دروس في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٤

الجعل ، مع ظهور الحديث في ان العلم والرّفع يتبادلان على مصبّ واحد ، وهذا بنفسه كاف لجعل الحديث ظاهرا في الرّفع الظاهري ، وبذلك يثبت المطلوب.

المرحلة الثالثة : في شمول فقرة الاستدلال للشبهات الموضوعيّة والحكميّة ، إذ قد يتراءى أنّه لا يتأتّى ذلك لأنّ المشكوك في الشبهة الحكمية هو التكليف ، والمشكوك في الشبهة الموضوعية [هو] الموضوع ، فليس المشكوك فيهما من سنخ واحد ليشملهما دليل واحد.

والتحقيق ان الشمول يتوقّف على أمرين :

أحدهما : تصوير جامع مناسب بين المشكوكين في الشبهتين ليكون مصبّا للرّفع.

والآخر : عدم وجود قرينة في الحديث على الاختصاص.

أمّا الأمر الاوّل ، فقد قدّم المحققون تصويرين للجامع :

التصوير الأوّل أنّ الجامع هو الشيء باعتباره عنوانا ينطبق على

__________________

يقال بانه فعل فعلا قبيحا في ذاته تام القبح ، وهو المطلوب ، لاننا اثبتنا علّة الحرمة ، وهو القبح التامّ وان لم تثبت لفظه «حرام» لمانع في عالم الالفاظ ، فليس كلامنا في الالفاظ.

إذن إذا تمّ الملاك اي موضوع الحكم كما في قتل المؤمن ظلما صار الفعل حراما فعلا لتمامية قبحه ومفسدته ولو مع جهل الانسان وصغره وجنونه ، ولكن لا يتنجّز عليه إلّا إذا تمت هذه الشرائط العامة ، ولذلك لا يستحق العقاب مع عدم تقصيره في المقدمات.

ولك ان تقول إنّ حديث الرفع وارد في مقام الامتنان ، والامتنان لا يرفع الملاك ، فلا يرفع معلولاته كالجعل وفعلية الحكم ، وانما يرفع ما هو مرتبط بالامتنان وهو التنجيز.

١٠١

التكليف المشكوك في الشبهة الحكميّة والموضوع المشكوك في الشبهة الموضوعيّة.

وقد اعترض صاحب الكفاية (١) على ذلك بأنّ اسناد الرّفع إلى التكليف حقيقي واسناده إلى الموضوع مجازي (٢) ، ولا يمكن الجمع بين الاسنادين الحقيقي والمجازي.

وحاول المحقّق الاصفهاني (٣) أن يدفع هذا الاعتراض بأنّ من الممكن أن يجتمع وصفا الحقيقيّة والمجازية في إسناد واحد باعتبارين (٤) ، فبما هو إسناد للرّفع إلى هذه الحصّة من الجامع حقيقي ، وبما هو إسناد له إلى الاخرى مجازي.

__________________

(١) حاشية فرائد الاصول ص ١١٤.

(٢) لأنّ حديث الرّفع لا يرفع شرب الخمر وإنّما يرفع حرمة شربه. فاسناد الرّفع إلى شرب الخمر اسناد إلى غير ما هو له ، ويسمّى في علم البيان بالمجاز العقلي ، ومثاله قولنا «بني الأمير المدينة» والحال انّ الباني هم عمّال الأمير بأمر منه. (ولا) يمكن الجمع بين اسنادين حقيقي ومجازي في استعمال واحد ، بأن نقول مراد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا الحديث رفع «حرمة شرب الخمر» المجهولة الحكم ، ورفع «شرب الخمر» المجهول موضوعا ـ بأنّه شرب للخمر وذلك لان اللفظ اذا فنى في معنى ليدلّ عليه فكيف يفنى مرّة أخرى في معنى آخر؟!

(٣) نهاية الدراية ج ٤ ص ٤٩ ـ ٥٠ طبعة مؤسسة أهل البيت.

(٤) أي أنّ المحقّق الاصفهاني (قده) اعتبر أنّ «ما» عبارة عن عنوان يجمع بين الحكم والموضوع ، وأنّ نسبة الرّفع إلى هذا العنوان هي نسبة جامعة للنسبتين الحقيقة والمجازيّة.

١٠٢

وهذه المحاولة ليست صحيحة ، إذ ليس المحذور في مجرّد اجتماع هذين الوصفين في اسناد واحد (١) ، بل يدّعى أنّ نسبة الشيء إلى ما هو له مغايرة ذاتا لنسبة الشيء إلى غير ما هو له ، فإن كان الاسناد في الكلام مستعملا لافادة إحدى النسبتين اختصّ بما يناسبها ، وإن كان مستعملا لافادتهما معا فهو استعمال لهيئة الاسناد في معنيين ، ولا جامع حقيقي بين النسب لتكون الهيئة مستعملة فيه.

والصحيح أن يقال : إنّ إسناد الرفع مجازي حتّى إلى التكليف ، لأنّ رفعه ظاهري عنائي وليس واقعيا (٢).

والتصوير الثاني : ان الجامع هو التكليف وهو يشمل الجعل بوصفه تكليفا للموضوع الكلّي المقدّر الوجود ، ويشمل المجعول بوصفه تكليفا للفرد المحقّق الوجود (٣) ، وفي الشبهة الحكمية يشك في التكليف

__________________

(١) وهو اسناد الرفع إلى التكليف والموضوع.

(٢) كنّا قد ذكرنا في شرح ٣ ص ٩٧ أنّ المرفوع عند السيد الشهيد هو الوجود التشريعي لموضوع الحكم ، فشرب الخمر عند الجهل او الاضطرار ليس بشرب للخمر في نظر الشارع لكن لا بمعنى رفعه واقعا وصيرورته مباحا واقعا ، بل بمعنى رفع آثاره ، فالمرفوع الحقيقي هو الآثار ، فاسناد الرفع إذن إلى التكليف يكون اسنادا مجازيا ، وهذا هو مراده من كلامه هنا بأن الرفع عنائي أي مجازي ، أي ان الظاهر ان المرفوع هو موضوع الحكم ـ كشرب الخمر في حال الاضطرار ـ ولكن الواقع أن المراد الجدي هو رفع الآثار كالحدّ ، فتغاير المدلول الاستعمالي عن المراد الجدي وهو المجاز ، وذلك كما تستعمل لفظة أسد في الرجل الشجاع.

(٣) أي بوصفه تكليفا للمكلف الذي تحققت لديه شرائط فعلية الحكم.

١٠٣

بمعنى الجعل ، وفي الشبهة الموضوعيّة يشكّ في التكليف بمعنى المجعول ، وهذا تصوير معقول ايضا بعد الايمان بثبوت جعل ومجعول كما عرفت سابقا (١).

وامّا الأمر الثاني : فقد يقال بوجود قرينة على الاختصاص بالشبهة الموضوعية من ناحية وحدة السياق ، كما قد يدّعى العكس ، وقد تقدّم الكلام عن ذلك في الحلقة السابقة واتّضح أنّه لا قرينة على الاختصاص ، فالاطلاق تام.

__________________

كالزوال ـ بالنسبة الى وجوب الصلاة ـ والبلوغ وغيرهما ، وكذلك مراده من «الموضوع الكلّي المقدّر الوجود» هو المكلف الذي نفترض أنه قد زالت عليه الشمس وكان بالغا و... فنقول «اذا وجد هكذا شخص فانه تجب عليه الصلاة فعلا» ، هذا الحكم هو الجعل ، والحكم الذي تحققت شرائطه من البلوغ والزوال وغيرهما هو المجعول.

(١) هذا التقريب قريب ممّا ذكره المحقق العراقي (قده) إذ قال إنّ المرفوع الحقيقي هو التكليف الأعمّ من الحكم الكلّي المشكوك (في الشبهة الحكمية) والجزئي (في الشبهة الموضوعية) ، ويكون الاسناد حينئذ إلى هذا التكليف (الجامع) اسنادا حقيقيا (*)

__________________

(*) هذا الوجه صحيح لا غبار عليه ، فهو يفيدنا صحّة جريان البراءة في الشبهات الحكمية والموضوعية اضافة إلى ادلة اخرى تفيدنا هذه الفائدة تأتيك في المحل المناسب.

١٠٤

وهناك روايات اخرى (١) استدل بها للبراءة تقدم الكلام عن جملة

__________________

(١) من قبيل صحيحة عبد الصمد بن بشير عن ابي عبد الله عليه‌السلام انه قال (في حديث طويل) «ايّ رجل ركب امرا بجهالة فلا شيء عليه» (راجع الوسائل ٩ ص ١٢٥ ـ ١٢٦ مع التعليقة) ، وقد تعرّض السيد الخوئي (قده) لبيان ان ما يستفاد من هذه الرواية رفع الكفارة لا رفع القضاء ... (راجع المستند ج ١ من الصوم ص ٢٥٢). وهذه الرواية تشمل الشبهات الحكمية والموضوعية.

ومن قبيل صحيحة زكريا بن يحيى الواسطي عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» ، بتقريب ان الله تعالى قادر على ايصال احكامه الشرعية إلى العباد بطرق طبيعية صحيحة السند كما ذكرنا ذلك في تعليقتنا على مسلك حقّ الطاعة ، فقد ورد في المسواك مثلا ما يفوق المائة رواية بكثير ، وكذلك في حرمة العمل بالقياس ، والائمة عليهم‌السلام بلا شكّ قادرون على ايصالها ـ لو شاءوا ـ الينا بهذه الطرق المألوفة ، مع علمهم بان بعض الرّوايات سوف تتلف او تضيع ، فمع كل هذا عدم ايجادنا لدليل محرز حجّة في مجامع الاحاديث يصدق عليه بشكل واضح ان الله تعالى قد حجب هذه التكاليف عن العباد باختياره ومحض إرادته ، وان اسباب التلف الطبيعية لا تغلب ارادة الشارع المقدّس لو أراد تبيين الاحكام وايصالها الينا.

(وعليه) فهذه التكاليف التي حجبها الله تعالى موضوعة عن العباد ، والقدر المتيقّن منهم صنفان على ما قلنا سابقا ، وهما الجاهل القاصر (اي الغير ملتفت إلى تكليف شرعي ما) والمجتهد بعد بحثه في المجامع الروائية ، فانه جاهل بالحكم الواقعي لكنه ملتفت الى جهله.

(وهذا) الوضع يعني إفادة قاعدة البراءة.

(فهذه) سبع ادلّة نقليّة على قاعدة البراءة ، وهناك مؤيّدات نذكر بعضها :

١٠٥

__________________

(فمنها) ما رواه في المستدرك عن عوالي اللئالئ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الناس في سعة ما لم يعلموا».

(ومنها) ما ذكره في الوسائل من أنّه روي ان الله لا يخاطب الخلق بما لا يعلمون.

(ومنها) ما رواه في الكافي بسند صحيح عن جميل بن درّاج عن ابن الطيّار عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله احتجّ على الناس بما آتاهم وعرّفهم».

(ومنها) عن الحسين بن ابي غندر (عن ابيه ـ مستدرك) عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال «الاشياء مطلقة ما لم يرد عليك امر ونهي ، وكلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا ما لم تعرف الحرام منه فتدعه».

(ومنها) رواية زرارة وابي بصير قالا جميعا : سألنا أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل أتى اهله في شهر رمضان وأتى اهله وهو محرم وهو لا يرى إلّا ان ذلك حلال له ، قال عليه‌السلام : «ليس عليه شيء» ، وجعلناها مؤيّد لضعف سندها بجهالة محمد بن علي ولكون موردها خاصا (وسائل ج ٧ ابواب ما يمسك عنه الصائم باب ٩ ح ١٢ ص ٣٥).

الى غير ذلك مما هو مذكور في جامع أحاديث الشيعة (*)

__________________

(*) (وفي النهاية) نقول انه قد تبيّن لدينا ممّا قدّمناه عدّة امور منها :

١. ان نظرية حقّ الطاعة في التكاليف المحتملة صحيحة ، إنّما قبل الفحص في الروايات ، وبلحاظ عامّة المكلّفين ، ويحسن ان نطلق عليها اصطلاح أصالة الاشتغال.

٢. ان نظرية قبح العقاب بلا بيان أيضا صحيحة ، لكن ذلك بلحاظ الجاهل القاصر والمجتهد بعد الفحص. مع غضّ النظر عن وجود علم اجمالي بوجود تكاليف الزامية في الشريعة او بعد انحلاله. ولا عجب من ذلك بعد اختلاف الموردين ، ولنسمّ نتيجتها قاعدة البراءة العقلية لاسباب ذكرناها.

١٠٦

منها في الحلقة السابقة وعن قصور دلالتها او عدم شمولها للشبهات الحكمية فلاحظ.

كما يمكن التعويض عن البراءة بالاستصحاب ، وذلك باجراء استصحاب عدم جعل التكليف (*) أو استصحاب عدم فعلية التكليف

__________________

٣. ان بعض الآیات المبارکة السابقة الذکر تدلّ بنحو الارشاد علی قاعدة البراءة العقلیة.

٤. انّ الروایات التامة سندا ودلالة علی قاعدة البراءة هما حدیثا الرفع بنصّیه ـ رفع التسعة والستة ـ وروایا الجهالة والحجب، وبقیة الروایات مؤیدات بل قد تصحّح بعض اسانیدها ویسفاد منها لما نحن فیه.

٥. ان المرفوع الحقیقی هو الحکم امنجّز (لا الجعلی ولا الفعلي)، وهو الحکم في مرحلته الاخیرة التی یترتب علیها الثواب والعقاب، وعلیه الحدیث النبوي الشریف علی ظاهره تماما.

٦. انّ قاعدة البراءة تجری فی کلتا الشبهین الحکمیة والموضوعات لحدیث الرفع وادلة قاعدة الحلیة والاستصحاب في الشبهات الموضوعیة الآتیة فی الاسطر التالیة.

(*) سيأتيك ان شاء الله في محلّه عدم صحّة استصحاب عدم جعل التكليف ، وذلك ـ باختصار ـ لان الاحكام كلها تلوّنت عند تمامية الشريعة الاسلامية بالوانها المناسبة ، بعضها واجب وبعضها محرّم وبعضها غير ذلك ، فلا احتمال لعدم جعل تكليف لبعض المواضيع كي يجري الاستصحاب فيه ، ولذلك كان المعروف هو عدم صحّه استصحاب العدم الازلي ، وهذا امر لا شك فيه. نعم لو احتملنا بقاء بعض المواضيع بلا حكم واقعي إلى يومنا هذا لجرى الاستصحاب لكن هذا خلاف المسلّم عند الطائفة لقوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم ...) وللروايات المتواترة في عدم وجود اي امر الّا ولله فيه حكم. هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى لا ينفعنا إجراء استصحاب عدم جعل التكليف ، وذلك للتعارض بين الاستصحابات في مرحلة الجعل ـ هذا لو قلنا بجريان

اجراء «استصحاب عدم فعلية التكليف المجعول كما إذا كان المشكوك تكليفا مشروطا وشكّ في تحقق الشرط»

١٠٧

المجعول ، وزمان الحالة السابقة بلحاظ الاستصحاب الاوّل بداية الشريعة وبلحاظ الاستصحاب الثاني زمان ما قبل البلوغ مثلا ، بل قد يكون زمان ما بعد البلوغ أيضا ، كما إذا كان المشكوك تكليفا مشروطا (١) وشكّ في (*) تحقّق الشرط بعد البلوغ ، فبالامكان استصحاب عدمه الثابت قبل ذلك.

__________________

(١) بشرط كالاستطاعة الى الحج مثلا ... ونتيجة استصحاب عدم الاستطاعة البراءة.

__________________

الاستصحاب في عالم الجعل ـ مثال ذلك : لو شككنا في وجوب غسل الجمعة فلو قلت نستصحب عدم وجوبه في مرحلة الجعل ، قلت نستصحب عدم استحبابه ونستصحب عدم إباحته وهكذا .. فتتعارض الاستصحابات.

وكان ينبغي ان يقول السيد الشهيد (قده) أيضا بعدم صحّة جريان استصحاب عدم جعل التكليف ، وذلك لما سيقوله في الردّ على قول السيد الخوئي ـ بحصول التعارض إذا قلنا بالاستصحاب في الشبهات الحكمية ـ من عدم وجود هكذا تعارض لعدم جريان استصحاب عدم الجعل ... (فراجع القول الآخر من مسألة «عموم جريان الاستصحاب» من قوله (قده) «واما الصحيح في الجواب فهو ...» ص ١٤٥ من الجزء الرابع).

وعلى أي حال فلا يصحّ استصحاب عدم فعليّة الحكم أيضا إذا كان منشأ الشك هو من عالم الجعل ، فيلزم ان تبحث المسألة في عالمها الواقعي ، هكذا يفهم العقلاء المتأملون في المسألة من جميع جهاتها. وقد تعرّضنا لبيان هذا المطلب في القول الآخر من مسألة عموم جريان الاستصحاب.

هذا كلّه كان بالنسبة إلى جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، (امّا) بالنسبة إلى الشبهات الموضوعية فلا يرد هذان الاعتراضان وتصحّ فيها مسألة سيدنا الشهيد (قده) في المتن هنا حينما قال بصحّة اجراء «استصحاب عدم فعلیة التکلیف المجعول کما اذا کان المشکوک تکلیفا مشروطا تکلیفا مشروطا وشک في تحقق الشرط»

(*) لا توجد كلمتا «شك في» في النسخة الاصلية واثباتهما أولى.

١٠٨

الاعتراضات العامّة

ويعترض على أدلّة البراءة المتقدّمة باعتراضين أساسيين :

احدهما : أنّها معارضة بأدلّة (١) تدلّ على وجوب الاحتياط ، بل هذه الأدلّة حاكمة عليها لأنّها بيان للوجوب ، وتلك تتكفّل جعل البراءة

__________________

(١) (أولا) ـ ينبغي انه نعرف انه يشترط في الدليل الدّال على وجوب الاحتياط ـ بنحو معارض لادلّة البراءة ـ ان يكون بلسان إن لم تعلم الحكم الشرعي رغم بحثك في المجامع الرّوائية فاحتط ، بمعنى أنّك غير بريء الذمّة ، هذا في الشبهات الحكمية.

وأمّا في الشبهات الموضوعية فيلزم ان يكون الدليل بلسان كلّما احتملت وجود تكليف واقعيّ الزاميّ عليك وكان منشأ الشك شبهة موضوعية فاحتط.

(وذلك) لأننا عند ما اثبتنا قاعدة البراءة ـ بكلا شقّيها العقلي والنقلي ـ فانما اثبتناها في هذه الموارد.

(أمّا) الجاهل القاصر فلا إشكال في كونه بريء الذمّة لعدم كونه قابلا للتكليف لعدم توجّهه أصلا الى تكليف معيّن حتّى يحتاط فيه.

(واما) المكلّف الجاهل الملتفت الى جهله قبل الفحص في الادلّة الشرعية ، خاصّة مع وجود علم اجمالي بوجود تكاليف الزامية في الشريعة ، فلا يعقل أن تجري في حقّه قاعدة البراءة ، وإلّا لترك الناس تعلّم الشريعة واجروا البراءة في كل التكاليف المجهولة ، وبعد سنين تجهل كل الشريعة برمّتها إلّا الضروريات منها ، وهذا واضح الفساد.

(وعليه) فاذا رأينا رواية آمرة بالاحتياط بنحو مطلق مثل «احتط لدينك»

١٠٩

__________________

فانّها لا تكفي لان تكون دليلا على وجوب الاحتياط في كل الموارد حتى بعد فحص المجتهد لتتعارض مع البراءة ، (وذلك) لأنّ مورد هذا الاحتياط محذوف ولا نعرف تقديره فهل يجب الاحتياط في موارد العلم الاجمالي وقبل الفحص؟ أم مطلقا أي حتى بعد الفحص؟ وح لا يجري الاطلاق لعدم معرفة اللفظ المقدّر الذي نريد ان نجري فيه الاطلاق ، فالرواية ح مجملة من هذه الناحية فنأخذ بالقدر المتيقّن وهو حالة ما قبل الفحص اجماعا وحالة العلم الإجمالي على قول مشهور.

(ثانيا) ـ إننا لم نجد دليلا حجّة على وجوب الاحتياط في المجامع الروائية بعد فحص المجتهد أوّلا ومع غضّ النظر عن العلم الاجمالي بوجود تكاليف إلزامية في الشريعة او بعد انحلاله ثانيا ، او قل في مورد جريان البراءة العقلية والنقلية ، بل لم نجد حتّى رواية ضعيفة في ذلك ، وعليه لا وجود لدليل يوجب الاحتياط بحيث يعارض ادلة البراءة.

(وإن) أردت أن تطمئن أكثر لعدم وجود أدلّة معارضة للبراءة بل ولا رواية ضعيفة ننقل لك أهمّها وهي طائفتان :

١ ـ روايات التثليث ، وهي أربع روايات تقريبا مفادها ـ كما في مقبولة عمر بن حنظلة مثلا ـ «إنما الامور ثلاثة امر بيّن رشده فمتّبع ، وأمر بيّن غيّه فمجتنب ، وامر مشكل يردّ حكمه إلى الله».

٢ ـ وفيها رواية واحدة وهي موثقة عبد الله بن وضّاح قال كتبت إلى العبد الصالح يتوارى عنّي القرص ويقبل الليل ، ويزيد الليل ارتفاعا ويستر عنّي الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ويؤذن عندنا المؤذّنون فاصلّي حينئذ وافطر ان كنت صائما او انتظر حتّى تذهب الحمرة فوق الجبل؟ فكتب عليه‌السلام «أرى لك ان تنتظر حتّى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك».

(أمّا) روايات التثليث فنكتفي بذكر جواب واحد عليها وهو أنّه بعد ثبوت قاعدة البراءة العقلية والنقلية لا يسمى شرعا أنّ الترخيص امر مشتبه او مشكل او اختلف فيه ، بل الترخيص حينئذ امر بيّن لنا رشده عقلا ونقلا ، أو لا

١١٠

__________________

مشتبها؟! وح تصبح هذه الروايات غير قابلة للمعارضة أو الحكومة لعدم ثبوت نظرها إلى حالة ما بعد الفحص فتبقى أدلة البراءة بلا معارض.

(وأمّا) موثّقة عبد الله بن وضّاح فهي أقوى رواية سندا ودلالة على وجوب الاحتياط ، ولكن مع ذلك فهي مردودة لوجوه منها :

١ ـ يظهر من عبد الله هذا عند ما عدّد امارات الليل أنه احتمل دخوله ، فالامام عليه‌السلام اعطاه جوابين ، الاوّل بلحاظ الشبهة الحكمية وهو قوله عليه‌السلام «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة» والثاني بلحاظ الشبهة الموضوعية وهو قوله «وتأخذ بالحائطة لدينك» ، أي لا تفطر حتّى تتأكّد من زوال الحمرة المشرقية ، لانه في حال الشك يجري استصحاب النهار ، ولعلّه لذلك امره بالاحتياط ولو للحظة واحدة كي ينتفي موضوع الاستصحاب ولا اقل من احتمال ذلك. فتبطل ح صلاحية الاستدلال بها.

٢ ـ هذه الكلمة الشريفة «وتأخذ بالحائطة لدينك» لا تنفع في معارضة ادلّة البراءة ، وذلك لما ذكرناه قبل قليل من حذف المورد الذي يلزم ان نجري فيه الاطلاق ، فانّ المورد مجهول ومردّد بين

١ ـ مطلق الشبهات الحكمية والموضوعية.

٢ ـ مطلق الشبهات الموضوعية.

٣ ـ خصوص الشبهات الموضوعية التي يكون الحكم فيها منجّزا سابقا وشكّ في بقائه وزواله ، كمورد هذه الرواية وأشباهها.

ولا يمكن إجراء الاطلاق لنثبت الاوّل مثلا فيثبت القدر المتيقّن وهو الثالث ، نعم لو كان لسان الرواية شاملا لحالة ما بعد فحص المجتهد بأن يكون مثلا هكذا «وخذ بالحائطة لدينك فيما لا تعلم بحكمه الواقعي» لعارضت ادلّة البراءة.

(اذن) لا دليل شرعيا على وجوب الاحتياط بحيث يعارض أدلّة البراءة.

١١١

في حالة عدم البيان.

والاعتراض الآخر : ان أدلّة البراءة تختصّ بموارد الشكّ البدوي ، والشبهات الحكمية ليست مشكوكات بدويّة ، بل هي مقرونة بالعلم الاجمالي بثبوت تكاليف غير معيّنة في مجموع تلك الشبهات.

أما الاعتراض الأوّل فنلاحظ عليه عدّة نقاط :

الاولى : إنّ ما استدلّ به على وجوب الاحتياط ليس تامّا كما يظهر باستعراض الرّوايات التي ادّعيت دلالتها على ذلك ، وقد تقدّم في الحلقة السابقة استعراض عدد مهمّ منها مع مناقشة دلالتها ، نعم جملة منها تدلّ على الترغيب في الاحتياط والحثّ عليه ولا كلام في ذلك.

الثانية : إنّ ادلّة وجوب الاحتياط المدّعاة ليست حاكمة على أدلّة البراءة المتقدّمة لما اتّضح سابقا من أنّ جملة منها تثبت البراءة المنوطة بعدم وصول الواقع (١) ، فلا يكون وصول وجوب الاحتياط رافعا لموضوعها ، بل يحصل التعارض حينئذ بين الطائفتين من الأدلّة.

الثالثة : إذا حصل التعارض بين الطائفتين فقد يقال بتقديم أدلّة

__________________

(١) وهما قوله تعالى (لا يكلّف الله نفسا إلّا ماءاتاها) أي إلّا التكاليف الواقعية التي أعلمها إيّاها وقوله تعالى (وما كان الله ليضلّ قوما بعد اذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتّقون ،) أي حتى يبيّن لهم الاحكام الواقعية التي يتّقونها ، ومفاد أدلة الاحتياط وجوب الاحتياط عند الجهل بالاحكام الواقعية ، فسيتعارضان ، ولن تكون ادلّة الاحتياط حاكمة على هاتين الآيتين ، لانها لا تتصرّف بموضوعهما ، ولسانها ليس لسان أن وجوب الاحتياط هو بيان للحكم الواقعي تعبدا.

١١٢

وجوب الاحتياط ، لانّ ما يعارضها من ادلّة البراءة القرآنية الآية الاولى على اساس الاطلاق في اسم الموصول (١) فيها للتكليف ، وهذا الاطلاق يقيّد بادلّة وجوب الاحتياط ، وما يعارضها من أدلّة البراءة في الرّوايات حديث الرفع ، وهي (٢) أخصّ منه أيضا ، لورودها في الشبهات الحكمية وشموله للشبهات الحكمية والموضوعية فيقيّد بها.

ولكن التحقيق ان النسبة بين ادلّة وجوب الاحتياط والآية الكريمة هي العموم من وجه ، لشمول تلك الادلّة (٣) موارد عدم الفحص واختصاص الآية بموارد الفحص كما تقدّم عند الكلام عن دلالتها ، فهي كما تعتبر أعمّ بلحاظ شمولها للفعل والمال ، كذلك تعتبر أخص بلحاظ ما ذكرناه ، ومع التعارض بالعموم من وجه يقدّم الدليل القرآني لكونه قطعيا ، كما انّ النسبة بين أدلّة وجوب الاحتياط وحديث الرّفع العموم من وجه أيضا ، لعدم شموله موارد العلم الاجمالي وشمول تلك الادلة لها (٤).

__________________

(١) اي «ما» في قوله تعالى «... إلّا ما آتاها».

(٢) اي ادلّة وجوب الاحتياط أخصّ من حديث الرّفع.

(٣) اي إنّ ادلّة وجوب الاحتياط مختصّة بما قبل الفحص ، واختصاص الآية بما إذا كان عاجزا بلحاظ المال أو الفعل ، فيقع التعارض في حالة ما بعد الفحص ، فهل يجب فيها الاحتياط ام تجري فيها البراءة؟

(٤) العموم من وجه إنّما يتصور بين حديث الرّفع وبين قسم من ادلّة الاحتياط وهي الواردة بلحاظ الشبهات الحكمية ، كمقبولة عمر بن حنظلة السالفة الذكر ، فان المقبولة مختصّة بما قبل الفحص وفي موارد

١١٣

ويقدّم حديث الرّفع في مادّة الاجتماع والتعارض لكونه موافقا لاطلاق الكتاب (١) ومخالفه معارض له.

ولو تنزّلنا عما ذكرناه مما يوجب ترجيح دليل البراءة وافترضنا التعارض والتساقط امكن الرجوع الى البراءة العقلية على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأمكن الرجوع الى دليل الاستصحاب كما اوضحنا ذلك في الحلقة السابقة (*).

وأمّا الاعتراض الثاني بوجود العلم الاجمالي فقد اجيب عليه بجوابين :

الجواب الأوّل : ان العلم الاجمالي المذكور منحلّ بالعلم الاجمالي بوجود التكاليف في دائرة اخبار الثقات ، وفقا لقاعدة انحلال العلم

__________________

العلم الاجمالي ، وحديث الرفع مختص بالشبهات الموضوعيّة ، وموضوع التعارض هو في الشبهات الحكمية بعد الفحص ، فايّهما نقدّم الاحتياط للمقبولة ام البراءة لحديث الرفع؟

(١) كقوله تعالى (لا يكلّف الله نفسا ...) و (ما كان الله ليضلّ قوما ...).

__________________

(*) لا يطمئن الانسان بالعمل بأدلة البراءة في كل ابواب الفقه بناء على ما ذكره السيد الشهيد رحمه‌الله من وجوه تقديم ادلة البراءة على ادلة الاحتياط ، فانّ للنظر فيها مجالا ، وحاشا لله تعالى أن يجعل مسألة اصولية من اهم مسائل الاصول على شفا جرف هار ، وأمّا بناء على ما ذكرناه من الميزان في كون دليل الاحتياط معارضا او حاكما على ادلّة البراءة وغير ذلك مما قدّمناه فلا يوجد ح دليل واحد معارض لادلة البراءة ، لا بل ولا رواية ضعيفة

١١٤

الاجمالي الكبير [كل الامارات] بالعلم الاجمالي الصغير [الامارات المعتبرة] لتوفّر كلا شرطي القاعدة فيها ، فانّ اطراف العلم الصغير بعض اطراف الكبير ، ولا يزيد عدد المعلوم بالعلم الكبير على عدد المعلوم بالعلم الصغير ، ومع الانحلال تكون الشبهة خارج نطاق العلم الصغير بدوية ، فتجري البراءة في كل شبهة لم يقم على ثبوت التكليف فيها امارة معتبرة من اخبار الثقات ونحوها ، وهذا هو المطلوب (١).

وهذا الجواب ليس تامّا إذ كما يوجد علم اجمالي صغير بوجود التكاليف في نطاق الامارات المعتبرة من اخبار الثقات ونحوها كذلك يوجد علم اجمالي صغير بوجود التكاليف في نطاق الامارات غير المعتبرة ، إذ لا يحتمل عادة وبحساب الاحتمالات كذبها جميعا ، فهناك إذن علمان إجماليان صغيران ، والنطاقان وإن كانا متداخلين جزئيا لانّ الامارات المعتبرة وغير المعتبرة قد تجتمع ، ولكن مع هذا يتعذّر الانحلال ، لانّ المعلومين بالعلمين الاجماليين الصغيرين (إن) لم يكن من المحتمل (٢) تطابقهما المطلق فهذا يعني أن عدد المعلوم من التكاليف

__________________

(١) مثال ذلك : لو علمنا بنجاسة إناءين من الآنية العشرة التي أمامنا ، ثم أخبرتنا بيّنة بنجاسة إناءين أو ثلاثة في خصوص الآنية الستّة الخضر من بين هذه الآنية العشرة ، واحتملنا كون الإنائين اللذين نعلم بنجاستهما داخلين فيما اخبرتنا بهم البيّنة ، ففي هذه الحالة تجري البراءة في الآنية الأربعة الأخرى بلا معارض ، وهنا الأمر هكذا تماما فلا حاجة الى التطويل.

(٢) هذا الشق هو الذي يعتقد به السيد الشهيد فهو (قده) يقول انه لا يحتمل التطابق التام بين المعلوم بالعلم الاجمالي في نطاق الامارات المعتبرة والمعلوم بالعلم الاجمالي في نطاق الامارات غير المعتبرة كالشهرات

١١٥

في مجموع الشبهات اكبر من عدد المعلوم بالعلم الاجمالي الصغير المفترض في دائرة اخبار الثقات ، وبذلك يختلّ الشرط الثاني من الشرطين المتقدّمين (١) لقاعدة انحلال العلم الاجمالي الكبير بالصغير ، (وإن) كان من المحتمل تطابقهما المطلق (٢) فشرطا القاعدة متوفّران بالنسبة إلى كلّ من العلمين الاجماليين الصغيرين في نفسه ، فافتراض ان احدهما (٣) يوجب الانحلال دون الآخر بلا موجب (*).

__________________

والروايات الضعيفة السند ، مثال ذلك : افرض ان المصيب للواقع من الامارات المعتبرة ألف أمارة ، وان المصيب للواقع من الامارات الغير معتبرة ألف امارة أيضا ، لكن يستحيل عادة ان تتطابق كل الالف الاولى مع الألف الثانية ، وبكلمة اخرى إذا فرضنا الامارات المعتبرة مع مؤيّداتها من الامارات الغير معتبرة يبقى عندنا علم بوجود الكثير من الامارات الغير معتبرة مما يصيب الواقع.

إذن لا يحصل انحلال حقيقي ، فيجب الاحتياط في موارد الامارات الغير معتبرة أيضا ، ولا تجري ح البراءة فيها

(١) الشرط الثاني هو أن لا يزيد المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير عن المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير ، وهنا اختل هذا الشرط لانه بناء على مثالنا يمكن افتراض ان المعلوم الاصابة للواقع في الامارات المعتبرة وغير المعتبرة ١٥٠٠ أمارة مثلا ، وهو أكبر من المعلوم الاصابة من الامارات المعتبرة فلا يحصل انحلال للعلم الكبير بالامارات المعتبرة.

(٢) كما يقول السيد الخوئي (رحمه‌الله) (راجع المصباح ص ٣٠٦ ـ ٣٠٧).

(٣) أي فافتراض أن العلم الإجمالي الكبير ينحلّ في خصوص الأمارات المعتبرة ـ دون الغير معتبرة ـ بلا وجه

__________________

(*) بل الموجب ح موجود بلحاظ الامارات المعتبرة ، لاعتبارها شرعا وعرفا دون الامارات الضعيفة.

١١٦

الجواب الثاني : ان العلم الاجمالي الذي تضمّ أطرافه كلّ الشبهات يسقط عن المنجّزيّة باختلال الركن الثالث (١) من الاركان الأربعة التي يتوقّف عليها تنجيزه ، وقد تقدّم شرحها في الحلقة السابقة ، وذلك لأنّ جملة من أطرافه قد تنجّزت فيها التكاليف بالامارات والحجج الشرعيّة المعتبرة من ظهور آية وخبر ثقة واستصحاب مثبت للتكليف ، وفي كل حالة من هذا القبيل تجري البراءة في بقية الأطراف ، ويسمّى ذلك بالانحلال الحكمي (٢) كما تقدّم.

وقد قيل في تقريب فكرة الانحلال الحكمي في المقام ـ كما عن السيد الاستاذ (٣) ـ بانّ العلم الاجمالي متقوّم بالعلم بالجامع والشك في

__________________

(١) وهو ـ على ما في الحلقة الثانية بحث «تحديد أركان هذه القاعدة» ـ الثالث ان يكون كلّ من الطرفين مشمولا في نفسه ـ وبقطع النظر عن التعارض الناشئ من العلم الإجمالي ـ لدليل اصالة البراءة ، إذ لو كان احدهما مثلا غير مشمول لدليل البراءة لسبب آخر لجرت البراءة في الطرف الآخر بلا محذور.

(٢) لأنّ العلم الاجمالي بوجود امارات مصيبة للواقع ضمن الامارات الغير معتبرة وممّا هي غير موجودة في الامارات المعتبرة باق فعلا ، ولذلك لا يعتبر هذا الانحلال حقيقيا ، بل يعتبر حكميا وذلك لعدم جريان البراءة في موارد الحجج والاستصحاب المثبت للتكليف ، فتجري الاصول المؤمّنة في الموارد الاخرى بلا معارض ، وهذا ما يسمّونه بالانحلال الحكمي. وقد شرح السيد المصنّف الفرق بين الانحلال الحكمي والانحلال الحقيقي في الحلقة الثانية ـ بحث «تحديد أركان هذه القاعدة» عند قوله «ويختلّ الركن الثالث» بشكل جيّد فراجع

(٣) راجع مصباح الاصول ج ٢ ص ٣٠٣ فما بعد ، فانه رحمه‌الله يقول بالوجه

١١٧

كل طرف ، ودليل حجيّة الامارة المثبتة للتكليف في بعض الأطراف لما كان مفاده جعل الطريقيّة فهو يلغي الشك في ذلك الطرف [أي في الأمارات المعتبرة] ويتعبّد بعدمه ، وهذا بنفسه إلغاء تعبّدي للعلم الاجمالي.

ويرد على هذا التقريب : أنّ الملاك في وجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالي هو التعارض بين الاصول في اطرافه كما تقدّم (١) ، وليس

__________________

الثاني من الجواب الأوّل وهو قول السيد المصنف «وإن كان من المحتمل تطابقهما المطلق فشرطا القاعدة متوفّران ...» فالسيد الخوئي يحتمل ذلك.

(إلّا) أنّ السيد الخوئي تنزّل وقال ص ٣٠٦ «وهذا الامر وإن كان صحيحا ، إلّا أنّه لو منع منه القائل بوجوب الاحتياط ، وادّعى عدم العلم بمطابقة المعلوم بالاجمال في الامارات المعتبرة للمعلوم في العلم الكبير ، فنحن ندّعي الانحلال هنا أيضا» وقد برهن السيد الخوئي على ذلك بما ذكره السيد الشهيد (قده) هنا ، وهو انّ السيد الخوئي رحمه‌الله يقول بالانحلال الحكمي لبنائه على تعبّد الشارع المقدّس بعلمية الامارات المعتبرة واحتمال وجود كل الروايات الصادرة عن المعصومين عليهم‌السلام ضمن الامارات المعتبرة فينتفي الشك في طرف الروايات المعتبرة أي يتعبّدنا الشارع المقدّس بعدم وجود شك في بعض الاطراف فيرتفع العلم الاجمالي

(١) في الحلقة الثانية بحث «جريان الاصول في أطراف العلم الاجمالي» بقوله «واما بلحاظ عالم الوقوع ...» بيان جواب السيد الشهيد على السيد الخوئي (قدس‌سرهما) : قال السيد المصنف (قده) في الحلقة الثانية في ابحاث العلم الاجمالي انّ اجراء الاصول المؤمنة في كل الأطراف يوقعنا في مخالفة الجامع (وهو نجاسة احدها) فتتساقط.

(واما) إن لم يكن يوجد مانع من اجراء البراءة في احد الطرفين ويوجد

١١٨

هو العلم الاجمالي بعنوانه ، فلا أثر للتعبّد بالغاء هذا العنوان ، وإنّما يكون تأثيره عن طريق رفع التعارض ، وذلك باخراج موارد الامارات المثبتة للتكليف عن كونها موردا لاصالة البراءة ، لأنّ الامارة حاكمة على الاصل ، فتبقى الموارد الاخرى مجرى لاصل البراءة بدون معارض ، وبذلك يختلّ الركن الثالث ويتحقق الانحلال الحكمي من دون فرق بين ان نقول بمسلك جعل الطريقية والغاء الشك بدليل الحجية أو لا (*).

__________________

مانع من إجرائها في الطرف الآخر فلا مشكلة ح من إجرائها ، لانه ح لا معارض لها لفرض وجود مانع من جريان البراءة في الطرف الآخر.

(مثال ذلك) لو كنا نعلم ان احد الاناءين متنجس وكانت أدلّة البراءة لا تجري في احد الاناءين للاضطرار إليه او لخروجه عن محلّ الابتلاء ونحو ذلك ، فحينئذ لا مانع من اجراء البراءة في الطرف الآخر ، لعدم وجود معارض لهذه البراءة في الطرف الأوّل ، فيجوز ح شرب الاناء الآخر أيضا (الغير مضطرّ إليه) ، وهنا الأمر هكذا ، فانه لمّا كانت موارد الامارات المعتبرة مجرى للامارات المعتبرة فلا تجري فيها البراءة ، ولما كان يحتمل ان تكون كل التكاليف الالزامية الواقعية موجودة ضمن الامارات المعتبرة فانه ح تجري البراءة في الامارات الغير معتبرة بلا معارض.

__________________

(*) (أقول) ولنا تقريب آخر متفرّع على ما قلناه من وجه البراءة العقلية وهو : إنه لا شك في كون الشارع المقدّس مهتما بتبليغ الاحكام الشرعية الواقعية ، ولذلك كان الائمة عليهم‌السلام يبادرون أحيانا بالسؤال من أصحابهم عن أحكام معيّنة ليفتحوا بابا فقهيا امام المسئول ، ثم يعطي الامام الجواب الصحيح ، وكانوا يأمرون اصحابهم بكتابة الاحاديث والعلوم ، ويأمرونهم بالتعلّم والتفقّه ، وما بعث مائة واربع وعشرين ألف نبي. كما في بعض الروايات. والكثير من الأوصياء وجعل اثني عشر امام حقّ بعد الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا تنبيهات

١١٩

__________________

واضحة إلى شدّة اهتمام المولى بايصال الاحكام الشرعية الواقعية للنّاس .... والأئمة عليهم‌السلام قادرون على ايصال الاحكام الشرعية الواقعية لنا بطرق صحيحة طبيعية ، إنما ما اوصلوه لنا بوضوح هي التكاليف المهمّة في نظرهم ، وما لا يهتمون به تركوه يصل الينا كيفما وصل ، بطريق صحيح او ضعيف او معه معارض او يتلف بعضه وهكذا ، والائمة عليهم‌السلام يعرفون بعلمهم الغيبي انّ بعض الروايات سوف تتلف او تضيع حجيّتها ، ورغم ذلك تركوها تصل الينا بطرقها الطبيعية لتكون محلّ اختلاف العلماء من أيّامهم المباركة إلى ايامنا اليتيمة ، لفوائد يرونها من هذا الاختلاف.

(من هنا) نعرف أن ما وصلنا من الامارات الغير معتبرة ولم يصلنا بطرق معتبرة هي غير مهمّة في نظر الشارع ، إذ لو كان فيها حكم واحد مهم لأوصلوه إلينا ولبيّنوه بطرق صحيحة ، كما اوصلوا الينا اكثر من مائة رواية بكثير في مسألة السواك واكثر من مائة واربعين رواية في عدم حجية القياس .. وعدم الايصال لعدم الاهتمام أمارة الترخيص.

(من كل هذا) نستكشف أن الشارع المقدّس يرخّص بترك الامارات الضعيفة ، وهو يعني الانحلال الحكمي ، وإن توسوست من اجراء البراءة العقلية فاجر البراءة الشرعية ، فانّك ممّا ذكرنا على الأقل تشك في وجوب الاحتياط وعدم وجوبه.

(هذا) إن كان عندنا علم اجمالي بكون بعضها مصيبا للواقع ، وإلّا فإنّا على هذا المبنى الواضح نحتمل ان لا يوجد حكم الزامي واحد في الامارات الضعيفة يصيب الواقع إلّا وله مطابق في الامارات المعتبرة لما ذكرناه ولوجوه اخرى ، مما يعني صحّة ما ذهب اليه السيد الخوئي رحمه‌الله من دعوى الانحلال الحقيقي.

(إذن) الصحيح هو امكان جريان البراءة في دائرة الامارات الغير معتبرة كالروايات العامية ورواياتنا الضعيفة والشهرات وغير ذلك ، والحمد لله رب العالمين.

١٢٠