دروس في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

(ألف وباء) ، فيصحّ ان يكون كلّ منهما مطمئنا به ولا يكون المجموع مطمئنا به.

وثانيا : بالحلّ ، وهو أن القاعدة المذكورة انما تصدق فيما إذا كان كلّ من الاحرازات (*) يستبطن ـ إضافة الى احراز وجود متعلّقه فعلا ـ إحراز وجوده حتى على تقدير وجود متعلّق الاحراز الآخر (١) [أي] على نهج

__________________

(١) تبيّن لديك من الحاشية السابقة أنّه كلما يزيد كمّ القسم الماخوذ من الالف إناء كلّما يزيد احتمال النجاسة ويقلّ احتمال الطهارة ، ولكن هناك حالة اخرى تغاير هذه

الحالة وهي حالة عدم وجود علم إجمالي في البين ، ففي هذه الحالة الاطمئنان

بطهارة الالف والباء وبقية الاطراف يعني الاطمئنان بطهارة الكل ، وهذه الحالة هي مورد جريان القاعدة المذكورة. مثال آخر : اطمئناننا بايمان سلمان والمقداد وأبي ذر وجابر بن عبد الله وعمّار وأضرابهم ، فاننا نطمئن بايمان سلمان مطلقا أي سواء آمنّا بايمان البقية أم لم نؤمن ، فنحن مطمئنون بايمانه مطلقا أي حتى على فرض عدم ايمان البقية ، هذا النوع من الاطمئنان هو المعبّر عنه في المتن بالاطمئنان على نهج القضية المطلقة وهو مورد القاعدة المذكورة ، وهذا النوع يغاير الاطمئنان بعدم انطباق إناء (أ) ـ في المثال السابق ـ على النجس الواقعي فانه مقيّد بالنظر اليه لوحده أي مشروط بوجود اطمئنان بكون النجس الواقعي في الباقي ، وهو المعبّر عنه بالاطمئنان على نهج القضية الشرطية فافهم.

وعليه فلا نفهم مراد السيد المصنّف (قده) من قوله «على نهج القضية

__________________

(*) في النسخة قال ـ بدل «الاحرازات» ـ «الاحرازين» ، وما أثبتناه أولى.

٢٤١

القضيّة المطلقة (*) ، فمن يطمئن بأنّ (ألف) موجود حتّى على تقدير وجود (باء) أيضا وانّ (الباء) موجود حتّى على تقدير وجود (الألف) فهو يطمئن حتما بوجود المجموع. وفي المقام الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم الاجمالي على أيّ طرف وإن كان موجودا فعلا ولكنه لا يستبطن الاطمئنان بعدم الانطباق عليه حتّى على تقدير عدم الانطباق على الطرف الآخر ، والسبب في ذلك ان هذا الاطمئنان انما نشأ من حساب الاحتمالات واجماع احتمالات الانطباق في الاطراف الاخرى على نفي الانطباق في هذا الطرف (١) ، فتلك الاحتمالات إذن هي الاساس في تكوّن الاطمئنان ، فلا مبرّر إذن للاطمئنان بعدم الانطباق على طرف عند افتراض عدم الانطباق على الطرف الآخر ، لأنّ هذا الافتراض يعني بطلان بعض الاحتمالات التي هي الاساس في تكوّن الاطمئنان بعدم الانطباق.

__________________

الشرطيّة» والصحيح ان يقول «على نهج القضيّة المطلقة» ولذلك أثبتنا كلمة «المطلقة» في المتن.

(١) أي ان سائر الآنية الاخرى تفيد ان انطباق النجس الواقعي على أحدها هو بقوة ٩٩٩ / ١٠٠٠ ، فهي بالتالي تفيدنا عدم انطباق النجس الواقعي على إناء (أ) بقوّة ٩٩٩ / ١٠٠٠ ، وعليه فالاطمئنان بطهارة إناء (أ) مشروط بوجود اطمئنان بكون النجس الواقعي في سائر الآنية. فلا مبرّر اذن لتوهّم أن الاطمئنان بطهارة إناء (أ) مطلق لحالة الاطمئنان بطهارة سائر الآنية ، إذن فلا يرد اشكال المحقق العراقي.

__________________

(*) في النسخة الأصلية كان يوجد بدل «المطلقة» كلمة «الشرطية» وهو سهو.

٢٤٢

وأمّا الاستشكال الآخر (١) فيتّجه ـ بعد التسليم بوجود الاطمئنان المذكور ـ إلى أنّ هذا الاطمئنان بعدم الانطباق لمّا كان موجودا في كلّ طرف فالاطمئنانات معارضة في الحجيّة والمعذّريّة للعلم الاجمالي بانّ بعضها كاذب ، والتعارض يؤدي الى سقوط الحجيّة عن جميع تلك الاطمئنانات.

والجواب على ذلك : انّ العلم الاجمالي بكذب بعض الامارات إنّما يؤدي إلى تعارضها وسقوطها عن الحجيّة لأحد سببين :

الاوّل : ان يحصل بسبب ذلك تكاذب بين نفس الامارات فتدل كلّ واحدة منها بالالتزام على وجود الكذب في الباقي (٢) ولا يمكن التعبّد بحجيّة المتكاذبين.

الثاني : ان تؤدي حجيّة تلك الامارات ـ والحالة هذه ـ الى الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال.

وكلا السببين غير متوفّر في المقام.

أمّا الاوّل فلأنّ كل اطمئنان لا يوجد ما يكذّبه بالدلالة الالتزاميّة ، لأننا إذا أخذنا اي اطمئنان آخر معه لم نجد من المستحيل ان يكونا معا صادقين فلما ذا يتكاذبان ، وإذا اخذنا مجموعة الاطمئنانات الاخرى لم

__________________

(١) الاستشكال الاوّل كان صغرويا اي في حصول الاطمئنان ببعض الاطراف ، وهذا الاستشكال كبروي ، اي في حجية هذا الاطمئنان بعد التسليم بحصوله.

(٢) كما في العلم الاجمالي القليل الاطراف.

٢٤٣

نجد تكاذبا أيضا (١) ، لأنّ هذه المجموعة لا تؤدّي إلى الاطمئنان (٢) بمجموع متعلّقاتها أي الاطمئنان بعدم الانطباق على سائر الاطراف المساوق للاطمئنان بالانطباق على غيرها ، وذلك لما برهنّا عليه من ان كل اطمئنانين لا يتضمّنان الاطمئنان بنحو مطلق (*) لا يؤدي اجتماعهما إلى الاطمئنان بالمجموع ، والاطمئنانات الناشئة من حساب الاحتمال هنا من هذا القبيل (٣) كما عرفت.

وامّا الثاني : فلأنّ الترخيص في المخالفة القطعيّة انّما يلزم لو كان دليل حجيّة هذه الاطمئنانات يقتضي الحجيّة التعيينيّة لكل واحد منها ،

__________________

(١) ففي مثال علمنا بوجود متنجس واحد بين ألف إناء نجد أنفسنا مطمئنين بعدم انطباق النجس الواقعي على أي إناء نختاره ، وهذه الاطمئنانات لا تتكاذب لأنها اطمئنانات مشروطة بوجود اطمئنان بكون النجس الواقعي بين بقية الأطراف ، أو قل : هذه الاطمئنانات لا تتكاذب لانها مشروطة لا مطلقة ، فأنت لست مطمئنا بطهارة إناء (أ) مطلقا ـ أي حتى لو كانت سائر الأطراف طاهرة.

(٢) أي لانّ هذه المجموعة الكبيرة المأخوذة لا تؤدّي إلى الاطمئنان بطهارة مجموع أفرادها بشكل مطلق حتّى ينحصر الفرد النجس واقعا في الاناء المختار ، «وذلك لما برهنّا عليه من» أنّه في موارد الاطمئنان المشروط لا يؤدّي اجتماع الاطمئنانات في الاطراف الى الاطمئنان بالمجموع.

(٣) أي من قبيل الاطمئنان الذي لا يتضمّن الاطمئنان المطلق ، أو قل من قبيل الاطمئنان المشروط.

__________________

(*) في النسخة الأصلية قال بدل «بنحو مطلق» قال «بالقضية الشرطية» وهو سهو.

٢٤٤

غير انّ الصحيح ان مفاده هو الحجيّة التخييريّة ، لأنّ دليل الحجيّة هنا هو السيرة العقلائية وهي منعقدة على الحجيّة بهذا المقدار (*).

التقريب الثاني : انّ الرّكن الرابع من اركان التنجيز المتقدّمة مختلّ ، وذلك لأنّ جريان الاصول في كل اطراف العلم الاجمالي لا يؤدّي إلى فسح المجال للمخالفة القطعية عمليا والاذن فيها ، لاننا نفترض كثرة الاطراف بدرجة لا تتيح للمكلّف اقتحامها جميعا ، وفي مثل ذلك تجري

__________________

(*) الحقّ ان يقال إنّه إذا استعمل المكلّف بعض اطراف العلم الاجمالي بمقدار المعلوم بالاجمال ينعدم ح العلم بالفرد الواقعي ، فيكون استعمال الباقي أقلّ محذورا لعدم علمنا بوجود النجس الواقعي ضمن الباقي ، وقد رددنا هذا القول سابقا ص ١٨١ ـ ١٨٣ بتفصيل اكثر فراجع.

ونضيف هنا قولنا بأنّ من يعلم بنجاسة إناء من مائة إناء وفرضنا حصول الاطمئنان بطهارة أيّ إناء نعينه وشربناه ، وهكذا الى ان استعملنا عشرة منها ، فما المانع بعد ذلك في ان نستعمل الباقي ولو بالتدريج ، بان نقول نحن مطمئنّون بعدم انطباق الفرد النجس واقعا على هذا فنستعمله ... (بل) إنّ وقوفنا على حد معين كالواحد والاثنين باعث على الاستهجان خاصّة بعد علمنا بعدم وجود دليل على حرمة المخالفة القطعية في امثال هذه الموارد ، لا بل الدليل على جوازها موجود وهو الذي ذكرناه مفصّلا في حاشية الجزء الاوّل ص ٦٠ ـ ٦٢ فراجع.

وسيأتيك اعتراف السيد الشهيد في البيان الثاني بعدم وجود مانع عند العقلاء من جريان الاصول المؤمّنة في كل اطراف العلم الاجمالي مع كثرة الاطراف ، وعدم المانع عندهم من ارتكاب الكل ـ في بيان الاستدلال بالاطمئنان ـ أولى وعلى الاقل يماثله في عدم وجود مانع عند العقلاء من ارتكاب كل الأطراف.

٢٤٥

الاصول جميعا بدون معارضة.

وهذا التقريب متّجه على أساس الصيغة الأصلية التي وضعناها للركن الرّابع فيما تقدّم ، وأمّا على أساس صياغة السيد الاستاذ له السالفة الذكر (١) فلا يتم لأنّ المحذور في صياغته الترخيص القطعي في مخالفة الواقع وهو حاصل من جريان الاصول في كل الاطراف ولو لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعية لعدم القدرة عليها.

ومن هنا يظهر أنّ الثمرة بين الصيغتين المختلفتين للركن الرّابع تظهر في تقييم التقريب المذكور اثباتا ونفيا (٢) ، غير انّ السيد الاستاذ حاول ان ينقض على من يستدلّ بهذا التقريب.

وحاصل النقض : ان الاحتياط إذا كان غير واجب في الشبهة غير المحصورة من اجل عدم قدرة المكلّف على المخالفة القطعية يلزم عدم وجوب الاحتياط في كل حالة تتعذّر فيها المخالفة القطعية ولو كان العلم

__________________

(١) كانت صياغة السيد الخوئي رحمه‌الله للركن الرابع ان العلم الإجمالي انّما ينجّز اذا أدّى اجراء الاصول المؤمّنة في الأطراف الى الترخيص في المخالفة الواقعية أي الى الترخيص في ارتكاب الحرام الواقعي وهو قبيح حتى ولو لم يمكن ارتكاب الكل أي حتى لو لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعية وارتكاب الحرام الواقعي بنحو القطع.

(٢) فعلى أساس صياغة السيد الشهيد لا يكون العلم الإجمالي منجّزا وبالتالي تجري الاصول المؤمّنة في كل الاطراف ، وعلى اساس صياغة السيد الخوئي لا تجري لانه سيكون ترخيصا في المخالفة الواقعية أي في شرب أيّ إناء حتى وإن صادف انه الحرام بعينه ، وهذا الترخيص قبيح عقلا.

٢٤٦

الاجمالي ذا طرفين او أطراف قليلة حيث تجري الاصول جميعا ولا يلزم منها الترخيص عمليا في المخالفة القطعية ، ومثاله أن يعلم إجمالا بحرمة المكث في آن معيّن في أحد مكانين ، مع انّ القائلين بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة لا يقولون بذلك (١) في نظائر هذا المثال.

والتحقيق ان الصيغة الاصلية للرّكن الرّابع يمكن ان توضّح بأحد بيانين : البيان الاوّل : ان عدم القدرة على المخالفة القطعية يجعل جريان الاصول في جميع الاطراف ممكنا ، لأنّه لا يؤدّي ـ والحالة هذه ـ إلى الترخيص عمليا في المخالفة القطعية لانها غير ممكنة حتّى يتصوّر الترخيص فيها.

وهذا البيان ينطبق على كل حالات العجز عن المخالفة القطعية ، ولذلك يعتبر النقض واردا عليه. إلّا انّ البيان المذكور غير صحيح ، لانّ المحذور في جريان الاصول في جميع أطراف العلم الاجمالي هو ان

__________________

(١) اي لا يقولون بعدم وجوب الاحتياط ، وقد ذكر السيد الخوئي هذا النقض في مصباحه ج ٢ / ص ٣٧٤ / الرّد الاوّل.

(ثمّ) قال السيد الخوئي رحمه‌الله انه إذا تمكّن المكلّف من الموافقة القطعية دون المخالفة القطعية ـ كما لو علم بوجود طعام متنجس في محلّة معيّنة من بلدته ، فهو يستطيع على اجتناب كل طعام في تلك المحلّة ولا يستطيع ان يأكل كل الطعام الموجود فيها ـ فاختار المحقّق النائيني فيه عدم تنجيز العلم الاجمالي ، والصحيح هنا وجوب الموافقة القطعية ـ بترك الكل ـ لانّ احتمال التكليف موجب لتنجيز الواقع لو لم يكن

٢٤٧

تقديم المولى لاغراضه الترخيصيّة على اغراضه اللزومية الواصلة بالعلم الاجمالي على خلاف المرتكز العقلائي ـ كما تقدّم توضيحه سابقا ـ ومن الواضح ان شمول دليل الأصل لكل الاطراف يعني ذلك ، ومجرّد اقترانه صدفة بعجز المكلّف عن المخالفة القطعية لا يغير من مفاد الدليل ، فالارتكاز العقلائي إذن حاكم بعدم الشمول كذلك (١).

البيان الثاني : ان عدم القدرة على المخالفة القطعيّة إذا نشأ من كثرة الاطراف أدّى إلى امكان جريان الاصول فيها جميعا ، إذ في غرض لزوميّ واصل كذلك ـ بوصول مردّد بين اطراف بالغة هذه الدرجة من الكثرة ـ لا يرى العقلاء محذورا في تقديم الاغراض الترخيصية عليه ، لأنّ التحفظ على مثل ذلك الغرض يستدعي رفع اليد عن اغراض ترخيصية كثيرة ، ومعه لا يبقى مانع عن شمول دليل الاصل لكل الاطراف.

وهذا هو البيان الصحيح للركن الرابع وهو يثبت عدم وجوب

__________________

مؤمّنا عنه انتهى كلامه (رضي الله عنه).

(١) أي فالارتكاز العقلائي ـ بعدم تقديم المولى لاغراضه الترخيصية على اغراضه اللزومية الواصلة بالعلم الاجمالي ـ قرينة لبّيّة على عدم جريان الاصول المؤمّنة في كل الاطراف لمجرّد عجز المكلّف عن المخالفة القطعية او قل هذا الارتكاز بعدم شمول الاصول المؤمّنة لكل حالات العجز عن المخالفة القطعية ، وبتعبير ثالث : هذا الارتكاز يصرف أدلّة الاصول المؤمّنة عن الشمول لكلا طرفي العلم الإجمالي في المثال السابق (مثال الذي يعلم بحرمة المكث في آن معيّن في أحد مكانين) ، ولذلك ترى العقلاء لا يمكثون في أحد المكانين بحجّة أنهم لا يستطيعون على المخالفة القطعية.

٢٤٨

الاحتياط في الشبهة غير المحصورة ولا يرد عليه النقض (*).

وهكذا نخرج بتقريبين لعدم وجوب الاحتياط في اطراف الشبهة غير المحصورة ، غير انهما يختلفان في بعض الجهات ، فالتقريب الاوّل مثلا يتمّ حتّى في الشبهة التي لا يوجد في موردها أصل مؤمّن ، لأنّ التأمين فيه مستند إلى الاطمئنان لا إلى الاصل ، بخلاف التقريب الثاني كما هو واضح.

٨ ـ إذا كان ارتكاب الواقعة في أحد الطرفين غير مقدور

قد يفرض ان ارتكاب الواقعة غير مقدور ويعلم إجمالا بحرمتها او حرمة واقعة اخرى مقدورة ، وفي مثل ذلك لا يكون العلم الاجمالي منجّزا.

ان القدرة تارة تنتفي عقلا كما إذا كان المكلّف عاجزا عن الارتكاب حقيقة (١) ، واخرى تنتفي عرفا بمعنى ان الارتكاب فيه من العنايات المخالفة للطبع والمتضمّنة للمشقة ما يضمن انصراف المكلّف عنه ويجعله بحكم العاجز عنه عرفا وإن لم يكن عاجزا

__________________

(١) العجز الحقيقي من قبيل ما لو كان المكث عليه في آن واحد في أحد مكانين محرّما. والعجز العرفي من قبيل ما لو كان أحد الإنائين متنجسا إمّا هذا الذي تحت ابتلائه وإما ذاك الذي في محلّة من الصين بحيث يطمئن بأنه لن يذهب اليها في عمره.

__________________

(*) هذا البيان صحيح لا غبار عليه ، وقد كنّا برهنّا عليه سابقا باطلاقات روايات الحل فراجع.

٢٤٩

حقيقة ، كاستعمال كأس من حليب في بلد لا يصل إليه عادة ، ويسمّى هذا العجز العرفي بالخروج عن محلّ الابتلاء.

فان حصل علم اجمالي بنجاسة احد مائعين مثلا وكان احدهما مما لا يقدر المكلّف عقلا على الوصول إليه فالعلم الاجمالي غير منجّز ، ويقال في تقريب ذلك عادة : ان الرّكن الاوّل منتف لعدم وجود العلم بجامع التكليف ، لأنّ النجس إذا كان هو المائع الذي لا يقدر المكلّف على ارتكابه فليس موضوعا للتكليف الفعلي ، لأنّ التكليف الفعلي مشروط بالقدرة ، فلا علم اجمالي بالتكليف الفعلي إذن.

وكأنّ اصحاب هذا التقريب جعلوا الاضطرار العقلي إلى ترك النجس كالاضطرار العقلي إلى ارتكابه ، فكما لا ينجّز العلم الاجمالي مع الاضطرار إلى ارتكاب طرف معيّن منهم ـ على ما مرّ في الحالة الثانية (١) ـ كذلك لا ينجّز مع الاضطرار العقلي إلى تركه ، لأنّ التكليف مشروط بالقدرة ، وكلّ من الاضطرارين يساوق انتفاء القدرة ، فلا يكون التكليف ثابتا على كل تقدير.

والتحقيق ان الاضطرارين يتّفقان في نقطة ويختلفان في اخرى ، فهما يتّفقان في عدم صحة توجّه النهي والزجر معهما (٢) ، فكما لا يصح ان يزجر المضطر الى شرب المائع عن شربه كذلك لا يصح ان يزجر عنه من لا يقدر على شربه ، وهذا يعني انّه لا علم اجمالي بالنهي (٣) في كلتا

__________________

(١) ص ٢١٧.

(٢) اي مع الاضطرار إلى الفعل والاضطرار إلى الترك.

(٣) الفعلي ، اي لا علم اجمالي بوجود تكليف واقعي منهيّ عنه لا في

٢٥٠

الحالتين ، ولكنّهما يختلفان بلحاظ مبادئ النهي من المفسدة والمبغوضيّة ، فان الاضطرار إلى الفعل يشكّل حصّة من وجود الفعل مغايرة للحصّة التي تصدر من المكلّف بمحض اختياره ، فيمكن ان يفترض ان الحصّة الواقعة عن اضطرار كما لا نهي عنها لا مفسدة ولا مبغوضيّة فيها (١) ، وإنما المفسدة والمبغوضيّة في الحصّة الاخرى ، وامّا الاضطرار إلى ترك الفعل والعجز عن ارتكابه فلا يشكّل حصّة خاصة من وجود الفعل على النحو المذكور ، فلا معنى لافتراض ان الفعل غير المقدور للمكلّف ليس واجدا لمبادئ الحرمة وانّه لا مفسدة فيه ولا مبغوضيّة ، إذ من الواضح ان فرض وجوده مساوق لوقوع المفسدة وتحقق المبغوض ، فكم فرق بين من هو مضطر إلى اكل لحم الخنزير لحفظ حياته ومن هو عاجز عن اكله لوجوده في مكان بعيد عنه؟ فاكل لحم الخنزير عن اضطرار إليه قد لا يكون فيه مبادئ النهي أصلا فيقع من

__________________

حالة الاضطرار إلى ارتكاب الفعل ـ كما لو اضطرّ انسان إلى اكل لحم خنزير لانقاذ حياته من الموت ـ ولا في حالة الاضطرار إلى تركه لعدم القدرة عليه ، لأنّ توجّه النهي عنه في هذه الحالة محض لغو ، ومع الاخذ بعين الاعتبار انّه قد يكون الفرد النجس هو بنفسه الفرد المضطرّ إلى ارتكابه أو تركه ، والطرف الآخر هو الحلال واقعا ، فلا يكون عندنا علم ح بوجود طرف منهي عنه في البين ، فلا وجود للركن الاوّل ، فلا منجّزية لهذا العلم الاجمالي.

(١) وذلك للمصلحة الأهم في فعله ، فانه يحصل كسر وانكسار في مرحلة المبادئ فتغلب المصلحة ـ لاهميتها الغالبة ـ على المفسدة ويصير الفعل صالحا لا مفسدة فيه.

٢٥١

المضطر بدون مفسدة ولا مبغوضيّة (*) ، وأمّا اكل لحم الخنزير البعيد عن المكلّف فهو واجد للمفسدة والمبغوضيّة لا محالة ، وعدم النهي عنه ليس لأنّ وقوعه لا يساوق الفساد بل لأنّه لا يمكن ان يقع.

ونستخلص من ذلك ان مبادئ النهي يمكن ان تكون منوطة بعدم الاضطرار إلى الفعل (١) ، ولكن لا يمكن ان تكون منوطة بعدم العجز عن الفعل ، وعليه ففي حالة الاضطرار إلى الفعل في احد طرفي العلم

__________________

(١) فان كان هناك اضطرار إلى الفعل ـ كما في حالة الخوف على النفس من الهلكة ـ فلا مفسدة ، وإلّا فالمفسدة موجودة ، ويمكن لك أن تختصر قوله بقولك : «ونستخلص من ذلك ان مبادئ النهي ـ وجودا وعدما ـ يمكن ان تكون منوطة بالاضطرار إلى الفعل عدما ووجودا ...»

__________________

(*) (أقول) المفسدة والمصلحة في هذا النوع من الأمثلة امران تكوينيان يحملهما الفعل في طيّاته ، وإن جاز ارتكابه او وجب ، وإنّما يجب. مع وجود مفسدة فيه. لوجود مصلحة غالبة على المفسدة بدرجة تلزم بالفعل.

(على أي حال) الاضطرار الى أكله انما يرفع منجّزية حرمة أكله ولا يرفع المفسدة والضرر التكويني.

(نعم) هناك أمثلة أخرى من قبيل الكذب ممّا لا يكون في نفسه ظلما وفيه مفسدة ، فهذا ان وقع من المضطر لا يكون مبغوضا ، ولذلك يحسن في بعض الحالات ، ولو كان الكذب من فروع الظلم لما حسن في أيّ حالة لأن الاحكام العقلية من قبيل" الظلم قبيح" لا تقبل التخصيص ، فقبول حكم الكذب للتخصيص كاشف عن ان قبحه ليس عقليا وانما هو عقلائي لكون الكذب غالبا ذا مفسدة فيتصوّره العقلاء من فروع الظلم وانه مبغوض في نفسه. وهذا هو مراد سيدنا الشهيد في المتن ، ولذلك كان الاولى تغيير المثال.

٢٥٢

الا جمالي ـ كما في الحالة الثانية المتقدّمة (١) ـ يمكن القول بأنّه لا علم إجماليّ بالتكليف لا بلحاظ النهي ولا بلحاظ مبادئه ، وامّا في حالة الاضطرار بمعنى العجز عن الفعل في احد طرفي العلم الاجمالي ـ كما في المقام ـ فالنهي وإن لم يكن ثابتا على كل تقدير ولكن مبادئ النهي معلومة الثبوت اجمالا على كل حال ، فالركن الاوّل ثابت لان العلم الاجمالي بالتكليف يشمل العلم الاجمالي بمبادئه (٢) ، ويجب ان يفسّر عدم التنجيز على اساس اختلال الركن الثالث إمّا بصيغته الاولى حيث انّ الاصل المؤمّن في الطرف المقدور يجري بلا معارض ، إذ لا معنى

__________________

(١) ص ٢١٧

(٢) قال الشيخ الانصاري ان العلم بالملاك التام فعلا بمنزلة العلم بالتكليف ، إذ عدم فعلية التكليف إنما هو لوجود مانع مع تمامية المقتضي (*)

__________________

(*) (أقول) انه رغم ذلك ورغم ايماننا ببقاء المبادئ في الطرف غير المقدور لكونها تكوينية كما عرفت ترى ان العقلاء لا يلتفتون إلى الطرف غير المقدور بل يعتبرونه كأنّه غير موجود ، بمعنى أنّهم يرون أنه لا يدخل في عهدتهم لا ملاكا ولا جعلا ، ولذلك إن كان احد طعامين ـ الموجود احدهما في مكان غير مقدور على الوصول إليه ، والآخر مقدور على ارتكابه. متنجّسا ترى ان غير المقدور عليه بحكم المعدوم عرفا ، وهذا هو السرّ فى إجراء العقلاء للاصول المؤمّنة في الطرف المقدور ح .... ولذلك نرى أنّ الرّكن الأوّل في حالتي الاضطرار إلى الفعل ـ كما اسلفنا في الحالة الثانية ـ والاضطرار إلى الترك منهدم ، ثمّ ان السيد الشهيد قد اقرّ بانهدام الركن الاوّل على الصيغة الثانية هنا وفي بعض الصور في حالة الاضطرار إلى الفعل ، بل قد يشير إلى وجود نحو تردّد عند السيد (قده) هنا قوله في الصفحة التالية «فالافضل ان يفسّر عدم تنجيز العلم الاجمالي» ، وذلك لان التردد هنا اولى من التردد هناك فتأمّل.

٢٥٣

لجريانه في الطرف غير المقدور ، لأنّ اطلاق العنان تشريعا في مورد تقيّد العنان تكوينا لا محصل له ، واما بصيغته الثانية حيث ان العلم الاجمالي ليس صالحا لتنجيز معلومه على كل تقدير ، لأنّ التنجيز هو الدخول في العهدة عقلا والطرف غير المقدور لا يعقل دخوله في العهدة هذا كلّه فيما اذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي غير مقدور.

وأما اذا كان خارجا عن محلّ الابتلاء فقد ذهب المشهور الى عدم تنجيز العلم الإجمالي في هذه الحالة ، واستندوا [في ذلك] الى أن الدخول في محل الابتلاء شرط في التكليف ، فلا علم إجماليّ بالتكليف في الحالة المذكورة ، فالعجز العقلي عن ارتكاب الطرف وخروجه عن محلّ الابتلاء يمنعان معا عن تنجيز العلم الاجمالي بملاك واحد عندهم ، وقد عرفت ان التقريب المذكور غير صحيح في العجز العقلي (١) فبطلانه في الخروج عن محلّ الابتلاء أوضح ، بل الصحيح ان الدخول في محلّ الابتلاء ليس شرطا في التكليف بمعنى الزجر فضلا عن المبادئ ، إذ ما دام الفعل ممكن الصدور من الفاعل المختار فالزجر عنه معقول.

فان قيل : ما فائدة هذا الزجر مع ان عدم صدوره مضمون لبعده وصعوبته.

كان الجواب : انّه يكفي فائدة للزجر تمكين المكلّف من التعبد

__________________

(١) أي وقد عرفت أن الركن الأوّل لا ينهدم بمجرّد الاضطرار العقلي الى الترك وذلك لكفاية العلم الإجمالي بوجود مفسدة في البين فبطريق أولى لا ينهدم الركن الأوّل بمجرّد وجود الإناء في الصين وخروجه عن محل الابتلاء فانّ المفسدة المحتملة فيه باقية.

٢٥٤

بتركه ، فالافضل ان يفسّر عدم تنجيز العلم الاجمالي مع خروج بعض أطرافه عن محلّ الابتلاء باختلال الركن الثالث ، لان اصل البراءة لا يجري في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء في نفسه ، لان الاصل العملي تعيين للموقف العملي تجاه التزاحم بين الاغراض اللزوميّة والترخيصيّة ، والعقلاء لا يرون تزاحما من هذا القبيل بالنسبة إلى الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء ، بل يرون الغرض اللزومي المحتمل (*) مضمونا بحكم الخروج عن محلّ الابتلاء بدون تفريط بالغرض الترخيصي ، فالاصل المؤمّن في الطرف الآخر يجري بلا معارض.

٩ ـ العلم الاجمالي بالتدريجيات

إذا كان احد طرفي العلم الاجمالي تكليفا فعليا والطرف الآخر تكليفا منوطا بزمان متأخّر سمّي هذا العلم بالعلم الاجمالي بالتدريجيّات ،

__________________

الاولى ان يقول : «بل يرون ان الغرض اللزومي الواقعي محتمل الانطباق على الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء ، فلا مانع ح من اجراء الاصل المؤمّن في الطرف المقدور بلا معارض مراعاة للغرض الترخيصي».

وتصحّ هذه النتيجة على مبنانا في تثليث اركان منجزية العلم الاجمالي ، إذ لا يوجد تناقض أو استهجان واضح في نظر المتشرّعة من اجراء الاصول المؤمّنة في الطرف الواقع تحت الابتلاء ، ولعلّ مرجع عدم الاستهجان المتشرّعي هو عدم التفاتهم إلى الخارج عن مورد الابتلاء ، بمعنى اننا نؤمن بفعلية التكليف أو قل حرمة الخمر الموجود في بيت لا ادخل اليه عادة ولن أدخل إليه ، لكن هذا لا يكفي في تنجيز التكليف ، فالخارج عن محل الابتلاء غير منجّز في حقّنا فهو بحكم العدم عمليا فنتمسّك باطلاق أدلة البراءة والحل والطهارة في المورد الواقع تحت ابتلائنا

٢٥٥

ومثاله علم المرأة إجمالا ـ إذا ضاعت عليها ايّام العادة ـ بحرمة المكث في المسجد في بعض الايّام من الشهر. وقد استشكل بعض الاصوليين في تنجيز هذا العلم الاجمالي ، ويستفاد من كلماتهم امكان تقريب الاستشكال بوجهين :

الاوّل : إن الرّكن الاوّل مختل ، لأنّ المرأة في بداية الشهر لا علم إجماليّ لها بالتكليف الفعلي ، لأنّها إمّا حائض فعلا فالتكليف فعلي ، وإمّا ستكون حائضا في منتصف الشهر مثلا فلا تكليف فعلا (١) ، فلا علم بالتكليف فعلا على كل تقدير ، وبذلك يختلّ الركن الأوّل.

الثاني : إنّ الركن الثالث مختل ، (امّا) اختلاله بصيغته الاولى فتقريبه ان المرأة في بداية الشهر تحتمل حرمة المكث فعلا وتحتمل حرمة المكث في منتصف الشهر مثلا ، ولما كانت الحرمة الاولى محتملة فعلا ومشكوكة فهي مورد للاصل المؤمّن ، وامّا الحرمة الثانية فهي وان كانت مشكوكة ولكنها ليست موردا للأصل المؤمّن فعلا في بداية الشهر ، إذ لا يحتمل وجود الحرمة الثانية في اوّل الشهر ، وانّما يحتمل وجودها في منتصفه ، فلا تقع موردا للأصل المؤمّن إلّا في منتصف الشهر ، وهذا يعني ان المرأة في بداية الشهر تجد الاصل المؤمّن عن حرمة المكث فعلا جاريا بلا معارض وهو معنى عدم التنجيز. (وأما) اختلاله بصيغته الثانية فلأنّ الحرمة المتأخّرة لا تصلح أن تكون منجّزة في بداية الشهر ، لأنّ تنجز كل تكليف فرع ثبوته وفعليته ، ففي بداية الشهر لا يكون العلم الاجمالي

__________________

(١) هذه مقالة صاحب الكفاية (انظر الكفاية ـ حاشية المشكيني ـ ج ٢ ـ ص ٢١٥).

٢٥٦

صالحا لتنجيز معلومه على كل تقدير (١).

والصحيح ان الركن الاوّل والثالث كلاهما محفوظان في المقام.

امّا الرّكن الاوّل فلأن المقصود بالفعلية في قولنا «العلم الاجمالي

__________________

(١) لا بأس بنقل ما ذكره السيد الخوئي رحمه‌الله في مصباحه ج ٢ / ص ٣٧٠ لما فيه من فوائد ، قال : إذا علم المكلّف بوجوب مردّد بين كونه فعليا الآن وكونه فعليا فيما بعد فقد ذهب صاحب الكفاية إلى جواز الرجوع إلى الأصل في كلّ من الطرفين ، واختار المحقق النائيني (قده) عدم جواز الرجوع إلى الأصل في شيء من الطرفين .. (وتحقيق الحال) أنّ تأخّر التكليف قد يكون مستندا إلى عدم تمامية المقتضي ، لعدم تحقّق ما له دخل في تماميته ، وهذا كأكثر الشرائط التي تتوقّف عليها فعلية التكليف ، كما إذا علمت المرأة بانها تحيض ثلاثة أيّام مردّدة بين جميع أيام الشهر ، فلا علم لها بالتكليف الفعلي ، ولا بملاكه التام ، لعدم العلم بالحيض فعلا المترتب عليه التكليف وملاكه ... ـ إذا عرفت ذلك فاعلم ان من نظر إلى ان تنجيز العلم الاجمالي متوقّف على التكليف الفعلي اختار عدم تنجيزه في المقام وجواز الرجوع إلى الاصول في جميع الاطراف .. (والتحقيق) هو ما ذهب إليه المحقق النائيني (قده) من تنجيز العلم الاجمالي وعدم جواز الرجوع إلى الاصل في شيء من الطرفين لما تقدم في بحث مقدّمة الواجب من استقلال العقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه بتعجيز النفس قبل مجيء وقته ، كاستقلاله بقبح تعجيز النفس عن امتثال التكليف الفعلي ، ولا فرق في قبح التفويت بحكم العقل بين كونه مستندا إلى العبد ـ كما تقدّم ـ وبين كونه مستندا إلى المولى بترخيصه في ارتكاب الطرف المبتلى به فعلا ، وترخيصه في ارتكاب الطرف الآخر في ظرف الابتلاء ، فانه ترخيص في تفويت الملاك التام الملزم ، وهو بمنزلة الترخيص في مخالفة التكليف الواصل وعصيانه في حكم العقل (انتهى كلام السيد الخوئي رحمه‌الله).

٢٥٧

بالتكليف الفعلي» ليس وجود التكليف في هذا الآن ، بل وجوده فعلا في عمود الزمان ، احترازا (١) عمّا إذا كان المعلوم جزء الموضوع للتكليف دون جزئه الآخر ، فانه في مثل ذلك لا علم بتكليف فعلي ولو في زمان (٢) ، فالجامع بين تكليف في هذا الآن وتكليف يصبح فعليا في آن متاخّر لا يقصر ـ عقلا ـ وصوله عن وصول الجامع بين تكليفين كلاهما في هذا الآن ، لأنّ مولوية المولى لا تختص بهذا الآن كما هو واضح.

وامّا الركن الثالث بصيغته الاولى فلأنّ الاصل المؤمّن الذي يراد إجراؤه عن الطرف الفعلي معارض بالاصل الجاري في الطرف الآخر المتأخّر في ظرفه ، إذ ليس التعارض بين أصلين من قبيل التضادّ بين لونين يشترط في حصوله وحدة الزمان ، بل مردّه إلى العلم بعدم امكان شمول دليل الأصل لكلّ من الطرفين بالنحو المناسب له من الشمول

__________________

(١) تارة يكون العلم الاجمالي قائما بين تكليف فعلي وتكليف غير فعلي كما لو تردّد الممسوس بين كونه جسد الانسان الميت او الحيوان الميت (بعد العلم بمسّ أحدهما) ، وتارة يكون احد الاناءين اللذين امامي متنجسا ، فنظر العلماء من قولهم «العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي» إلى الحالة الثانية ، ونظر السيد الماتن من قوله «إذا كان المعلوم جزء الموضوع للتكليف دون جزئه الآخر» إلى الحالة الاولى ، لان وجوب غسل المسّ يشترط فيه ان يكون الممسوس ميتا وجسد انسان ، ولذلك قال السيد «فانه في مثل ذلك لا علم بتكليف فعلي ولو في زمان» ، ولذلك ترى العلماء يجرون في هذه الحالة استصحاب الكون على الطهارة.

(٢) في نسخة السيد الهاشمي «في عمود الزمان» بدل «في زمان».

٢٥٨

زمانا ، وحيث لا مرجّح للأخذ بدليل الاصل في طرف دون طرف فيتعارض الاصلان.

وامّا الصيغة الثانية للركن الثالث فلأنّ المقصود من كون العلم الاجمالي صالحا لمنجّزية معلومه على كل تقدير كونه صالحا لذلك ولو على امتداد الزمان لا في خصوص هذا الآن.

وهكذا يتّضح ان الشبهات التي حامت حول تنجيز العلم الاجمالي في التدريجيات موهونة جدّا ، غير ان جماعة من الاصوليين وقعوا تحت تأثيرها ، فذهب بعضهم إلى عدم التنجيز ورخّص في ارتكاب الطرف الفعلي ما دام الطرف الآخر متاخّرا ، وذهب البعض الآخر إلى عدم الترخيص [وذلك] بابراز علم إجمالي بالجامع بين طرفين فعليين ، كالمحقق العراقي (١) إذ اجاب على شبهات عدم التنجيز بوجود علم إجمالي آخر غير تدريجي الأطراف ، وتوضيحه ان التكليف إذا كان في القطعة الزمانية المعاصرة فهو تكليف فعلي ، وإذا كان في قطعة زمانية متأخّرة فوجوب حفظ القدرة إلى حين مجيء ظرفه فعلي لما يعرف من مسألة وجوب المقدّمات المفوّتة من عدم جواز تضييع الانسان لقدرته قبل مجيء ظرف الواجب ، وهكذا يعلم إجمالا بالجامع بين تكليفين فعليّين فيكون منجّزا.

ونلاحظ على هذا :

أوّلا : إن التنجيز ليس بحاجة إلى ابراز هذا العلم الاجمالي لما

__________________

(١) نهاية الافكار ، القسم الثاني من الجزء الثالث ص ٣٢٤.

٢٥٩

عرفت من تنجيز العلم الاجمالي في التدريجيات (١).

وثانيا : ان وجوب حفظ القدرة انما هو بحكم العقل كما تقدّم في مباحث المقدّمة المفوّتة ، وحكم العقل بوجوب حفظ القدرة لامتثال تكليف فرع تنجّز ذلك التكليف (٢) ، فلا بدّ في المرتبة السابقة على وجوب حفظ القدرة من وجود منجز للتكليف الآخر ولا منجّز له كذلك إلّا العلم الاجمالي في التدريجيات.

وثالثا : إنّ المنجّز إذا كان هو العلم الاجمالي بالجامع بين التكليف الفعلي ووجوب حفظ القدرة لامتثال التكليف المتاخّر فهو لا يفرض سوى عدم [جواز] تفويت القدرة ، وامّا تفويت ما يكلّف به في ظرفه المتأخّر بعد حفظ القدرة فلا يمكن المنع عنه بذلك العلم الاجمالي ، وإنّما يتعيّن تنجّز المنع عنه بنفس العلم الاجمالي في التدريجيات وهو ان كان منجّزا لذلك ثبت تنجيزه لكلا طرفيه (٣).

__________________

(١) أو قل : لما عرفت من وجود علم اجمالي بين الأطراف وإن تغاير زمانها ، فإن العقل لا يخرج هذه الحالة عن حالة العلم الإجمالي الذي تجب مراعاته وذلك للحفاظ على الملاك الضائع.

(٢) أنت تقول ـ أيها المحقق العراقي ـ بأنه يجب حفظ القدرة عقلا الى حين مجيء ظرف التكليف الفعلي ، [ولكن] أيها المحقق إن العقل لا يحكم بوجوب حفظ القدرة إلّا اذا كان التكليف منجّزا كما في وجوب حفظ الماء للوضوء إذا دخل وقت الصلاة ، والمفروض ان هذه المرأة ـ وهي في اوّل الشهر ـ ما صار التكليف الثاني منجّزا عليها بعد ، فلما ذا يجب عليها حفظ قدرتها من الآن؟!

(٣) هذا الجواب لطيف ومفاده أنه افرض أيها المحقق العراقي أننا آمنّا

٢٦٠