دروس في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

الوظيفة العملية في حالة الشك

ـ ٢ ـ

الوظيفة في حالة العلم الاجمالي

١٤١
١٤٢

الوظيفة في حالة العلم الاجمالي

ـ ٢ ـ

١. قاعدة منجّزيّة العلم الاجمالي

٢. أركان منجّزيّة العلم الاجمالي

٣. تطبيقات منجّزيّة العلم الاجمالي

١٤٣
١٤٤

كل ما تقدّم كان في تحديد الوظيفة العمليّة في حالات

الشك البدوي.

والآن نتكلّم عن الشك في حالات العلم الاجمالي.

والبحث حول ذلك يقع في ثلاثة فصول :

الاوّل : في أصل قاعدة منجّزية العلم الاجمالي

والثاني : في اركان هذه القاعدة

والثالث : في بعض تطبيقاتها ،

كما يأتي تباعا إن شاء الله تعالى

١٤٥

ـ ١ ـ

(قاعدة منجّزيّة العلم الاجمالي)

والكلام في هذه القاعدة يقع في ثلاثة أمور :

الامر الاوّل : في أصل منجّزية العلم الاجمالي ، ومقدار هذه المنجزية ، بقطع النظر عن الاصول الشرعية المؤمّنة.

والامر الثاني : في جريان الاصول في جميع أطراف العلم الاجمالي وعدمه ثبوتا او اثباتا.

والامر الثالث : في جريانها في بعض الأطراف.

ومرجع البحث في الامرين الاخيرين إلى مدى مانعيّة العلم الاجمالي بذاته او بتنجيزه عن جريان الاصول بايجاد محذور ثبوتي او اثباتي يحول دون جريانها في الاطراف كلّا أو بعضا.

وسنبحث هذه الامور الثلاثة تباعا :

١٤٦

١. منجّزيّة العلم الاجمالي بقطع النظر عن الاصول المؤمّنة الشرعيّة

والبحث في أصل منجّزية العلم الاجمالي إنّما يتّجه بناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حيث ان كل شبهة من اطراف العلم (١) مؤمّن عنها بالقاعدة المذكورة ، فيحتاج تنجّز التكليف فيها إلى منجّز ، ولا بدّ من البحث حينئذ عن حدود منجّزية العلم الاجمالي ومدى اخراجه لاطرافه عن موضوع القاعدة (٢).

وأمّا بناء على مسلك حقّ الطاعة فكلّ شبهة منجّزة في نفسها بقطع النظر عن الاصول الشرعية المؤمّنة.

وينحصر البحث على هذا المسلك في الامرين الاخيرين (٣).

وعلى أيّ حال فنحن نتكلّم في الامر الاوّل على أساس افتراض

__________________

(١) بحدّ ذاتها وبغضّ النظر عن وجود علم اجمالي في البين.

(٢) أي ولا بدّ من البحث عن حدود منجزيّة العلم الاجمالي (أي هل ينجّز بمقدار وجوب الموافقة القطعية أو يكتفى باحتمال الموافقة القطعية) ومدى اخراج العلم الاجمالي لاطرافه عن موضوع قاعدة قبح العقاب (الذي هو عدم البيان) وادخالها في دائرة المعلوم.

(٣) وهما حدود منجزية العلم الاجمالي ومدى اخراجه لاطرافه عن موضوع قاعدة قبح العقاب.

١٤٧

قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وعليه فلا شك في تنجيز العلم الاجمالي لمقدار الجامع (١) بين التكليفين لانّه معلوم وقد تمّ عليه البيان سواء قلنا بأنّ مردّ العلم الاجمالي الى العلم بالجامع او العلم بالواقع.

أمّا على الاوّل فواضح (٢) ، وأمّا على الثاني فلأنّ الجامع معلوم ضمنا حتما (٣) ، وعليه يحكم العقل بتنجز الجامع ، ومخالفة الجامع إنّما

__________________

(١) المراد بالجامع هو المفهوم المنتزع من المصاديق ، فان كان بين المصاديق اتّحاد ما هوي كما بين زيد وعمرو فيكون الجامع جامعا حقيقيا ، وإن كان بينها اتّحاد اعتباري كالحجج الشرعية والملكية الاعتبارية ونحوهما كان الجامع بينهما جامعا اعتباريا ويكون الجامع في المثال الاوّل الحجّة وفي الثاني الملك ، وإن لم يكن بينهما جامعا لا حقيقيا ولا اعتباريا نسمّيه جامعا انتزاعيّا كالشيئية الجامعة بين الانسان والحجر.

(وعلى أي حال) فمراد السيد أن يقول هنا أننا اذا علمنا بوجوب احدى الصلاتين إما الظهر وإما الجمعة فلا شك إذن في وجوب «إحداهما» أي الجامع بين التكليفين سواء قلنا بأن مردّ العلم الاجمالي الى العلم بوجوب «احداهما» أو الى العلم بوجود تكليف معيّن في البين. وتنجيز مقدار الجامع ـ الذي ينتج الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية أي حرمة المخالفة القطعية ـ هو القدر المتيقّن ، امّا بناء على كون مرد العلم الاجمالي الى العلم بوجود تكليف ضائع بين الأطراف فانه تجب الموافقة القطعية. ولذلك قال «فلا شك في تنجيز العلم الاجمالي لمقدار الجامع»

(٢) لأن الجامع معلوم فيتنجّز

(٣) فاننا اذا علمنا بوجود صلاة واجبة في الواقع علينا ضائعة بين الظهر والجمعة فاننا نعلم ضمنا بوجوب «إحداهما» أي الجامع فيتنجّز.

١٤٨

تتحقّق بمخالفة كلا الطرفين (١) ، لانّ ترك الجامع لا يكون إلّا بترك كلا فرديه ، وهذا معنى حرمة المخالفة القطعية عقلا للتكليف المعلوم بالاجمال.

وانّما المهم البحث في تنجيز العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية عقلا ، فقد وقع الخلاف في ذلك ، فذهب جماعة كالمحقق النائيني (٢) والسيد الاستاذ (٣) الى انّ العلم الاجمالي لا يقتضي بحدّ ذاته وجوب الموافقة القطعية وتنجيز كل اطرافه مباشرة ، وذهب المحقّق العراقي (٤) وغيره الى ان العلم الاجمالي يستدعي وجوب الموافقة القطعية كما يستدعي حرمة المخالفة القطعية.

ويظهر من بعض هؤلاء المحققين ان المسألة مبنيّة على تحقيق هويّة العلم الاجمالي ، وهل هو علم بالجامع او بالواقع؟ وعلى هذا الأساس سوف نمهّد للبحث بالكلام عن هويّة العلم الاجمالي والمباني المختلفة

__________________

(١) أي لا تتحقّق مخالفة الجامع بمخالفة أحدهما فقط ، لبقاء الجامع وهو «أحدهما» ، ولذلك يكفي لامتثال الجامع ان يترك احد الاناءين ويشرب الآخر ، هذا على صعيد المرحلة الاولى ، وهي مرحلة اثبات حرمة شرب كلا الاناءين.

وأمّا على صعيد المرحلة الثانية ـ التي هي فوق المرحلة الاولى ـ والمعبّر عنها بوجوب الموافقة القطعية بمعنى حرمة ارتكاب حتّى طرف واحد فسيأتيك عنها الكلام.

(٢) اجود التقريرات ج ٢ ص ٢٤٢.

(٣) مصباح الاصول ج ٢ ص ٣٤٨.

(٤) نهاية الافكار القسم الثاني من الجزء الثالث ص ٣٠٧.

١٤٩

في ذلك ، ثم نتكلّم في مقدار التنجيز على تلك المباني.

الاتجاهات في تفسير العلم الاجمالي

ويمكن تلخيص الاتجاهات في تفسير العلم الاجمالي في ثلاثة مبان

الأوّل (١) : المبنى القائل بأنّ العلم في موارد العلم الاجمالي يسري من الجامع إلى الحدّ الشخصي ، ولكنه ليس حدّا شخصيا معيّنا لوضوح أنّ كلّا من الطرفين بحدّه الشخصي المعيّن ليس معلوما ، بل حدّا مردّدا في ذاته بين الحدّين ، وهذا ما يظهر من صاحب الكفاية اختياره ، حيث ذكر في بحث الواجب التخييري من الكفاية (٢) ان احد الاقوال فيه هو كون الواجب الواحد المردّد ، واشار في تعليقته على الكفاية (٣) إلى الاعتراض على ذلك بانّ الوجوب صفة ، وكيف تتعلق الصفة بالواحد المردّد ، مع أن الموصوف لا بدّ أن يكون معينا في الواقع ، واجاب على

__________________

(١) هنا بدّلت في الترتيب بين المبنيين الأوّل والثاني فقلبتهما ، وذلك لان كلام الاصفهاني والنائيني ناظر إلى كلام صاحب الكفاية وردّ عليه ، وهو التبديل الوحيد في هذا الكتاب.

(على ايّ حال) فصاحب الكفاية رحمه‌الله يقول بأنّ المعلوم بالاجمال لا يقف عند الجامع الذهني بل ان المعلوم بالاجمال ـ كالمتنجس الضائع بين فردين ـ هو احد هذين الاناءين فانه معلوم النجاسة.

(٢) ج ١ ص ٢٢٥.

(٣) حقائق الاصول ج ١ ص ٣٣٤.

١٥٠

الاعتراض بانّ الواحد المردّد قد يتعلّق به وصف حقيقي ذو الاضافة كالعلم الاجمالي فضلا عن الوصف الاعتباري كالوجوب.

ويمكن الاعتراض عليه بأن المشكلة ليست هي مجرّد أن المردّد كيف يكون لوصف من الأوصاف نسبة وإضافة إليه ، بل هي استحالة ثبوت المردّد ووجوده بما هو مردّد ، وذلك لان العلم له متعلّق بالذات وله متعلّق بالعرض ، ومتعلّقه بالذات هو الصورة الذهنية المقوّمة له في افق الانكشاف ، ومتعلّقه بالعرض هو مقدار ما يطابق هذه الصورة من الخارج (١) ، والفرق بين المتعلّقين ان الاوّل لا يعقل انفكاكه عن العلم حتّى في موارد الخطأ بخلاف الثاني ، وعليه فنحن نتساءل : ما هو المتعلّق بالذات للعلم في حالات العلم الإجمالي؟ فان كان صورة حاكية عن الجامع لا عن الحدود الشخصيّة فانه يرجع إلى المبنى الثاني ، وإن كان صورة للحدّ الشخصي ولكنّها مردّدة بحدّ ذاتها بين صورتين لحدّين شخصيين فهذا مستحيل لأنّ الصورة وجود ذهني ، وكلّ وجود متعين في صقع ثبوته (٢) وتتعيّن الماهيّة تبعا لتعيّن الوجود لأنّها حدّ له.

__________________

(١) شرحناها مفصّلا في الجزء الأوّل ص ٩٢ ـ ٩٣

(٢) اي ان وجود صورة للفرد المردّد في الخارج مستحيلة ولذلك يستحيل أن تتصور احد شخصين بنحو الترديد بينهما ، أي كيف توجد ماهية الفرد المردّد في الخارج مع ان الفرد المردّد لا يوجد الا في الذهن.

وقوله «وكل وجود متعيّن ... الخ» يمكن حذفه لأنه تكرار محض ، وعلى اي حال فمعناه ان كل وجود متعيّن ـ لا مردّد الماهية ـ في عالمه أي عالم كان ، فاذا تشخّص الوجود أي وجد الموجود لايّ ممكن من الممكنات فلا بد أن يكون قد تعيّنت ماهيّته اي تحدّدت وتخصّصت لانهما

١٥١

الثاني : المبنى القائل بانّ العلم الاجمالي علم تفصيلي بالجامع مقترن بشكوك تفصيلية بعدد أطراف ذلك العلم ، وهذا ما اختاره المحقّقان النّائيني (١) والاصفهاني (٢) ، وهذا المبنى يشتمل على جانب ايجابي ـ وهو اشتمال العلم الإجمالي على العلم بالجامع ـ وهذا واضح بداهة (٣) ... وعلى جانب سلبي ـ وهو عدم تعدّي العلم من الجامع ـ وبرهانه : انه لو فرض وجود علم يزيد على العلم بالجامع فهو إمّا ان يكون بلا متعلّق (٤) ،

__________________

متلازمان خارجا. فالوجود الخارجي يتعيّن في الخارج بماهيّة تحدّه كماهية الإنسانية ، والوجود الذهني يتعيّن في الذهن بماهيّة تحدّه ، والوجود الغير محدد بماهية هو فقط وجود الباري عزوجل لانه عين الوجود ، ولا حدود له اي لا ماهية له ولذلك قالوا انّ ماهيّته تعالى هي عين وجوده.

وقوله «وتتعيّن الماهية ... الخ» مبني على القول الصحيح من اصالة الوجود الذي أوّل من أوضحها ملّا صدرا (قده) ، ويريد السيد المصنّف أنّه اوّلا يتعيّن الوجود ثمّ نحن ننتزع منه الماهية انتزاعا ، فنقول حدود هذا الوجود وماهيته كذا وكذا. فاذا كان الوجود ذهنيا فالماهية ذهنية واذا كان خارجيا فالماهية خارجية.

(المهم) ان قول صاحب الكفاية ان متعلّق العلم هو الفرد الخارجي المردّد باطل ، وانما متعلّق العلم هو الصورة الذهنية للفرد المردّد.

(ملاحظة) يقولون في اللغة : الصقع بالضم فالسكون : الناحية ، جمعها أصقاع ، يقال «ما في ذلك الصقع وتلك الاصقاع مثله».

(١) فوائد الاصول ج ٤ ص ١٠

(٢) نهاية الدراية ج ٢ ص ٢٤٢

(٣) لانك تعلم بوجوب «احدى الصلاتين» ، فانت تعلم بهذا الجامع بالبداهة

(٤) أي انه لو فرض وجود علم يزيد على العلم بالجامع فما هو هذا المعلوم؟.

١٥٢

او يكون متعلقا بالفرد بحدّه الشخصي المعيّن ، أو بالفرد بحدّ شخصي مردّد بين الحدّين او الحدود ، والكل باطل ، أمّا الاوّل فلأنّ العلم صفة ذات الاضافة فلا يعقل فرض انكشاف بلا منكشف ، وامّا الثاني فلبداهة ان العالم بالاجمال لا يعلم بهذا الطرف بعينه ولا بذاك بعينه ، وأمّا الثالث فلأنّ المردّد إن اريد به مفهوم المردّد فهذا جامع انتزاعي والعلم به لا يعني تعدّي العلم عن الجامع ، وإن اريد به واقع المردّد فهو مما لا يعقل ثبوته (١) فكيف يعقل العلم به ، لأنّ كل ما له ثبوت فهو متعيّن بحدّ ذاته في افق ثبوته (٢).

الثالث : ما ذهب إليه المحقق العراقي من أنّ العلم الاجمالي يتعلّق بالواقع (٣) ، بمعنى انّ الصورة الذهنيّة المقوّمة للعلم والمتعلّقة له بالذات لا تحكي عن مقدار الجامع من الخارج فقط ، بل تحكي عن الفرد الواقعي بحدّه الشخصي ، فالصورة شخصية ومطابقها شخصي ، ولكن الحكاية

__________________

(١) لا في الذهن ولا في الخارج. وهذا الردّ هو نفس ردّ السيد الشهيد السابق.

(٢) أي لأن كل ما له وجود فهو متعيّن بماهية معيّنة في عالم وجوده ، فاذا كان وجوده خارجيّا تعيّنت ماهيّته في الخارج ، وإذا كان وجوده ذهنيا تعيّنت ماهيّته في الذهن.

(٣) قالها قبله العلّامة الانصاري إذ قال «الرابع : ان الثابت في كل من المشتبهين لاجل العلم الاجمالي بوجود الحرام الواقعي فيهما هو وجوب الاجتناب مقدّمة للاجتناب عن الحرام الواقعي» الرسائل الجديدة ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، وذكرها المحقق العراقي في نهاية الأفكار القسم الثاني من الجزء الثالث ص ٢٩٩.

١٥٣

إجمالية ، فهي من قبيل رؤيتك لشبح زيد من بعيد دون ان تتبيّن هويته (١) ، فانّ الرؤية هنا ليست رؤية للجامع بل للفرد ، ولكنها رؤية غامضة.

ويمكن ان يبرهن على ذلك بان العلم في موارد العلم الاجمالي لا يمكن أن يقف على الجامع بحدّه ، لأنّ العالم يقطع بأنّ الجامع لا يوجد بحدّه (٢) في الخارج ، وإنّما يوجد ضمن حدّ شخصي ، فلا بدّ من إضافة شيء إلى دائرة المعلوم ، فان كان هذا الشيء جامعا وكليا عاد نفس الكلام حتّى ننتهي الى العلم بحدّ شخصي ، ولما كان التردّد في الصورة مستحيلا ـ كما تقدّم ـ تعيّن أن يكون العلم متقوما بصورة شخصية معيّنة مطابقة للفرد الواقعي بحدّه ، ولكن حكايتها عنه اجمالية (٣).

__________________

(١) في هذا المثال نظر ، والأولى التمثيل بقولنا : من قبيل معرفتك بكون احد الآتيين زيدا ، لكن لبعدهما عنك لم تميّزه.

(٢) اي ان الجامع الانتزاعي (وهو أحدهما) لا يوجد بحدّه أي بما هو جامع في الخارج ، لانّه مبهم وموطنه في الذهن ، وهو من المعقولات الثانوية لانه لا ينطبق في الخارج على مصداق معيّن ، وإنّما يصلح للانطباق على كل واحد منهما ، كانطباق جامع «الإنسان» على زيد وعمرو وغيرهما.

(٣) أي حكاية هذه الصورة الشخصية المعيّنة عن الفرد الواقعي الخارجي اجمالية ، أي ان الاجمال في الخارج ، أمّا في الذهن فنحن نعلم بوجوب صلاة معيّنة في الواقع (*).

__________________

(*) أقول : لم يظهر لنا وجها لتبني أن المعلوم في العلم الاجمالي هو الجامع أي «إحدى الصلاتين» ، لانه ان كان مرادهم من «احدى الصلاتين» احداهما أيّا كان فهذا باطل بالبداهة ، ولذلك لا يكتفى ـ بالاجماع ـ بإحدى الصلاتين ، وإن كان مرادهم من «احداهما» الفرد الواقعي الضائع بين الفردين فهي مقالة المحقق العراقي وغيره.

١٥٤

تخريجات وجوب الموافقة القطعية

إذا اتضحت لديك هذه المباني المختلفة فاعلم انّه قد ربط استتباع العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية إثباتا ونفيا بهذه المباني ، بدعوى انّه إذا قيل بالمبنى الثاني ـ مثلا ـ فالعلم الاجمالي لا يخرج عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان المزعومة سوى الجامع ، لانّه المعلوم فقط ، والجامع بحدّه لا يقتضي الجمع بين الاطراف ، بل يكفي في موافقته تطبيقه على احد افراده ، وإذا قيل بالمبنى الثالث مثلا فالعلم الاجمالي يخرج الواقع المعلوم بتمام حدوده عن موضوع البراءة العقلية ، ويكون [الفرد الواقعي الضائع] منجّزا بالعلم ، وحيث انه محتمل في كل طرف فيحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية للخروج عن عهدة التكليف المنجّز.

ولكن الصحيح هو انّ المبنى الثالث لا يختلف في النتيجة المقصودة في المقام عن المبنى الثاني ، لأنّ الصورة العلمية الاجمالية ـ على الثالث ـ وإن كانت مطابقة للواقع بحدّه ، ولكن المفروض على هذا المبنى اندماج عنصري الوضوح والاجمال في تلك الصورة معا (١) ، وبذلك تميّزت عن

__________________

(١) يقول سيدنا الشهيد رحمه‌الله بأنّه بناء على المبنى الثالث يكون المعلوم هو ان احدهما ـ أي مقدار الجامع ـ معلوم النجاسة وانّ إحدى الصلاتين معلومة الوجوب ، والمجهول هو تحديد النجس الواقعي والصلاة الواجبة ، فيتنجّز على المكلّف مقدار الوضوح فقط ـ وهو الجامع ـ.

١٥٥

الصورة التفصيلية ، وما ينكشف ويتّضح للعالم انما هو المقدار الموازي لعنصر الوضوح في الصورة ، وهذا لا يزيد على الجامع ، ومن الواضح ان البراءة العقلية إنّما يرتفع موضوعها بمقدار ما يوازي جانب الوضوح (١) لا الاجمال ، لأنّ الاجمال ليس بيانا ، وعليه فالمنجّز [هو] مقدار الجامع لا أكثر على جميع المباني المتقدّمة ، وعليه فالعلم الاجمالي لا يقتضي بذاته وجوب الموافقة القطعية (*).

ويوجد تقريبان لاثبات ان العلم الاجمالي يستتبع وجوب الموافقة القطعية :

* الأوّل : ما قد (٢) يظهر من بعض كلمات المحقق الاصفهاني ،

__________________

(١) اي لا تجري البراءة بمقدار الجامع المعلوم لمعلومية نجاسة أحدهما ، اي موضوع البراءة منتفي.

(٢) راجع نهاية الدراية ج ٢ ص ٣٢ ـ ٣٣ ، ثم انه قال «قد» لانّه في معرفة مراد المحقق الاصفهاني الجدّي من كلمة الجامع غموض إذا اخذنا بنظر الاعتبار مجموع كلامه هذا والسابق ، لكن إذا نظرنا إلى كلامه هنا فقط فانّا نفهم منه انه يريد من الجامع الجامع بالحمل الشائع الصناعي ،

__________________

(*) قوله (قده) ، «وهذا لا يزيد على الجامع ...» غير صحيح ، وقد بيّنا وجه ذلك ، وبيّنا أنّ هذه تحميلات لهذا المسلك ، وقلنا بانّ النجس الواقعي ليس هو الجامع بما هو معبّر عن «احدهما» الصالح للانطباق على أيّ من الطرفين ، بل النجس الواقعي هو «احدهما» المعيّن في اللوح المحفوظ ، ولكن لجهلنا به على نحو التعيين يحكم العقل بلزوم الاجتناب عن كلا الطرفين ، مقدّمة للاجتناب عن الفرد الواقعي النجس. كما قال الشيخ الانصاري رحمه‌الله. فيصير المنجّز عقلا هو كلا الطرفين ، وذلك لئلا نخالف الواقع ، وهذا يعني انه على هذا المسلك تجب الموافقة القطعية.

١٥٦

وحاصله مركّب من مقدّمتين :

__________________

وهو «أحدهما» الموجود في كلتا الصلاتين الواجبة احداهما واقعا والاخرى الغير مطلوبة شرعا ، فهو (قده) عند ما يقول بأن «احدهما» واجب واقعا (وانت تعلم بمرادنا من الحمل الشائع ، فان قولنا «في الغرفة انسان» نقصد من الانسان هنا الانسان بالحمل الشائع اي احد افراد الانسان) انما يريد من «احدهما» هذا الجامع المشير إلى الفرد الواقعي ، فاذا خالف المكلّف هذا الجامع وترك امتثال احدى الصلاتين فهو ح يحتمل أن يكون قد خالف الفرد الواقعي ، ولعلّ قول المصنف «فان الجامع إذا لوحظ فيه مقدار الجامع بحدّه فقط ..» أي معنى «احدى الصلاتين» الصالح للانطباق على كلّ واحدة منهما إشارة إلى وجود تفسير آخر للفظة الجامع وهو «احدى الصلاتين» الواجبة واقعا(*)

__________________

(*) (أقول) يفهم من كلام المحقق الاصفهاني هذا. رغم اني لم اراجعه في كتابه لعدم وجوده عندي. أنّه يقول بمقالة المحقّق العراقي لكن باسلوب آخر ، وهو انه استعمل لفظه جامع ، وذاك استعمل لفظة الفرد الواقعي في دراستهما لظاهره وجود العلم الإجمالي ، فمن يتأمّل في مقدّمتي المحقق الاصفهاني يعرف انّهما لا تختلفان في العمق بشيء عن كلام المحقق العراقي. (وعندي) كلا الاستعمالين صحيح لوحدتهما روحا ، إلّا انّ الارحج اتّباع اسلوب العراقي لوضوحه وعدم تطرّق شبهة مفهومية في معنى «الفرد الواقعي» بخلاف «الجامع» الذي تتطرق الشبهة المفهومية إليه ، فقد يراد به الجامع بحدّه اي بما هو جامع وكلي موجود في الذّهن ، وهذا المعنى هو المراد من قولهم بان العلم واقف على الجامع بحدّه ، وعلى هذا المعنى اورد السيد الشهيد ايراده على المحقق الاصفهاني ، وهذا هو مراد المحقق النائيني ايضا من الجامع في قوله الآتي «بأن العلم الاجمالي لا يستدعي وجوب الموافقة القطعية بصورة مباشرة لانه لا ينجّز ازيد من الجامع».

١٥٧

الأولى : إنّ ترك الموافقة القطعية بمخالفة أحد الطرفين يعتبر مخالفة احتمالية للجامع ، لان الجامع إن كان موجودا ضمن ذلك الطرف فقد خولف وإلّا فلا.

والثانية : إنّ المخالفة الاحتمالية للتكليف المنجّز غير جائزة عقلا ، لأنّها مساوقة لاحتمال المعصية [وهذا لا يجوز عقلا] ، وحيث إن الجامع منجّز بالعلم الاجمالي فلا تجوز مخالفته الاحتمالية.

ويندفع هذا التقريب بمنع المقدّمة الاولى ، فانّ الجامع إذا لوحظ فيه مقدار الجامع بحدّه فقط لم تكن مخالفة أحد الطرفين مع موافقة الطرف الآخر مخالفة احتمالية له ، لأنّ الجامع بحدّه لا يقتضي أكثر من التطبيق على احد الفردين ، والمفروض ان العلم واقف على الجامع بحدّه ، وان التنجّز تابع لمقدار العلم فلا مخالفة احتمالية للمقدار المنجّز أصلا.

* الثاني : ما ذهبت إليه مدرسة المحقق النائيني (قدس الله روحه) (١) فانها مع اعترافها بانّ العلم الاجمالي لا يستدعي وجوب الموافقة القطعية بصورة مباشرة لانّه لا ينجّز ازيد من الجامع .... قامت

__________________

(١) فوائد الاصول ج ٤ ص ٢٤ ـ ٢٥

__________________

وأمّا الجامع على رأي الاصفهاني فهو «احدهما» بالحمل الشائع ، فعند ما يقول مثلا «ان مخالفة احد الطرفين يعتبر مخالفة احتمالية للجامع» ، يريد من هذا الجامع «احدهما» المنجّز واقعا ، كقول القائل «أحد الاناءين حرام واقعا» ، فانه مع شرب «احدهما» يحتمل المخالفة للجامع الموجود في الفرد الواقعي ، اي يحتمل المخالفة للفرد الواقعي ، ومرجع هذا إلى ما افاده المحقق العراقي باختصار ووضوح ، وعلى هذا لا يرد عليه ما اورده هنا السيد الشهيد (قده).

١٥٨

بمحاولة لاثبات استتباع العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية بصورة غير مباشرة ، وهذه المحاولة يمكن تحليلها ضمن الفقرات التالية :

أولا : إنّ العلم الاجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعية.

ثانيا : يترتّب على ذلك عدم إمكان جريان الاصول المؤمّنة (١) في جميع الأطراف لأنّه يستوجب الترخيص في المخالفة القطعية.

ثالثا : يترتّب (٢) على ذلك ان الاصول المذكورة تتعارض فلا تجري في ايّ طرف ، لأن جريانها في طرف دون آخر ترجيح بلا مرجّح ، وجريانها في الكل غير ممكن.

رابعا : ينتج من كل ذلك ان احتمال التكليف في كل طرف يبقى بدون اصل مؤمّن (٣) ، وكل احتمال للتكليف بدون مؤمّن يكون منجّزا

__________________

(١) سواء العقلية منها أو الشرعية

(٢) هذا الترتب مرحليّ والأوّل علّي ومعلولي ، بمعنى أنه بعد عدم إمكان جريان الاصول المؤمنة في كلا الطرفين ، ننتقل إلى مرحلة ثانية فنقول : فهل تجري في أحد الأطراف فقط؟ فيجيب المحقق النائيني بالنفي ، لانه ترجيح بلا مرجّح ... وقوله (قده) «وجريانها في الكل غير ممكن» زائد.

وقولهم «لأنّه ترجيح بلا مرجّح» يقصدون منه أن الترجيح بلا مرجّح عقلائي مستحيل عقلائيا ، فلو كنت تظن ـ مثلا ـ بأنّ النجاسة وقعت في احد الاناءين المعيّن دون الآخر ، فهذا الظن ليس مرجّحا عقلائيا ، ولذلك ترى العقلاء لا يجرون الاصول المؤمّنة ـ سواء منها العقلية او الشرعية ـ في الطرف المرجوح ، نعم هناك حالات يرى العقلاء إمكان جريان الاصول المؤمّنة سيأتيك بيانها بالتفصيل إن شاء الله تعالى.

(٣) لا عقلي ولا شرعي.

١٥٩

للتكليف ، فتجب عقلا موافقة التكليف المحتمل في كل طرف باعتبار تنجّزه لا باعتبار وجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالي بعنوانها.

والتحقيق ان المقصود بتعارض الاصول المؤمّنة في الفقرة الثالثة إن كان تعارض الاصول بما فيها قاعدة قبح العقاب بلا بيان على اساس انّ جريانها في كلّ من الطرفين غير ممكن ، وفي احدهما خاصّة ترجيح بلا مرجّح .. فهذا غير صحيح ، لان هذه القاعدة نجريها ابتداء فيما زاد على الجامع (١) ، وبعبارة اخرى :

إننا عند ما نعلم إجمالا بوجوب الظهر او وجوب الجمعة يكون كلّ من الوجوبين بما هو وجوب لهذا الفعل أو لذاك بالخصوص موردا للبراءة العقلية ، وبما هو وجوب مضاف إلى الجامع خارجا عن مورد البراءة ،

__________________

(١) الجامع هو «احدى الصلاتين» الكلّي الصالح للانطباق على أي واحدة من الصلاتين ، وما زاد على هذا الجامع ـ الذي يريد ان يجري فيه السيد الشهيد قاعدة البراءة العقلية ـ هو الصلاة الاخرى ، فلك أن تصلي إحدى الصلاتين فقط(*)

__________________

(*) (أقول) احتمال أن يكون مراد المحقق النائيني من الاصول البراءة العقلية احتمال في غاية الضعف ، نكاد نجزم بعدم إرادته ، يعرف هذا من مجموع كلماته ، ككلمة «الأصول المؤمّنة» وكلمة «الاصول المذكورة تتعارض» إذ المنصرف من كلمة «الاصول المؤمنة» الشرعية لا العقلية ، (وثانيا) لا نفهم معنى معقولا لتعارض الاصول العقلية ، (وثالثا) لا نرى وجها لحكم العقل بالبراءة في كل او بعض اطراف العلم الاجمالي ، ولذلك قال هنا «ان جريانها في كلّ من الطرفين غير ممكن ، وفي احدهما خاصّة ترجيح بلا مرجّح» ، فبناء على هذا لا وجه لما قاله السيد المصنف من جريانها ابتداء في بعض الأطراف.

١٦٠