المعجزة الكبرى القرآن

محمد أبو زهرة

المعجزة الكبرى القرآن

المؤلف:

محمد أبو زهرة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٢

يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١١٨). [المائدة : ١١٦ ـ ١١٨]

وهنا نجد تلك المجاوبة التى أعلمنا سبحانه وتعالى أنها ستكون بينه وبين المسيح عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم ، كان الاستفهام فيها لبيان استحالة أن ابن مريم قال لهم اعبدونى وأمى واتخذونا إلهين من دون الله ، ولذلك جاءت الإجابة على السؤال باستحالة موضوعه ، وأنه ما كان ولا يمكن أن يكون من عبد الله ورسوله عيسى عليه‌السلام.

٩٦ ـ ومن الصيغ الاستفهامية تلك التى تجىء فى القرآن الكريم ما يكون للإفحام والرد. كالرد بالصيغة الاستفهامية. إذ يقول سبحانه وتعالى عنهم : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٨). [المائدة : ١٨]

وإن ذلك الاستفهام مع دلالته على استنكار قولهم فيه دلالتان أخريان :

إحداهما : إعلامهم بأنه سيعذبهم بذنوبهم وأنهم مأخوذون بما يقترفون من سيئات ، وما يجترحون من مآثم ومظالم.

الثانية : الدلالة على أن عمل الخير له ثوابه ، وعمل السوء له عقابه ، وأن من يقول غير ذلك فهو مبطل ، وما كان لهم أن يدعوا محبة الله ، وأنهم منه بمنزلة الأبناء من الآباء ومع ذلك يعصونه ، وينشرون فى الأرض الفساد.

فهذا استفهام مع ما فيه من إحكام واستنكار يتضمن معانى سامية فيها التهديد لمن عصى ، والتبشير لمن أطاع.

وهناك لون من ألوان الاستنكار تراه منصبا على المساواة الظالمة بين الخير الأدنى ، وما هو أعلى منه ، كما فى قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٩) [التوبة : ١٩].

١٦١

لقد كانت قريش تتنافس على السقاية وسدانة البيت الحرام ، وتتسابق إلى عمارته إن احتاج إلى عمارة ، ويحسبون أن ذلك يجعل لهم فضلا على الناس ولو كانوا مشركين ، وقد قرر سبحانه أن الإيمان بالله ورسوله ، والجهاد فى سبيله ، والتقدم لفداء الحق ونصرته لا يساويه مجرد السقاية والسدانة والعمارة ، ولو كان لبيت الله الحرام الذى هو مثابة للناس وأمن ، فالإيمان والعمل الإيجابى لنفع الناس وحماية الحق والذود عنه ، هو فى المكانة السامية ، وقد أتى سبحانه بذلك فى صيغة استفهام إنكارى ، وهو منصب على التسوية بين الأمرين ، وهو استنكار فيه توبيخ ، وفيه إبطال للباطل ، وإحقاق للحق ، وإعلاء لشأن الإيمان والجهاد ، وأنه فوق كل شأن.

ومن الاستفهام الذى يحكى عن المشركين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ما يذكر على سبيل الاستغراب ، وظن الاستحالة ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) (٥١) [الإسراء : ٤٩ ـ ٥١].

ومثل ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٥) [الرعد : ٥].

وإن هذه الاستفهامات هى من قبيل الإنكار ، والاستغراب ، فترى المشركين يعلنون إنكارهم للبعث ، ويستغربون أن يكون ، يستغربون البعث فى ذاته ، ويقرنون ذلك بحال الذين يموتون من بعثرة أجسامهم بعد أن يصيروا رفاتا ، ويضيفون إلى استغراب البعث فى ذاته ما يقررونه فى اعتقادهم من أحوالهم ، يحسبون أنها تبرر الإنكار ، أو تزيد الاستغراب ، فيسألون من الذى يبعثهم من مراقدهم ، ويوهم قولهم أن ذلك غريب.

وفى سورة الرعد فى النص الذى نقلناه يستغربون ويتعجبون ، يبين الله تعالى أن موضوع العجب هو عجبهم ؛ لأن البعث فيه سر الوجود ، إذ إنهم لم يخلقوا عبثا ، وإذا كان الابتداء ليس فيه عجب ، فالإعادة ليست فيها عجب أيضا ، فالاستغراب موضوعه استغرابهم هم.

وإنا نجد فى كل الأمثلة التى ذكرناها فى الاستفهام تصريفا فى القول يوجد جدة فى كل جملة عن سابقتها ، وإنه لو كان النفى أو الاستغراب والتعجب أو الاستنكار والتوبيخ بلغة واحدة ما كان التنويع فى التعبير. الذى هو ميزة لكل كلام. فضلا عن أبلغ كلام رأته الإنسانية ، لأنه تنزيل من حكيم حميد ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا

١٦٢

من خلفه ، وإنه بديع فى نسقه ، فى أعلى درجات الإبداع ، وإنه كما قال الكافر الذى سمعه يعلو ، ولا يعلى عليه ، وأنه ذو القطوف الدانية ، والجمال دائما.

٩٧ ـ ومن الاستفهام ما يكون تقريرا للواقع ، وذلك يكون فى الحال التى تستوجب العجب ، أو توجب الاستنكار ، إذ يكون الواقع المقرر مستنكرا ، لأنه ليس من صنيع أهل الإيمان ، ولا مما تستسيغه الفطرة السليمة ، أو تستحسنه الأخلاق الحكيمة ، اقرأ قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) (٧) [الماعون : ١ ـ ٧].

وإن هذا الاستفهام التقريرى الذى يؤكد الرؤية العالمة من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن معنى أرأيت ، لقد رأيت الذين يكذبون بالدين ، وأن مجىء العبارة بطريق الاستفهام فيه تأكيد لمعنى الرؤية لأولئك الذين اتصفوا بهذه الصفات الغريبة التى تتماسك فيها كل صفة مع أختها ، كأنها ملازمة لها لا تفترق عنها ، وكأنها منها ، فالتكذيب بالدين هو صفة الجاحدين ، لا يؤمنون بالحق ولا يهتدون بهديه ، وأولئك دأبهم النفرة من الناس ، وألا تكون فيهم رحمة بالضعيف ، فهم يقهرون اليتيم ويذلونه ، ويرهقون ، ويمنعون كل عون ، إذ يمنعون الزكوات التى هى عون الأقوياء للضعفاء ، وهم لا يتذكرون ربهم ، ولا يدنون منه ، حتى فى الصلاة ، وصلاتهم ويل عليهم ، وليست قربة لهم ، وهى محسوبة عليهم على أنها من السيئات ، ولا تحسب لهم على أنها من القربات ، وهم فى أعمالهم يراءون ، والرباء شرك خفى ، ومن تصدق يرائي فقد أشرك ، ومن صام يرائي فقد أشرك.

وإن موضع الاستفهام هنا لا يغنى عنه التقرير المجرد ؛ لأن مؤدى الاستفهام أن المخاطب قد سئل عن الرؤية مثلا ، فأجاب عنها بالإيجاب ، فكان تقرير الواقعة بإقرار من المسئول ، فهو تقرير معه التصديق وهو مع ذلك تنبيه إلى الصفات المرذولة التى اتصف بها أولئك الجاحدون بأصل الدين ، من قهر اليتيم ، ومنع المسكين ، والصلاة الساهية عن معنى القرب إلى الله تعالى وهم يراءون الناس ويمنعون كل عون حقيقى.

ومن الاستفهام التقريرى الذى يثير الانتباه إلى الحقائق التى يتضمنها قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) (٤٧) [الأنعام : ٤٦ ، ٤٧].

إن هذه الآيات الكريمات فيها عدة استفهامات أولها تقريرى ، وهو تقرير الرؤية كأنهم سئلوا عنها ، فأجابوا بالإيجاب ، فكان التقرير مؤيدا بالإقرار ، وكان حكما مؤيدا

١٦٣

بالدليل ، وهو الإقرار سلطان الأدلة ، والاستفهام كان موضع الاستفهام الأول ، وهو قوله تعالى : (إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) وهو استفهام فى معنى النفى ، فهو إنكارى ، أى أنه لا إله غير الله يأتيكم ، فهو يتضمن مع النفى إقرارا من السامعين بأنه لا إله غيره ، وإثارة العجب ممن لا يقرون بهذه الحقيقة فهى موضع البرهان ، وقد تضمن النص الكريم استفهاما ثالثا لتوجيه النظر إلى ما يصرفه القرآن من أدلة مختلفة ، وذلك الاستفهام توجيهى تنبيهى تقريرى ، وهو قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) فقوله كيف نصرف الآيات فيه توجيه النظر إلى تصريفه للآيات ، وجاء بصيغة الاستفهام لتصوير التصريف فى الآيات التى أنزلها الله تعالى ، أو كانت فى الكون ، وما كان ذلك التصور لها ليتحقق إذا لم تكن الدعوة إلى النظر ، ثم الاستفهام الذى يأخذ النظر ليضعه على ذلك التصريف ، ثم كان الاستفهام متضمنا معنى الاستنكار لحالهم ، إذ إنهم مع تصريف الآيات وجعلها فى صورها جديدة تسترعى الالتفات والاتجاه إلى إدراكها والتنبه لها ، ومع ذلك ـ لكثرة جحودهم ولجاجة الباطل فى نفوسهم ـ يعرضون ، ولا تستولى على نفوسهم ، كشأن الفكرة المجددة ، فإنها تسترعى الأفهام وتأخذ بالألباب ، ولكنهم عموا ، فلا يجديهم تصريف ، ولا يأخذ بألبابهم تجديد الأسلوب لأنهم معرضون ، إنك لا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين.

وفى النص استفهام تقريرى على منهاج لا يعرف إلا فى القرآن ، فإنى لم أقرأ كثيرا فى غير القرآن ذلك المنهاج الاستفهامى إذ يقول سبحانه : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) (٤٧) [الأنعام : ٤٧] فالتعبير فى الاستفهام ـ أرأيتكم ـ ليس مشهورا فى الأساليب العربية ، ونجد هنا الخطاب تكرر فيه ، فالتاء المفتوحة خطاب ، والكاف خطاب ، والتاء خطاب للمفرد ، والكاف خطاب للجمع ، والتاء متجهة إلى مخاطبة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكاف متجهة إلى خطاب الجمع ، فاجتمع خطاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخطاب الجماعة ؛ وذلك لأن فى الاستفهام تقريرا لرؤية النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقريرا لرؤية كل المخاطبين بالقرآن الكريم ، وكان لا بد لاجتماع الخطابين ، خطاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقرر الواقع وهو علمه عليه‌السلام ، وتقرير الحقيقة الثابتة للناس أجمعين ، وهى أن عذاب الله الذى يجيء بغتة فى خفاء ، أو جهرة فى وضح النهار لا يهلك إلا القوم الظالمون ؛ فهو جاء لأجلهم منصبا عليهم ، وهنا أمران يجب التنبيه إليهما.

أولهما : أن الزمخشرى ، ومن حاكاه ، كالبيضاوى وغيره قالوا : إن الكاف حرف لتأكيد الخطاب لا موضع لها من الإعراب فهى ليست ضميرا ، ولكنها من الحروف التى تبنى على غير محل من الإعراب ، وحجتهم أن رأى استوفت المفعولين من غير تقدير

١٦٤

الكاف فى موضع الضمير ، ونحن نميل إلى أنها ليست زائدة ، لتأكيد الكلام ، وليست حرفا ، ولكنها اسم بمعنى أنفسكم ويكون تأويل القول على هذا أرأيت أنفسكم ، وجمع ليشمل كل الناس ، وكل المخاطبين ، وعلى هذا التأويل يكون المعنى أرأيت أيها النبى الناس ، وقد صاروا عرضة لعذاب يعم الجميع أم يخص الظالمين الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الناس وظلموا العقل فضلوا وأضلوا كثيرا ، وأفسدوا فى الأرض والله لا يحب الفساد.

الأمر الثانى : أن قوله تعالى : (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) فيه استفهام إنكارى بمعنى إنكار الوقوع ، والمعنى لا يهلك إلا القوم الظالمون ، واقتران الكلام بالوصف يدل على سبب استحقاق الهلاك ، وهو الظلم ، فبظلم منهم هلكوا ، وكان ذلك تأكيدا للنفى بذكر السبب فى أنهم اختصوا بالهلاك.

ومن هذا النوع فى الاستفهام الذى اقترن بتاء الخطاب والكاف ، وكان كلاهما بالمفرد قوله تعالى : (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) (٦٣) [الإسراء : ٦٢ ، ٦٣].

والله سبحانه وتعالى يحكى عن إبليس اللعين وهو يخاطب رب العالمين والاستفهام لتقرير الواقع ، لا لنفيه ، والكاف على قول الزمخشرى هى تأكيد لمعنى التأكيد ، ونحن نرجح ذلك ؛ لأن التاء مفرد والكاف مفرد ، وهو تأكيد لفظى يتوافق فيه المؤكّد مع المؤكّد فى الإفراد والجمع ، أما الاستفهام السابق فمعنى التأكيد فيه بعيد ، للتخالف فى الإفراد والجمع ، وهذا النوع من البيان لتصريف القول ، وقد ذكر طبيعة إبليس الفاسدة بأنه سيجعل ذلك الذى كرمه تعالى عليه الهلاك ، لذريته إلا قليلا ، وهذا من غرور إبليس ، ومن يسكن الشيطان قلوبهم ، وهذا كقوله : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠) [الحجر : ٣٩ ، ٤٠].

ونلاحظ أن دخول الاستفهام على رأى ، مع وجود ضميرى خطاب فى جملة واحدة أو على قول الزمخشرى ضمير خطاب وحرف خطاب ـ هو استعمال قرآنى ، لا أعرف أن العرب قد استعملوه كثيرا قبل القرآن ، وفيه من معانى الاستنكار أو التنبه أو التعجب فى أبلغ صور ، وأن هذا من سر الإعجاز ، ودليل على أن القرآن لم يكن علمه البيانى عند العرب من قبله.

٩٨ ـ والاستفهام أحيانا يكون للتسوية بين أمرين ، ويكون هذا لبيان وحدة النتيجة والغاية مثل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦) [البقرة : ٦] ، وإن أداة الاستفهام فى هذه ليست للاستفهام الحقيقى ،

١٦٥

ولا للإنكار ولا للتعجب ، ولا لغير ذلك مما ذكرناه مقاصد للاستفهام ، وفى النص القرآنى تأكيد لجحود الذين كفروا ، والإشارة إلى أنهم سبقوا إلى الجحود ، فالأدلة مهما تكن قوية لا تجد مكانا فارغا لتملأه ولكنها تجد قلبا مملوءا جحودا ، فلا سبيل لأن يدخل الحق ، ومن ذلك قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢١) [إبراهيم : ٢١].

فهنا كانت التسوية بين أمرين من حيث الانتهاء إلى نتيجة واحدة ، فإن الأمر الذى لا يكون ثمة مفر منه ، يستوى فيه الصبر والجزع من حيث إن كليهما لا يدفع المحظور ، وإن كان الصبر أجدى لأنه يوجد فى الجملة قرارا ورضا وتقديرا للأمر. كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن صبرتم أجرتم ، وإن جزعتم وزرتم».

وقد تكون ألف الاستفهام للترديد بين أمرين فى ظاهر القول ، وليست الغاية متحدة ، والعقل يقرر صدق أحدهما فى قوله تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها) (٢٩) [النازعات : ٢٧ ـ ٢٩] فإن هذا الاستفهام ليس فيه تسوية بين أمرين فى الحكم أو النتيجة والغاية ، بل المعقول يثبت أحدهما ، وينقض الآخر بدليل من العقل والحس ، فإنه لا شك أن الأشد خلقا هو الأكبر حسا ، والأعظم تأثيرا ، والأدق إحكاما ، وهو السماء بما يتصف فيها ، وإذا كان سبحانه مالك السموات والأرض ، وما بينهما ، وما فيهما ، من دابة فهو على ما يشاء قدير.

ومؤدى هذا الكلام نفى سلبى وحكم إيجابى ، فأما النفى السلبى فهو أن الإنسان ليس أشد خلقا ، وأما الحكم الإيجابى ، فهو بيان سلطان الله سبحانه وتعالى القاهر فوق كل شىء.

وهذا النوع من الترديد إنما يكون دائما لحمل المخاطب على الحكم الصحيح فهو لا يدل على التسوية ، بل يدل على التفرق فى الحكم ولينطقوا بالصواب أو ليلتزموا به ، إن لم ينطقوا ، أو ليفحموا إن لم يسترشدوا وضلوا ، وهو استدلال على الحكم ، ومن ذلك النوع من الاستفهام قوله تعالت كلماته :

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ

١٦٦

شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) (٧٣). [الواقعة : ٥٨ ـ ٧٣]

ونرى هذه الاستفهامات المتقابلة التى يجيء فيها بين الاستفهامين لفظ أم التى تدل على التعادل بالظاهر من اللفظ ، ولكنها ليست متعادلة من درجة الحقيقة الثابتة فهى مقابلة بين حق وباطل ، للتنبيه على الحق بالدليل والتنبيه بالاستفهام بطريق التقابل ، فإذا كان التقابل بين أن يكونوا هم الخالقين للأنفس فى ظهور الآباء وبطون الأمهات إذ إن الخالق هو الله سبحانه ، فالفطرة والبداهة والحس تقرران الأول فالحكم بلا ريب ينتهى بمقتضى التقابل هو أن الخالق هو الله سبحانه ، وكذلك الأمر فى الزرع ، وكذلك الأمر فى الماء ، وكذلك الأمر فى النار.

فهو استفهام ليس على حقيقته. ولا للإنكار المجرد ، ولكنه للتنبيه ، والاستدلال على الحق بالإشارة إلى البطلان الذى يكون فى الجانب المقابل للحق ، فإنه إذا بطل النقيض كان الحكم بصحة نقيضه ، فإذا كان التردد بين كونهم الخالقين ، والخالق هو الله ، وتأكد بالحس بطلان وصفهم بالخلق فقد ثبتت صفة الخلق لله تعالى ، وبذلك يكون الاستفهام للتنبيه والاستدلال كقوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤) [سبأ : ٢٤].

ومن ذلك النوع ما حكاه الله تعالى عن سيدنا يوسف ، وهو يقول لصاحبى السجن : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٣٩) [يوسف : ٣٩] فإن هذا التقابل بين باطل تثبت البداهة بطلانه ، وإذا بطل أحد المتقابلين صدق الآخر ، فكان الاستفهام للتنبيه إلى الحق مؤيدا بالدليل القاطع.

٩٩ ـ والاستفهام للتنبيه كثير فى القرآن ، وكذلك لإثارة العجب حول ما يدعون من ترهات وأباطيل وبيان وجه غرابتها ولا يمكن إحصاء ذلك ، واستقراؤه وتتبعه ، ولكن يمكن ضرب الأمثال ، وما يذكر يكون شاهدا على ما لم نرطب ألسنتنا بتلاوته ، ولا أسماعنا بالاستماع له والإنصات والتدبر فيه.

اقرأ قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) (٢٩) [الذاريات : ٢٤ ـ ٢٩] إلى آخر القصة ، وترى القصة ابتدأت بالاستفهام للتشويق ، وللتنبيه إلى الاستماع ، وقد ابتدأت بعبارة فيها إجمال لتكون تمهيدا لما يجيء بعد ذلك من التفصيل.

١٦٧

ومن الاستفهام الذى للتنبيه إلى قدرة الله تعالى ، وهم لا ينكرون الجواب فيكون الاستفهام للإقرار به وتقريره قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٣٦) [يونس : ٣١ ـ ٣٦].

ففي الآية الأولى كانت أربعة استفهامات عن الرزق من يرزقه وعمن يملك السمع والأبصار فيسلبهما إن شاء أو يبقيهما ، ويردهما إن سلبهما ، وسألهم عمن يخرج الحى من الميت ومن يدبر الأمر ، فسيقولون الله فى إجابة هذه الأسئلة ، فجاء الاستفهام الأخير فى هذه محرضا على التقوى ، إذ إن التقوى كانت من نتائج إقرارهم بالإجابة الصادقة عن هذه الأسئلة التقريرية التنبيهية إذ إن العبادة لا تكون إلا للخالق وحده ، فالمعبود الذى يستحق أن يكون إلها هو الخالق النافع الضار.

ونرى أن الأسئلة كانت إجاباتها بالإيجاب لا بالسلب ، وبين سبحانه وتعالى ما ترتب على الإيجاب بإقرارهم الصريح ، وهو أن تمتلئ قلوبهم بتقوى الله تعالى ، فلا تعبد غيره.

وجاءت الآيات بعد ذلك أسئلة ، الإجابة فى بعضها بالسلب ، لأنها خاصة بما يشركون بها عبادة الله سبحانه وتعالى من أوثان ، وغيرها.

الاستفهام الأول كان عن شركائهم هل يفعلون ما قرروا أن الله يفعله ، ولسان حالهم أن يجيبوا بالسلب لأنهم يرون أنهم لا يضرون ولا ينفعون ، وسألهم عمن يبدأ الخلق ثم يعيده ، ولسان حالهم يقوله : الله.

وهكذا نرى أن الاستفهام فى كل هذه المقامات فى القرآن كان لإثارة التنبيه إلى الحقائق وإذا انتبهت العقول اتجهت إلى طلب الحق فى غير عوج بل بطريق مستقيم.

وإنى أحسب أنه بعد أن نزل القرآن وأشرب الناس مناهجه ومسالكه ، كان من أجود الطرق التعليمية إثارة الانتباه بالاستفهام تنبيها إلى ما يوجه إلى التلاميذ من علم ، فكان استفهام القرآن موضحا أقوم المسالك للتنبيه إلى الحقائق وإثارة الأفهام إليها ، وتفتيح الذهن لتدخل عليه المعانى ، والحقائق العلمية.

١٦٨

١٠٠ ـ وإن القرآن سلك فى الاستفهام مسلكا لم نره كثير الاستعمال عند العرب من قبل نزول القرآن ، ولكنه شاع بعد نزوله من غير سمو إلى مسلك القرآن ، وهو دخول أداة الاستفهام على حرف النفى ، مثل قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (١١) [ق : ٦ ـ ١١].

فأنت ترى من السياق القرآنى أن همزة الاستفهام دخلت على لم التى هى حرف نفى ، فالاستفهام دخل على حرف نفى وجاء بينهما فاء هى للدلالة على أن السؤال مرتب على ما كان قبله ، وما قبله كان تعجبا من أمر البعث ، إذ قالوا : (إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) وإنهم كذبوا بالحق لما جاءهم فكانت الآيات التى وليت الاستفهام ردا على تكذيبهم ، وفيها الدلالة على إثبات ما أنكروا ، فالفاء للدلالة على ترتيب الاستفهام لكنها أخرت عن أداة الاستفهام ؛ لأن الاستفهام له الصدارة ، فهى مؤخرة عن تقديم فى نسق الترتيب الفكرى.

والاستفهام الداخل على النفى مؤداه الحث على النظر ، لأن الاستفهام عن نفى النظر ، وتقرير عدم النظر ، فإذا كان الاستفهام ابتداء يقرر أنهم لم ينظروا ، وفى النظر تعرف لآيات الله تعالى فى الكون ، فالاستفهام وحرف النفى يدلان على الإثبات ، وهو هنا طلب النظر ، فكأن المعنى : على هذا المنطق المستقيم ثبت أنكم لم تنظروا ، فالواجب أن تنظروا ، فالاستفهام ابتداء كما يبدو من سياق الكلام يقرر أنهم لم ينظروا ، لأن عدم النظر كان موضع الاستفهام ، ومن المقررات البلاغية أن الاستفهام دائما يدخل على ما يكون موضع شك ، ويقدم فيه ما يكون موضع الشك ، فإذا كان موضع وقوع الفعل ، كان الاستفهام مسلطا على الفعل ، مثل قول الموحدين للوثنيين : (أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) [الأنعام : ٧١] فهنا نجد موضع الاستنكار هو ذات الفعل ، فكان عقب أداة الاستفهام ، وإذا كان الفعل قد وقع ، وموضع الشك هو الفاعل ، فإنه يجيء وراء الاستفهام ، كقوله تعالى حكاية عن قوم إبراهيم إذ رأوا أصنامهم جذاذا ، قال الله تعالى عنهم أنهم قالوا له : (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) (٦٢) [الأنبياء : ٦٢] فالفعل ثابت بالعيان أمامهم ، ولكن الفاعل هو الذى يريدون البحث عنه ومعرفته.

وبهذا المنطق البيانى نرى أن الاستفهام فى هذا النص «أفلم ينظروا» داخل على الفعل المنفى ، فإذا كانت الهمزة للتنبيه أو التقرير ، أو التوبيخ ، لأنهم لم ينظروا ، وهو

١٦٩

الراجح فى نظرى فيكون لإنكار الوقوع وإنكار الواقع ، وإذا كانوا يوبخون لأنهم لم ينظروا ، فالتوبيخ يكون دعوة للفعل ، وحثا على النظر.

ومن الاستفهام الداخل على النفى ، قوله تعالى فى قصة القرآن عن أنبائهم : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ٩ ، ١٠] ونجد فى الاستفهام الذى صدرت به الآية الكريمة أن همزة الاستفهام دخلت على (لم) النافية ، فكان موضع الاستفهام عدم إتيان نبأ الذين من قلبهم ، ولو سرنا على ما يقتضيه السياق اللفظى للنص السامى يكون الاستفهام عن عدم الوقوع ومعناه أنه لم يأتكم ، وإذا كان الاستفهام للتقرير أو التنبيه فمؤداه أنه لم يأتكم ذلك ، وفى هذا تشويق لمعرفته ، وتوجيه لطلبه ، ولذلك جاء من بعد ذلك النبأ عن الرسل السابقين ، ويكون فى هذا تثبيت الخبر لمن يطلبه مصغيا إلى حقائقه معتبرا بعبره.

ولقد جرت بين كتاب علم البلاغة كلمة : نفى النفى إثبات ، ويطبقونه على استفهام يدخل على فعل منفى فيكون الاستفهام داخلا على منفى ، والاستفهام نفى ، فيكون نفيا لنفى ، ونفى النفى إثبات ، وإن ذلك يسير إذا كان الاستفهام للإنكار ، إنكار الوقوع ، فيكون إنكارا للمنفى فيكون إثباتا ، وقد قلنا أنه حتى فى هذه الحال ، لا يخلو الاستفهام من تنبيه ، وإقرار بما جاء الاستفهام عنه ، ولكن الاستفهام الداخل على النفى يتضمن الحث على طلب الأمر المنفى الذى دخل عليه الاستفهام كما رأيت فى قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) كما تلونا من قبل ، وقد يكون إلى تلقى علم ما نفى فى حيز الاستفهام كما رأيت فى الآية السابقة.

وقد يتضمن الحث على العمل ، والتحريض عليه إذا كان ذلك العمل غير محقق فى الوجود ، أو هناك شروع فى تحقيقه ، وذلك يكون غالبا عند نفى الأمر المستقبل كما نرى فى قوله تعالى : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٥) [التوبة : ١٣ ـ ١٥].

ونرى من ذلك أن الاستفهام دخل على النفى ، وهو عدم القتال أو عدم الأهبة له ، والاستعداد للتقدم ، فالمستفهم عنه عدم القتال والاستعداد له وقد وجدت أسبابه ، وتعددت موجباته ، فكان الاستنكار منصبا على النفى ، والاستنكار لحال مستمرة حث

١٧٠

على تغييرها ، وإذا كان الاستنكار على ما وقع توبيخا لمن أوقعه ، فالاستنكار لأمر لم يقع بظاهر الحال ، واستصحابها ، تحريض على تغييرها ، وتوجيه للإتيان بها.

وإن الاستفهام الذى ينطبق عليه قول بعض الكتاب فى علم البلاغة وهو : نفى النفى إثبات ـ يكون فى مثل قوله تعالى : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٠) [القيامة : ٣٧ ـ ٤٠] وترى من هذا أن الاستفهام دخل على النفى فكان إنكاريا لنفى الوقوع ، فنفى على زعمهم القائل أنه لم يك فى نشأته من منى ، أو كانوا عن ذلك فى غفلة ساهين وكانوا فى حاجة إلى التذكير ، والإحساس بمبدئهم ، ليعرفوا منتهاهم ، وأن الذى أوجدهم من منى أشخاصا ذكورا وإناثا قادر على إعادتهم ، كما بدأهم يعودون.

فالاستنكار لجهلهم هذه الحقيقة ، أو تجاهلهم ، وكأنهم لا يعلمون ، فاستنكر هذا عليهم فكان نفيا مستنكرا لحال التجاهل.

ولا شك أن هذا فيه تنبيه ، وفيه لوم على تجاهلهم تلك الحقيقة ، وبيان أنه يجب عليهم أن يعرفوها ، ليكونوا فى تذكر دائم بقدرة الله تعالى فى تدرجهم فى الوجود من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ، ويعلموا بذلك قدرة الله تعالى على الإعادة.

ومن الاستفهام الداخل على النفى الذى هو من قبيل أن نفى النفى إثبات ، التنبيه إلى أن النبى يصنع على عين الله تعالى ، ويتولاه وألا يكون فى يأس من رحمة الله تعالى ، ومن ذلك قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (٨) [الشرح : كلها].

فإن الاستفهام هنا لإنكار الوقوع ، أى لإنكار أن الله تعالى لم يشرح صدر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتلقى الوحى الذى أوحى به إليه ، وإذا كان الإنكار نفيا فالمؤدى للقول : قد شرحنا صدرك ، وكان الاستفهام للنفى.

١٠١ ـ وإننا فى ختام هذا البحث من التصريف البيانى فى القرآن نقرر بالنسبة للاستفهام فيه ، أن الاستفهام باب من تصريف القول فى القرآن ، وفيه من أسرار الإعجاز ما فيه ، فمن الاستفهام ما يكون بعبارات تتفق مع النسق العربى السليم ، ولكنه لم يعرف بين البلغاء قبل القرآن ، وإنى أرى أن أكثر صيغ الاستفهام التى جاء بها القرآن غير مسبوقة قبله ، وأن الاستفهام كان يستعمل أحيانا للتنبيه ، وأحيانا للاستدلال ، وأحيانا للتعجب ، وأحيانا ليوجه الأنظار إلى الكون وما فيه ، وما يجرى بين الناس ، وأن ذلك كله مما يدل على علو القرآن على مستوى ما كان عليه أكبر البلغاء ، وأقواهم سلطانا فى الأسلوب العربى.

١٧١

الحقيقة والتشبيه والاستعارة فى القرآن

١٠٢ ـ هذا باب من أبواب تصريف القول فى القرآن وضرب الأمثال به ، والحقيقة فى اصطلاحنا ليست مقابلة للمجاز بكل فروعه فقط ، بل هى مقابلة للمجاز والتشبيه والاستعارة ، وهى ضرب من ضروب المجاز ، وإذا كان علماء البلاغة يعدون التشبيه من قبيل الحقيقة ، إذ إن أساس الحقيقة فى نظرهم أن يستعمل اللفظ فيما وضع له ، والتشبيهات التى تكون بأدوات التشبيه الألفاظ فيها موضوعة فى مواضعها ، والمجاز الذى يقابل الحقيقة أن تكون الكلمة دالة على غير ما وضعت له ، لعلاقة بين المعنى الأصلى والمعنى الذى استعملت فيه مع قرينة دالة على هذا وعدم إرادة المعنى الأصلى.

ذلك هو اصطلاح علماء البلاغة ، ولا غبار عليه ، ولكنا فى مقام الإعجاز القرآنى نذكر الحقيقة ـ غير المجاز ، غير التشبيه ، ونريد الحقيقة المجردة ، أى استعمال الألفاظ فيما وضعت له من غير ذكر مقابلة بين لفظ ولفظ عن طريق التشبيه الذى يجمل المعانى أو يقربها ، أو يأتى بصورة بيانية تلتقى فيها الحقيقة مع إثارة خيال يكون كأطياف الصور.

فالحقيقة التى نطلق عليها حقيقة ونحن نتكلم فى القرآن هى ما تدل عليه الألفاظ فى أصل وضعها من غير مجاز ولا استعانة بتشبيه ، ولا مشاحة فى الاصطلاح. ونتكلم هنا فى الحقيقة والتشبيه ، والاستعارة التى هى التشبيه من غير ذكر أداة التشبيه أو ما يدل عليه. وفى القرآن هذه الأمور كلها مع أنواع المجاز المرسل الذى لم تكن العلاقة فيه بين المعنى الأصلى والمعنى المجازى المشابهة بينهما.

١٠٣ ـ إن القرآن قد كان فيه التعبير بالحقيقة ، وهنا نجد السكاكى يعتبر التعبير المجازى أبلغ من التعبير عن المدلولات بالألفاظ التى وضعت لها ، وقد يكون ذلك فى غير القرآن ، ولكنه ليس على إطلاقه حتى فى غير القرآن ، أما القرآن فليس فيه جزء أبلغ من جزء ولا أبين ، بل كل فى موضعه وفى منهاجه ، بلغ أقصى درجات البلاغة التى لا تسامى ولا تناهد وليس فى طاقة أحد من البشر أن يأتى بمثله.

ولا شك أن بعض الموضوعات القرآنية لا يكون للمجاز أو للتشبيه فيها موضع ، بل إن المجاز والتشبيه فيها يخل بالبلاغة فيها حتى فى كلام الناس ، وليس من النثر الفنى فيها التشبيه إلا أن يكون للتقريب.

١٧٢

وإن الحقيقة تستعمل فى كثير من مواضع القرآن كالأحكام الشرعية التكليفية ، لأن بيانها يحتاج إلى أن تكون الكلمة محدودة المعنى ليتم القيام بموجبها ، وتكون الطاعة محدودة المعالم ، لا احتمال فيها ، إذ إن المطالبة بعمل توجب تعيينه بما لا يوجد فيه احتمال لمعنى غير المراد ، ليتم التكليف على بينة وعلم واضح بالمطلوب.

وكذلك القصص ، فإن القصص ذكر لحقيقة ما وقع لتكون به العظة الكاملة ، بحيث يتجه التالى للقرآن إلى مغازى القصة ، ومراميها من غير تزيد ، كما رأينا فى كثير من القصص القرآنى فيما تلونا من قصص نوح وإبراهيم وموسى ويوسف من قبله ، فإنك ترى فيه الحقائق مجردة إلا من بيان وجه العبرة ، ولا تجد المجاز والتشبيه إلا قليلا.

وكذلك الاستدلال على الوحدانية بالنظر فى الكون وما اشتمل عليه ، والنظر فى الشمس والقمر والنجوم المسخرات وهكذا ، مما يوجب الاتجاه مباشرة إلى الحقائق.

١٠٤ ـ وإن بلاغة الحقائق التى تذكر من غير استعانة بمجاز أو تشبيه لا تقل عن المواضع التى كان فيها تشبيه أو مجاز بالاستعارة أو غيرها ، فإن ذلك يكون لمعان مقصودة ، وغايات أخرى وراء فكرة البلاغة التى هى وصف عام للقرآن كله من غير تفاوت ، لأنها تتعلق بكتاب الله العزيز الذى لا يستطيع أحد أن يأتى بمثله ، ولو كان معه الجن والإنس ، كما قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٨٨) [الإسراء : ٨٨].

ويقول فى ذلك الباقلانى فى كتابه إعجاز القرآن : «إن عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ، ولا يتباين ، على ما يتصرف فيه من الوجوه التى يتصرف فيها من قصص ، ومواعظ واحتجاج ، وحكم وأحكام ، وإعذار وإنذار ، ووعد ووعيد ، وتبشير وتخويف ، وأوصاف ، وتعليم أخلاق كريمة وشيم رفيعة ، وسير مأثورة ، وغير ذلك من الوجوه التى يشتمل عليها ، وتجد كلام البليغ الكامل ، والشاعر المفلق ، والخطيب المصقع يختلف على حسب الأحوال».

وبعد أن يبين اختلاف البلغاء فيما يجددون من أبواب ثم يقصرون فى غيرها فيقول : «وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه على حد واحد فى حسن النظم وبديع التأليف والوصف لا تفاوت فيه ، ولا انحطاط عن المنزلة العليا.

ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا ، وكذلك تأملنا ما ينصرف فيه من وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة فرأينا الإعجاز فى جميعها على حد واحد لا يختلف ، وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتا وتبينا ، ويختلف اختلافا كبيرا ، ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة ، فرأيناه غير مختلف ولا

١٧٣

متفاوت ، بل هو نهاية البلاغة ، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر ، لأن الذى يقدرون عليه قد بينّا فيه التفاوت الكثير عند التكرار وعند تباين الوجوه».

ونرى من هذا أن الإجماع على أن القرآن كتاب الله لا تتفاوت عباراته (١) لأنه من عند الله الذى لا تفاوت بين الأشياء عنده ولا فرق فى البلاغة بين ما كانت الحقائق فيه تذكرة مجردة عن التشبيه والمجاز.

ولنذكر بعض آيات الأحكام التى تذكر الأحكام مجردة ، اقرأ آية المحرمات قال الله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٥) [النساء : ٢٢ ـ ٢٥].

هذه آية من آيات الأحكام لم يستعمل فيها المجاز ، ولا التشبيه ، ومع ذلك هى بالغة من البلاغة حد الإعجاز القرآنى ، فالتآخى بين الألفاظ والمعانى ثابت ، حتى أن كل كلمة فيها حكم ، تومئ إلى التى تليها ، مع بيان الحكمة الشرعية ، والتعليل لبيان المحرمات التى حرمها وكانت حلالا فى الجاهلية فى زعمهم ، كزواج من كانت زوجة لأصل من أصوله ، وابتدأ بها سبحانه لما لها من خطر وشأن ، إذ يتبين تحريم ما أحلوا بزعمهم وما يبتدأ به الكلام يكون قوى التأثير ، وقد وصفه سبحانه بأنه فحش فى الواقع ، لأنه أمر غير مألوف فى الطبائع السليمة ، والأخلاق الكريمة ، وأنه ممقوت عند الناس لا يفعله رجل يألفه الناس ، بل يمقتونه ، ولذلك كان يسمى عند العرب (نكاح

__________________

(١) الإعجاز : ٥ ، ٥٦.

١٧٤

المقت) ، فمع أن الجاهلية ما كانت تحرمه بزعمها ، كانت تكرهه وتمقته ، ولا يفعله الكرام.

ولما جاء النص الكريم بتحريم الأمهات ، وهن الأصول من عل استشرفت النفس لمعرفة حال البنات ، أتحل أم تحرم ، فجاء التحريم فى وقت الاستشراف إليه ، والتطلع نحوه فكان البيان وقت الحاجة إليه ، وكذلك الأخوات وهن أولاد الآباء والأمهات والعلاقة بهن تلى العلاقة بالأولاد ، ثم جاء من بعد أولاد الأبوين ، وهن الأخوات ، أولاد الأجداد ، وهن العمات ثم الخالات فكانت كل طائفة ممهدة لذكر التى تليها ، تجذبها إليها بمقتضى تداعى المعانى ، كل معنى يدعو أخاه ، وكل واحدة تلتحم مع أختها فى تآلف لفظى ، وتآخ معنوى.

ولقد كانت المرضع تعد أما ، كالأم النسبية ؛ لأن هذه إذا كانت قد حملته فى بطنها ، وغذته من دمها جنينا فتلك قد وضعته فى حجرها وغذته من لبنها رضيعا وأنشزت عظامه ، وأنبتت لحمه ، كما كانت الأولى ، فكان من تداعى المعانى ، أن يذكر فى إيجاز غير مخل ، الأمهات الرضاعيات من أولادهن ، ومن التقى معه على ثدى واحد.

كان من مقتضى التناسق المعنوى أن تذكر بعد صلات النسب الصلات السببية ، وهى المصاهرة فابتدأ بأمهات الزوجات ، ثم اتجه الذهن بعد تحريم أمهات نسائكم إلى الربائب ، لأنه إذا ذكرت الأم تطلعت النفس إلى ذكر حكم البنت ، فذكر بعد تحريم أمهات الزوجات ما يتعلق بتحريم بنات النساء ، وهن الربائب ، وذكر حكمة التحريم وهى أنهن فى حجره وكبناته.

وإذا ذكرت أمهات الزوجات ، وبناتهن ، وزوجات الآباء ، يكون لتتميم القول ، ولما يستدعيه قانون تداعى المعانى أن تذكر زوجات الأبناء أهن حلال ، أم لا.

وهكذا نرى أن المعانى كل واحدة تدعوها السابقة فتلاحقها فى اتساق ونسق جامع.

وكل ذلك فى نغم متآخ ، وفى صورة بيانية من مجموع القول ، فعند ما تقرأ الآيات من أولها إلى آخرها ، تجد صورة بيانية ، لأسرة متكاملة ، ليس فيها تقاطع ، بل فيها تراحم ، وتواصل ومحبة ومودة ، فما كان ذلك التحريم إلا لتكون المودة هى الواصلة فلا يفحش ابن مع أبيه ، ولا يمقت ولد أباه ، ولا يعتدى أب على ابن.

وإن ما اختص به القرآن من تقابل بين الحقائق فى البيان ، وتوافق فى العبارات من غير منافرة ، ولا معاضلة ، متحقق ثابت لا مجال لإنكاره ، وما اختصت به العبارات من إشراق وضياء ، تجده منيرا حول الكلمات.

١٧٥

وإذا كنا قرأنا آيات الزواج وتكوين الأسرة ، فلنقرأ حكم الله إذا تنافر ودها ، وأصبح التفرق بينهما أمرا لا بد منه : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) فقد قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (٧) [الطلاق : ١ ـ ٧].

وترى من هذه النصوص القرآنية أنها تضمنت أحكاما كثيرة ، تضمنت أحكام الطلاق وأحكام العدة ، وأحكام الرجعة ، وأحوال المعتدات ، وتضمنت بعض أحكام الرضاعة ، وأحكام النفقات بين الأزواج ، وخروج المعتدات من بيوتهن.

وهنا نلاحظ ملاحظة نفسية قد نبه إليها القرآن الكريم فى ألطف تعبير وأعطف نص ، وكأنه بلسم لشفاء نفس مجروحة ، قد أرثتها حرقة الألم بسبب الفراق ، ذلك أن الآيات موضوعها الطلاق ، وهو لا يكون إلا إذا تعذر الوفاق ، فالنفوس تكون مضطربة ، واليأس يكون مخيما ، والعلاقات تكون فى حال يائسة ، ولذلك نجد فتح باب الأمل لتلك النفوس التى اعتراها يأس من الحياة الزوجية السليمة ؛ إذ يقول سبحانه بعد وضع الحدود ، وأن من يتعداها يظلم نفسه (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) (١) [الطلاق : ١] ، ثم يبين سبحانه وتعالى العدة ، ويبين أنها فيصل تفرقة ، أو عودة ، وأن المطلوب إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، ويذكر أن الأمر قد يكون فى طياته ما يخرج النفوس من مضطرب الخلاف إلى متسع الوفاق ، فيقول سبحانه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) [الطلاق : ٢] من ذلك المزدحم الذى تعترك فيه الأحاسيس والمشاعر بين عشرة طيبة أو فرقة لا ظلم فيها ، ويقول سبحانه وتعالى فى ذلك المقام أيضا : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٣) [الطلاق : ٣] وبعد أن يبين سبحانه وتعالى العدة للآيسة

١٧٦

من الحيض ، ومن لم تره وهى ثلاثة أشهر ، ثم يبين عدة الحامل ، بعد أن بين عدة الحائل هنا ، ويقول لنفوس محرجة آسفة حزينة عرفت الحاضر ، والماضى قد فات إن خيرا وإن شرا ، وهى تجهل القابل فهى تجهل ما يطويه ، فيقول سبحانه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق : ٤]. ويذكر سبحانه وتعالى وجوب النفقة فى مواضع وجوبها ، وأحوال وجوبها ، والإرضاع ، ووجوبه ، ثم يبين مقدار الواجب ، على أن يكون على قدر طاقته ، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق : ٧].

وهكذا نجد العبارات القرآنية السامية فيها طمأنة النفس على ما يطويه المستقبل ، فيجعل لهم رجاء بمخرج يخرجهم ، أو يجعل من أمره يسرا ، وإن هذا النوع من القول هو الذى يقال عند ما تتأزم النفوس ، وتقطع العلاقات بعد ود كان دائما أو كان يرجى له الاستمرار ، ويشترط لتحقيق ذلك الأمر الذى فرج الله به الكروب التقوى والعمل الصالح ، وإن هذين إذا تحققا فى تلك الحال طابت النفوس ورضيت بالواقع إن لم يكن منه مناص وغيرته بالإيمان إن كان ثمة محل للتغيير.

وإن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم ، ليعلم الذين يرون أسرة قد ضاقت صدور أهلها حرجا ، واستولى عليها من الحياة الزوجية الصالحة يأس وغلبت شدتها ، وذهب رخاؤها أن يفتح باب الرجاء فيها بعد إغلاق الآمال ، وأن يكون ميسرا ، ولا يكون معسرا ، وأن يكون مبشرا ، ولا يكون منفرا.

وإن تلك النصوص القرآنية السامية تجد فيها البلاغة التى تصل إلى أعلى الدرجات فى ذاتها لا فى نسبتها ، فابتدأ الله تعالى الخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم خاطب المسلمين من بعد مواجهته ، وخوطبوا بالجمع للإشارة إلى تكافل جمعهم ، وتضافرهم وتعاونهم على البر والتقوى فى المواطن الحرجة ، والاستعانة بالمشورة والرأى ، وقد أمر بالرفق بالمرأة ، فلا يطلقها إلا وهى متصلة بحالة العدة ، لكيلا يرهقها بإطالتها ، فتكون بين اليأس والرجاء فى قلق نفسى ، وهكذا استمرت الأحكام الرفيقة تبين الآيات منها حكما بعد حكم.

وجمال التعبير يشرق دائما ، وحلاوة النغم تنساب فى النفس انسياب النمير العذب ، كما تنطلق الأحكام إلى العقل والقلب فى اتعاظ واعتبار واهتداء إلى الحق وفى انسجام فكرى.

وإذا كان سرد الأحكام وخصوصا فى موضع دقيق كأحكام الأسرة يكون بادى الرأى فى كلام الناس جافا غير مشرق ، فإن ذلك فى كلام الناس ، أما فى كلام الله تعالى فإنه مشرق طيب الأعراق ، واضح القسمات فى نغم هادئ يطب للقلوب جفاءها ،

١٧٧

فيذهب ، وللنفوس فتتقى الشح ، وهو عظة وهداية وتوجيه إلى العدل المطلق المنظم للأسرة فى سلامتها وبقائها ، وفى فصلها وانتهائها ، وسبحان الله العليم الخبير.

التشبيه فى القرآن

١٠٥ ـ انتهينا إلى أن التشبيه فى القرآن ليس هو مقياس البلاغة ، لأن البلاغة القرآنية العالية كما تكون فى حال التشبيه والاستعارة والمجاز ، تكون أيضا فى الكلام الخالى من كل هذا ، وأخص ما يكون ذلك فى آيات الأحكام ، وقد يكون فى القصص والاستدلال ، وغير ذلك مما نعرض له ، وقد تلونا آيات من آيات الأحكام ، وجدنا فيها النص الكريم فى حقائقه ، وفى بعده عن كل المحسنات البديعية أعلى من كل كلام ، وهو بديع فى ذاته من غير حاجة إلى البديع الصناعى ، أو الاصطلاحى ، فإنه فوق قدر البشر ، وفوق ما يصطنعه البشر ، وما يصطلح عليه العلماء ، وإنه يتعلم منه ، وإن كان لا يحاكى ، ويؤخذ منه ، وإن كان الوصول إلى مقامه غير ممكن.

ولنتكلم الآن فى تشبيه القرآن.

لقد ذكر الرمانى فى رسالته (النكت فى إعجاز القرآن) : «التشبيه : هو العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر فى حس أو عقل ، وإن ذلك التعريف يضع المشبه والمشبه به فى مرتبة واحدة ، وإنى لا أرى ذلك ، ولا يراه علماء البلاغة الذين جاءوا بعد أبى الحسن الرمانى المتوفى سنة ٣٨٦ ه‍ ـ فإنهم يعرفونه بأنه جعل أحد الشيئين فى مقام الشيء الآخر لأمر مشترك بينهما. وهو فى ثانيهما أقوى مظهرا أو أبين مخبرا ، كما تقول علىّ كالأسد فى الشجاعة ، فهو فى الأسد أظهر ، ولا يمكن أن يقال : «إن أحدهما يسد مسد الآخر ، صورة ومعنى».

ولنترك التعريف مع رأينا فيه ، ولننظر فى قوله من بعد ، فهو يقول : «وهذا الباب يتفاضل فيه الشعراء ، وتظهر فيه بلاغة البلغاء ، وهو على طبقات فى الحسن ، فبلاغة التشبيه الجمع بين شيئين بمعنى يجمعهما ، والأظهر الذى يقع فيه البيان بالتشبيه على وجوه» ويذكر وجوه التشبيه وأنواعه فيقول فى ذلك :

«منها إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة ، ومنها إخراج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به عادة ، ومنها إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة ، ومنها إخراج ما لا قوة له فى الصفة إلى ما له قوة من الصفة ، فالأول نحو تشبيه المعدوم بالغائب ، والثانى تشبيه البعث بعد الموت بالاستيقاظ بعد النوم ، والثالث تشبيه إعادة الأجسام بإعادة الكتاب ، والرابع تشبيه ضياء النهار».

ولا شك أن هذه الوجوه لا تشمل كل أقسام المقسم ، فمن التشبيهات ما ليس بوجه من هذه الوجوه ، كتشبيه غير الواضح بالواضح ، كما ترى ذلك فى كثير من

١٧٨

الآيات القرآنية ، وكالتشبيه الذى يقصد به بيان ما أكنه سبحانه وما خلق وما دبر فهو تقريب بالمغيب عنا إلى المعلوم لنا ، وما عند الله أعظم وأكبر ، وقد يكون التشبيه لتقريب المعنى الكلى من المعنى الجزئى أو لتصوير المعنى الكلى فى بعض جزئياته ، كقوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١) [الحشر : ٢١] فإنه كان عقد المشابهة بين المعنى الكلى ، وهو المعنى الجامع الذى يوضح به الحقائق بالأمثال التى ضربها وبينها للناس ، ومن ذلك الأمثال التى تضرب لتقريب أصل الخلق والتكوين من عقول المكلفين ، وهكذا. وقد يكون هذا يتضمنه مطوى كلامه ، ولكنه غير بين.

ولقد قسم أبو الحسن الرمانى التشبيه بالنسبة للغرض منه إلى قسمين : فيقول : التشبيه على وجهين ، تشبيه بلاغة وتشبيه حقيقة ، فتشبيه البلاغة كتشبيه أعمال الكفار بالسراب ، وتشبيه الحقيقة نحو : هذا الدينار كهذا الدينار فخذ أيهما شئت».

ونحن نقول أن ذلك التقسيم يجوز أن يكون بالنسبة لكلام الناس ، أما القرآن الكريم فإن كل تشبيهاته فيها البلاغة وفيها الحقيقة ، والمثل الذى ذكره وإن كان فى أعلى درجات البلاغة هو الحقيقة ، فإن التشبيه صادق فى الواقع لأن أعمال الذين كفروا هى السراب الذى له واقع ، ولكنه وهم يسيطر بأبصار ضال ، فكما أنه لا جدوى منه ، والمتعلق به لا يتعلق بأمر واقع ، فكذلك إذا رأوا أن أعمالهم فيها خير يعود عليهم فهم واهمون ، والصفة المشتركة فى التشبيهين هى أن الوهم وهو ما ليس واقعا وتصوروه على أنه واقع ، فقد تصوروا أن أعمالهم حسنة ، إذ زينت لهم أمرا فظنوه أمرا حسنا ، كمن يرى السراب فيحسبه ماء وهو ليس بماء.

ولذلك نقول أن الوجهين محققان فى كتاب الله تعالى ، ففي التشبيه القرآنى الحقيقة الصادقة ، والبلاغة القائمة المعجزة. وقد أتى بالأمثلة على وجه التشبيه التى ذكرها ، وتبعه الباقلانى فى كتابه إعجاز القرآن ، فلا ضير علينا إذا تابعناه ، كما تابعه من كان عصره على مقربة من عصره.

١٠٦ ـ وقد ذكر الرمانى ، وتبعه الباقلانى مثلا للتشبيه الذى شبه فيه ما لا يقع عليه الحس بما يقع بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النور : ٣٩].

هذا ما ساقه الرمانى من الآية ، ولنتمه ببيان ما فيها من تشبيه ، فقد قال تعالى بعد ذلك : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠) [النور : ٣٩ ، ٤٠].

١٧٩

وقد علق الرمانى على التشبيه الأول فى الآية الأولى ، فقال : «وهذا بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة ، وإن اجتمعا فى بطلان التوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة ، ولو قيل يحسبه الرائى ماء ثم يظهر أنه كان على خلاف ما قد رأى لكان بليغا ، وأبلغ منه لفظ القرآن لأن الظمآن أشد عليه حرصا ، وتعلق قلبه به ، ثم بعد هذه الأمنية حصل على الحساب ، الذى يصيره إلى عذاب الأبد ، نعوذ بالله من هذه الحال ، وتشبيه أعمال الكفار بالسراب من حسن التشبيه فكيف إذا تضمن ذلك حسن النظم وعذوبة اللفظ ، وكثرة الفائدة ، وصحة الدلالة».

ولم يبين لنا الرمانى ، لما ذا كان تعبير القرآن فى التشبيه حيث يرى السراب ، أبلغ من أن يقال يحسبه الرائى ماء ، لم يبين بوضوح أوجه ذلك ، ونرى أن قول القائل يحسبه الرائى ماء يفسد التشبيه ، ولا يفيد الحاجة ، لأن النص فيه ما يفيد الرغبة فى طلب الماء وشدة الحاجة إليه ، وذلك محقق فى المشبه ، إذ إن الذين كفروا بآيات الله فى وقت حاجتهم إلى عمل صالح يظنون أن عملهم هذا منه وهم محتاجون إلى ما يتقدمون به إلى ربهم من عمل صالح ، كالظمآن يطلب الماء.

وأن التشبيه يدل على حيرة الكافرين ، حتى يتوهموا ما لا يقبل الوقوع واقعا ، وقد أكد حيرتهم ما جاء بعد ذلك ، إذ يقول سبحانه وتعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠) [النور : ٤٠].

فإذا كان التشبيه الأول شبه حالهم بحال من يتوهمون فى عملهم خيرا ، فيكونون كالظمآن يحسب السراب ماء لحيرتهم ، واضطرابهم وحاجتهم إلى الماء ، فالمثل الثانى يصور حيرتهم ، بسبب أنهم فى ظلام دامس ، فقد شبه سبحانه وتعالى حالهم من حيث الحيرة والتباس الأمور عليهم ، وانقطاع الأمل وأنهم يظنون الخير حيث لا مظنة ، أعمالهم بظلمة حالكة فوقها ظلمة مثلها ، وفوق هذه الظلمات سحاب يوجد غمة. فليست أعمالهم خيرا ولكنها شر عظيم عليهم ، وهم يضاعفون من الظلمات بتوالى أعمال الشر فيهم ، وسيرهم فى طريق الغى الذى لا حد له ، وقد تكاتف عليهم سوء ما فعلوا.

وخلاصة ما يستنبط من التشبيهين أنهم فى حيرة يطلبون ما ينجيهم فلا يجدونه ، وإذا توهموه فى أمر زال الوهم بالحقيقة المبصرة ، وأنهم بسوء أعمالهم فى ظلمات بعضها فوق بعض ، وهى فى نفوسهم ، وما يحيط بهم ظلمة داكنة لا يجدون بصيصا من الأمل يفتحون أعينهم لرؤيته.

والتشبيهان يعطيان صورتين من البيان ، تدلان على كمال الحيرة وكمال الظلمة ، فالمثل الأول يعطى صورة عطشان يطلب الماء ، فيتوهمه فى سراب فيجرى وراءه

١٨٠