تفسير الخازن - ج ٢

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٢

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥٦٥

الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم ناولوني السوط والرمح. قالوا : لا والله لا نعينك عليه ، فغضبت ونزلت فأخذتهما ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته ثم جئت به وقد مات ، فوقعوا فيه يأكلون. ثم إنهم شكّوا في أكلهم إياه وهم حرم فرحنا وخبأت العضد فأدركنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألته عن ذلك فقال : هل معكم منه شيء؟ فقلت نعم. فناولته العضد فأكل منها وهو محرم. وزاد في رواية : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : إنما هي طعمة أطعمكموها الله. وفي رواية : هو حلال فكلوه. وفي رواية قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا : لا؟ قال : كلوا ما بقي من لحمها. أخرجاه في الصحيحين وأجاب أصحاب هذا المذهب عن حديث الصعب بن جثامة بأنه إنما رده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه ظن أنه إنما صيد لأجله والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله (وَاتَّقُوا اللهَ) يعني فلا تستحلّوا الصيد في حال الإحرام ولا في الحرم ثم حذرهم بقوله (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) يعني في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم.

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨))

قوله عزوجل : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) جعل بمعنى صبر. وقيل : معناه بيّن وحكم. وقال مجاهد : سمي البيت كعبة لتربيعه. وقيل : لارتفاعه عن الأرض. وسمي البيت الحرام لأن الله حرمه وعظمه وشرفه وعظم حرمته وحرم أن يصطاد عنده وأن يختلى خلاه وأن يعضد شجره وأراد بالبيت الحرام ، جميع الحرم لما صح من حديث ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب يوم فتح مكة فقال «إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاه».

وقوله تعالى : (قِياماً لِلنَّاسِ) أصله قواما لأنه سبب لقوام مصالح الناس في أمر دينهم ودنياهم وآخرتهم.

أما في أمر الدين فإنه به يقوم الحج وتتم المناسك ، وأما في أمر الدنيا فإنه تجبى إليه ثمرات كل شيء ويأمنون فيه من النهب والغارة فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم لم يهجه ، وأما في أمر الآخرة فإن البيت جعل لقيام المناسك عنده وجعلت تلك المناسك التي تقام عنده أسبابا لعلو الدرجات وتكفير الخطيئات وزيادة الكرامات والمثوبات فلما كانت الكعبة الشريفة سببا لحصول هذه الأشياء كانت سببا لقيام الناس (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) يعني وجعل الشهر الحرام قياما للناس وأراد بالشهر الحرام الأشهر الحرم الأربعة وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الفرد يعني وكذلك جعل الأشهر الحرم يأمنون فيها من القتال وذلك أن العرب كان يقتل بعضهم بعضا ويغير بعضهم على بعض وكانوا إذا دخلت الأشهر الحرم أمسكوا عن القتال والغارة فيها فكانوا يأمنون في الأشهر الحرم فكانت سببا لقيام مصالح الناس. (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) يعني وكذلك جعل الهدي والقلائد سببا لقيام مصالح الناس وذلك أنهم كانوا يأمنون بسوق الهدي إلى البيت الحرام على أنفسهم وكذلك كانوا يأمنون إذا قلدوا أنفسهم من لحاء شجر الحرام فلا يتعرض لهم أحد (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يعني : أنه تعالى علم في الأزل بمصالح العباد وما يحتاجون إليه فجعل الكعبة البيت الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد يأمنون بها لأنه يعلم مصالح العباد كما يعلم ما في السموات وما في الأرض لأنه تعالى علم جميع المعلومات الكليات والجزئيات وهو قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعني أنه تعالى لا تخفى عليه خافية (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) يعني لمن انتهك محارمه واستحلها (وَأَنَّ اللهَ

٨١

غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعني لمن تاب وآمن ولما ذكر الله أنواع رحمته بعباده ذكر بعدها أنه شديد العقاب لأن الإيمان لا يتم إلا بحصول الرجاء والخوف ثم ذكر بعده ما يدل على سعة رحمته وأنه غفور رحيم.

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١))

قوله تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) يعني ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم إلا تبليغ ما أرسل به من الإنذار بما فيه قطع الحجج ، ففي الآية تشديد عظيم في إيجاب القيامة بما أمر الله وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت الحجة عليكم بذلك ولزمتكم الطاعة فلا عذر في التفريط (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) يعني أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوالكم ظاهرا وباطنا (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) يعني الحلال والحرام في الدرجة والرتبة ولا يعتد الرديء والجيد ولا المسلم والكافر ولا الصالح والطالح (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) يعني ولو سرك كثرة الخبيث لأن عاقبته عاقبة سوء. والمعنى : أن أهل الدنيا يعجبهم كثرة المال وزينة الدنيا وما عند الله خير وأبقى لأن زينة الدنيا ونعيمها يزول وما عند الله يدوم. وقال ابن الجوزي : روى جابر بن عبد الله أن رجلا قال : يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب» وقال مقاتل : نزلت في شريح بن ضبعة البكري وحجاج بن بكر وقد تقدمت القصة في أول السورة (فَاتَّقُوا اللهَ) يعني فيما أمركم به أو نهاكم عنه ولا تعتدوه (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يعني يا ذوي العقول السليمة (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فروي عن أنس بن مالك قال خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبة ما سمعنا مثلها قط فقال لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا قال فغطى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجوههم لهم حنين فقال رجل : من أبي؟ فقال فلان فنزلت هذه الآية (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) وفي رواية أخرى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر فقام على المنبر فذكر الساعة فذكر فيها أمورا عظاما ثم قال : من أحب أن يسألني عن شيء فليسأل ، فلا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي فأكثر الناس البكاء وأكثر أن يقول سلوا فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال : من أبي؟ فقال : أبوك حذافة. ثم أكثر أن يقول سلوني فبرك عمر على ركبتيه فقال : «رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا» فسكت ثم قال : عرضت علي الجنة والنار أنفا في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر. قال ابن شهاب : فأخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة ما سمعت بابن قط أعق منك أمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما تقارف أهل الجاهلية فتفضحها عن أعين الناس؟ فقال عبد الله بن حذافة : لو ألحقني بعبد أسود للحقته زاد في رواية أخرى قال قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أخرجاه في الصحيحين (خ).

عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء فيقول الرجل : من أبي؟ ويقول الرجل : تضل ناقته أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) الآية كلها وقيل نزلت هذه الآية في شأن الحج عن علي بن أبي طالب قال لما نزلت (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل عام؟ فسكت فقالوا يا رسول الله في كل عام؟ قال : لا ولو قلت نعم لوجبت فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب (م).

٨٢

عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله فقال : يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا. فقال رجل : أفي كل عام؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ثم قال : ذروني ما تركتكم ولو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذ نهيتكم عن شيء فاجتنبوه».

وروى مجاهد عن ابن عباس : لا تسألوا عن أشياء قال هي البحيرة والوصيلة والسائبة والحام ألا ترى أنه يقول بعد ذلك ما جعل الله من بحيرة ولا كذا ولا كذا وقال عكرمة : إنهم كانوا يسألون عن الآيات فنهوا عن ذلك ثم قال قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرون ومعنى الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) جمع شيء (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ) أي تظهر لكم وتبن لكم (تَسُؤْكُمْ) يعني إن أمرتم بالعمل بها فإن من سأل عن الحج لم يأمن أن يؤمر به فلا يقدر عليه فيسوءه ذلك ومن سأل عن نسبه لم يأمن أن يلحقه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير أبيه فيفتضح ويسوءه ذلك (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) معناه : إن صبرتم حتى ينزل القرآن بحكم من فرض أو نهي أو حكم وليس في ظاهره شرح ما تحتاجون إليه ومست حاجتكم إليه فإذا سألتم عنه فحينئذ يبدي لكم ، ومثال هذا : أن الله عزوجل لما بيّن عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل ولم يكن في عدد هؤلاء دليل على عدة التي ليست ذات قرء ولا حامل فسألوا عنها فأنزل الله عزوجل جوابهم في قوله (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) الآية (عَفَا اللهُ عَنْها) يعني عن مسألتكم عن الأشياء التي سألتم عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي كره الله لكم السؤال عنها فلم يؤاخذكم بها ولم يعاقبكم عليها (وَاللهُ غَفُورٌ) يعني لمن تاب منكم (حَلِيمٌ) فلا يعجل بعقوبتكم. وقال عطاء : غفور يعني لما كان في الجاهلية. حليم : يعني عن عقابكم منذ آمنتم وصدقتم. وقال بعض العلماء : الأشياء التي يجوز السؤال عنها ، هي ما يترتب عليها أمر الدين والدنيا من مصالح العباد وما عدا ذلك فلا يجوز السؤال عنه (ق).

عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته (ق).

عن المغيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال» عن معاوية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نهى عن الأغلوطات» أخرجه أبو داود. والأغلوطات صعاب المسائل التي تزل فيها أقدام العلماء ويؤيد ذلك قول أبي هريرة : شرار الناس الذين يسألون عن شرار المسائل كي يغلطوا بها العلماء. عن سلمان قال سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشياء فقال «الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه فلا تتكلفوا» وعن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تقربوها وترك أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» هذان الحديثان أخرجهما في جامع الأصول ولم يعزهما إلى الكتب الستة ثم قال تعالى :

(قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢) ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣))

(قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) قال المفسرون : يعني قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها فأصبحوا بها كافرين ، وقوم موسى قالوا : أرنا الله جهرة ، فكان هذا السؤال وبالا عليهم ، وقوم عيسى ، سألوا نزول المائدة عليهم ثم كذبوها. كأنه تعالى يقول : إن أولئك سألوا فلما أعطوا سؤلهم كفروا به فلا تسألوا أنتم شيئا فلعلكم إن أعطيتم سؤلكم ساءكم ذلك.

٨٣

قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ) أي ما أنزل الله ولا حكم به ولا شرعه ولا أمر به (مِنْ بَحِيرَةٍ) البحيرة : من البحر وهو الشق. يقال : بحر ناقته إذا شق أذنها فهي فعلية بمعنى مفعولة (وَلا سائِبَةٍ) يعني المسيبة المخلاة (وَلا وَصِيلَةٍ) الوصيلة : الشاة وكانت العرب في الجاهلية إذا ولدت لهم ذكرا أو أنثى قالوا وصلت أخاها (وَلا حامٍ) الحام : هو الفحل من الإبل يحمى ظهره فلا يركب ولا ينتفع به. قال ابن عباس : في بيان هذه الأوصاف ، البحيرة : هي الناقة إذا ولدت خمسة أبطن لم يركبوها ولم يجزّوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلأ ثم نظروا إلى خامس ولدها فإن كان ذكرا نحروه وأكله الرجال والنساء وإن كانت أنثى شقوا أذنها وتركوها وحرموا على الناس منافعها. وكانت منافعها للرجال خاصة فإذا ماتت حلت الرجال والنساء. وقيل كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة سنة إناثا سيبت فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم سيب مع أمها ويفعل بها ما يفعل بأمها. وقيل : السائبة البعير الذي يسيب لآلهتهم وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية كان إذا مرض أو غاب له قريب نذر ، فقال : ٧ ن شفاني الله أو شفى الله مريضي أو قدم غائبي فناقتي هذه سائبة ثم يسيبها ، فلا تحبس عن ماء ولا مرعى ولا يركبها أحد ، فهي بمنزلة البحيرة والوصيلة من الغنم. كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن نظروا فإن كان السابع ذكر ذبحوه وأكل منه الرجال والنساء وإن كانت أنثى تركوها في الغنم وإن كانت ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها واستحيوا الذكر فلم يذبحوه من أجل الأنثى والحامي هو الفحل إذا ركب ولد ولده. وقيل : هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة أبطن. قالوا : حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى فإذا مات أكله الرجال والنساء (ق) عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء. قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار. ولمسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخا بني كعب وهو يجر قصبه في النار (خ) عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأيت جهنم تحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب. القصب بضم القاف وسكون الصاد المهملة الأمعاء كانت الجاهلية تفعل هذا في جاهليتهم فلما بعث الله عزوجل نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبطل ذلك بقوله ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام يعني ما بحر الله من بحيرة ولا سيب من سائبة ولا وصل من وصيلة ولا حمى من حام ولا أذن فيه ولا أمر به ولكنكم أنتم فعلتم ذلك من عند أنفسكم (خ) عن ابن مسعود أن أهل الإسلام لا يسيبون وأن أهل الجاهلية كانوا يسيبون.

وقوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) يعني بقولهم إن الله أمرنا بهم (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أراد بالأكثر الاتباع يعني أن الاتباع لا تعقل أن هذا كذب وافتراء من الرؤساء على الله عزوجل :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤))

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) يعني : وإذا قيل لهؤلاء الذين بحروا البحائر وفعلوا هذه الأشياء أضافوها إلى الله كذبا تعالوا إلى ما أنزل الله يعني في كتابه وإلى الرسول يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أنزل عليه كتابه ليبين لكم كذب ما تضيفونه إلى الله ويبين لكم الشرائع والأحكام وإن الذي تفعلونه ليس بشيء (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) يعني قد اكتفينا بما أخذنا عنهم من الدين ونحن لهم تبع قال الله ردا عليهم (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) يعني إنما يصح الاقتداء بالعالم المهتدي الذي يبني قوله على الحجة والبرهان والدليل وأن آباءهم ما كانوا كذلك فيصح اقتداؤهم بهم قوله عزوجل :

٨٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال بعض العلماء : هذا أمر من الله تعالى ومعناه احفظوا أنفسكم من ملابسة الذنوب والإصرار على المعاصي لأنك إذا قلت عليك زيدا معناه الزم زيدا وقيل معناه عليكم أنفسكم فأصلحوها واعملوا في خلاصها من عذاب الله عزوجل. وانظروا لها ما يقربها من الله عزوجل. لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، يعني لا يضركم كفر من كفر إذا كنتم مهتدين وأطعتم الله عزوجل فيما أمركم به ونهاكم عنه.

قال سعيد بن جبير ومجاهد : نزلت هذه الآية في أهل الكتاب اليهود والنصارى يعني عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب فخذوا منهم الجزية واتركوهم. وقيل : لما قبلت الجزية من أهل الكتاب قال بعض الكفار : كيف تقبل الجزية من بعض دون بعض؟ فنزلت هذه الآية. وقيل : إن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار على كفرهم فقيل لهم : عليكم أنفسكم واجتهدوا في صلاحهم لا يضركم ضلال الضالين ولا جهل الجاهلين إذا كنتم مهتدين. فإن قلت هل يدل ظاهر هذه الآية على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قلت : لا يدل على ذلك والذي عليه أكثر الناس أن المطيع لربه عزوجل لا يكون مؤاخذا بذنوب أصحاب المعاصي فأما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثابت بدليل الكتاب والسنة. عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ولا تضعونها موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وأخرجه أبو داود زاد فيه : «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب».

وقال قوم في معنى الآية عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم قال ابن مسعود مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم ، ثم قال : إن القرآن نزل منه أي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ومنه أي وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنه أي وقع تأويلهن بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيسير ومنه أي يقع تأويلهن في آخر الزمان ومنه أي يقع تأويلهن يوم القيامة وهو ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة لم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا اختلفت قلوبكم وأهواؤكم وألبستم شيعا وأذيق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية. وقيل لابن عمر لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله يقول «عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم» فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ألا ليبلغ الشاهد الغائب فكنا نحن الشهود وأنت الغائب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم. وعن أبي أمية الشعباني قال أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف نصنع بهذه الآية قال : أية آية قلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام فإن من ورائكم أيام الصبر فمن صبر فيهن قبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم».

٨٥

وفي رواية : «قيل : يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا أو منهم ، قال : لا بل أجر خمسين منكم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وقيل في معنى الآية : إن العبد إذا عمل بطاعة الله واجتنب نواهيه لا يضره من ضل. وقال ابن عباس : قوله «عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم» يقول إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته من الحلال والحرام فلا يضره من ضل بعده إذا عمل بما أمرته به وعن صفوان بن محرز قال : دخل عليّ شاب من أصحاب الأهواء فذكر شيئا من أمره فقلت له : ألا أدلك على خاصة الله التي خص بها أوليائه «يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم» وقال الحسن : لم يكن مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله. وقيل في معنى الآية : لا يضركم من كفر بالله وحاد عن قصد السبيل من أهل الكتاب إذا اهتديتم أنتم. قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في أهل الكتاب. وقال ابن زيد : كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت وكان ينبغي لك أن تنصرهم وتفعل وتفعل فقال الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال الطبري : وأولى هذه الأقوال وأصح التأويلات عندنا في هذه الآية ما روي عن أبي بكر الصديق وهو العمل بطاعة الله وأداء ما لزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم لأن الله تعالى يقول : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) ومن التعاون على البر والتقوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم حتى يرجع عن ظلمه.

وقال عبد الله بن المبارك : هذه الآية أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الله تعالى قال : عليكم أنفسكم يعني أهل دينكم بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والمكروهات والذي يؤكد ذلك أن معنى قوله : عليكم أنفسكم أي احفظوا أنفسكم وهذا أمر بأن نحفظ أنفسنا ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والله أعلم.

وقوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) يعني في الآخرة الطائع والعاصي والضال والمهتدي (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يعني فيخبركم بأعمالكم ويجزيكم عليها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) سبب نزول هذه الآية ما روي أن تميم بن أوس الداري ، وعدي بن بداء ، خرجا من المدينة في تجارة إلى الشام وهما نصرانيان ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلما فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه جميع ما معه من المتاع وألقاه في متاعه ولم يخبر صاحبيه بذلك فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله إذا رجعا إلى المدينة ومات بديل ، ففتشا متاعه ، فوجدا فيه إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فغيباه ، ثم إنهما قضيا حاجتهما وانصرفا إلى المدينة فدفعا المتاع إلى أهل البيت ففتشوه فأصابوا الصحيفة وفيها تسمية ما كان معه فجاء أهل الميت إلى تميم وعدي فقالوا : هل باع صاحبنا شيئا من متاعه قالا : لا. قالوا : فهل أتجر تجارة؟ قالا : لا. قالوا : فهل طال مرضه فأنفق شيئا على نفسه قالا : لا. قالوا : إنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما كان معه وإنا فقدنا إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة قالا : لا ندري إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه وما لنا علم بالإناء فاختصموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأصرا على الإنكار وحلفا فأنزل الله هذه الآية هذا قول المفسرين. وروى الترمذي عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا

٨٦

حضر أحدكم الموت قال تميم برىء الناس منها غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام بتجارتهما قبل الإسلام فأتيا إلى الشام بتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله قال تميم : ولما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي فلما أتينا أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقد الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا ولا دفع إلينا غيره قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم على أهل دينه فحلف فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) إلى قوله (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدي قال الترمذي : هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح.

وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه قال ابن عباس : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم وجدوا الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم قال وفيهم نزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وأخرج هذه الرواية الأخيرة البخاري في صحيحه فأما التفسير فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) يعني ليشهد ما بينكم لأن الشهادة إنما يحتاج إليها عند وقوع التنازع والتشاجر (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) يعني إذا قارب وقت حضور الموت (حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ) لفظه خبر ومعناه الأمر يعني ليشهد اثنان منكم عند حضور الموت وأردتم الوصية (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) يعني من أهل دينكم وملتكم يا معشر المؤمنين واختلفوا في هذين الاثنين فقيل هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي وقيل هما الوصيان لأن الآية نزلت فيهما ولأنه قال تعالى : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) والشاهد لا يلزمه يمين وجعل الوصي اثنين تأكيدا فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور كقولك : شهدت وصية فلان بمعنى حضرت (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) يعني من غير أهل دينكم وملتكم وهذا قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن جبير والنخعي والشعبي وابن سيرين وابن شريح وأكثر المفسرين. وقيل : معناه من غير عشيرتكم وقبيلتكم وهم مسلمون. واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال إبراهيم النخعي وجماعة : هي منسوخة كانت شهادة أهل الذمة مقبولة في الابتداء ثم نسخت بقوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) لأن إجماع الأمة على أن شهادة الفاسق لا تجوز فشهادة الكفار وأهل الذمة لا تجوز بطريق الأولى وذهب قوم إلى أنها ثابتة لم تنسخ وهو قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن جبير وابن سيرين وبه قال أحمد بن حنبل قالوا إذا لم يجد مسلمين يشهدان على وصيته وهو في أرض غربة فليشهد كافرين أو ذميين أو من أي دين كانا لأن هذا موضع ضرورة قال شريح : من كان بأرض غربة لم يجد مسلما يشهد وصيته فليشهد كافرين على أي دين كانا من أهل الكتاب أو من عبدة الأصنام فشهادتهم جائزة في هذا الموضع ولا تجوز شهادة كافر على مسلم بحال إلا على وصيته في سفر لا يجد فيه مسلما. عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه ولم يجد أحدا من المسلمين حضر يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال أبو موسى هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وأنها لوصيته الرجل وتركته فأمضى شهادتهما أخرجه أبو داود. وقال قوم في قوله ذوا عدل منكم يعني من

٨٧

عشيرتكم وحيكم أو آخران من غيركم من غير عشيرتكم وحيكم وأن الآية كلها في المسلمين وهذا قول الحسن والزهري وعكرمة وقالوا لا تجوز شهادة كافر في شيء من الأحكام وهذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة غير أن أبا حنيفة أجاز شهادة أهل الذمة فيما بينهم بعضهم على بعض واحتج من قال بأن هذه الآية محكمة بأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا وليس فيها منسوخ واحتج من أجاز شهادة غير المسلم في هذا الموضع بأن الله تعالى قال في أول الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فعمّ بهذا الخطاب جميع المؤمنين ثم قال بعده (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) فعلم بذلك أنهما من غير المؤمنين ، ولأن الآية دالة على وجوب الحلف على هذين الشاهدين وأجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه يمين ولأن الميت إذا كان في أرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته ضاع ماله وربما كان عليه ديون أو عنده وديعة فيضيع ذلك كله وإذا كان ذلك كذلك احتاج إلى إشهاد من حضر من أهل الذمة وغيرهم من الكفار حتى لا يضيع ماله وتنفذ وصيته فهذا كالمضطر الذي أبيح له أكل الميتة في حال الاضطرار والضرورات قد تبيح شيئا من المحظورات واحتج من منع ذلك بأن الله تعالى قال : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) والكفار ليسوا مرضيين ولا عدولا فشهادتهم غير مقبولة في حال من الأحوال.

وقوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) يعني : إن أنتم سافرتم في الأرض (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) يعني نزل بكم أسباب الموت فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليهما (تَحْبِسُونَهُما) يعني إن اتهمهما بعض الورثة وادعوا عليهما خيانة فالحكم فيه أن يوقفوهما (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) يعني من بعد صلاة العصر لأن جميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويجتنبون فيه الحلف الكاذب وقيل من بعد صلاة أهل دينهم لأنهما إذا كانا كافرين لا يحترمان صلاة العصر (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) يعني فيحلفان بالله. قال الشافعي : الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان فيحلف بعد صلاة العصر إن كان بمكة بين الركن والمقام وإن كان بالمدينة فعند المنبر وإن كان في بيت المقدس فعند الصخرة وفي سائر البلاد في أشرف المساجد وأعظمها بها (إِنِ ارْتَبْتُمْ) يعني إن شككتم أيها الورثة في قول الشاهدين وصدقهما ، فحلّفوهما وهذا إذا كانا كافرين أما إذا كانا مسلمين فلا يمين عليهما لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) يعني لا نبيع عهد الله بشيء من الدنيا ولا نحلف بالله كاذبين لأجل عوض نأخذه أو حق نجحده (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) يعني ولو كان المشهود له ذا قرابة منا وإنما خص القربى بالذكر لأن الميل إليهم أكثر من غيرهم (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) إنما أضاف الشهادة إليه لأنه أمر بإقامتها ونهى عن كتمانها (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) يعني إن كتمنا الشهادة أو خنّا فيها ولما نزلت هذه الآية صلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم العصر ودعا تميما وعديا وحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يخونا شيئا مما دفع إليهما فحلفا على ذلك فخلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبيلهما ثم ظهر الإناء من بعد ذلك قال ابن عباس وجد الإناء بمكة ، فقالوا : اشتريناه من تميم وعدي. وقيل : لما طالت المدة أظهروه فبلغ ذلك بني سهم ، فأتوهما في ذلك ، فقالا : إنا كنا اشتريناه منه. فقالوا لهما : ألم تزعما أن صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه؟ قالا : لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر لكم به فكتمناه لذلك فرفعوهما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨))

(فَإِنْ عُثِرَ) يعني فإن اطلع وظهر والعثور الهجوم على أمر لم يهجم عليه غيره وكل من اطلع على أمر كان قد خفي عليه قيل له قد عثر عليه (عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) يعني الوصيين ومعنى الآية فإن حصل العثور

٨٨

والوقوف على أن الوصيين كانا استوجبا الإثم بسبب خيانتهما وأيمانهما الكاذبة (فَآخَرانِ) يعني من أولياء الميت وأقربائه (يَقُومانِ مَقامَهُما) يعني مقام الوصيين في اليمين (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) يعني من الذين استحق عليهم الإثم وهم الورثة والمعنى إذا ظهرت خيانة الحالفين وبان كذبهما يقوم اثنان آخران من الذين جنى عليهم وهم أهل الميت وعشيرته (الْأَوْلَيانِ) يعني بأمر الميت وهم أهله وعشيرته (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) يعني فيحلفان بالله (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) يعني أيماننا أحق وأصدق من أيمانهما (وَمَا اعْتَدَيْنا) يعني في أيماننا وقولنا إن شهادتنا أحق من شهادتهما (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) ولما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان لو وهما من أهل الميت وحلفا بالله بعد العصر ودفع الإناء إليهما وإنما ردت اليمين على أولياء الميت لأن الوصيين ادعيا أن الميت باعهما الإناء وأنكر ورثة الميت ذلك ومثل هذا أن الوصي إذا أخذ شيء من مال الميت وقال : إنه أوصى له به وأنكر ذلك الورثة ردت اليمين عليه ولما أسلم تميم الداري بعد هذه القصة كان يقول صدق الله وصدق رسوله أنا أخذت الإناء فأنا أتوب إلى الله وأستغفره.

وقوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) يعني ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين على أولياء الميت بعد أيمانهم أدنى ، أي : أجدر وأحرى أن يأتوا بالشهادة على وجهها يعني أن يأتي الوصيان وسائر للناس بالشهادة على وجهها فلا يخونوا فيها (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أي وأقرب أن يخاف الوصيان أن ترد الأيمان على أولياء الميت فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا ويغرّموا فربما لا يحلفون كاذبين إذا خافوا هذه الحكم (وَاتَّقُوا اللهَ) يعني وخافوا الله أن تحلفوا أيمانا كاذبة أو تخونوا أمانة (وَاسْمَعُوا) يعني المواعظ والزواجر وقيل معناه واسمعوا سمع إجابة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) يعني : والله لا يرشد من كان على معصية وهذا تهديد وتخويف ووعيد لمن خالف حكم الله تعالى أو خان أمانته أو حلف أيمانا كاذبة وهذه الآية الكريمة من أصعب ما في القرآن من الآيات نظما وإعرابا وحكما والله أعلم بأسرار كتابه.

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠))

قوله عزوجل : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) قال الزجاج هي متصلة بما قبلها تقديرها : واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل ، وقيل : تقدير : والله لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع الله الرسل. أي لا يهديهم إلى الجنة في ذلك اليوم وهو يوم القيامة وقيل إنها منقطعة عما قبلها وتقديره اذكر يا محمد يوم يجمع الله الرسل ذلك يوم القيامة (فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) يعني فيقول الله تبارك وتعالى للرسل ماذا أجابكم أممكم وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم في دار الدنيا إلى توحيدي وطاعتي وفائدة هذا السؤال توبيخ أمم الأنبياء الذين كذبوهم (قالُوا) يعني الرسل (لا عِلْمَ لَنا) قال ابن عباس : معناه لا علم لنا كعلمك فيهم لأنك تعلم ما أضمروا وما أظهروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا وأبلغ.

فعلى هذا القول ، إنما نفوا العلم عن أنفسهم وإن كانوا علماء لأن علمهم صار كلا علم عند علم الله.

وقال في رواية أخرى : معناه لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا وهذا القول قريب من الأول. وقيل : معناه

٨٩

لا علم لنا بوجه الحكمة عن سؤالك إيانا عن أمر أنت أعلم به منا. وقيل : معناه لا حقيقة لعلمنا بعاقبة أمرهم لأنا كنا نعلم ما كان من أفعالهم وأقوالهم وقت حياتنا ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا ولا نعلم ما أحدثوا من بعدنا ومنه ما أخبر الله عن عيسى عليه‌السلام بقوله : «وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم» ومنه ما روي عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليردن على الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا دوني فلأقولن أي رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» زاد في رواية «فأقول سحقا لمن بدل بعدي» أخرجاه في الصحيحين وقال جمع من المفسرين إن للقيامة أهوالا وزلازل تزول فيها القلوب عن مواضعها فيفزعون من هول ذلك ويذهلون عن الجواب ثم إذا ثابت إليهم عقولهم يشهدون على أممهم بالتبليغ.

وهذا فيه ضعف ونظر لأن الله تعالى قال في حق الأنبياء : «لا يحزنهم الفزع الأكبر» ، وذكر الإمام فخر الدين الرازي وجها آخر وهو أن الرسل عليهم‌السلام لما علموا أن الله تعالى عالم لا يجهل وحليم لا يسفه وعادل لا يظلم علموا أن قولهم لا يفيد خيرا ولا يدفع شرا فرأوا أن الأدب في السكوت وفي تفويض الأمر إلى الله تعالى وعدله فقالوا لا علم لنا (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يعني إنك تعلم ما غاب عنا من بواطن الأمور ونحن نعلم ما نشاهد ولا نعلم ما في البواطن. وقيل معناه إنك لا يخفى عليك ما عندنا من العلوم وأن الذي سألتنا عنه ليس بخاف عليك لأنك أنت علام الغيوب ومعناه العالم بأصناف المعلومات على تفاوتها ليس تخفى عليه خافية وبناء فعال بتاء التكثير ودلت الآية على جواز إطلاق العلام على الله تعالى كما يجوز إطلاق الخلاق عليه.

قوله عزوجل : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) قال بعضهم : إن إذ قال الله تعالى : يا عيسى صلة لما ذا أجبتم ولما كان المراد بقوله للرسل ما أجبتم توبيخ الأمم ومن تمرد منهم على الله وكان أشد الأمم احتياجا وافتقارا إلى التوبيخ والملامة النصارى الذين يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه‌السلام ووجه ذلك أن جميع الأمم إنما كان طعنهم في أنبيائهم بالتكذيب لهم وطعن هؤلاء النصارى تعدي إلى جلال الله تعالى حيث وصفوه بما لا يليق بجلاله من اتخاذ الزوجة والولد. ذكر الله في هذه الآية أنواع نعمه على عيسى عليه‌السلام التي تدل على أنه عبد وليس بإله والفائدة في ذكر هذه الحكاية تنبيه النصارى على قبح مقالتهم وفساد اعتقادهم وتوكيد الحجة عليهم. وقيل : فائدة ذلك إسماع الأمم يوم القيامة ما خص الله عيسى عليه‌السلام به من الكرامة. وقيل : موضع إذا رفع بالابتداء على القطع ومعناه اذكر إذ قال الله : يا عيسى وإنما خرج قوله : إذ قال الله على لفظ الماضي دون المستقبل لأنه ورد على سبيل حكاية الحال. وقيل : تقديره إذ يقول الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك لفظه واحد والمراد به الجمع لأن الله تعالى عدد نعمه عليه في هذه الآية والمراد من ذكرها شكرها (وَعَلى والِدَتِكَ) يعني بنعمته على مريم عليها‌السلام أنه تعالى : أنبتها نباتا حسنا وطهرها واصطفاها على نساء العالمين.

ثم ذكر نعمه على عيسى عليه‌السلام فقال تعالى : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) يعني بجبريل عليه‌السلام لأن القدس هو الله تعالى وأضافه إليه على سبيل التشريف والتعظيم كإضافة بيت الله وناقة الله. وقيل : أراد بروح القدس الروح المطهرة لأن الأرواح تختلف باختلاف الماهية فمنها روح طاهرة مقدسة نورانية ومنها روح خبيثة كدرة ظلمانية فخصّ الله عيسى بالروح المقدسة الطاهرة النورانية المشرفة (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) يعني تكلمهم طفلا في حال الصغر (وَكَهْلاً) يعني وفي حالة الكهولة من غير أن يتفاوت كلامك في هذين الوقتين وهذه معجزة عظيمة وخاصة شريفة ليست لأحد قبله. قال ابن عباس : أرسل الله عيسى عليه‌السلام وهو ابن ثلاثين سنة فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله إليه (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) يعني الكتابة وهي الخط والحكمة الفهم والاطلاع على أسرار العلوم (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي وعلمتك التوراة التي أنزلتها على موسى والإنجيل الذي

٩٠

أنزلته عليك (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) يعني وإذ تجعل وتصور من الطين كصورة (الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها) ذكر هنا فيها سورة آل عمران فيه يعني بالضمير في قوله فيها يعود إلى الهيئة بجعلها مصدرا كما يقع اسم الخلق على المخلوق وذلك لأن النفخ لا يكون في الهيئة إنما يكون في المهيأ وذي الهيئة ويجوز أن يعود الضمير إلى الطير لأنها مؤنثة قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ).

وأما الضمير المذكور في آل عمران في قوله فيه فيعود إلى الكاف يعني في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير (فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) وإنما كرر قوله بإذني تأكيدا لكون ذلك الخلق واقعا بقدرة الله تعالى وتخليقه لا بقدرة عيسى عليه‌السلام وتخليقه لأن المخلوق لا يخلق شيئا إنما خالق الأشياء كلها هو الله تعالى لا خالق لها سواه وإنما كان الخلق لهذا الطير معجزة لعيسى عليه‌السلام أكرمه الله تعالى بها وكذا قوله تعالى : (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) يعني وتشفي الأكمه وهو الأعمى المطموس البصر والأبرص معروف ظاهر (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) يعني من قبورهم أحياء (بِإِذْنِي) تفعل ذلك كله بدعائك والفاعل لهذه الأشياء كلها في الحقيقة هو الله تعالى لأنه هو المبرئ للأكمه والأبرص وهو محيي الموتى وهو على كل شيء قدير وإنما كانت هذه الأشياء معجزات لعيسى عليه‌السلام ووقعت بإذن الله تعالى وقدرته.

وقوله تعالى : (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) يعني واذكر نعمتي عليك إذ كففت وصرفت عنك اليهود ومنعتك منهم حين أرادوا قتلك (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات الباهرات التي ذكرت في هذه الآية وذلك أن عيسى عليه‌السلام لما أتى بهذه المعجزات العجيبة الباهرة قصد اليهود قتله فخلصه الله منهم ورفعه إلى السماء (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) يعني فقال الذين استمروا على كفرهم من اليهود ولم يؤمنوا بهذه المعجزات (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) يعني ما جاءهم به عيسى عليه‌السلام من المعجزات.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢))

قوله عزوجل : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) يعني ألهمتهم وقذفت في قلوبهم فهو وحي إلهام كما أوحى إلى أم موسى وإلى النحل والحواريون هم أصحاب عيسى وخواصه (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) يعني عيسى عليه‌السلام (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) لما وفقهم الله للإيمان ، قالوا : آمنا. وإنما قدم ذكر الإيمان على الإسلام ، لأن الإيمان من أعمال القلوب والإسلام هو الانقياد والخضوع في الظاهر والمعنى أنهم آمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم. قوله تعالى : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) قال المفسرون : هذا على المجاز ولا يجوز لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكّوا في قدرة الله تعالى لكنه كما يقول الرجل لصاحبه هل تستطيع أن تقوم معي؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام وإنما قصد بقوله هل تستطيع هل يسهل عليك وهل يخف أن تقوم معي فكذلك. معنى الآية : لأن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين بالله عزوجل ومعترفين بكمال قدرته وإنما قالوا ذلك ليحصل لهم مزيد الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه‌السلام ولكن ليطمئن قلبي. ولا شك أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث مزيد الطمأنينة في القلب ولهذا السبب قالوا وتطمئن قلوبنا وقال بعضهم هو على ظاهره. وقال : غلط القوم وقالوا ذلك قبل استحكام الإيمان والمعرفة في قلوبهم وكانوا بشرا فقالوا هذه المقالة فرد الله عليهم عند غلطهم بقوله : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعني اتقوا الله إن كنتم مؤمنين يعني اتقوا الله أن تشكوا في قدرة الله عزوجل والقول الأول أصح وقيل في معنى الآية : هل يقبل ربك دعاءك ويعطيك بإجابة

٩١

دعائك وسؤالك إنزال المائدة ، فقد ورد في الآثار : من أطاع الله أطاعه كل شيء (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) المائدة الخوان الذي عليه الطعام ولا يسمى مائدة إن لم يكن عليه طعام إنما يقال خوان أو طبق وأصلها من ماد يميد إذا تحرك كأنها تميد بما عليها من الطعام (قالَ) يعني عيسى مجيبا للحواريين (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعني اتقوا الله في هذا السؤال إن كنتم مؤمنين لأنه سؤال تعنت وقيل : أمرهم بالتقوى ليحصل لهم هذا السؤال ومعنى إن كنتم مؤمنين مصدقين فلا تشكوا في قدرة الله تعالى وقيل معناه اتقوا الله أن تسألوا شيئا لم يسأله أحد من الأمم قبلكم فنهاهم عن اقتراح الآية بعد الإيمان.

(قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

(قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) يعني : قال الحواريون مجيبين لعيسى عليه‌السلام إنما نطلب نزول المائدة علينا لأن نأكل منها فإن الجوع قد غلب علينا. وقيل : معناه نريد أن نأكل منها للتبرك بها لا أكل حاجة (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) يعني وتسكن قلوبنا ونستيقن قدرة الله تعالى لأنا ، وإن علمنا قدرة الله بالدليل ، فإذا شاهدنا نزول المائدة ازداد اليقين وقويت الطمأنينة (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) يعني : ونزداد إيمانا ويقينا بأنك رسول الله (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) يعني لله بالوحدانية ولك بالرسالة والنبوة. وقيل : معناه ونكون لك عليها من الشاهدين عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم ، فلما قالوا ذلك ، أمرهم عيسى أن يصوموا ثلاثين يوما وقال لهم : إنكم إذا صمتم ذلك وأفطرتم فلا تسألون الله شيئا إلا أعطاكم ، ففعلوا ذلك وسألوا نزول المائدة فعند ذلك (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَ) قيل : إنه اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وبكى ثم دعا فقال اللهم (رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) يعني عائدة من الله علينا وحجة وبرهانا والعيد يوم السرور وأصله من عاد يعود إذا رجع والمعنى نتخذ ذلك اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيدا لعظمه ونصلي فيه نحن ومن يجيء من بعدنا فنزلت في يوم الأحد فاتخذه النصارى عيدا. وقال ابن عباس : معناه يأكل منها أول الناس كما يأكل آخرهم (وَآيَةً مِنْكَ) أي وتكون المائدة دلالة على قدرتك دلالة على قدرتك ووحدانيتك وحجة بصدق رسولك (وَارْزُقْنا) أي ارزقنا ذلك من عندك وقيل : ارزقنا الشكر على هذه النعمة (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) يعني وأنت خير من تفضل ورزق (قالَ اللهُ) عزوجل مجيبا لعيسى (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) يعني المائدة (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) يعني بعد نزول المائدة (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً) يعني جنسا من العذاب (لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) يعني من عالمي زمانهم فجحدوا وكفروا بعد نزول المائدة فمسخوا خنازير. قال الزجاج : ويجوز أن يكون هذا العذاب معجلا في الدنيا ويجوز أن يكون مؤخرا إلى الآخرة. قال عبد الله بن عمر : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون. واختلف العلماء في نزول المائدة فقال الحسن ومجاهد : لم تنزل المائدة لأن الله لما أوعدهم على كفرهم بالعذاب بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم فاستعفوا وقالوا : لا نريدها فلم تنزل عليهم فعلى هذا القول يكون معنى قوله تعالى : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) إن سألتم نزولها والصحيح الذي عليه جمهور العلماء والمفسرين أنها نزلت لأن الله تعالى قال : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) وهذا وعد من الله بإنزالها ولا خلف في خبره ووعده ولما روي عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد ، فمسخوا قردة وخنازير

٩٢

أخرجه الترمذي. وقال قد روي عن عمار من غير طريق موقوفا وهو أصح. وقال ابن عباس : إن عيسى عليه‌السلام قال لهم : صوموا ثلاثين يوما ثم اسألوا الله ما شئتم يعطيكموه فصاموا فلما فرغوا قالوا يا عيسى إنا لو عملنا عملا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا وسألوا المائدة فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. وقال سليمان الفارسي : لما سأل الحواريون المائدة لبس عيسى صوفا وبكى وقال : اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء الآية ، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي تهوي إليهم منقضّة حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه‌السلام وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة واليهود ينظرون إلى شيء لم ينظروا مثله ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه فقال عيسى عليه‌السلام ليقم أحسنكم عملا فليكشف عنها ويسمّ الله. فقال شمعون الصفار رأس الحواريين : أنت أولى بذلك منا. فقام عيسى عليه‌السلام فتوضأ وصلى صلاة طويلة وبكى بكاء كثيرا ثم كشف المنديل عنها وقال بسم الله خير الرازقين ، فإذا هو بسمكة مشوية ليس فيها شوك ولا عليها فلوس تسيل من الدسم وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد. فقال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال عيسى : ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الجنة ولكنه شيء اخترعه الله بقدرته العالية. كلوا مما سألتم واشكروا يمددكم ويزدكم من فضله. فقالوا : يا روح الله كن أول من يأكل منها فقال عيسى : معاذ الله أن آكل منها يأكل منها من سألها ، فخافوا أن يأكلوا منها فدعا لها أهل الفاقة والمرض والبرص والجذام والمقعدين فقال : كلوا من رزق الله لكم الشفاء ولغيركم البلاء ، فأكلوا منها وهم ألف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير ومريض وزمن ومبتلى وصدروا عنها وهم شباع ، وإذا السمكة بحالها حين أنزلت ثم طارت المائدة صعودا وهم ينظرون إليها حتى توارت ولم يأكل منها مريض أو زمن أو مبتلى إلا عوفي ولا فقير إلا استغنى. وندم من لم يأكل منها.

وقيل : مكثت أربعين صباحا تنزل ضحى فإذا نزلت اجتمع إليها الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء يأكلون منها ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتى يفيء الفيء ، فإذا فاء الفيء ، طارت وهم ينظرون إليها حتى تتوارى عنهم وكانت تنزل غبا يوما ويوما لا تنزل فأوحى الله عزوجل إلى عيسى عليه‌السلام اجعل مائدتي ورزقي للفقراء دون الأغنياء فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكوا وشككوا الناس فيها وقالوا : ترون المائدة حقا تنزل من السماء ، فأوحى الله عزوجل إلى عيسى عليه‌السلام إني شرطت أن من كفر بعد نزولها عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فقال عيسى عليه‌السلام عند ذلك «إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم» فمسخ الله منهم ثلاثمائة وثلاثين رجلا باتوا ليلتهم مع نسائهم على فرشهم ثم أصبحوا خنازير يسعون في الطرق يأكلون العذرة من الكناسات والحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعموا إلى عيسى عليه‌السلام وبكوا ولما أبصرت الخنزير عيسى عليه‌السلام بكت وجعلت تطيف به وجعل عيسى عليه‌السلام يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برءوسهم ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا. وقال كعب : أنزلت المائدة منكوسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل شيء إلا اللحم وقال ابن عباس : أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم. وقال الكلبي : كان عليها خبز بر وبقل. وقال وهب بن منبه : أنزل الله أقرصة من شعير وحيتانا فكان القوم يأكلون ويخرجون ثم يجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوا بأجمعهم وفضل. وقال قتادة : كانت تنزل عليهم بكرة وعشيا حيث كانوا كالمن والسلوى لبني إسرائيل. وقال الكلبي ومقاتل : أنزل الله سمكا وخمسة أرغفة فأكلوا منها ما شاء الله والناس ألف ونيف فلما رجعوا إلى قراهم ونشروا الحديث ضحك من لم يشهد منهم وقالوا ويحكم إنما سحر أعينكم فمن أراد الله به خيرا ثبته ومن أراد فتنته رجع إلى كفره فمسخوا خنازير وليس فيهم

٩٣

صبي ولا امرأة فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا وكذلك كل ممسوخ.

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦))

قوله عزوجل : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية اختلف المفسرون في وقت هذا القول فقال السدي : قال الله لعيسى هذا القول حين رفعه إلى السماء بدليل أن حرف إذ يكون للماضي وقال سائر المفسرين : إنما يقول الله له هذا القول يوم القيامة بدليل قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) وذلك يوم القيامة وبدليل قوله (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) وذلك يوم القيامة وأجيب عن حرف إذ بأنها قد تجيء بمعنى إذا كقوله (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) يعني إذ فزعوا وقال الراجز ثم جزاك الله عني إذا جزى.

جنات عدن في السموات العلى ولفظ الآية في قوله : أأنت قلت للناس لفظ استفهام ومعناه الإنكار والتوبيخ لمن ادعى ذلك على عيسى عليه‌السلام من النصارى ، لأن عيسى عليه‌السلام لم يقل هذه المقالة ، فإن قلت إذا كان عيسى عليه‌السلام لم يقلها فما وجه هذا السؤال له مع علم الله بأنه لم يقله؟ قلت : وجه هذا السؤال تثبيت الحجة على قومه وإكذاب لهم في ادعائهم ذلك عليه وأنه أمرهم به فهو كما يقول القائل لآخر : أفعلت كذا؟ وهو يعلم أنه لم يفعله وإنما أراد تعظيم ذلك الفعل فنفى عن نفسه هذه المقالة. وقال : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم فاعترف بالعبودية وأنه ليس بإله كما زعمت وادعت فيه النصارى فإن قلت إن النصارى لم يقولوا بإلهية مريم ، فكيف قال : اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قلت إن النصارى لما ادعت في عيسى أنه إله ورأوا أن مريم ولدته لزمهم بهذه المقالة على سبيل التبعية وقوله تعالى إخبارا عن عيسى عليه‌السلام (قالَ سُبْحانَكَ) يعني تنزيها لك عن النقائص وبراءة لك من العيوب قال أبو روق إذا سمع عيسى عليه‌السلام (قالَ سُبْحانَكَ) يعني تنزيها لك عن النقائص وبراءة لك من العيوب قال أبو روق إذا سمع عيسى عليه‌السلام هذا الخطاب وهو قوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) ارتعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة من جسده عين من دم وقال مجيبا لله تعالى سبحانك (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) أي كيف أقول هذا الكلام ولست بأهل ولست أستحق العبادة حتى ادعو الناس إليها ولما بيّن أنه ليس له أن يقول هذه المقالة وهذا المقام مقام التواضع والخشوع لعظمة الله تعالى شرع في بيان هل وقع ذلك منه أم لا؟ فقال : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) أسند العلم إلى الله تعالى وهذا هو غاية الأدب وإظهار المسكنة لعظمة الله تعالى وتفويض الأمر إلى علمه ثم قال (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) يعني تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم وقال ابن عباس تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك وقيل معناه تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي وقيل معناه تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة وقيل معناه تعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل والنفس عبارة عن ذات الشيء يقال نفس الشيء وذاته بمعنى واحد. وقال الزجاج : النفس عبارة عن جملة الشيء وحقيقته يقال تعلم جميع حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك. وقيل : معناه تعلم معلومي ولا أعلم معلومك وإنما ذكر هذا الكلام على طريقة المشاكلة والمطابقة وهو من فصيح الكلام ثم قال : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يعني أنك تعلم ما كان وما سيكون وهذا تأكيد لما تقدم من قوله تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك.

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ

٩٤

أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨))

قوله تعالى إخبارا عن عيسى (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) يعني ما قلت لهم إلا قولا أمرتني به (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) يعني قلت لهم اعبدوا الله (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) يعني وحده ولا تشركوا به شيئا (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) يعني وكنت أشهد ما يفعلون وأحصره ما دمت مقيما فيهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) يعني فلما رفعتني إلى السماء فالمراد به وفاة الرفع لا الموت (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) يعني الحفيظ عليهم المراقب لأعمالهم وأحوالهم والرقيب الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) يعني أنت شهدت مقالتي التي قلتها لهم وأنت الشهيد عليهم بعد ما رفعتني إليك لا تخفى عليك خافية فعلى هذا الشهيد هنا بمعنى الشاهد لما كان وما يكون أن يجوز أن يكون الشهيد هنا بمعنى العليم يعني أنت العالم بكل شيء فلا يعزب عن علمك شيء.

قوله عزوجل إخبارا عن عيسى عليه‌السلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) يعني إن تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة بأن تميتهم على كفرهم (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) لا يقدرون على دفع ضر نزل بهم ولا جلب نفع لأنفسهم وأنت العادل فيهم لأنك أوضحت لهم طريق الحق فرجعوا عنه وكفروا (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) يعني لمن تاب من كفره منهم بأن تهديه إلى الإيمان فإن ذلك بفضلك ورحمتك (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) يعني في الانتقام ممن تريد الانتقام منه لا يمتنع عليك ما تريده (الْحَكِيمُ) في أفعالك كلها وهذا التفسير إنما يصح على قول السدي لأنه قال كان سؤال الله عزوجل لعيسى عليه‌السلام حين رفعه إلى السماء قبل يوم القيامة. أما على قول جمهور المفسرين إن هذا السؤال إنما يقع يوم القيامة ففي قوله (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إشكال وهو أنه يليق بعيسى عليه‌السلام طلب المغفرة لهم مع علمه بأن الله تعالى لا يغفر لمن يموت على الشرك والجواب عن هذا الإشكال من وجوه أحدها أنه ليس هذا على طريق طلب المغفرة ولو كان كذلك لقال فإنك أنت الغفور الرحيم ولكنه على تسليم الأمر إلى الله وتفويضه إلى مراده فيهم لأنه العزيز في ملكه الحكيم في فعله ويجوز في حكمته وسعة مغفرته ورحمته أن يغفر للكفار ، لكنه تعالى أخبر أنه لا يفعل ذلك بقوله (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الوجه الثاني : قيل معناه أن تعذبهم يعني إقامتهم على كفرهم إلى الموت وإن تغفر لهم يعني لمن آمن منهم وتاب ورجع عن كفره ، الوجه الثالث : قال ابن الأنباري : لما قال الله لعيسى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ). لم يقع لعيسى إلا أن النصارى حكت عنه الكذب لأنه لم يقل ذلك وقول الكذب ذنب فيجوز أن يسأل له المغفرة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قول الله عزوجل في إبراهيم (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) الآية وقول عيسى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فرفع يديه وقال اللهم أمتي أمتي فبكى فقال الله تعالى : يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فاسأله ما يبكيك ، فأتاه جبريل عليه‌السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما قال وهو أعلم فقال يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك. عن أبي ذر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام حتى أصبح بآية والآية (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أخرجه النسائي قوله عزوجل :

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) اتفق جمهور العلماء على أن المراد بهذا اليوم يوم القيامة

٩٥

والمعنى أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في الآخرة لأنه يوم الإثابة والجزاء وما تقدم من صدقهم في الدنيا يتبين نفعه يوم القيامة والمراد بالصادقين النبيون والمؤمنون لأن الكفار لا ينفعهم صدقهم يوم القيامة. قال قتادة : متكلمان لا يخطئان يوم القيامة عيسى عليه‌السلام لأنه يقوم فيقول ما قص الله عنه ما قلت لهم إلا ما أمرتني به الآية فكان صادقا في الدنيا والآخرة فينفعه صدقه. وأما المتكلم الآخر فإبليس فإنه يقوم فيقول وقال الشيطان لما قضى الأمر الآية فصدق عدو الله فيما قال ولم ينفعه صدقه. وقال عطاء هو يوم من أيام الدنيا لأن الآخرة دار جزاء لا دار عمل وذهب في هذا القول إلى ظاهر الآية من أن الصدق النافع إنما يكون في الدنيا وهذا القول موافق لمذهب السدي حيث يقول إن هذه المخاطبة جرت مع عيسى عليه‌السلام حين رفع إلى السماء ، والوجه ما ذهب إليه الجمهور ثم ذكر الله تعالى ما لهم من الثواب على صدقهم فقال تعالى : (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) فهذا إشارة إلى ما يحصل من الثواب الدائم الذي لا انقطاع له ولا انتهاء (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) يعني بطاعتهم لهم (وَرَضُوا عَنْهُ) يعني بما أعطاهم من ثوابه وجزيل كرامته (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكره من ثوابهم (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يعني أنهم فازوا بالجنة وبرضوانه عنهم ونجوا من النار (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ) عظم الله عزوجل نفسه عما قال فيه النصارى يعني ، أن الذي له ملك السموات والأرض هو الذي يستحق الإلهية لا ما قالت النصارى من إلهة المسيح وأمه لأنهما جملة من في السموات والأرض فهما عبيده وفي ملكه. وقيل : هو جواب السؤال مضمر في الكلام كأنه لما وعد الصادقين بالثواب العظيم قيل من يعطيهم ذلك قال الذي له ملك السموات والأرض ومن فيهن (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

٩٦

سورة الأنعام

(فصل في ذكر نزولها)

روى مجاهد عن ابن عباس أن سورة الأنعام مما نزل بمكة وهذا قول الحسن وقتادة وجابر بن زيد. وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نزلت سورة الأنعام جملة ليلا بمكة وحولها سبعون ألف ملك وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هي مكية نزلت جملة واحدة نزلت ليلا وكتبوها من ليلتهم غير ست آيات منها فإنها مدنيات وهي قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى آخر الثلاث آيات وقوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الآية وقوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) إلى آخر الآيتين وذكر مقاتل نحو هذا وزاد آيتين وهما قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) الآية وقوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) الآية وروي عن ابن عباس أيضا وقتادة أنهما قالا : هي مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة قوله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) الآية ولما نزلت سورة الأنعام ومعها سبعون ألف ملك قد سدوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم وخرّ ساجدا» قال البغوي وروي عنه مرفوعا من قرأ سورة الأنعام صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره وذكره بغير سند والله سبحانه وتعالى أعلم.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١))

قوله عزوجل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) قال كعب الأحبار : هذه الآية أول آية في التوراة وآخر آية في التوراة قوله تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) الآية وفي رواية عنه أن آخر آية في التوراة آخر سورة هود قال ابن عباس : افتتح الله الخلق بالحمد فقال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وختمه بالحمد فقال تعالى : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وفي قوله : الحمد لله ، تعليم لعباده كيف يحمدونه أي : قولوا الحمد لله. وقال أهل المعاني لفظه خبر ومعناه الأمر أي احمدوا الله وإنما جاء على صيغة الخبر وفيه معنى الأمر لأنه أبلغ من البيان من حيث إنه جمع الأمرين ولو قيل احمدوا الله لم يجمع الأمرين فكان قوله الحمد لله أبلغ وقد تقدم معنى الحمد في تفسير سورة فاتحة الكتاب بما فيه مقنع الذي خلق السموات والأرض أي احمدوا الله خلق السموات والأرض وإنما خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد لأن السماء بغير عمد ترونها وفيها العبر والمنافع والأرض مسكن الخلق وفيها أيضا العبر والمنافع (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) الجعل هنا بمعنى الخلق أي وخلق الظلمات والنور. قال السدي : يريد بالظلمات ، ظلمات الليل والنهار ، وبالنور ، نور النهار. وقال الحسن : يعني بالظلمات الكفر وبالنور الإيمان. وقيل : يعني بالظلمات

٩٧

الجهل وبالنور العلم. وقيل : الجنة والنار. وقال قتادة : خلق الله السموات قبل الأرض وخلق الظلمات قبل النور وخلق الجنة قبل النار.

روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه ضل» ذكره البغوي بغير سند (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) يعني والذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يشركون وأصل العدل ، مساواة الشيء بالشيء. والمعنى : أنهم يعدلون بالله غير الله ويجعلون له عديلا من خلقه فيعبدون الحجارة مع إقرارهم بأن الله خلق السموات والأرض. وقال النضر بن شميل : الباء في قوله بربهم بمعنى عن أي عن ربهم يعدلون وينحرفون من العدول عن الشيء وقيل دخول ثم في قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون دليل على معنى لطيف وهو أنه تعالى دل به على إنكاره على الكفار العدل به وعلى تعجيب المؤمنين من ذلك ومثال ذلك : أن تقول لرجل أكرمتك وأحسنت إليك وأنت تنكرني وتجحد إحساني إليك فتقول ذلك منكرا عليه ومتعجبا من فعله قوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) يعني أنه تعالى خلق آدم من طين وإنما خاطب ذريته بذلك لأنه أصلهم وهم من نسله وذلك لما أنكر المشركون البعث وقالوا من يحيي العظام وهي رميم أعلمهم بهذه الآية أنه خلقهم من طين وهو القادر على إعادة خلقهم وبعثهم بعد الموت. قال السدي : لما أراد الله عزوجل أن يخلق آدم بعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بقبضة منها ، فقالت الأرض : إني أعوذ بالله منك أن تقبض مني فراجع ولم يأخذ منها شيئا فقال : يا رب عاذت بك فبعث الله ميكائيل فاستعاذت فرجع فبعث الله ملك الموت فعاذت منه فقال : وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره وأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء ؛ فلذا اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم ثم قال الله لملك الموت رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم اجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب» أخرجه أبو داود والترمذي وأما قوله تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) فاختلف العلماء في معنى ذلك فقال الحسن وقتادة والضحاك : الأجل الأول ، من وقت الولادة إلى وقت الموت. والأجل الثاني : من وقت الموت إلى البعث ، وهو البرزخ.

ويروى نحو ذلك عن ابن عباس قال : لكل أحد أجلان : أجل إلى الموت ، وأجل من الموت إلى البعث ، فإن كان الرجل برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث إلى أجل العمر ، وإن كان فاجرا قاطعا للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث وذلك قوله : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) وقال مجاهد وسعيد بن جبير : الأجل الأول أجل الدنيا ، والأجل الثاني أجل الآخرة. وقيل : الأجل هو الوقت المقدر فأجل كل إنسان مقدر معلوم عند الله لا يزيد ولا ينقص.

والأجل الثاني : هو أجل القيامة وهو أيضا معلوم مقدر عند الله لا يعلمه إلا الله تعالى وقال ابن عباس في رواية عطاء عنه ثم قضى أجلا يعني النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع عند الانتباه وأجل مسمى عنده هو أجل الموت وقيل هما واحد ومعناه ثم قضى أجلا يعني قدّر مدة لأعماركم تنتهون إليها وهو أجل مسمى عنده يعني أن ذلك الأجل عنده لا يعلمه إلا هو والمراد بقوله عنده يعني في اللوح المحفوظ الذي لا يطلع عليه غيره (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) يعني ثم أنتم تشكون في البعث.

٩٨

قوله عزوجل : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) يعني وهو إله السموات وإله الأرض. وقيل : معناه وهو المعبود في السموات وفي الأرض. وقال محمد بن جرير الطبري : معناه وهو الله في السموات (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) في الأرض. وقال الزجاج : فيه تقديم وتأخير تقديره وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض. وقيل : معناه وهو المنفرد بالتدبير في السموات وفي الأرض لا شريك له فيهما. والمراد بالسر ، ما يخفيه الإنسان في ضميره فهو من أعمال القلوب وبالجهر ما يظهره الإنسان فهو من أعمال الجوارح والمعنى : أن الله لا يخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) يعني من خير أو شر ، بقي في الآية سؤال وهو أن الكسب إما أن يكون من أعمال القلوب وهو المسمى بالسر أو من أعمال الجوارح وهو المسمى بالجهر فالأفعال لا تخرج عن هذين النوعين يعني السر والجهر فقوله ويعلم ما تكسبون يقتضي عطف الشيء على نفسه وذلك غير جائز فما معنى ذلك وأجيب عنه بأنه يجب حمل قوله ويعلم ما تكسبون على ما يستحقه الإنسان على فعله وكسبه من الثواب والعقاب والحاصل فيه أنه محمول على المكتسب فهو كما يقال : هذا المال كسب فلان أي مكتسبه ولا يجوز حمله على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه ذكره الإمام فخر الدين.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))

(وَما تَأْتِيهِمْ) يعني أهل مكة (مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) يعني من المعجزات الباهرات التي جاء بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل انشقاق القمر وغير ذلك وقيل المراد بالآيات آيات القرآن (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) يعني إلا كانوا لها تاركين وبها مكذبين (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) يعني بآيات القرآن وقيل بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما أتى به من المعجزات (لَمَّا جاءَهُمْ) يعني لما جاءهم الحق من عند ربهم كذبوا به (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يعني فسوف يأتيهم أخبار استهزائهم إذا عذبوا في الآخرة.

قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا) الخطاب لكفار مكة يعني ألم ير هؤلاء المكذبون بآياتي (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) يعني مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم الماضية والقرون الخالية. والقرن الأمة من الناس وأهل كل زمان قرن سموا بذلك لاقترانهم في الوجود في ذلك الزمان وقيل سمي قرنا لأنه زمان بزمان وأمة بأمة واختلفوا في مقدار القرن ، فقيل : ثمانون سنة. وقيل : ستون سنة. وقيل : أربعون سنة. وقيل : مائة وعشرون ، وقيل : مائة سنة. وهو الأصح لما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعبد الله بن بشر المازني : إنك تعيش قرنا فعاش مائة سنة. فعلى هذا القول : المراد بالقرن أهله الذين وجدوا فيه ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم يعني أصحابي وتابعيهم وتابعي التابعين (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) يعني أعطيناهم ما لم نعطكم يا أهل مكة وقيل أمددناهم في العمر والبسطة في الأجسام والسعة في الأرزاق مثل إعطاء قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) مفعال من الدر يعني وأرسلنا المطر متتابعا في أوقات الحاجة إليه والمراد بالسماء المطر سمي بذلك لنزوله منها (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) يعني : وفجرنا لهم العيون تجري من تحتهم والمراد منه كثرة البساتين (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) يعني بسبب ذنوبهم وكفرهم (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) يعني وخلفنا من بعد هلاك أولئك أهل قرن آخرين وفي هذه الآية ما يوجب الاعتبار والموعظة بحال من مضى من الأمم السالفة والقرون الخالية فإنهم مع ما كانوا فيه من القوة وسعة

٩٩

الرزق وكثرة الأتباع أهلكناهم لما كفروا وطغوا وظلموا فكيف حال من هو أضعف منهم وأقل عددا وعددا وهذا يوجب الاعتبار والانتباه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة.

قوله عزوجل : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) الآية. قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد قالوا يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وإنك رسوله فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) يعني من عندي يعني مكتوبا في قرطاس وهو الكاغد والصحيفة التي يكتب فيها (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) يعني فعاينوه ومسوه بأيديهم وإنما ذكر اللمس ، ولم يذكر المعاينة ، لأنه أبلغ في إيقاع العلم بالشيء من الرؤية ، لأن المرئيات قد يدخلها التخيلات كالبحر ونحوه بخلاف الملموس (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) يعني لو أنزلنا عليهم كتابا كما سألوه لما آمنوا به ولقالوا هذا سحر مبين كما قالوا في انشقاق القمر وأنه لا ينفع معهم شيء لما سبق فيهم من علمي بهم.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١))

(وَقالُوا) يعني مشركي مكة (لَوْ لا) يعني هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ) يعني على محمد (مَلَكٌ) يعني نراه عيانا (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) يعني لفرغ الأمر ولوجب العذاب وهذه سنة الله في الكفار أنهم متى اقترحوا آية ثم لم يؤمنوا استوجبوا العذاب واستؤصلوا به (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) يعني أنهم لا يمهلون ولا يؤخرون طرفة عين بل يعجل لهم العذاب (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) يعني ولو أرسلنا إليهم ملكا لجعلناه في صورة رجل وذلك أن البشر لا يستطيعون أن ينظروا إلى الملائكة في صورهم التي خلقوا عليها ولو نظر إلى الملك ناظر لصعق عند رؤيته ولذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الأنس كما جاء جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة دحية الكلبي وكما جاء الملكان إلى داود عليه‌السلام في صورة رجلين وكذلك أتى الملائكة إلى إبراهيم ولوط عليهما‌السلام ولما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل في صورته التي خلق عليها صعق لذلك وغشي عليه.

وقوله تعالى : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) يقال لبست الأمر على القوم إذا أشبهته عليهم وجعلته مشكلا ولبست عليه الأمر إذا خلطته عليه حتى لا يعرف جهته ومعنى الآية وخالطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدروا أملك هو أم آدمي وقيل في معنى الآية إنا لو جعلنا الملك في صورة البشر لظنوه بشرا فتعود المسألة بحالها أنا لا نرضى برسالة البشر ولو فعل الله عزوجل ذلك صار فعل الله مثل فعلهم في التلبيس وإنما كان تلبيسا لأنهم يظنون أنه ملك وليس بملك أو يظنون أنه بشر وليس هو بشرا وإنما كان فعلهم تلبيسا لأنهم لبسوا على ضعفتهم في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إنما هو بشر مثلكم ولو رأوا الملك رجلا للحقهم من اللبس مثل ما لحق بضعفائهم فيكون اللبس نقمة من الله وعقوبة لهم على ما كان منهم من التخليط في السؤال واللبس على الضعفاء.

قوله عزوجل : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) يعني كما استهزئ بك يا محمد وفي هذه الآية تعزية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية له عما كان من تكذيب المشركين إياه واستهزائهم به إذ جعل له أسوة في ذلك بالأنبياء الذين كانوا قبله (فَحاقَ) أي فنزل وقيل : أحاط ، وقيل : حل (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) والمعنى : فنزل العذاب بهم ووجب عليهم من النقمة والعذاب جزاء استهزائهم أو في هذه الآية تحذير للمشركين أن يفعلوا

١٠٠