الادلة على طريقة الفقهاء الاصوليين).

واشترط في موضع. بعد ذكر اوصاف المفتي. حياة المفتي ، «إذ لو مات بطلت الرواية لفتواه ، إذ لا قول للميت ، وعليه اجماع الاصحاب ، وبه نطقت عباراتهم في اكثر مصنّفاتهم ، ولا تبطل الرواية لاقواله وحكاية فتاواه مطلقا ، بل تصحّ أن تروى لتعلم وليعرف وفاقه وخلافه لمن يأتي بعده من اهل الاجتهاد ...» (مصدر الرسالة حاشية مستدرك الوسائل. ج ٣ ص ٣٦٣) ، ولعلّه اخباري بدليل ما سيأتيك بعد عدّة أسطر.

ولعل هذا غاية ما يمكن أن يقال بحقّ هذا الرجل وكتابه.

ومن جهة اخرى تعرّض الكتاب وصاحبه إلى الانتقاد أيضا حتّى ممّن ليس من عادته النقد ، نذكر ما وجدناه مختصرا :

ففي اللؤلؤة : «.. له كتاب عوالي اللئالئ ، جمع فيه جملة من الاحاديث إلّا أنّه خلط فيه الغث بالسمين واكثر فيه من احاديث العامّة ..».

. وفي البحار : «وكتاب عوالي اللئالئ وإن كان مشهورا ومؤلّفه في الفضل معروفا لكنّه لم يميّز القشر من اللباب وادخل اخبار متعصّبي المخالفين بين روايات الاصحاب ، ولذا اقتصرنا منه على نقل بعضها».

وفي الروضات في ترجمته بعد ذكر طرقه السبعة قال : «وأمّا نحن فقد قدّمنا ذكر شيخه الاجلّ الاعظم علي بن هلال الجزائري الذي هو من جملة مشايخ المحقق الشيخ علي الكركي ، وبقي سائر مشايخه السبعة المذكورين هنا وفي مقدّمة كتابه العوالي على سبيل التفصيل عند هذا العبد وساير اصحاب التراجم والاجازات من جملة علمائنا المجاهيل ، بل الكلام في توثيق نفس الرجل (اي محمد بن ابي جمهور) والتعويل على رواياته ومؤلفاته ، وخصوصا بعد ما عرفت له من التاليف في اثبات العمل بمطلق الاخبار الواردة في كتب اصحابنا الاخيار ، وما وقع في اواخر وسائل الشيعة من كون كتابي

٣٥٥

__________________

حديثه خارجين عن درجة الاعتماد والاعتبار ، رغم أنّ صاحب الوسائل من جملة مشاهير الاخبارية ، والاخبارية لا يعتنون بشيء من التصحيحات الاجتهادية والتنويعات الاصطلاحية».

. وقال في الحدائق ـ بعد نقل مرفوعة زرارة في الاخبار العلاجية ـ «إنّ الرواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب العوالي مع ما هي عليها من الارسال وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والاهمال ، وخلط غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور».

ـ وقال في الرّياض عنه «وهو الفقيه الحكيم المتكلّم المحدّث الصوفيّ المعاصر للشيخ علي الكركي وكان تلميذ علي بن هلال الجزائري وصاحب كتاب عوالي اللئالئ وكتاب نثر اللئالئ ... وغيرها من المؤلفات ذو الفضائل الجمّة ، لكن التصوّف العالي المفرط قد ابطل حقّه».

هذا غاية ما يمكن ان ينتقد به هذا الكتاب وصاحبه.

وقد يدافع عن هذا الكتاب وصاحبه بما يلي :

ـ امّا قولهم بأنّه خلط الغث بالسمين ولم يميّز القشر من اللباب واكثر فيه من احاديث العامّة وادخل فيه اخبار متعصّبي المخالفين فلا يسقط كل الكتاب عن درجة الاعتبار كما هو واضح ، هذا اولا ، وثانيا : إنّ الكثير من الروايات التي يعتبرها جمع من العلماء سقيمة المتن لانها لا توافق اعتقاداتهم هي في نظر جمع آخرين ذات معنى عميق وصحيح. ولو لا خوف التطويل لذكرت لذلك أمثلة كثيرة يعرفها من عنده علم بالحكمة والعرفان ، ولعلّ نظر من قال هذه الاوصاف إلى هذه الروايات التي فيها مسحة عرفانية لم يتفهّموها ، فلا عبرة بالتضعيف المتني حتّى نرى بانفسنا ذلك.

وثالثا : إنّه من المسلّم عند اصحابنا الامامية اعلى الله مقامهم عدم كذب جميع روايات العامّة ، ومن المستبعد جدّا. مع ما رأيت من تصريح كلام السيد الجزائري الذى شرح كل كتابه واطّلع على اماكنها من الكتب الاربعة وغيرها ، وقريب منه حفيده السيد المروّج وايضا مع الأخذ

٣٥٦

__________________

بعين الاعتبار مناظراته مع العامّة كمناظرة الهروي وغيرها ومع الأخذ بعين الاعتبار أيضا مدحه والثناء عليه من الكثير ممّن قاربوا زمانه وايضا بعد ما سمعته من كلامه السالف الذكر انه لا يعتبر إلّا الروايات الصحيحة والموثقة والحسنة .... فمن المستبعد جدّا بعد كل هذا أن يروي عن العامّة ما لا وجه له عندنا.

هذا ولكن رغم هذه الدفاعات لا يزيد هذا الكتاب اعتبارا عن الكتب الأربعة التي هي ـ بالاتفاق ـ امّهات الكتب الروائية عندنا ، وهذه الكتب بنفسها نرجع فيها الى سند كل رواية على حدة ، فبطريق اولى ـ مع ما سمعته من نقد جمع من العلماء ـ أن نحقّق فيه في كل رواية رواية ، فلعلّه اطمأنّ هو بوثاقة من لا نطمئن بوثاقته ، مع كونه بعيدا جدّا عن عصر الاصول الرجالية القديمة ، ومع الاستبعاد الشديد ان يكون جميع رواة جميع الروايات ثقات بالاتفاق ، فانظار المتاخّرين في الوثاقة متعدّدة جدّا بل لا حصر لها عند الخبراء بعلم الرجال ،

ـ فقد نسب إلى الشيخ والعلّامة وجماعة القول بان العدالة هي مجرّد الاسلام وعدم ظهور الفسق وفي هذا خلاف واضح.

ـ وفي اعتبار رواة كامل الزيارات وتفسير القمي ثقات اختلاف.

ـ وفي توثيقات ابن عقدة وابن الغضائري وكتاب البرقي خلاف.

وبعضهم يعتمدون في التوثيق على امارات فيها خلاف ايضا كترحم المعصوم على احد وترضيه عنه ، او تسليمه الراية في الحرب ، أو ارساله إلى خصمه او غير خصمه ، او اتخاذه خادما او كاتبا او مصاحبا ، او كون الرجل من مشايخ الاجازة ، أو ان يكون له كتاب اواصل ، او أن يكون كثير الرواية عن المعصوم ، او توصيف احد بانه عالم او فاضل او فقيه او محدّث ونحو ذلك كثير لا مجال لذكره ...

ولا نعرف مباني ابن ابي جمهور في التوثيق فهل يقبل قوله السابق بصحة اسانيد جميع ما ذكره من الروايات في كتابه هذا؟!

ومع علمنا بتأخّره الكبير عن عصر القدماء (وهو عصر الشيخ الطوسي ومن قبله) بحيث ان قرائن صحّتها الحسية لمثله في غاية البعد.

ومن هنا تعرف ان القول بصحّة كل روايات كتابه هذا عند غيره في غاية الوهن

٣٥٧

__________________

والضعف بحيث يحصل انصراف من ادلّة حجية خبر الثقة عن مثل هذه الحالة.

وهناك وهن آخر بلحاظ نفس روايات قاعدة الميسور المذكورة وهو عدم وجودها اصلا في الكتب الروائية المعروفة ، ومعنى ذلك أنه وجد كتابا فيه هذه الروايات وغيرها ممّا لم نجده في الكتب المشهورة وقد رواها هو لوحده دون جميع من أجازوه به من عصره إلى عصر المحمّدين الثلاثة ، وهذا واقعا مثار للاستغراب والتعجب ، مع انّك تعرف ان رواتنا ذكروا عشرات آلاف الروايات في شتّى المجالات حتّى في الآداب والمستحبّات القليلة الأهمية ، بل ترى مثلا انهم رووا في السواك والقياس مئات الروايات ، فكيف لم يرووا هذه الروايات الثلاث مع ما لها من عظيم الخطر في الفقه؟!

ولذلك أرى ان القول باعتبار هذه الروايات الثلاث ضرب من السفاهة وعدم التأمل لا في علم الرجال ولا في علم الحديث ولا في التاريخ ...

وبعد الوصول إلى هنا رأيت أن من اللازم ان احقّق في نفس الكتاب بنفسي لنطمئن اكثر فذهبت الى مكتبة آية الله السيد المرعشي النجفي وتصفّحت الكتاب لساعة فتفاجأت ان اوّل سند يذكره كان عن ابي هريرة (الحديث الثاني) ثم عن عائشة في الرواية الثالثة ومتنها وروت عائشة انه ربّما انقطع شسع نعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمشى في نعل واحدة حتّى تصلح الاخرى!

واكثر رواياته مرسلة ... إلى ان يروى عن عمر بن قرّة (وهو مهمل في رجالنا) عن ابي البختري (حديث ٣٢) ، وابو البختري هذا هو وهب بن وهب الذي يقول في حقّه النجاشي : «كان كذّابا ، وله احاديث مع الرشيد في الكذب» ، وقال عنه الشيخ «عامي المذهب ، ضعيف» وقال عنه ابن الغضائري «كذاب عامّي» ، وروى الكشي بسنده عن الفضل بن شاذان انه كان «من اكذب البريّة» ... الخ.

. وفي حديث ٤٤ وروى حمّاد بن إبراهيم عن الاسود عن عائشة انها قالت كنت افرك المني من ثوب رسول الله فيصلي فيه! وهذا سندا مظلم ومتنا أظلم.

. وفي حديث ٤٥ روى عمر بن ميمون بن مهران عن سليمان بن يسار (وهما غير

٣٥٨

__________________

موجودين في رجالنا) قال سمعت عائشة تقول انها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

. وفي حديث يحيى بن سعيد عن هشام الدستواني (مهمل) عن يحيى بن ابي كثير (مهمل ايضا) عن ابي قلابة (ايضا مهمل) عن ابي المهلّب (كسابقيه) عن عمران بن حصين قال كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أتته امرأة من جهينة وهي حامل من الزنا ، فقالت يا رسول الله : اني اصبت حدّا فاقمه عليّ ، فدعا النبي وليّها فأمره ان يحسن إليها ، فاذا وضعت حملها اتاه بها فأمر بها فرجمت ، ثمّ صلّى عليها ، ولم يذكر في هذا انّها اعترفت اربع مرّات ، أقول وهذا الرأي مخالف لمشهور علمائنا بالشهرة العظيمة ، بل ويدلّ على ذلك روايات صحيحة ، وعلّق الشيخ مجتبى العراقي (صاحب الحاشية على الكتاب) بقوله : «وهذا الحديث لم يروه احد إلّا من هذا الطريق».

. وروى مالك عن صفوان بن سليم (مجهول) عن عطا بن يسار (مجهول) عن ابي سعيد الخدري ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» والمتن كما ترى خلاف الحق ، إلّا اذا كان المراد من «واجب» معنى مستحب جدا ، ومن «محتلم» معنى بالغ.

. وروى ص ٥٤ في حديث ابي رزين العقيلي (مهمل) برواية حمّاد بن سلمة (مجهول) أنّه سأله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اين كان ربنا قبل خلق السموات والأرض؟ فقال عليه‌السلام : «كان في عماء ، ما فوقه هواء وما تحته هواء». قال المعلّق : «وحمّاد بن سلمه إنما رواه عن وكيع بن عدس وهو غير معروف بين اهل الحديث».

. وروي في حديث ان امرأة كانت تستعير حليا من أقوام فتبيعه فأخبر النبي بحالها فامر بقطع يدها. (أقول) وهذا مخالف لما عليه الاصحاب ، بل ادّعي عليه الاجماع ، وعليه بعض الروايات الصحيحة.

. وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه نهى عن الصلاة في اعطان الابل لانها خلقت من الشيطان. (أقول) ماهية الابل غير ماهية الشيطان ذي الطبيعة النارية ، فخلق الابل من الشيطان امر لا نتعقّله.

٣٥٩

__________________

فبعد ما رأيت بعض رجال السند في كتابه هذا ، بل وبعض المتون التي تنفر منها طباع العوام فضلا عن العلماء والتي تخالف فتاوى المذهب كيف نصدّق قوله بعدالة وصدق كل من روى عنهم في كتابه هذا؟ بل وبشهرتهم بصحّة فتاواهم؟! ...

إذن لا اعتبار لروايات قاعدة الميسور بوجه من الوجوه.

* * *

(تمّت) مراجعته يوم الإثنين الواقع في ٢١ جمادى الآخرة من عام ١٤١٩ ه‍. ق

في المكتبة العامّة للسيد المرعشي النجفي (رحمه‌الله) ،

وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين والحمد لله ربّ العالمين

* وتمت مراجعته في الطبعة الثانية في ١٣ شعبان المعظم من عام ١٤٢٥ ه‍

الواقع في ٢٨ / ٩ / ٢٠٠٤ في بيروت حماها الله من كل سوء ،

والحمد لله رب العالمين

٣٦٠