تفسير الخازن - ج ٢

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٢

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥٦٥

كفرا إلى كفرهم وذلك أنهم كلما جحدوا نزول سورة أو استهزءوا بها ازدادوا كفرا مع كفرهم الأول وسمي الكفر رجسا لأنه أقبح الأشياء وأصل الرجس في اللغة الشيء المستقذر (وَماتُوا) يعني هؤلاء المنافقين (وَهُمْ كافِرُونَ) يعني وهم جاحدون لما أنزل الله عزوجل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال مجاهد : في هذه الآية الإيمان يزيد وينقص وكان عمر يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه ويقول تعالوا حتى نزداد إيمانا. وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : إن الإيمان يبدو لمعة بيضاء في القلب وكلما ازدادا الإيمان عظما ازداد ذلك البياض حتى يبيض القلب كله ، وإن النفاق يبدو لمعة سوداء في القلب وكلما ازداد النفاق ازداد السواد حتى يسود القلب كله ، وأيم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود.

(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨))

قوله سبحانه وتعالى : (أَوَلا يَرَوْنَ) قرئ ترون بالتاء على خطاب المؤمنين وقرئ بالياء على أنه خبر عن المنافقين المذكورين في قوله في قلوبهم مرض (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) يعني يبتلون (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) يعني بالأمراض والشدائد. وقيل : بالقحط والجدب. وقيل : بالغزو والجهاد. وقيل : إنهم يفتضحون بإظهار نفاقهم. وقيل : إنهم ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون. وقيل إنهم ينقضون عهدهم في السنة مرة أو مرتين (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) يعني من النفاق ونقض العهد ولا يرجعون إلى الله (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) يعني ولا يتعظون بما يرون من صدق وعد الله بالنصر والظفر للمسلمين (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) يعني فيها عيب المنافقين وتوبيخهم (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) يريدون بذلك الهرب يقول بعضهم لبعض إشارة (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) يعني هل أحد من المؤمنين يراكم إن قمتم من مجلسكم فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أن أحدا يراهم من المؤمنين أقاموا ولبثوا على تلك الحال (ثُمَّ انْصَرَفُوا) يعني عن الإيمان بتلك السورة النازلة. وقيل : انصرفوا عن مواضعهم التي يسمعون فيها ما يكرهون (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) يعني عن الإيمان. وقال الزجاج : أضلهم الله مجازاة لهم على فعلهم (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) يعني لا يفقهون عن الله دينه ولا شيئا فيه نفعهم.

قوله سبحانه وتعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) هذا خطاب للعرب يعني : لقد جاءكم أيها العرب رسول من أنفسكم تعرفون نسبه وحسبه وأنه من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه‌السلام قال ابن عباس ليس قبيلة من العرب إلا وقد ولدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وله فيهم نسب وقال جعفر بن محمد الصادق : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح» هكذا ذكره الطبري وذكر البغوي بإسناد الثعلبي. عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء ما ولدني إلا نكاح كنكاح أهل الإسلام» قال قتادة : جعله الله من أنفسكم فلا يحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة. قال بعض العلماء في تفسير قول ابن عباس : ليس قبيلة من العرب إلا وقد ولدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعني : من مضرها وربيعتها ويمانيها فأما ربيعة ومضر فهم من ولد معد بن عدنان وإليه تنسب قريش وهو منهم وأما نسبه إلى عرب اليمن وهم القحاطنة فإن آمنة لها نسب في الأنصار وإن كانت من قريش والأنصار أصلهم من عرب اليمن من ولد قحطان بن سبأ فعلى هذا القول يكون المقصود من قوله : «لقد جاءكم رسول من أنفسكم».

٤٢١

ترغيب العرب في نصره والإيمان به فإنه تم شرفهم بشرفه وعزتهم بعزته وفخرهم بفخره وهو من عشيرتهم يعرفونه بالصدق والأمانة والصيانة والعفاف وطهارة النسب والأخلاق الحميدة. وقرأ ابن عباس والزهري : من أنفسكم بفتح الفاء. ومعناه : أنه من أشرفكم وأفضلكم (خ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت منه» (م) عن واثلة بن الأسقع قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» عن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قلت يا رسول الله إن قريشا جلسوا يتذاكرون أحسابهم بينهم فقالوا مثلك كمثل نخلة في كدية من الأرض فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فريقهم وخير الفريقين ثم تخير القبائل فجعلني من خير قبيلة ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا» أخرجه الترمذي. وقيل إن قوله سبحانه وتعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) عام فحمله على العموم أولى فيكون المعنى على هذا القول لقد جاءكم أيها الناس رسول من أنفسكم يعني من جنسكم بشر مثلكم إذ لو كان من الملائكة لضعفت قوى البشر عن سماع كلامه والأخذ عنه.

قوله سبحانه وتعالى : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي شديد عليه عنتكم يعني مكروهكم. وقيل : يشق عليه ضلالكم (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) حريص على إيمانكم وإيصال الخير إليكم وقال قتادة : حريص على هدايتكم وأن يهديكم الله (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) يعني أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين (ق).

عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب والعاقب الذي ليس بعده نبي» وقد سماه الله رؤوفا رحيما. قال الحسن بن الفضل : لم يجمع الله سبحانه وتعالى لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسماه رؤوفا رحيما قال سبحانه وتعالى : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

قوله سبحانه وتعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يعني فإن أعرض هؤلاء الكفار والمنافقون عن الإيمان بالله ورسوله وناصبوك للحرب (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) يعني يكفيني الله وينصرني عليكم (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) يعني لا على غيره وبه وثقت (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) إنما خص سبحانه وتعالى العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات فيدخل ما دونه في الذكر فيكون المعنى فهو رب العرش العظيم فما دونه أو يكون خصه بالذكر تشريفا له كما يقال بيت الله ، وروي عن أبي بن كعب أنه قال : هاتان الآيتان لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر السورة آخر القرآن نزلا وفي رواية عنه أنه قال : أحدث القرآن عهدا بالله هاتان الآيتان لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر الآيتين والله سبحانه وتعالى أعلم.

٤٢٢

سورة يونس

نزلت بمكة إلا ثلاث آيات وهي قوله سبحانه وتعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) إلى آخر الثلاثة آيات قاله ابن عباس وبه قال قتادة. وفي رواية أخرى : عن ابن عباس أن فيها من المدني قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) الآية ، وقال مقاتل : هي مكية إلا آيتين وهي قوله سبحانه وتعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) والتي تليها وهي مائة وتسع آيات وألف وثمانمائة واثنتان وثلاثون كلمة وتسعة آلاف وتسعة وتسعون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١))

قوله عزوجل : (الر) قال ابن عباس والضحاك معناه أنا الله أرى وقال ابن عباس في رواية أخرى : عنه الر وحم ون حروف الرحمن مقطعة وبه قال سعيد بن جبير وسالم بن عبد الله وقال قتادة : الر اسم من أسماء القرآن وقيل هي اسم للسورة وقد تقدم الكلام في معنى الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما فيه كفاية (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) المراد في لفظ تلك الإشارة إلى الآيات الموجودة في هذه السورة ويكون التقدير تلك الآيات هي آيات الكتاب وهو القرآن الذي أنزله الله إليك يا محمد وذلك أن الله عزوجل وعده أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا تغيره الدهور. وقيل : إن لفظة تلك للإشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن. والمعنى : أن تلك الآيات هي آيات الكتاب الحكيم ، وفيه قول آخر أن المراد بآيات الكتاب الكتب التي قبل القرآن حكاه الطبري عن قتادة. وروي عن مجاهد أنها التوراة والإنجيل فعلى هذا القول يكون التقدير أن الآيات المذكورة في هذه السورة هي الآيات المذكورة في التوراة أو الإنجيل والمراد من الآيات القصص المذكورة في هذه السورة وهذا وإن كان له وجه فهو ضعيف لأن التوراة والإنجيل لم يجر لهما ذكر قريب حتى يشار إليهما وقيل : إن المراد من الآيات حروف الهجاء التي منها الر سميت آيات لأنها افتتاح السور وسر القرآن (الْحَكِيمِ) يعني المحكم الحلال والحرام والحدود والأحكام. فعيل : بمعنى مفعول. وقيل : الحكيم بمعنى الحاكم فعيل بمعنى فاعل لأن القرآن حاكم يميز بين الحق والباطل ويفصل الحلال من الحرام. وقيل : حكيم بمعنى المحكوم فيه فيعمل بمعنى مفعول. قال الحسن : حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى. وقيل : إن الحكيم هو الذي يفعل الحكمة والصواب فمن حيث إنه يدل على الأحكام صار كأنه هو الحكيم في نفسه.

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا

٤٢٣

تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤))

قوله سبحانه وتعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) قال ابن عباس : سبب نزول هذه الآية أن الله عزوجل لما بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك ومن أنكر منهم قال : الله أعظم من أن يكون له رسول بشر مثل محمد فقال الله سبحانه وتعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) وقال سبحانه وتعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) الآية والهمزة في أكان همزة استفهام ومعناه الإنكار والتوبيخ والمعنى لا يكون ذلك عجبا (أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) والعجب حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة. وقيل : العجب حالة تعتري الإنسان عند الجهل بسبب الشيء ولهذا قال بعض الحكماء : العجب ما لا يعرف سببه والمراد بالناس هنا أهل مكة وبالرجل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم يعني من أهل مكة من قريش يعرفون نسبه وصدقه وأمانته (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) يعني خوفهم بعقاب الله تعالى إن أصروا على الكفر والمخالفة والإنذار إخبار مع تخويف كما أن البشارة إخبار مع سرور وهو قوله سبحانه وتعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) اختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في معنى قدم صدق. فقال ابن عباس : أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم. وقال الضحاك : ثواب صدق. وقال مجاهد : الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم. وقال الحسن : عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه. وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال : سبقت لهم السعادة في الذكر الأول يعني في اللوح المحفوظ. وقال زيد بن اسلم : هو شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قول قتادة. وقيل : لهم منزلة رفيعة عند ربهم وأضيف القدم إلى الصدق وهو نعته كقوله مسجد الجامع وصلاة الأولى وحب الحصيد والفائدة في هذه الإضافة التنبيه على زيادة الفضل ومدح القدم لأن كل شيء أضيف إلى الصدق فهو ممدوح ومثله في مقعد صدق ، وقال أبو عبيدة : كل سابق في خير أو شر فهو عند العرب قدم. يقال : لفلان قدم في الإسلام وقدم في الخير ولفلان عندي قدم صدق وقدم سوء. قال حسان بن ثابت :

لنا القدم العليا إليك وخلفنا

لأولنا في طاعة الله تابع

وقال الليث وأبو الهيثم القدم السابق والمعنى أنه قد سبق لهم عند الله خير قال ذو الرمة :

وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة

لهم قدم معروفة ومفاخر

والسبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم فسمى المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد. وقال ذو الرمة :

لكم قدم لا ينكر الناس أنها

مع الحسب العادي طمت على البحر

معناه لكم سابقة عظيمة لا ينكرها الناس وقال آخر :

صل لذي العرش واتخذ قدما

تنجيك يوم العثار والزلل

وقوله سبحانه وتعالى : (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) وقرئ : لساحر مبين وفيه حذف تقديره أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم فلما جاءهم بالوحي وأنذرهم قال الكافرون : إن هذا لساحر ، يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما نسبوه إلى السحر لما أتاهم بالمعجزات الباهرات التي لا يقدر أحد من البشر أن يحصل مثلها ، ومن قرأ السحر فإنهم عنوا به القرآن المنزل عليه وإنما نسبوه إلى السحر لأن فيه الإخبار بالبعث والنشور وكانوا ينكرون ذلك.

٤٢٤

قوله عزوجل : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم تفسير هذا في سورة الأعراف بما فيه كفاية.

وقوله سبحانه وتعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) قال مجاهد : يقضيه وحده. وقيل : معنى التدبير ، تنزيل الأمور في مراتبها وعلى أحكام عواقبها. وقيل : إنه سبحانه وتعالى يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة وهو النظر في أدبار الأمور وعواقبها لئلا يدخل في الوجود ما لا ينبغي. وقيل : معناه إنه سبحانه وتعالى يدبر أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات والأرض فلا يحدث حدث في العالم العلوي ولا في العالم السفلي إلا بإرادته وتدبيره وقضائه وحكمته (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) يعني : لا يشفع عنده شافع يوم القيامة إلا من بعد أن يأذن له في الشفاعة لأنه عالم بمصالح عباده وبموضع الصواب والحكمة في تدبيرهم فلا يجوز لأحد أن يسأله ما ليس له به علم فإذا أذن له في الشفاعة كان له أن يشفع فيمن يأذن له فيه وفيه رد على كفار قريش في قولهم : إن الأصنام تشفع لهم عند الله يوم القيامة فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه لأن له التصرف المطلق في جميع العالم (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) يعني الذي خلق هذه الأشياء ودبرها هو ربكم وسيدكم لا رب لكم سواه (فَاعْبُدُوهُ) أي فاجعلوا عبادتكم له لا لغيره لأنه المستحق للعبادة بما أنعم عليكم من النعم العظيمة (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) يعني أفلا تتعظون وتعتبرون بهذه الدلائل والآيات التي تدل على وحدانيته سبحانه وتعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) يعني إلى ربكم الذي خلق جميع المخلوقات مصيركم جميعا أيها الناس يوم القيامة والمرجع بمعنى الرجوع (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) يعني وعدكم الله ذلك وعدا حقا (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي يحييهم ابتداء ثم يميتهم ثم يحييهم وهذا معنى قول مجاهد فإنه قال يحييه ثم يميته ثم يحييه.

وفي هذه الآية دليل على إمكان الحشر والنشر والمعاد وصحة وقوعه ورد على منكري البعث ووقوعه ، لأن القادر على خلق هذه الأجسام المؤلفة والأعضاء المركبة على غير مثال سبق ، قادر على إعادتها بعد تفرقها بالموت والبلى ، فيركب تلك الأجزاء المتفرقة تركيبا ثانيا ويخلق الإنسان الأول مرة أخرى وكما لم يمتنع تعلق هذه النفس بالبدن في المرة الأولى لم يمتنع تعلقها بالبدن مرة أخرى وإذا ثبت القول بصحة المعاد والبعث بعد الموت كان المقصود منه إيصال الثواب للمطيع والعقاب للعاصي وهو قوله سبحانه وتعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) يعني بالعدل لا ينقص من أجورهم شيئا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) هو ماء حار قد انتهى حره (وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ).

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧))

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) يعني ذات ضياء (وَالْقَمَرَ نُوراً) يعني ذا نور.

واختلف العلماء أصحاب الكلام في أن الشعاع الفائض من الشمس هل هو جسم أو عرض ، والحق أنه عرض وهو كيفية مخصوصة فالنور اسم لأصل هذه الكيفية والضوء اسم لهذه الكيفية إذا كانت كاملة تامة قوية فلهذا خص الشمس بالضياء لأنها أقوى وأكمل من النور وخص القمر بالنور لأنه أضعف من الضياء ولأنهما لو تساويا لم يعرف الليل من النهار فدل ذلك على أن الضياء المختص بالشمس أكمل وأقوى من النور المختص

٤٢٥

بالقمر (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) قيل : الضمير في وقدّره يرجع إلى الشمس والقمر والمعنى قدر لهما منازل أو قدر لسيرهما منازل لا يجاوزانهما في السير ولا يقصران عنهما وإنما وحد الضمير في وقدره للإيجاز أو اكتفى بذكر أحدهما دون الآخر فهو كقوله سبحانه وتعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) وقيل : الضمير في وقدره يرجع إلى القمر وحده لأن سير القمر في المنازل أسرع وبه يعرف انقضاء الشهور والسنين وذلك لأن الشهور المعتبرة في الشرع مبنية على رؤية الأهلة والسنة المعتبرة في الشرع هي السنة القمرية لا الشمسية ومنازل القمر ثمان وعشرون منزلة : وهي الشرطين ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرف ، والجبهة ، والزبرة ، والصرفة ، والعواء ، والسماك ، والغفر ، والزباني ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلع ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، وفرغ الدلو المقدم ، وفرغ الدلو المؤخر ، وبطن الحوت ، فهذه منازل القمر وهي مقسومة على اثني عشر برجا وهي : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، لكل برج منزلان وثلث منزل وينزل القمر كل ليلة منزلا منهما إلى انقضاء ثمانية وعشرين ليلة ثم يستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين وإن كان تسعا وعشرين اختفى ليلة واحدة (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ) يعني قدر هذه المنازل لتعلموا بها عدد السنين ووقت دخولها وانقضائها (وَالْحِسابَ) يعني : ولتعلموا حساب الشهور والأيام والساعات ونقصانها وزيادتها (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) يعني للحق وإظهار قدرته ودلائل وحدانيته ولم يخلق ذلك باطلا ولا عبثا (يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يعني يبين دلائل التوحيد بالبراهين القاطعة لقوم يستدلون بها على قدرة الله ووحدانيته (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) تقدم تفسير هذه الآية في نظائرها (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) يعني لا يخافون لقاءنا يوم القيامة فهم مكذبون بالثواب والعقاب والرجاء يكون بمعنى الخوف تقول العرب : فلان لا يرجو فلانا بمعنى : لا يخافه ، ومنه قوله سبحانه وتعالى ما لكم لا ترجون الله وقارا ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها

أي لم يخفه. والرجاء يكون بمعنى الطمع ، فيكون المعنى : لا يطمعون في ثوابنا (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) يعني : اختاروها وعملوا في طلبها فهم راضون بزينة الدنيا وزخرفها (وَاطْمَأَنُّوا بِها) يعني وسكنوا إليها مطمئنين فيها وهذه الطمأنينة التي حصلت في قلوب الكفار من الميل إلى الدنيا ولذاتها أزالت عن قلوبهم الوجل والخوف فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم يصل ذلك إلى قلوبهم (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) قيل المراد بالآيات أدلة التوحيد.

وقال ابن عباس : عن آياتنا يعني عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ؛ غافلون : أي معرضون.

(أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١))

(أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) يعني : من الكفر والتكذيب والأعمال الخبيثة.

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) يعني يهديهم ربهم إلى الجنان

٤٢٦

ثوابا لهم بإيمانهم وأعمالهم الصالحة وقال مجاهد : يهديهم على الصراط إلى الجنة : يجعل لهم نورا يمشون به.

وقال قتادة : بلغنا أن المؤمن إذا خرج من قبره يصور له عمله في صورة حسنة فيقول له : من أنت فيقول : أنا عملك. فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة ، والكافر بالضد ، فلا يزال به عمله حتى يدخله النار وقال ابن الأنباري : يجوز أن يكون المعنى أن الله يزيدهم هداية بخصائص ولطائف وبصائر ينور بها قلوبهم ويزيل بها الشكوك عنهم ويجوز أن يكون المعنى ويثبتهم على الهداية وقيل معناه بإيمانهم يهديهم ربهم لدينه أي بتصديقهم هداهم (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) يعني بين أيديهم ينظرون إليها من أعالي أسرتهم وقصورهم فهو كقوله سبحانه وتعالى : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) لم يرد به أنه تحتها وهي قاعدة عليه بل أراد بين يديها. وقيل : تجري بأمرهم (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يعني ذلك لهم جنات النعيم (دَعْواهُمْ فِيها) أي قولهم وكلامهم فيها. وقيل : الدعوى بمعنى الدعاء أي دعاؤهم فيها (سُبْحانَكَ اللهُمَ) وهي كلمة تنزيه لله تعالى من كل سوء ونقيصة. قال أهل التفسير : هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام فإذا أرادوا الطعام قالوا : سبحانك اللهم فيأتونهم في الوقت بما يشتهون على الموائد كل مائدة ميل في ميل على كل مائدة سبعون ألف صحفة في كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضا فإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله على ما أعطاهم فذلك قوله تبارك وتعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وقيل : إن المراد بقوله سبحانك اللهم اشتغال أهل الجنة بالتسبيح والتحميد والتقديس لله عزوجل والثناء عليه بما هو أهله وفي هذا الذكر والتحميد سرورهم وابتهاجهم وكمال لذتهم ويدل عليه ما روي عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون قالوا فما بال الطعام قال جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس وفي رواية التسبيح والحمد» أخرجه مسلم.

قوله جشاء أي يخرج ذلك الطعام جشاء وعرقا.

وقوله سبحانه وتعالى : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) يعني يحيي بعضهم بعضا بالسلام. وقيل : تحييهم الملائكة بالسلام وقيل تأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قد ذكرنا أن جماعة من المفسرين حملوا التسبيح والتحميد على أحوال أهل الجنة بسبب المأكول والمشروب وأنهم إذا اشتهوا شيئا قالوا : سبحانك اللهم فيحضر ذلك الشيء وإذا فرغوا منه. قالوا : الحمد لله رب العالمين فترفع الموائد عند ذلك وقال الزجاج : أعلم الله أهل الجنة يبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه ويختمون بشكره والثناء عليه. وقيل : إنهم يفتتحون كلامهم بالتسبيح ويختمونه بالتحميد. وقيل : إنهم يلهمون ذلك كما ذكر في الحديث قوله سبحانه وتعالى : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) يعني ولو يعجل الله للناس إجابة دعائهم في الشر بما لهم فيه مضرة ومكروه في نفس أو مال. قال ابن عباس : هذا في قول الرجل لأهله وولده عند الغضب لعنكم الله لا بارك الله فيكم. وقال قتادة : هو دعاء الرجل على نفسه وماله وأهله وولده بما يكره أن يستجاب له فيه (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) يعني كاستعجالهم بالخير وكما يحبون أن يعجل لهم إجابة دعائهم بالخير (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) يعني لفرغ من هلاكهم وماتوا جميعا والتعجيل تقديم الشيء قبل وقته والاستعجال طلب العجلة.

وقال ابن قتيبة : إن الناس عند الغضب والضجر قد يدعون على أنفسهم وأهلهم وأولادهم بالموت وتعجيل البلاء كما يدعون بالرزق والرحمة وإعطاء السؤال يقال لو أجابهم الله إذا دعوه بالشر الذي يستعجلون به استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم يعني : لفرغ من هلاكهم ولكن الله عزوجل بفضله وكرمه يستجيب للداعي بالخير ولا يستجيب له في الشر. وقيل : إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فعلى هذا يكون المعنى ولو يعجل الله للكافرين العذاب كما عجل لهم

٤٢٧

خير الدنيا من المال والولد لعجل قضاء آجالهم ولهلكوا جميعا ويدل على صحة هذا القول قوله سبحانه وتعالى :

(فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) يعني فندع الذين لا يخافون عقابنا ولا يؤمنون بالبعث بعد الموت (فِي طُغْيانِهِمْ) يعني في تمردهم وعتوهم (يَعْمَهُونَ) يعني يترددون (ق).

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه فإنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة واجعل ذلك كفارة له يوم القيامة» قوله عزوجل :

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤))

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) أي الشدة والجهد والمراد بالإنسان في هذه الآية الكافر (دَعانا لِجَنْبِهِ) أي على جنبه مضطجعا (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) يريد جميع حالاته لأن الإنسان لا ينفك عن إحدى هذه الحالات الثلاث والمعنى أن المضرور لا يزال داعيا في جميع حالاته إلى أن ينكشف ضره سواء كان مضطجعا أو قائما أو قاعدا وهذا القول فيه بعد لأن ذكر الدعاء إلى هذه الأحوال أقرب من ذكر الضر (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ) يعني فلما أزلنا عنه ما نزل به من الضر ودفعنا عنه (مَرَّ) يعني على طريقته الأولى قبل مس الضر (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا) فيه حذف تقديره كأنه لم يدعنا وإنما أسقط الضمير على سبيل التخفيف (إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) والمعنى أنه استمر على حالته الأولى قبل أن يمسه الضر ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء والضيق والفقر (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعني مثل ما زين لهذا الكافر هذا العمل القبيح كذلك زين للمسرفين والمزين هو الله سبحانه وتعالى لأنه مالك الملك والخلق كلهم عبيدة يتصرف فيهم كيف يشاء وقيل المزين هو الشيطان وذلك بأقدار الله إياه على ذلك والمسرف هو المجاوز الحد في كل شيء وإنما سمي الكافر مسرفا لأنه أتلف نفسه وضيعها في عبادة الأصنام وأتلف ماله وضيعه في البحائر والسوائب وما كانوا ينفقونه على الأصنام وسدنتها يعني خدامها. وقال ابن جريج : في قوله كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون يعني من الدعاء عند المصيبة وترك الشكر عند الرخاء. وقيل : كما زين لكم أعمالكم كذلك زين للمسرفين الذين كانوا من قبلكم أعمالهم. وبيان مقصود الآية أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء قليل الشكر عند حصول النعماء والرخاء فإذا مسه الضر أقبل على الدعاء والتضرع في جميع حالاته مجتهدا في الدعاء طالبا من الله إزالة ما نزل به من المحنة والبلاء فإذا كشف الله ذلك عنه أعرض عن الشكر ورجع إلى ما كان عليه أولا وهذه حالة الغافل الضعيف اليقين فأما المؤمن العاقل فإنه بخلاف ذلك فيكون صابرا عند البلاء شاكر الله عند الرخاء والنعماء كثير التضرع والدعاء في جميع أوقات الراحة والرفاهية وهاهنا مقام أعلى من هذا وهو أن المؤمن إذا ابتلي ببلية أو نزل به مكروه يكون مع صبره على ذلك راضيا بقضاء الله غير معرض بالقلب عنه بل يكون شاكرا لله عزوجل في جميع أحواله وليعلم العبد المؤمن أن الله تبارك وتعالى مالك الملك على الإطلاق حكيم في جميع أفعاله وله التصرف في خلقه بما يشاء ويعلم أنه إن أبقاه على تلك المحنة فهو عدل وإن أزالها عنه فهو فضل.

قوله سبحانه وتعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني أهلكنا الأمم الماضية من قبلكم يخوف بذلك كفار مكة (لَمَّا ظَلَمُوا) يعني لما أشركوا (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) يعني فكذبوهم (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا)

٤٢٨

يعني : هذه الأمم برسلهم ويصدقوهم بما جاءوا به من عند الله (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) يعني : كما أهلكنا الأمم الخالية لما كذبوا رسلهم كذلك نهلككم أيها المشركون بتكذيبكم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) الخطاب لأهل مكة الذين أرسل فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى ثم جعلناكم أيها الناس خلفاء في الأرض من بعد القرون الماضية الذين أهلكناهم (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) يعني خيرا أو شرا فنعاملكم على حسب أعمالكم والنظر هنا بمعنى العلم يريد لنختبر أعمالكم وهو يعلم ما يكون قبل أن يكون. قال أهل المعاني : معنى النظر ، هو طلب العلم وجاز في وصف الله سبحانه وتعالى إظهارا للعدل لأنه سبحانه وتعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ليجازيهم بحسبه كقوله تبارك وتعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ذكره الواحدي والرازي (م) عن سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الدنيا حلوة خضرة وأن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واحذروا فتنة النساء» أخرجه مسلم قوله فاتقوا الدنيا معناه احذروا فتنة الدنيا واحذروا فتنة النساء.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧))

قوله سبحانه وتعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) يعني وإذا قرئ على هؤلاء المشركين آيات كتابنا الذي أنزلناه إليك يا محمد بينات يعني واضحات تدل على وحدانيتنا وصحة نبوتك (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) يعني قال هؤلاء المشركون الذين لا يخافون عذابنا ولا يرجون ثوابنا لأنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت وكل من كان منكرا للبعث فإنه لا يرجو ثوابا ولا يخاف عقابا (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) قال قتادة : قال ذلك مشركو مكة ، وقال مقاتل : هم خمسة نفر عبد الله بن أمية المخزومي والوليد بن المغيرة ومكرز بن حفص وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري والعاص بن عامر بن هشام ، قال هؤلاء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كنت تريد أن نؤمن بك فأت بقرآن غير هذا ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة وليس فيه عيبها وإن لم ينزله الله عليك فقل أنت من عند نفسك أو بدله فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة ومكان حرام حلالا ومكان حلال حراما.

قال الإمام فخر الدين الرازي : اعلم أن إقدام الكفار على هذا الالتماس يحتمل وجهين : أحدهما ، أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء وهو قولهم لو جئتنا بقرآن غير هذا القرآن أو بدلته لآمنا بك وغرضهم السخرية والاستهزاء. الثاني : أن يكونوا قالوا ذلك على سبيل التجربة والامتحان حتى أنه لو فعل ذلك علموا أنه كان كاذبا في قوله : إن هذا القرآن ينزل عليه من عند الله. ومعنى قوله : ائت بقرآن غير هذا أو بدله يحتمل أن يأتي بقرآن آخر مع وجود هذه القرآن والتبديل لا يكون إلا مع وجوده وهو أن يبدل بعض آياته بغيرها كما طلبوه ولما سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره الله أن يجيبهم بقوله (قُلْ) أي قل يا محمد لهؤلاء (ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) يعني أن هذا الذي طلبتموه من التبديل ليس إليّ وما ينبغي لي أن أغيره من قبل نفسي ولم أومر به (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) يعني فيما آمركم به أو أنهاكم عنه وما أخبركم إلا ما يخبرني الله به وإن الذي أتيتكم به هو من عند الله لا من عندي (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي : قل لهم يا محمد إني أخشى من الله

٤٢٩

إن خالفت أمره أو غيرت أحكام كتابه أو بدلته فعصيته بذلك أن يعذبني بعذاب عظيم في يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت.

قوله سبحانه وتعالى : (قُلْ) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين طلبوا منك تغيير القرآن وتبديله (لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) يعني لو شاء الله لم ينزل علي هذا القرآن ولم يأمرني بقراءته عليكم (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) قال ابن عباس : ولا أدراكم الله به ولا أعلمكم به (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) يعني فقد مكثت فيكم قبل أن يوحى إلي هذا القرآن مدة أربعين سنة لم آتكم بشيء ووجه هذا الاحتجاج أن كفار مكة كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه وعلموا أحواله وأنه كان أميا لم يطالع كتابا ولا تعلم من أحد مدة عمره قبل الوحي وذلك أربعون سنة ثم بعد الأربعين جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس العلوم وأخبار الماضين وفيه من الأحكام والآداب ومكارم الأخلاق والفصاحة والبلاغة ما أعجز البلغاء والفصحاء عن معارضته فكل من له عقل سليم وفكر ثاقب يعلم أن هذا لم يحصل إلا بوحي من الله تعالى لا من عند نفسه وهو قوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) يعني أن هذا القرآن من عند الله أوحاه إليّ لا من قبل نفسي (ق) عن ابن عباس قال : أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابن أربعين سنة فمكث ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة فمكث بها عشر سنين ثم توفي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وفي رواية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة ، وفي رواية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام بمكة خمس عشرة سنة يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئا وثمان سنين يوحى إليه وأقام بالمدينة عشرا أو توفي وهو ابن خمس وستين سنة أخرجاه في الصحيحين (ق) عن عائشة قالت : توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة. أخرجاه في الصحيحين (م) عن أنس قال : قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين وعمر وهو ابن ثلاث وستين أخرجه مسلم (ق).

عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال سمعت أنس بن مالك يصف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : كان ربعة من القوم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير أزهر اللون ليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم ليس بجعد قطط ولا سبط رجل أنزل عليه الوحي وهو ابن أربعين سنة فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه الوحي وبالمدينة عشرا وتوفاه الله على رأس ستين سنة وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. أخرجاه في الصحيحين قال الشيخ محيي الدين النووي : ورد في عمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث روايات إحداها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفي وهو ابن ستين سنة والثانية خمس وستون سنة والثالثة ثلاث وستون سنة وهو أصحها وأشهرها رواها مسلم من حديث أنس وعائشة وابن عباس واتفق العلماء على أن أصحها ثلاث وستون سنة وتأولوا الباقي عليه فرواية ستين سنة اقتصر فيها على العقود وترك الكسر ورواية الخمس متأولة أيضا بأنها حصل فيها اشتباه. قوله : يسمع الصوت ، يعني صوت الهاتف من الملائكة ويرى الضوء يعني ضوء الملائكة أو نور آيات الله حتى رأى الملك بعينه وشافه بالوحي من الله عزوجل وقوله ليس بالأبيض الأمهق المراد به الشديد البياض كلون الجص وهو كريه المنظر وربما توهم الناظر أنه برص. والمراد : أنه كان أزهر اللون بين البياض والحمرة.

قوله عزوجل : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) يعني فزعم أن له شريكا وولدا والمعنى : أني لم أفتر على الله كذبا ولم أكذب عليه في قولي إن هذا القرآن من عند الله وأنتم قد افتريتم على الله الكذب فزعمتم أن له شريكا وولدا والله تعالى منزه عن الشريك والولد وقيل : معناه إن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله لما كان أحد في الدنيا أظلم على نفسه مني من حيث إني افتريته على الله ولما كان هذا القرآن من عند الله أوحاه إليّ وجب أن يقال ليس أحد في الدنيا أجهل ولا أظلم على نفسه منكم من حيث إنكم أنكرتم أن يكون هذا القرآن من عند الله فقد كذبتم بآياته وهو قوله تعالى : (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) يعني جحد بكون القرآن من عند الله وأنكر دلائل

٤٣٠

التوحيد (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) يعني المشركون وهذا وعيد وتأكيد لما سبق.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١))

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) يعني : ويعبد هؤلاء المشركون الأصنام التي لا تضرهم إن عصوها وتركوا عبادتها ولا تنفعهم إن عبدوها لأنها حجارة وجماد لا تضر ولا تنفع وإن العبادة أعظم أنواع التعظيم فلا تليق إلا بمن يضر وينفع ويحيي ويميت وهذه الأصنام جماد وحجارة لا تضر ولا تنفع (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ) يعني الأصنام التي يعبدونها (شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) قال أهل المعاني : توهموا أن عبادتها أشد من تعظيم الله من عبادتهم إياه وقالوا لسنا بأهل أن نعبد الله ولكن نشتغل بعبادة هذه الأصنام فإنها تكون شافعة لنا عند الله ومنه قوله سبحانه وتعالى إخبارا عنهم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) وفي هذه الشفاعة قولان :

أحدهما : أنهم يزعمون أنها تشفع لهم في الآخرة قاله ابن جريج عن ابن عباس.

والثاني : أنها تشفع لهم في الدنيا في إصلاح معايشهم قاله الحسن لأنهم كانوا لا يعتقدون بعثا بعد الموت (قُلْ) أي قل لهم يا محمد (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) يعني : أتخبرون الله أن له شريكا ولا يعلم الله لنفسه شريكا في السموات ولا في الأرض. وهذا على طريق الإلزام. المقصود : نفي علم الله بذلك الشفيع وأنه لا وجود له البتة لأنه لو كان موجودا لعلمه الله وحيث لم يكن معلوما لله وجب أن لا يكون موجودا ومثل هذا مشهور في العرف فإن الإنسان إذا أراد نفي شيء حصل في نفسه يقول : ما علم الله ذلك مني مقصوده أنه ما حصل ذلك الشيء منه قط ولا وقع (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن الشركاء والأضداد والأنداد وتعالى أن يكون له شريك في السموات والأرض ولا يعلمه.

قوله سبحانه وتعالى : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) يعني : فتفرقوا إلى مؤمن وكافر يعني كانوا جميعا على الدين الحق وهو دين الإسلام ويدل على ذلك أن آدم عليه‌السلام وذريته كانوا على دين الإسلام إلى أن قتل قابيل هابيل ثم اختلفوا. وقيل : بقوا على ذلك إلى زمن نوح عليه‌السلام ثم اختلفوا فبعث الله نوحا. وقيل : إنهم كانوا على دين الإسلام وقت خروج نوح ومن معه من السفينة ثم اختلفوا بعد ذلك وقيل كانوا على دين الإسلام من عهد إبراهيم الخليل عليه‌السلام إلى أن غيره عمرو بن لحي. فعلى هذا القول ، يكون المراد من الناس في قوله (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) العرب خاصة.

وقيل : كان الناس أمة واحدة في الكفر. وهذا القول منقول عن جماعة من المفسرين ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى في سورة البقرة : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) وتقديره : أنه لا مطمع في أن يصير الناس على دين واحد فإنهم كانوا أولا على الكفر وإنما أسلم بعضهم ففيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : كان الناس أمة واحدة. وليس في الآية ما يدل على أي دين كانوا من إيمان أو كفر فهو موقوف على دليل من خارج. وقيل :

٤٣١

معناه أنهم كانوا في أول الخلق على الفطرة السليمة الصحيحة ثم اختلفوا في الأديان وإليه الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» والمراد بالفطرة في الحديث ، فطرة الإسلام. قوله سبحانه وتعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) يعني أنه سبحانه وتعالى جعل لكل أمة أجلا وقضى بذلك في سابق الأزل ، قال الكلبي : هي إمهال هذه الأمة وأنه لا يهلكهم بالعذاب (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) يعني بنزول العذاب وتعجيل العقوبة للمكذبين وكان ذلك فصلا بينهم (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) وقال الحسن : ولولا كلمة سبقت من ربك يعني مضت في حكمة الله أنه لا يقضي عليهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون يوم القيامة لقضى بينهم في الدنيا فأدخل المؤمنين الجنة بإيمانهم وأدخل الكافرين النار بكفرهم ولكن سبق من الله الأجل فجعل موعدهم يوم القيامة وقيل سبق من الله أنه لا يؤاخذ أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه. وقيل : الكلمة التي سبقت من الله هي قوله : إن رحمتي سبقت غضبي ولولا رحمته ، لعجل لهم العقوبة في الدنيا ولكن أخرهم برحمته إلى يوم القيامة ثم يقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون يعني في الدنيا (وَيَقُولُونَ) يعني كفار مكة (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) يعني هلا نزل على محمد ما نقترحه عليه من الآيات (فَقُلْ) أي : فقل لهم يا محمد (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) يعني إن الذي سألتمونيه هو من الغيب وإنما الغيب لله لا يعلم أحد ذلك إلا هو والمعنى لا يعلم أحد متى نزول الآية إلا هو (فَانْتَظِرُوا) يعني نزولها (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) وقيل معناه فانتظروا قضاء الله بيننا بإظهار المحق على المبطل إني معكم من المنتظرين قوله عزوجل : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) يعني رخاء ونعمة (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) يعني من بعد شدة وبلاء وضيق في العيش أصابهم والمراد بالناس هنا : كفار مكة ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى حبس عنهم المطر سبع سنين حتى هلكوا من الجوع والقحط ، ثم إن الله سبحانه وتعالى رحمهم ، فأنزل عليهم المطر الكثير حتى أخصبت البلاد وعاش الناس بعد ذلك الضر فلم يتعظوا بذلك بل رجعوا إلى الفساد والكفر والمكر وهو قوله سبحانه وتعالى : (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) قال مجاهد : أي تكذيب واستهزاء وقال مقاتل وابن حيان : لا يقولون هذا رزق الله إنما يقولون سقينا بنوء كذا وكذا. ويدل على صحة هذا القول ما روي عن زيد بن خالد الجهني قال : صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف ، أقبل على الناس فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : قال «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب» أخرجاه في الصحيحين. قوله : على أثر سماء كانت من الليل أي مطر كان قد وقع في الليل وسمي المطر سماء لأنه يقطر من السماء. والأنواء عند العرب : هي منازل القمر إذا طلع نجم سقط نظيره وكانوا يعتقدون في الجاهلية أنه لا بد عند ذلك من وجود مطر أو ريح كما يزعم المنجمون أيضا فمن العرب من يجعل ذلك التأثير للطالع لأنه ناء أي ظهر وطلع ومنهم من ينسبه للغارب فنفى النبي عليه‌السلام صحة ذلك ونهى عنه وكفّر معتقده إذا اعتقد أن النجم فاعل ذلك التأثير وأما من يجعله دليلا ، فهو جاهل بمعنى الدلالة. وأما من أسند ذلك إلى العادة التي يجوز انخرامها فقد كرهه قوم وحرمه قوم ومنهم من تأول الكفر بكفر نعمة الله والله أعلم وسمى تكذيبهم بآيات الله مكرا لأن المكر عبارة عن صرف الشيء عن وجهه الظاهر بنوع من الحيلة وكان كفار مكة يحتالون في دفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من المفاسد : (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أي : قل لهم يا محمد الله أعجل عقوبة وأشد أخذا وأقدر على الجزاء وإن عذابه في هلاكهم أسرع إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق ولما قابلوا نعمة الله بالمكر ، قابل مكرهم بمكر أشد منه وهو إمهالهم إلى يوم القيامة (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) يعني الحفظة الكرام الكاتبين يكتبون ويحفظون عليهم الأعمال القبيحة السيئة إلى يوم القيامة حتى يفتضحوا بها ويجزون على مكرهم قوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ

٤٣٢

عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣))

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) يعني : هو الله الذي يسيركم يعني يحملكم في البر على ظهور الدواب وفي البحر على الفلك. وقيل : معناه هو الله الهادي لكم في السير في البر والبحر طلبا للمعاش أو هو المهيّئ لكم أسباب السير في البر والبحر (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) يعني : السفن. ولفظة الفلك : تطلق على الواحد والجمع وتقديراهما مختلفان فإن أريد بها الواحد كان كبناء قفل ، وإن أريد بها الجمع كان كبناء أسد والمراد بها هنا الجمع لقوله تعالى : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) يعني : وجرت السفن بركابها.

فإن قلت : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت : قال صاحب الكشاف : المقصود منه المبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتقبيح وقال غيره إن مخاطبة الله لعباده على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنزلة الخبر عن الغائب وكل من أقام الغائب مقام المخاطب حسن منه أن يرده إلى الغائب. وقيل : إن الالتفات في الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس من فصيح كلام العرب (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) يعني وجرت السفن بريح طيبة ساكنة (وَفَرِحُوا بِها) يعني وفرح ركبان تلك الفلك بتلك الريح الطيبة ، لأن الإنسان إذا ركب السفينة ووجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود حصل له النفع التام والمسرة العظيمة بذلك (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) قيل : إن الضمير في جاءتها يرجع إلى الريح فيكون المعنى : جاءت الريح الطيبة ريح عاصف فأقلبتها. وقيل : الضمير في جاءتها يرجع إلى الفلك. يعني : جاءت الفلك. ريح عاصف. يقال : ريح عاصف وعاصفة ، ومعنى عصفت الريح : اشتدت. وأصل العصف : السرعة وإنما قال : عاصف ، لأنه أراد به ذات عصوف أو لأجل أن لفظ الريح قد يذكر (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) يعني : وجاء ركبان السفينة الموج وهو ما ارتفع وعلا من غوارب الماء في البحر وقيل : هو شدة حركة الماء واختلاطه (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) يعني : وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق. وقيل : المراد من الظن اليقين أي وأيقنوا أنه الهلاك. وقيل : بل المراد منه المقاربة من الهلاك والدنو منه والإشراف عليه (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) يعني أنهم أخلصوا في الدعاء لله عزوجل ولم يدعوا أحدا سواه من آلهتهم وقيل في معنى هذا الإخلاص العلم الحقيقي لا إخلاص الإيمان لأنهم كانوا يعلمون حقيقة أنه لا ينجيهم من جميع الشدائد والبلايا إلا الله تعالى فكانوا إذا وقعوا في شدة وضر وبلاء أخلصوا لله الدعاء (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) أي قائلين لئن أنجيتنا يا ربنا (مِنْ هذِهِ) يعني من هذه الشدائد التي نحن فيها وهي الريح العاصفة والأمواج الشديدة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) يعني من الشاكرين لك على إنعامك علينا بخلاصنا مما نحن فيه من هذه الشدة (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) يعني : فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنوا أنهم أحيط بهم من الشدة التي كانوا فيها (إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) يعني أنهم أخلفوا الله ما وعدوه وبغوا في الأرض فتجاوزوا فيها إلى غير ما أمر الله به من الكفر والعمل بالمعاصي على ظهرها وأصل البغي مجاوزة الحد.

قال صاحب المفردات : البغي على ضربين ، أحدهما محمود وهو مجاوزة العدل إلى الإحسان والفرض إلى التطوع.

والثاني مذموم وهو مجاوزة الحق إلى الباطل أو إلى الشبهة.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى قوله بغير الحق والبغي لا يكون بحق قلت بلى قد يكون بحق

٤٣٣

وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببني قريظة (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) يعني : إن وبال بغيكم راجع عليكم (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) قيل هو كلام مبتدأ ، والمعنى : أن بغي بعضكم على بعض هو متاع الحياة الدنيا لا يصلح لزاد الآخرة وقيل هو كلام متصل بما قبله والمعنى يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم لا يتهيأ أن يبغي بعضكم على بعض إلا أياما قليلة وهي مدة حياتكم مع قصرها في سرعة انقضائها. والبغي : من منكرات الذنوب العظام. قال بعضهم : لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي.

وقد نظم بعضهم هذا المعنى شعرا وكان المأمون يتمثل به فقال :

يا صاحب البغي إن البغي مصرعة

فارجع فخير مقال المرء أعدله

فلو بغى جبل يوما على جبل

لاندك منه أعاليه وأسفله

وقوله سبحانه وتعالى : (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) يعني يوم القيامة (فَنُنَبِّئُكُمْ) أي فنخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يعني في الدنيا من البغي والمعاصي فنجازيكم عليها.

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥))

قوله عزوجل : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) يعني في فنائها وزوالها (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) يعني المطر (فَاخْتَلَطَ بِهِ) أي بالمطر (نَباتُ الْأَرْضِ) قال ابن عباس : نبت بالماء من كل لون (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ) يعني من الحبوب والثمار (وَالْأَنْعامُ) يعني ومما يأكل الأنعام من الحشيش ونحوه (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) يعني حسنها ونضارتها وبهجتها وأظهرت ألوان زهرها من أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من الزهور (وَازَّيَّنَتْ) أي وتزينت (وَظَنَّ أَهْلُها) يعني أهل تلك الأرض (أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) يعني على جذاذها وقطافها وحصادها ، رد الكناية إلى الأرض والمراد النبات إذ كان مفهوما. وقيل : رده إلى الثمرة والغلة وقيل : إلى الزينة (أَتاها أَمْرُنا) أي قضاؤنا بهلاكها (لَيْلاً أَوْ نَهاراً) يعني في الليل أو النهار (فَجَعَلْناها حَصِيداً) يعني محصودة مقطوعة (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) يعني : كأن لم تكن تلك الأشجار والنبات والزروع نابتة قائمة على ظهر الأرض وأصله من غنى فلان بالمكان إذا أقام به وهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للمتشبثين بالدنيا الراغبين في زهرتها وحسنها وذلك أنه تعالى لما قال : يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ، أتبعه بهذا المثل لمن بغى في الأرض وتجبر فيها وركن إلى الدنيا وأعرض عن الآخرة لأن النبات في أول بروزه من الأرض ومبدأ خروجه يكون ضعيفا فإذا نزل عليه المطر واختلط به قوي وحسن واكتسى كمال الرونق والزينة وهو المراد من قوله حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت يعني بالنبات والزخرف عبارة عن كمال حسن الشيء وجعلت الأرض آخذة زخرفها على التشبيه بالعروس إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون حسن من حمرة وخضرة وصفرة وبياض ولا شك أن الأرض متى كانت على هذه الصفة فإنه يفرح بها صاحبها ويعظم رجاؤه في الانتفاع بها وبما فيها ثم إن الله سبحانه وتعالى أرسل على هذه الأرض صاعقة أو بردا أو ريحا فجعلها حصيدا كأن لم تكن من قبل.

قال قتادة : إن المتشبث بالدنيا يأتيه أمر الله وعذابه أغفل ما يكون.

٤٣٤

ووجه التمثيل ، أن غاية هذه الحياة الدنيا التي ينتفع بها المرء كناية عن هذا النبات الذي لما عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه ، ولأن المتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذاتها. وقيل : يحتمل أن يكون ضرب هذا المثل لمن ينكر المعاد والبعث بعد الموت وذلك ، لأن الزرع إذا انتهى وتكامل في الحسن إلى الغاية القصوى أتته آفة فتلف بالكلية. ثم إن الله سبحانه وتعالى قادر على إعادته كما كان أول مرة فضرب الله سبحانه وتعالى هذا المثل ليدل على أن من قدر على إعادة ذلك النبات بعد التلف كان قادرا على إعادة الأموات أحياء في الآخرة ليجازيهم على أعمالهم فيثيب الطائع ويعاقب العاصي.

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يعني : كما بينا لكم مثل الحياة الدنيا وعرفناكم حكمها ، كذلك نبين حججنا وأدلتنا لمن تفكر واعتبر ليكون ذلك سببا موجبا لزوال الشك والشبهة من القلوب.

قوله سبحانه وتعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) لما ذكر الله زهرة الحياة الدنيا وأنها فانية زائلة لا محالة دعا إلى داره والله يدعو إلى دار السلام.

قال قتادة : الله هو السلام وداره الجنة فعلى هذا السلام اسم من أسماء الله عزوجل ومعناه أنه سبحانه وتعالى سلم من جميع النقائص والعيوب والفناء والتغيير. وقيل : إنه سبحانه وتعالى يوصف بالسلام لأن الخلق سلموا من ظلمه. وقيل : إنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى ذي السلام أي لا يقدر على تخليص العاجزين من المكاره والآفات إلا هو.

وقيل : دار السلام اسم للجنة وهو جمع سلامة. والمعنى : أن من دخلها فقد سلم من جميع الآفات ، كالموت والمرض والمصائب والحزن والغم والتعب والنكد. وقيل : سميت الجنة دار السلام لأن الله سبحانه وتعالى يسلم على أهلها أو تسلم الملائكة عليهم. قيل : إن من كمال رحمة الله وجوده وكرمه على عباده ، أن دعاهم إلى جنته التي هي دار السلام.

وفيه دليل على أن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، لأن العظيم لا يدعو إلا إلى عظيم ولا يصف إلا عظيما ، وقد وصف الله سبحانه وتعالى الجنة في آيات كثيرة من كتابه : (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يعني : والله يهدي من يشاء من خلقه إلى صراطه المستقيم وهو دين الإسلام عم بالدعوة أولا إظهارا للحجة وخص بالدعوة ثانيا استغناء عن الخلق وإظهارا للقدرة فحصلت المغايرة بين الدعوتين (خ).

عن جابر قال : «جاءت ملائكة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو نائم فقال بعضهم : إنه نائم وقال بعضهم : العين نائمة والقلب يقظان فقالوا : إن لصاحبكم مثلا فاضربوا له مثلا فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة» ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا أولوها يفقهها فإن العين نائمة والقلب يقظان فقال بعضهم الدار الجنة والداعي محمد فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله ومن عصى محمدا فقد عصى الله ومحمد فرق بين الناس وفي رواية : «خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إني رأيت في المنام كأن جبريل عليه‌السلام عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا» وعن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله ضرب مثلا صراطا مستقيما على كتفي الصراط داران لهما أبواب مفتحة على الأبواب ستور وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوقه والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والأبواب التي على كتفي الصراط حدود الله فلا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف الستر والذي يدعو من فوقه واعظ ربه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها

٤٣٥

خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨))

قوله عزوجل : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) قال ابن عباس : للذين شهدوا أن لا إله إلا الله الجنة. وقيل : معناه للذين أحسنوا عبادة الله في الدنيا من خلقه وأطاعوه فيما أمرهم ونهاهم عنه الحسنى ، قال ابن الأنباري : الحسنى في اللغة ، تأنيث الأحسن والعرب توقع هذه اللفظة على الخلة المحبوبة والخلصة المرغوب فيها. وقيل : معناه للذين أحسنوا المثوبة الحسنى (وَزِيادَةٌ) اختلف المفسرون في معنى هذه الحسنى وهذه الزيادة على أقوال :

القول الأول : إن الحسنى هي الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم وهذا قول جماعة من الصحابة منهم أبو بكر الصديق وحذيفة وأبو موسى الأشعري وعبادة بن الصامت وهو قول الحسن وعكرمة والضحاك ومقاتل والسدي ويدل على صحة هذا القول المنقول والمعقول أما المنقول فما روي عن صهيب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى أتريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الحجاب قال فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى» زاد في رواية «ثم تلا هذه الآية : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة» أخرجه مسلم. وروى الطبري بسنده عن كعب بن عجرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال : الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم.

وعن أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله سبحانه وتعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة. قال : الحسنى : الجنة وزيادة : قال النظر إلى وجه الله. وعن أبي موسى الأشعري قال : «إن كان يوم القيامة بعث الله إلى أهل الجنة مناديا ينادي هل أنجزكم الله ما وعدكم به فينظرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامات فيقولون نعم فيقول للذين أحسنوا الحسنى وزيادة النظر إلى وجه الرحمن تبارك وتعالى وفي رواية رفعها أبو موسى قال عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يبعث يوم القيامة» وذكره بمعناه. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله لهم : هل بقي من حقكم شيء لم تعطوه قال : فيتجلى لهم عزوجل قال فيصغر عندهم كل شيء أعطوه ثم قال للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال الحسنى الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه ربهم» فهذه الأخبار والآثار قد دلت على أن المراد بهذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى. وأما المعقول فنقول : إن الحسنى لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف فانصرفت إلى المعهود السابق وهو الجنة في قوله سبحانه وتعالى والله يدعو إلى دار السلام فثبت بهذا أن المراد من لفظة الحسنى هي الجنة وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الزيادة أمرا مغايرا لكل ما في الجنة من النعيم وإلا لزم التكرار وإذا كان كذلك وجب حمل هذه الزيادة على رؤية الله تبارك وتعالى ومما يؤكد ذلك قوله سبحانه وتعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) فأثبت لأهل الجنة أمرين أحدهما النضارة وهو حسن الوجوه وذلك من نعيم الجنة ، والثاني النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى وآيات القرآن يفسر بعضها بعضا فوجب حمل الحسنى على الجنة ونعيمها وحمل الزيادة على رؤية الله تبارك وتعالى. وقالت المعتزلة : لا يجوز حمل هذه الزيادة على الرؤية ، لأن الدلائل العقلية دلت على أن رؤية الله سبحانه وتعالى ممتنعة ، ولأن الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه ورؤية الله ليست من جنس نعيم الجنة ولأن الأخبار التي تقدمت توجب التشبيه ولأن جماعة من المفسرين حملوا هذه الزيادة على غير الرؤية فانتفى ما قلتم.

٤٣٦

أجاب أصحابنا عن هذه الاعتراضات بأن الدلائل العقلية قد دلت على إمكان وقوع رؤية الله تعالى في الآخرة وإذا لم يوجد في العقل ما يمنع من رؤية الله تعالى وجاءت الأحاديث الصحيحة بإثبات الرؤية وجب المصير إليها وإجراؤها على ظواهرها من غير تشبيه ولا إحاطة.

وأجيب عن قولهم ولأن الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه بأن المزيد عليه إذا كان بمقدار معين كانت الزيادة من جنسه وإذا لم يكن بمقدار معين وجب أن تكون الزيادة مخالفة له فالمذكور في الآية لفظ الحسنى وهي الجن ونعيمها غير مقدر بقدر معين فوجب أن الزيادة تكون شيئا مغايرا لنعيم الجنة وذلك المغاير هو الرؤية.

وأجيب عن قولهم ولأن جماعة من المفسرين حملوا الزيادة على غير الرؤية بأنه معارض بقول جماعة من المفسرين : بأن الزيادة هي الرؤية والمثبت مقدم على النافي والله أعلم.

القول الثاني : في معنى هذه الزيادة ما روي عن علي بن أبي طالب أنه قال الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب.

القول الثالث : إن الحسنى واحدة الحسنات والزيادة التضعيف إلى تمام العشرة إلى سبعمائة.

قال ابن عباس : هو مثل قوله سبحانه وتعالى : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) يقول يجزيهم بعملهم ويزيدهم من فضله.

قال قتادة : كان الحسن يقول : الزيادة الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.

القول الرابع : إن الحسنى حسنة مثل حسنة والزيادة مغفرة من الله ورضوان قاله مجاهد.

القول الخامس : قول ابن زيد أن الحسنى هي الجنة والزيادة ما أعطاهم في الدنيا لا يحاسبهم به يوم القيامة وقوله سبحانه وتعالى : (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ) يعني ولا يغشى وجوه أهل الجنة (قَتَرٌ) أي كآبة ولا كسوف ولا غبار.

وقال ابن عباس : هو سواد الوجوه (وَلا ذِلَّةٌ) يعني ولا هوان. قال ابن أبي ليلى : هذا بعد نظرهم إلى ربهم تبارك وتعالى : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) يعني أن هؤلاء الذين وصفت صفتهم هم أصحاب الجنة لا غيرهم وهم فيها مقيمون لا يخرجون منها أبدا.

قوله سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) اعلم أنه لما شرح الله سبحانه وتعالى أحوال المحسنين وما أعد لهم من الكرامة شرح في الآية حال من أقدم على السيئات والمراد بهم الكفار فقال سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ). يعني : والذين عملوا السيئات والمراد بها الكفر والمعاصي جزاء سيئة بمثلها يعني فلهم جزاء السيئة التي عملوها مثلها العقاب. والمقصود من هذا التقييد ، التنبيه على الفرق بين الحسنات والسيئات لأن الحسنات يضاعف ثوابها لعاملها من الواحدة إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة وذلك تفضلا منه وتكرما. وأما السيئات ، فإنه يجازي عليها بمثلها عدلا منه سبحانه وتعالى : (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) قال ابن عباس : يغشاهم ذل وشدة. وقيل : يغشاهم ذل وهوان لعقاب الله إياهم (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) يعني ما لهم مانع يمنعهم من عذاب الله إذا نزل بهم (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) يعني كأنما ألبست وجوههم سوادا من الليل المظلم (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) قوله سبحانه وتعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) الحشر الجمع من كل جانب وناحية إلى موضع واحد والمعنى ويوم نجمع الخلائق جميعا لموقف الحساب وهو يوم القيامة (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ) أي الزموا مكانكم واثبتوا فيه حتى تسألوا وفي هذا

٤٣٧

وعيد وتهديد للعابدين والمعبودين (أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) يعني أنتم أيها المشركون والأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) يعني : ففرقنا بين العابدين والمعبودين وميزنا بينهم وانقطع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا.

فإن قلت قوله سبحانه وتعالى فزيلنا بينهم جاء على لفظ الماضي بعد قوله ثم نقول للذين أشركوا وهو منتظر في المستقبل فما وجهه.

قلت : السبب فيه ، أن الذي حكم الله فيه بأنه سيكون صار كالكائن الآن.

قوله : (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) يعني الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله وإنما سماهم شركاءهم ، لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم أو لأنه سبحانه وتعالى لما خاطب العابدين والمعبودين بقوله : مكانكم فقد صاروا شركاء في هذا الخطاب (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) تبرأ المعبودون من العابدين.

فإن قلت : كيف صدر هذا الكلام من الأصنام وهي جماد لا روح فيها ولا عقل لها؟

قلت : يحتمل أن الله تعالى خلق لها في ذلك اليوم من الحياة والعقل والنطق حتى قدرت على هذا الكلام فإن قلت إذا أحياهم الله في ذلك اليوم فهل يفنيهم أو يبقيهم.

قلت : الكل محتمل ولا اعتراض على الله في شيء من أفعاله وأحوال القيامة غير معلومة إلا ما دل عليه الدليل من كتاب أو سنة.

فإن قلت : إن الأصنام قد أنكرت أن الكفار كانوا يعبدونها وقد كانوا يعبدونها؟

قلت : قد تقدمت هذه المسألة وجوابها في تفسير سورة الأنعام ونقول هنا قال مجاهد : تكون في يوم القيامة ساعة تكون فيها شدة تنصب لهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله ، فتقول الآلهة : والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ولا نعلم أنكم تعبدوننا فيقولون والله إياكم كنا نعبد فتقول لهم الآلهة.

(فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢))

(فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ). والمعنى قد علم الله وكفى به شهيدا أما ما علمنا أنكم كنتم تعبدوننا وما كنا عن عبادتكم إيانا من دون لله إلا غافلين ما نشعر بذلك أما قوله سبحانه وتعالى :

(هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) فهو كالتتمة للآية المتقدمة والمعنى في ذلك المقام أو ذلك الموقف أو ذلك الوقت على معنى استعارة إطلاق اسم المكان على الزمان وفي قوله تبلوا قراءات قرئ بتاءين ولها معنيان أحدهما أنه من تلاه إذا تبعه أي تبع كل نفس ما أسلفت لأن العمل هو الذي يهدي النفس إلى الثواب أو العقاب.

الثاني : أن يكون من التلاوة والمعنى أن كل نفس تقرأ صحيفة عملها من خير أو شر. وقرئ : تبلو بالتاء المثناة والباء الموحدة ومعناه تخبر وتعلم. والبلو : الاختبار ومعناه : اختبارها ما أسلفت يعني : أنه إن قدم خيرا أو شرا قدم عليه وجوزي به (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) الرد : عبارة عن صرف الشيء إلى الموضع الذي جاء منه. والمعنى : وردوا إلى ما ظهر لهم من الله الذي هو مالكهم ومتولي أمرهم.

٤٣٨

فإن قلت : قد قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) فما الفرق؟

قلت : المولى في اللغة يطلق على المالك ويطلق على الناصر ، فمعنى المولى هنا المالك ومعنى المولى هناك الناصر فحصل الفرق بين الآيتين (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) يعني وبطل وذهب ما كانوا يكذبون فيه في الدنيا وهو قولهم إن هذه الأصنام تشفع لنا.

قوله عزوجل : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من يرزقكم من السماء يعني المطر والأرض يعني النبات (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) يعني ومن أعطاكم هذه الحواس التي تسمعون بها وتبصرون بها (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) يعني أنه تعالى يخرج الإنسان حيا من النطفة وهي ميتة وكذلك الطير من البيضة وكذلك يخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي ويخرج البيضة الميتة من الطائر الحي. وقيل : معناه أنه يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، والقول الأول أقرب إلى الحقيقة (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يعني أن مدبر أمر السموات ومن فيها ومدبر أمر الأرض وما فيها هو الله تعالى وذلك قوله (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) يعني أنهم يعترفون أن فاعل هذه الأشياء هو الله وإذا كانوا يقرون بذلك (فَقُلْ) أي قل لهم يا محمد (أَفَلا تَتَّقُونَ) يعني : أفلا تخافون عقابه حيث تعبدون هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ولا تقدر على شيء من هذه الأمور (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) يعني : فذلكم الذي يفعل هذه الأشياء ويقدر عليها هو الله ربكم الحق الذي يستحق العبادة لا هذه الأصنام (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) يعني : إذا ثبت بهذه البراهين الواضحة والدلائل القطعية أن الله هو الحق وجب أن يكون ما سواه ضلالا وباطلا (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) يعني : إذا عرفتم هذا الأمر الظاهر الواضح فكيف تستخيرون العدول عن الحق إلى الضلال الباطل.

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥))

(كَذلِكَ) أي كما ثبت أنه ليس بعد الحق إلا الضلال (حَقَّتْ) أي وجبت (كَلِمَةُ رَبِّكَ) في الأزل (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) قيل : المراد بكلمة الله قضاؤه عليهم في اللوح المحفوظ أنهم لا يؤمنون وقضاؤه لا يرد ولا يدفع (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين هل من شركائكم يعني هذه الأصنام التي تزعمون أنها آلهة (مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) يعني من يقدر على أن ينشئ الخلق على غير مثال سبق (ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي ثم يعيده بعد الموت كهيئته أول مرة ، وهذا السؤال استفهام إنكار (قُلْ) أي : قل أنت يا محمد (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) يعني أن الله هو القادر على ابتداء الخلق وإعادته (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) يعني فأنى تصرفون عن قصد السبيل والمراد من هذا التعجب من أحوالهم كيف تركوا هذا الأمر الواضح وعدلوا عنه إلى غيره (قُلْ) أي قل يا محمد (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) يعني هل من هذه الأصنام من يقدر علي أن يرشد إلى الحق فإذا قالوا لا ولا بد لهم من ذل (قُلْ) أي قل لهم أنت يا محمد (اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) يعني أن الله هو الذي يرشد إلى الحق لا غيره (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) يعني أن الله هو الذي يهدي إلى الحق فهو أحق بالاتباع لا هذه الأصنام التي لا تهتدي إلا أن تهدي.

فإن قلت : الأصنام جماد لا تتصور هدايتها ولا أن تهدي فكيف قال إلا أن يهدي.

قلت : ذكر العلماء عن هذا السؤال وجوها.

٤٣٩

الأول : أن معنى الهداية في حق الأصنام الانتقال من مكان إلى مكان فيكون المعنى أنها لا تنتقل من مكان إلى مكان آخر إلا أن تحمل وتنقل ، فبين سبحانه وتعالى بها عجز الأصنام.

الوجه الثاني : أن ذكر الهداية في حق الأصنام على وجه المجاز وذلك أن المشركين لما اتخذوا الأصنام آلهة وأنزلوها منزلة من يسمع ويعقل عبر عنها بما يعبر به عمن يسمع ويعقل ويعلم ووصفها بهذه الصفة وإن كان الأمر ليس كذلك.

الوجه الثالث : يحتمل أن يكون المراد من قوله هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده الأصنام ، والمراد من قوله هل من شركائكم من يهدي إلى الحق رؤساء الكفر والضلالة فالله سبحانه وتعالى هدى الخلق إلى الدين بما ظهر من الدلائل الدالة على وحدانيته وأما رؤساء الكفر والضلالة فإنهم لا يقدرون على هداية غيرهم إلا إذا هداهم الله إلى الحق فكان اتباع دين الله والتمسك بهدايته أولى من اتباع غيره.

وقوله سبحانه وتعالى : (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) قال الزجاج : فما لكم كلام تام كأنه قيل لهم : أي شيء لكم في عبادة هذه الأصنام. ثم قال : كيف تحكمون؟ يعني : على أي حال تحكمون. وقيل : معناه كيف تقضون لأنفسكم بالجور حين تزعمون أن مع الله شريكا وقيل معناه بئسما حكمتم إذ جعلتم لله شريكا من ليس بيده منفعة ولا مضرة ولا هداية.

(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠))

(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) يعني : وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته بل هم في شك منه وريبة وقيل المراد بالأكثر الكل لأن جميع المشركين يتبعون الظن في دعواهم أن الأصنام تشفع لهم وقيل المراد بالأكثر الرؤساء (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) يعني أن الشك لا يغني عن اليقين شيئا ولا يقوم مقامه وقيل في الآية إن قولهم إن الأصنام آلهة وإنها تشفع لهم ظن منهم لم يرد به كتاب ولا يعني أنها لا تدفع عنهم من عذاب الله شيئا (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) يعني من اتباعهم الظن وتكذيبهم الحق اليقين.

قوله تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) يعني وما كان ينبغي لهذا القرآن أن يختلق ويفتعل لأن معنى الافتراء الاختلاق والمعنى ليس وصف القرآن وصف شيء ممكن أن يفترى به على الله لأن المفترى هو الذي يأتي به البشر وذلك أن كفار مكة زعموا أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بهذا القرآن من عند نفسه على سبيل الافتعال والاختلاق فأخبر الله عزوجل أن هذا القرآن وحي أنزله الله عليه وأنه مبرأ عن الافتراء والكذب وأنه لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى.

ثم ذكر سبحانه وتعالى ما يؤكد هذا بقوله : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) يعني ولكن الله أنزل هذا القرآن مصدقا لما قبله من الكتب التي أنزلها على أنبيائه كالتوراة والإنجيل. وتقرير هذا ، أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ولم يجتمع بأحد من العلماء ، ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بهذا القرآن العظيم المعجز وفيه أخبار الأولين وقصص

٤٤٠