تفسير مقاتل بن سليمان - ج ١

تفسير مقاتل بن سليمان - ج ١

المؤلف:


المحقق: عبدالله محمود شحاته
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) نزلت فى سعد بن أبى وقاص ـ رضى الله عنه ـ وفى رجل من الأنصار يقال له عتبان بن مالك الأنصارى ، وذلك أن الأنصارى صنع طعاما وشوى رأس بعير ودعا سعد بن أبى وقاص إلى الطعام وهذا قبل التحريم فأكلوا وشربوا حتى انتشوا وقالوا الشعر ، فقام الأنصارى إلى سعد فأخذ إحدى لحيي البعير فضرب به وجهه فشجه فانطلق سعد مستعديا إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنزل تحريم الخمر ، فقال ـ سبحانه ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) (١) يعنى به القمار كله (وَالْأَنْصابُ) يعنى الحجارة التي كانوا ينصبونها ويذبحون لها (وَالْأَزْلامُ) يعنى القدحين الذين كانوا يعملون بهما (رِجْسٌ) يعنى إثم (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) يعنى من تزيين الشيطان ومثله فى القصص (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٢) (فَاجْتَنِبُوهُ) فهذا النهى للتحريم (٣) ، كما قال ـ سبحانه ـ : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (٤) فإنه حرام : كذلك فاجتنبوا الخمر فإنها حرام (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ـ ٩٠ ـ يعنى لكي (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ) يعنى أن يغرى بينكم العداوة (وَالْبَغْضاءَ) الذي كان بين سعد وبين الأنصارى حتى كسر أنف سعد (فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) ورث ذلك العداوة والبغضاء (وَ) يريد الشيطان أن (يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) يقول إذا سكرتم لم تذكروا الله ـ عزوجل ـ (وَعَنِ الصَّلاةِ) يقول إذا سكرتم لم تصلوا (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ـ ٩١ ـ فهذا وعيد بعد النهى والتحريم قالوا انتهينا يا ربنا. فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يا أيها الذين آمنوا إن الله حرم عليكم

__________________

(١) ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي : ١١٨ ، وساق رواية أخرى طويلة فى سبب نزول الآية ، وأورد السيوطي فى لباب النقول : ٩٦ عدة روايات فى أسباب نزول هذه الآية وما بعدها.

(٢) سورة القصص : ١٥.

(٣) فى أ : والتحريم.

(٤) سورة الحج : ٣٠.

٥٠١

الخمر فمن كان عنده منها شيء فلا يشربها ولا يبيعها ولا يسقيها غيره». قال (١) : وقال أنس بن مالك لقد نزل تحريم الخمر وما بالمدينة يومئذ خمر إنما كانوا يشربون الفصيح (٢). وأما الميسر فهو القمار وذلك أن الرجل فى الجاهلية كان يقول أين أصحاب الجزور فيقوم نفر فيشترون بينهم جزورا فيجعلون لكل رجل منهم سهم ثم يقرعون فمن خرج سهمه [١٠٧ ب] برىء من الثمن وله نصيب فى اللحم حتى يبقى آخرهم فيكون عليه الثمن كله وليس له نصيب فى اللحم وتقسم الجزور بين البقية بالسوية. وأما الأزلام فهي القداح التي كانوا يقتسمون الأمور بها : قد حين مكتوب على أحدهما : أمرنى ربى ، وعلى الآخر : نهاني ربى فإذا أرادوا أمرا أتوا بيت الأصنام فغطوا عليه ثوبا ثم ضربوا بالقداح فإن خرج أمرنى ربى مضى على وجهه الذي يريد ، وإن خرج نهاني ربى لم يخرج فى سفره ، وكذلك كانوا يفعلون إذا شكوا فى نسبة رجل ، وأما الأنصاب فهي الحجارة التي كانوا ينصبونها حول الكعبة وكانوا يذبحون لها ، ثم قال ـ عزوجل ـ : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فى تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام إلى آخر الآية (وَاحْذَرُوا) معاصيهما (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) يعنى أعرضتم عن طاعتهما (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا) محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ـ ٩٢ ـ فى تحريم ذلك. فلما نزلت هذه الآية فى تحريم الخمر قال حيى بن أخطب وأبو ياسر وكعب بن الأشرف للمسلمين : فما حال من مات منكم وهم يشربون الخمر؟ فذكروا (٣) ذلك للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقالوا : إن إخواننا ماتوا وقتلوا وقد كانوا

__________________

(١) أى قال مقاتل.

(٢) فى أ : الفضيخ.

(٣) فى أ : فذكر.

٥٠٢

يشربونها فأنزل الله ـ عزوجل ـ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) يعنى حرج (فِيما طَعِمُوا) يعنى شربوا من الخمر قبل التحريم (١) (إِذا مَا اتَّقَوْا) المعاصي (وَآمَنُوا) بالتوحيد (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) «يعنى أقاموا الفرائض» (٢) قبل التحريم (ثُمَّ اتَّقَوْا) المعاصي (وَآمَنُوا) بما يجيء من الناسخ والمنسوخ (ثُمَّ اتَّقَوْا) المعاصي بعد تحريمها (وَآمَنُوا) يعنى وصدقوا (ثُمَّ اتَّقَوْا) الشرك (وَأَحْسَنُوا) العمل بعد تحريمها فمن فعل ذلك فهو محسن (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ـ ٩٣ ـ فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للذي سأله : قيل لي إنك من المحسنين. وقوله ـ سبحانه ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) يعنى ببعض الصيد فخص صيد البر خاصة ولم يعم الصيد كله لأن للبحر صيدا (٣) (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ) يقول تأخذون صغار الصيد بأيديكم أخذا بغير سلاح ثم قال ـ سبحانه ـ : (وَرِماحُكُمْ) يعنى وسلاحكم النبل والرماح بها يصيبون كبار الصيد وهو عام حبس النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن مكة عام الحديبية وأقام بالتنعيم فصالحهم على أن يرجع عامه ذلك ولا يدخل مكة فإذا كان العام المقبل أخلوا له مكة فدخلها فى أصحابه ـ رضى الله عنهم ـ وأقام بها ثلاثا (٤) ورضى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بذلك فنحر البدن مائة بدنة فجاءت السباع والطير تأكل منها فنهى الله ـ عزوجل ـ عن قتل الصيد فى الحرم (لِيَعْلَمَ اللهُ) لكي يرى الله (مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) [١٠٨ أ] يقول من يخاف الله ـ

__________________

(١) فى أ : زيادة : إذا ماتوا ، ثم وضع فوقها خطا.

(٢) ما بين القوسين «...» ساقط من الأصل.

(٣) فى أ : لأن التحريم صيدا ، ل : لأن للبحر صيدا.

(٤) فى أ : ثلثا.

٥٠٣

عزوجل ـ ولم يره فلم يتناول الصيد وهو محرم (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) يقول فمن أخذ الصيد عمدا بعد النهى ، فقتل الصيد وهو محرم (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) ـ ٩٤ ـ يعنى ضربا وجيعا ويسلب ثيابه ويغرم الجزاء ، وحكم ذلك إلى الإمام ، فهذا العذاب الأليم قوله ـ سبحانه ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) وذلك أن أبا بشر واسمه : عمرو بن مالك الأنصارى كان محرما فى عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت فيه (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) لقتله ناسيا لإحرامه (١) (فَجَزاءٌ) يعنى جزاء الصيد (مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) يعنى من الأزواج الثمانية إن كان قتل عمدا أو خطأ أو أشار إلى الصيد فأصيب فعليه الجزاء (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) يعنى يحكم بالكفارة رجلان من المسلمين عدلين فقيهين يحكمان فى قاتل الصيد جزاء مثل ما قتل من النعم إن قتل حمار وحش أو نعامة ففيها بعيرا بنحره بمكة : يطعم المساكين ولا يأكل هو ولا أحد من أصحابه وإن كان من ذوات القرون : الأيل (٢) والوعل ونحوهما فجزاؤه أن يذبح بقرة

__________________

(١) جاء فى حاشية أما يأتى :

قال الهذيل : حدثني من سمع عطاء يقول : العمد والخطأ فيه سواء ثم قال ـ عزوجل ـ : «ومن قتله منكم متعمدا» أه.

أقول : فيكون قوله ـ سبحانه ـ : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) حكاية للواة؟؟؟ الذي حصل من عمرو ابن مالك. لا تخصيصا له.

كما فى قوله ـ سبحانه ـ (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) فالإكراه على البغاء محرم سواء أرادت الأمة إحصان نفسها وحفظ فرجها أو لم ترد.

فالآية كانت تحكى واقعا عند العرب وهو أن يكره السيد أمته على البغاء طمعا فى كسبها ، بينما الأمة راغبة فى العفة والبعد عن الخبيث كما أن هذا أبلغ فى التنفير من الإكراه على البغاء.

(٢) فى أ : الإبل.

٥٠٤

للمساكين وفى الطير ونحوها جزاؤه أن يذبح شاة مسنة (١) وفى الحمام شاة وفى بيض الحمام إذا كان فيه فرخ درهم وإن لم يكن فيه فرخ فنصف درهم وفى ولد الحمار الوحش ولد بعير مثله ، وفى ولد النعامة ولد بعير مثله ، وفى ولد الأيل والوعل ونحو ولد بقرة مثله وفى فرخ الحمام ونحوه ولد شاة مثله وفى ولد الظبى «ولد» (٢) شاة مثله (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) يعنى ينحر بمكة كقوله ـ سبحانه ـ فى الحج (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٣) تذبح بأرض الحرم فتطعم مساكين مكة (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) لكل مسكين نصف صاع حنطة (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) يقول إن لم يقدر على الهدى ولا على ثمنه «ولا على إطعام المساكين» (٤) فليصم مكان كل مسكين يوما ينظر ثمن الهدى فيجعله دراهم. ثم ينظركم يبلغ الطعام بتلك الدراهم بسعر مكة فيصوم مكان كل مسكين يوما وبكل مسكين نصف صاع حنطة (٥). (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ)

__________________

(١) المسنة «من البقر» هي التي أكملت سنة ودخلت فى الثانية وقالت المالكية : المسنة ما أوفت ثلاث سنين ودخلت فى الرابعة. الفقه على المذاهب الخمسة : ٢١٦. ط ٢ ـ بيروت.

وفى الاختيار للحنفية المسنة من البقر هي التي طعنت فوق الثالثة : ١ / ١٠٧ ، ويجزئ فى الأضحية الثنى من الكل وهو من الغنم ما له سنة ومن البقر ما له سنتان ومن الإبل خمس سنين : ٥ / ١٨ ، (فالشاة المسنة هي التي طعنت فى الثانية)

(٢) ولد : ساقط من أ ، ومثبت فى ل.

(٣) سورة الحج : ٣٣.

(٤) فى أ : أن يطعم المساكين ، فى ل : أو يطعم المساكين.

(٥) يمكن تقريب المسألة على هذا النحو.

الشاة ثمنها : ٣٠٠ قرشا (فرضا أو ٣٠٠٠ فلسا).

ثمن كيلوا الأرز : ١٠ قروش أو ١٠٠ فلس).

(الصاع ٣ كيلو) ثمن الصاع من الأرز : ٣٠ قرشا.

ثمن نصف الصاع : ١٥ قرشا.

عدد أنصاف الأصوع المشتراة بثمن الشاة هو :

٣٠٠ قرش ١٥ ٢٠ نصف صاع.

عدل ثمن الشاة صباها؟؟؟ هو ٢٠ يوما.

٥٠٥

يعنى جزاء ذنبه يعنى الكفارة عقوبة له بقتله «الصيد» (١) (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) يقول عفا الله عما كان منه قبل التحريم يقول تجاوز الله عما صنع فى قتله الصيد متعمدا قبل نزول هذه الآية (وَمَنْ عادَ) بعد النهى إلى قتل الصيد (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) بالضرب والفدية وينزع ثيابه (وَاللهُ عَزِيزٌ) يعنى منيع فى ملكه (ذُو انْتِقامٍ) ـ ٩٥ ـ من أهل معصيته فيمن قتل الصيد.

نزلت هذه الآية «قبل الآية» (٢) الأولى : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣) [١٠٨ ب] ثم قال ـ عزوجل ـ : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) يعنى السمك الطري وشيء يفرخ فى الماء لا يفرخ فى غيره فهو للمحرم حلال ، ثم قال : (وَطَعامُهُ) يعنى مليح (٤) السمك (مَتاعاً لَكُمْ) يعنى منافع لكم يعنى للمقيم (وَلِلسَّيَّارَةِ) يعنى للمسافر (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) يعنى ما دمتم محرمين (وَاتَّقُوا اللهَ) ولا تستحلوا الصيد فى الإحرام ثم حذرهم قتل الصيد ، فقال ـ سبحانه ـ : (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٥) ـ ٩٦ ـ فى الآخرة فيجزيكم بأعمالكم. قوله ـ سبحانه ـ : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ

__________________

(١) ساقطة من أ ، ومثبتة فى ل.

(٢) زيادة من ل.

(٣) أى أن الآية : ٩٥ من سورة المائدة نزلت قبل الآية ٩٤ من سورة المائدة والآية (٩٤) (الأولى) هي التي ذكر فيها (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وبرغم أن (٩٥) نزلت قبل (٩٤) إلا أنها فى ترتيب المصحف كتبت (٩٤) أولا وبعدها (٩٥).

وما أكثر الآيات التي تقدمت نزولا وتأخرت ترتيبا فترتيب المصحف توقيفى تلقاه النبي (ص) عن جبريل عن رب العزة. وكانت إذا نزلت آية جديدة يقول النبي (ص) اكتبوها فى سورة كذا فى مكان كذا.

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).

(٤) فى ل : ملح ، أ : قليح.

(٥) فى حاشية أ ، فى الأصل واعلموا أنكم إليه تحشرون.

٥٠٦

الْبَيْتَ الْحَرامَ) أنها سميت الكعبة لأنها منفردة من البنيان وكل منفرد من البنيان فهو فى كلام العرب الكعبة. قال أبو محمد : قال ثعلب : العرب تسمى كل بيت مربع الكعبة (قِياماً لِلنَّاسِ) يعنى أرض الحرم أمنّا لهم وحياة لهم فى الجاهلية. قال : كان أحدهم إذا أصاب ذنبا أو أحدث حدثا يخاف على نفسه دخل الحرم فأمن فيه (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) قال : كان الرجل إذا أراد سفرا نظر فى أمره فإن كان السفر الذي يريده يعلم أنه يذهب ويرجع قبل أن يمضى الشهر الحرام توجه آمنا ، ولم يقلد نفسه ولا راحلته ، وإن كان يعلم أنه لا يقدر على الرجوع حتى يمضى الشهر الحرام قلد نفسه وبعيره من لحا شجر الحرم فيأمن به حيث ما توجه من البلاد ، فمن ثم قال ـ سبحانه ـ : (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) كل ذلك كان قواما لهم وأمنا فى الجاهلية نظيرها فى أول السورة. (ذلِكَ) يقول هذا (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قبل أن يكونا ويعلم أنه سيكون من أمركم الذي كان (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ) من أعمال العباد (عَلِيمٌ) ـ ٩٧ ـ ثم خوفهم ألا يستحلوا الغارة فى حجاج اليمامة يعنى شريحا وأصحابه فقال : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) إذا عاقب (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ـ ٩٨ ـ لمن أطاعه بعد النهى ثم قال ـ عزوجل ـ : (ما عَلَى الرَّسُولِ) محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (إِلَّا الْبَلاغُ) فى أمر حجاج اليمامة شريح بن ضبيعة وأصحابه (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) يعنى ما تعلنون بألسنتكم (وَما تَكْتُمُونَ) ـ ٩٩ ـ من أمر حجاج اليمامة والغارة عليهم (قُلْ) لهم يا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) يعنى بالخبيث الحرام والطيب الحلال نزلت فى حجاج اليمامة حين أراد المؤمنون الغارة عليهم (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) يعنى الحرام ، ثم حذرهم فقال ـ سبحانه ـ : (فَاتَّقُوا اللهَ) ولا تستحلوا منهم محرما (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يعنى يا أهل اللب والعقل (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

٥٠٧

ـ ١٠٠ ـ قوله ـ سبحانه ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [١٠٩ أ] نزلت فى عبد الله بن جحش بن رباب الأسدى من بنى غنم ابن دودان وفى عبد الله بن حذافة القرشي ثم السهمي وذلك أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج (١). فقال عبد الله بن جحش : أفي كل عام فسكت عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم أعاد قوله ، فسكت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم عاد ، فغضب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ونخسه بقضيب كان معه ، ثم قال : ويحك ، لو قلت نعم لوجبت فاتركوني ما تركتكم فإذا أمرتكم بأمر فافعلوه وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه. وقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : أيها الناس ، إنه قد رفعت لي الدنيا فأنا انظر إلى ما يكون فى أمتى من الأحداث إلى يوم القيامة ، ورفعت لي أنساب العرب فأنا أعرف أنسابهم رجلا رجلا. فقام رجل ، فقال : يا رسول الله : أين أنا؟ قال : أنت فى الجنة. ثم قام آخر فقال : أين أنا؟ قال : فى الجنة ، ثم قام الثالث فقال : أين أنا؟ فقال : أنت فى النار. فرجع الرجل حزينا ، وقام عبد الله بن حذافة وكان يطعن فيه فقال : يا رسول الله من أبى؟ قال : أبوك حذافة. وقام رجل من بنى عبد الدار ، فقال : يا رسول الله من أبى؟ قال : أبوك سعد ، نسبه إلى غير أبيه ، فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله استر علينا يستر الله عليك إنا قوم قريبو عهد بالشرك. فقال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : خيرا. فأنزل الله ـ عزوجل ـ (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) يعنى إن تبين لكم فلعلكم (٢) إن تسألوا عما لم ينزل به قرآنا فينزل به قرآنا

__________________

(١) ورد ذلك فى أسباب النزول للسيوطي : ٩٦ ـ ٩٧. كما ورد فى أسباب النزول للواحدي : ١٢١ برواية عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه ... إلى على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ برفعه.

(٢) فى أ : فعلكم.

٥٠٨

مغلظا لا تطيقوه ، قوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) يعنى عن الأشياء حين ينزل بها قرآنا (تُبْدَ لَكُمْ) تبين لكم (عَفَا اللهُ عَنْها) يقول عفا الله عن تلك الأشياء حين لم يوجبها عليكم (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) ـ ١٠١ ـ يعنى ذو تجاوز حين لا يعجل بالعقوبة ، ثم قال ـ عزوجل ـ (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ) يقول قد سأل عن تلك الأشياء (مِنْ قَبْلِكُمْ) ، يعنى من بنى إسرائيل فبينت لهم (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) ـ ١٠٢ ـ وذلك أن بنى إسرائيل سألوا المائدة قبل أن تنزل فلما نزلت كفروا بها. فقالوا : ليست المائدة من الله. وكانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم بها تركوا قولهم ولم يصدقوهم فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين. قوله ـ سبحانه ـ : (ما جَعَلَ اللهُ) حراما (مِنْ بَحِيرَةٍ) لقولهم إن الله أمرنا بها نزلت فى مشركي العرب منهم قريش ، وكنانة ، عامر بن صعصعة ، وبنو مدلج والحارث وعامر ابني عبد مناة ، وخزاعة وثقيف ، أمرهم بذلك فى الجاهلية عمرو بن ربيعة بن لحى [١٠٩ ب] بن قمعة بن خندف (١) الخزاعي ، فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : رأيت عمرو بن ربيعة الخزاعي رجلا قصيرا أشقر له وفرة يجر قصبه فى النار يعنى أمعاءه ، وهو أول من سيب السائبة ، واتخذ الوصيلة ، وحمى الحامى ، ونصب الأوثان حول الكعبة ، وغير دين الحنيفية فأشبه الناس به أكثم بن لجون الخزاعي فقال أكثم : أيضرنى شبهه يا رسول الله؟ قال : لا ، أنت مؤمن وهو كافر. والبحيرة الناقة إذا ولدت خمسة أبطن فإذا كان الخامس سقيا وهو الذكر ذبحوه للآلهة فكان لحمه للرجال دون النساء ، وإن كان الخامس ربعة يعنى أنثى شقوا أذنيها. فهي البحيرة ، وكذلك من البقر لا يجز لها وبر ولا يذكر اسم الله عليها أن ركبت أو حمل عليها ولبنها للرجال

__________________

(١) فى أ : خندف ، ل : جندف.

٥٠٩

دون النساء (١). وأما السائبة فهي الأنثى من الأنعام كلها كان الرجل يسيب للآلهة ما شاء من إبله وبقره وغنمه ، «ولا يسيب إلا الأنثى» (٢) وظهورها (٣) وأولادها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها للآلهة ومنافعها للرجال دون النساء ، وأما الوصيلة فهي الشاة من الغنم إذا ولدت سبعة أبطن عمدوا إلى السابع فإن كان جديا ذبحوه للآلهة وكان لحمه للرجال دون النساء ، وإن كانت عتاقا استحيوها فكانت من عرض الغنم.

قال عبد الله بن ثابت : قال أبى : قال أبو صالح : قال مقاتل : وإن وضعته ميتا أشرك فى أكله الرجال والنساء ، فذلك قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) (٤) بأن ولدت البطن السابع جديا وعتاقا ، قالوا : إن الأخت قد وصلت أخاها فحرمته علينا فحرما جميعا فكانت المنفعة للرجال دون النساء ، وأما الحام فهو الفحل من الإبل إذا ركب أولاد أولاده فبلغ ذلك عشرة أو أقل من ذلك. قالوا : قد حمى هذا ظهره فأحرز نفسه فيهل للآلهة ولا يحمل عليه ولا يركب ولا يمنع من مرعى ولا ماء ولا حمى ولا ينحر أبدا حتى يموت موتا. فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (ما جَعَلَ اللهُ) حراما («مِنْ بَحِيرَةٍ» وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من قريش وخزاعة من مشركي العرب (يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) لقولهم إن الله أمرنا بتحريمه حين قالوا فى الأعراف («وَاللهُ أَمَرَنا) (٥) (بِها») يعنى بتحريمها ، ثم قال : (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ـ ١٠٣ ـ أن الله ـ عزوجل ـ لم يحرمه. قوله ـ سبحانه ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) يعنى مشركي

__________________

(١) هكذا فى أ ، ل.

(٢) فى أ : ولا يسيب الأنثى.

(٣) أى السائبة.

(٤) سورة الأنعام : ١٣٩.

(٥) سورة الأعراف : ٢٨.

٥١٠

العرب (تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) فى كتابه من تحليل ما حرم (١) من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام (وَإِلَى الرَّسُولِ) محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من أمر الدين فإنا أمرنا أن نعبد ما عبدوا يقول الله [١١٠ أ] عزوجل : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) يعنى فإن كان آباؤهم (لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) من الدين (وَلا يَهْتَدُونَ) ـ ١٠٤ ـ له ، أفتتبعونهم؟ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) وذلك أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب فلما أسلم العرب طوعا وكرها قبل الجزية من مجوس هجر فطعن المنافقون فى ذلك فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) (٢) يقول اقبلوا على أنفسكم فانظروا ما ينفعكم فى أمر آخرتكم فاعملوا به (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَ) من أهل هجر نزلت فى رجل من أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ) ـ عزوجل ـ (مَرْجِعُكُمْ) فى الآخرة (جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ـ ١٠٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) نزلت فى بديل بن أبى مارية مولى العاص بن وائل السهمي كان خرج مسافرا فى البحر إلى أرض النجاشي ومعه رجلان نصرانيان أحدهما يسمى تميم بن أوس الداري وكان من لخم ، وعدى بن بندا (٣) ، فمات بديل وهم فى البحر فرمى به فى البحر ، قال : (حِينَ الْوَصِيَّةِ) وذلك أنه كتب وصيته ثم جعلها فى متاعه ثم دفعه إلى تميم وصاحبه وقال لهما : أبلغا هذا المتاع إلى أهلى فجاءا ببعض المتاع وحبسا جاما من فضة مموها بالذهب فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ

__________________

(١) هكذا فى أ ، ل. والمراد وما حرم باطلا وافتراء.

(٢) ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي : ١٢١.

(٣) فى ل : زيد ، أ : بندا.

٥١١

بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ) يقول عند الوصية يشهدون وصيته (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) من المسلمين فى دينهما (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) يعنى من غير أهل دينكم : النصرانيين تميم الداري وعدى بن بندا (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) يا معشر المسلمين للتجارة (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) يعنى بديل ابن أبى مارية حين انطلق تاجرا فى البحر وانطلق معه تميم وعدى صاحباه ، فحضره الموت فكتب وصيته ثم جعلها فى المتاع فقال : أبلغا هذا المتاع إلى أهلى فلما مات بديل قبضا المتاع ، فأخذا منه ما أعجبهما ، وكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوش مموه بالذهب فلما رجعا من تجارتهما دفعا بقية المال إلى ورثته ففقدوا بعض متاعه فنظروا إلى الوصية فوجدوا المال فيه تاما لم يبع منه ولم يهب فكلموا تميما وصاحبه فسألوهما : هل باع صاحبنا شيئا أو اشترى شيئا فخسر فيه أو طال مرضه فأنفق على نفسه؟ فقالا : لا قالوا ، فإنا قد فقدنا بعض ما أبدى به صاحبنا فقالا : ما لنا بما أبدى ، ولا بما كان فى وصيته علم ولكنه دفع إلينا هذا المال فبلغناكم إياه فرفعوا أمرهم إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) [١١٠ ب](شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) يعنى بديل بن أبى مارية (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) يعنى من المسلمين : عبد الله بن عمرو ابن العاص والمطلب بن أبى وداعة السهميان. (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) من غير أهل دينكم يعنى النصرانيين (إِنْ أَنْتُمْ) معشر المسلمين (ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) تجارا (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) يعنى بديل بن أبى مارية مولى العاص ابن وائل السهمي (تَحْبِسُونَهُما) يعنى النصرانيين : تقيمونهما (١) (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ)

__________________

(١) هكذا فى أ ، ل.

٥١٢

صلاة العصر (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) فيحلفان بالله (إِنِ ارْتَبْتُمْ) يعنى إن شككتم ـ نظيرها فى النساء القصرى (١) ـ أن المال كان أكثر من هذا الذي أتيناكم به (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) يقول لا نشتري بأيماننا عرضا من الدنيا (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) يقول ولو كان الميت ذا قرابة منا (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً) إن كتمنا شيئا من المال (لَمِنَ الْآثِمِينَ) ـ ١٠٦ ـ بالله ـ عزوجل ـ فحلفهما النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عند المنبر بعد صلاة العصر فحلفا أنهما لم يخونا شيئا من المال فخلى سبيلهما ، فلما كان بعد ذلك وجدوا الإناء الذي فقدوه عند تميم الداري ، قالوا : هذا من آنية صاحبنا الذي كان أبدى بها وقد زعمتما أنه لم يبع ولم يشتر ولم ينفق على نفسه. فقالا : قد كنا اشتريناه منه فنسينا أن نخبركم به. فرفعوهما إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الثانية. فقالوا : يا رسول الله ، إنا وجدنا مع هذين إناء من فضة من متاع صاحبنا ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) يقول فإن اطلع على أنهما يعنى النصرانيين كتما شيئا من المال أو خانا (فَآخَرانِ) من أولياء الميت يعنى عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبى وداعة السهميان (يَقُومانِ مَقامَهُما) يعنى مقام النصرانيين (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَ) الإثم (عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) يعنى فيحلفان بالله فى دبر صلاة العصر أن الذي فى وصية صاحبنا حق وأن المال كان أكثر مما أتيتمانا به ، وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذي خرج به معه وكتبه فى وصيته وأنكما خنتما ، فذلك قوله ـ سبحانه ـ : (لَشَهادَتُنا) يعنى عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلب (أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما)

__________________

(١) يشير إلى الآية ٤ من سورة الطلاق وهي : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً).

٥١٣

يعنى النصرانيين (وَمَا اعْتَدَيْنا) بشهادة المسلمين من أولياء الميت (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) ـ ١٠٧ ـ (ذلِكَ أَدْنى) يعنى أجدر نظيرها فى النساء (١) (أَنْ يَأْتُوا) يعنى النصرانيين (بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) كما كانت ولا يكتمان شيئا (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) يقول أو يخافوا أن يطلع على خيانتهم فيرد شهادتهما بشهادة الرجلين المسلمين من أولياء الميت فحلف عبد الله والمطلب كلاهما أن الذي فى وصية الميت حق وأن هذا الإناء من متاع صاحبنا فأخذوا تميم بن «أوس» (٢) الداري وعدى بن بندا النصرانيين [١١١ أ] بتمام ما وجدا فى وصية الميت حين اطلع الله ـ عزوجل ـ على خيانتهما فى الإناء ، (٣) ثم وعظ الله ـ عزوجل ـ المؤمنين ألا يفعلوا مثل هذا وألا يشهدوا بما لم يعاينوا ويروا ، فقال ـ سبحانه ـ : يحذرهم نقمته : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا) مواعظه (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ـ ١٠٨ ـ وأن تميم بن أوس الداري اعترف بالخيانة فقال له النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويحك يا تميم ، أسلم يتجاوز الله عنك ما كان فى شركك ، فأسلم تميم الداري وحسن إسلامه ومات عدى بن بندا نصرانيا. قوله ـ سبحانه ـ : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) يعنى الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ (فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) فى التوحيد (قالُوا لا عِلْمَ لَنا) وذلك أول ما بعثوا عند زفرة جهنم لأن الناس إذا خرجوا من قبورهم تاهت عقولهم ، فجالوا فى الدنيا ثلاثين سنة ويقال أربعين سنة ، ثم ينادى مناد (٤) عند صخرة بيت المقدس : يا أهل الدنيا ، هاهنا موضع الحساب فيسمع النداء

__________________

(١) يشير إلى الآية ٣ من سورة النساء وفيها (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا).

(٢) أوس : ساقط من أ ، ل.

(٣) وردت هذه القصة فى أسباب النزول للواحدي : ١٢١ وفى لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطي : ٩٧.

(٤) فى أ : منادى.

٥١٤

جميع الناس فيقبلون نحو الصوت فإذا اجتمعوا ببيت المقدس زفرت جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبى مرسل إلا ظن أنه لو جاء بعمل سبعين نبيا ما نجا (١) فعند ذلك تاهت عقولهم فيقول لهم عند ذلك ـ يعنى المرسلين ـ («ما ذا أُجِبْتُمْ) فى التوحيد (قالُوا لا عِلْمَ لَنا» إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ـ ١٠٩ ـ ثم رجعت عقولهم بعد ذلك إليهم فشهدوا على قومهم أنهم قد بلغوا الرسالة عن ربهم فذلك قوله ـ سبحانه ـ : (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) : يعنى الأنبياء (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) (٢).

قوله ـ سبحانه ـ : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) فى الآخرة (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) يعنى مريم ـ عليهما‌السلام ـ (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (٣) : فالنعمة على عيسى حين أيده بروح القدس يعنى جبريل ـ عليه‌السلام ـ (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) صبيا (وَ) تكلمهم (كَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) يعنى خط الكتاب بيده (وَالْحِكْمَةَ) يعنى الفهم والعلم (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) يعنى علم التوراة والإنجيل وجعله نبيا ورسولا إلى بنى إسرائيل (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (٤) يعنى الخفاش (بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها) يعنى فى الهيئة (فَتَكُونُ طَيْراً) (٥) (بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) (٦) يعنى الأعمى الذي يخرج من بطن أمه أعمى (وَ) يبرئ (الْأَبْرَصَ) يمسحهما بيده فيبرئهما (بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) أحياء (وَإِذْ كَفَفْتُ

__________________

(١) فى أ : نجا ، وفى حاشية أ : ما نجا ومحمد.

(٢) سورة هود : ١٨.

(٣) ما بين الأقواس «...». ساقط من أ ، ل.

(٤) فى أ : اضطراب فسر آخر هذه الآية قبل أولها ثم أعاد تفسيرها. وكذلك فى ل : خلط بينها وبين آيات أخرى فى معناها من سور أخرى. وقد حققت الخطأ وأعدت ترتيب الآية حسب وورودها فى المصحف.

(٥) فى أ : طائرا.

(٦) خلط فى الكلام فى أ ، ل.

٥١٥

بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) أى عن قتلك (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) «وهي إحياء سام ابن نوح بإذن الله» (١).

فيقوم عيسى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوم القيامة بهؤلاء الكلمات خطيبا على رءوس الخلائق ، ويخطب إبليس لعنه الله على أهل النار بهذه الآية (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ ...) [١١١ ب] إلى قوله (بِمُصْرِخِكُمْ) يعنى بمانعكم من العذاب (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) يعنى بمانعي من العذاب (إِنِّي كَفَرْتُ) يعنى تبرأت (بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) (٢) أى فى دار الدنيا. وأما النعمة على مريم ـ عليها‌السلام ـ فهي أنه اصطفاها يعنى اختارها وطهرها من الإثم واختارها على نساء العالمين وجعلها زوجة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى الجنة.

قوله ـ سبحانه ـ : (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) (٣) يعنى تكلم بنى إسرائيل صبيا فى المهد حين جاءت به أمه تحمله ، («وَ) يكلمهم (كَهْلاً») حين اجتمع واستوت لحيته (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) يعنى خط الكتاب بيده (وَالْحِكْمَةَ) يعنى الفهم والعلم (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) يعنى الخفاش (فَتَنْفُخُ فِيها) يعنى فى الهيئة (فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) الذي يخرج من بطن أمه أعمى فكان عيسى ـ عليه‌السلام (٤) ـ يرد إليه بصره بإذن الله ـ تعالى ـ : «فيمسح بيده عليه فإذا هو صحيح بإذن الله» (٥) وأحيا سام

__________________

(١) هذه الجملة متصيدة من كلام المفسر بعد إصلاحه ونصها «عنك القتل فى أمر سام بن نوح».

(٢) سورة إبراهيم : ٢٢.

(٣) أعاد تفسيره لجزء الآية ١١٠ فكرر تفسير هذا الجزء بأسلوب آخر فيه تفسير وتعليق.

(٤) فى أ : صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٥) ما بين الأقواس زيادة من ل.

٥١٦

ابن نوح بإذن الله حيث كلمه الناس ثم مات فعاد كما كان (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) يعنى عن قتلك حين رفعه الله ـ عزوجل ـ إليه «وقتل» (١) شبيهه وهو الرقيب الذي كان عليه (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) يعنى بالعجائب التي كان يصنعها من إبراء الأكمه والأبرص والموتى والطائر ونحوه (٢).

(فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) يعنى من اليهود من بنى إسرائيل (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ـ ١١٠ ـ يعنى ما هذا الذي يصنع عيسى من الأعاجيب إلا سحر مبين يعنى بين ، نظيرها فى الصف (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) وهم القصارون مبيضو الثياب وكانوا اثنى عشر رجلا والوحى إليهم من الله ـ عزوجل ـ هو إلهام قذف فى قلوبهم التصديق بالله ـ عزوجل ـ بأنه واحد لا شريك له فذلك قوله ـ عزوجل ـ (أَنْ آمِنُوا بِي) أن صدقوا بأنى واحد ليس معى شريك (وَبِرَسُولِي) عيسى ابن مريم أنه نبى رسول (قالُوا آمَنَّا) يعنى صدقنا بما جاء به من عند الله ونشهد أن الله ـ عزوجل ـ واحد لا شريك له ، وأنك رسوله (وَاشْهَدْ) يا عيسى (بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) ـ ١١١ ـ يعنى مخلصون بالتوحيد (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) يقول هل يقدر على أن يعطيك ربك إن سألته (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ) فلا تسألوه البلاء (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ـ ١١٢ ـ فإنها إن نزلت ثم كذبتم عوقبتم (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) فقد جعنا (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) يعنى وتسكن قلوبنا إلى ما تدعونا إليه (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) بأنك نبى [١١٢ أ] رسول (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) ـ ١١٣ ـ يعنى على المائدة عند بنى إسرائيل إذا رجعنا إليهم وكان القوم الذين

__________________

(١) ما بين القوسين «...» زيادة من ل.

(٢) الجزء السابق من الآية تفسيره مكرر مرتين فى أ ، ل.

٥١٧

خرجوا وسألوا المائدة خمسة آلاف بطريق وهم الذين سألوا المائدة مع الحواريين (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عند ذلك (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) يقول تكون عيدا لمن كان فى زماننا عند نزول المائدة وتكون عيدا لمن بعدنا (وَ) تكون المائدة (آيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا) يعنى المائدة (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ـ ١١٤ ـ من غيرك يقول فإنك خير من يرزق (قالَ اللهُ) ـ عزوجل ـ (إِنِّي مُنَزِّلُها) يعنى المائدة (عَلَيْكُمْ) فنزلها يوم الأحد (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ) نزول المائدة (مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) ـ ١١٥ ـ فنزلت من السماء عليها سمك طري وخبز رقاق وتمر ، وذكروا أن عيسى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال لأصحابه ، وهم جلوس فى روضة ، هل مع أحد منكم شيء؟ فجاء شمعون بسمكتين صغيرتين وخمسة أرغفة ، وجاء آخر بشيء من سويق فعمد عيسى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقطعهما صغارا وكسر «الخبز فوضعها» (١) فلقا فلقا ووضع السويق فتوضأ ثم صلى ركعتين ودعا ربه ـ عزوجل ـ فألقى الله ـ عزوجل ـ على أصحابه شبه السبات ففتح القوم أعينهم فزاد الطعام حتى بلغ الركب (٢) ، فقال عيسى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للقوم كلوا وسموا الله ـ عزوجل ـ ولا ترفعوا ، وأمرهم أن يجلسوا حلقا حلقا فجلسوا فأكلوا حتى شبعوا وهم خمسة آلاف رجل ، وهذا ليلة الأحد ويوم الأحد ، فنادى عيسى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : أكلتم؟ قالوا : نعم. قال : لا ترفعوا. قالوا : لا نرفع ، فرفعوا فبلغ ما رفعوا من الفضل أربعة

__________________

(١) هكذا فى ل ، وفى أ : المرفق ووضعها.

(٢) فى أ ، ل : بدون إعجام ولا شكل ، وتحتمل بلغ الرّكب ، أى وصل الطعام إليهم وعمهم جميعا ، أو بلغ الرّكب أى ارتفع حتى صار فى مستوى ركبة الإنسان.

٥١٨

وعشرين مكتلا (١) فآمنوا عند ذلك بعيسى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وصدقوا به ، ثم رجعوا إلى قومهم اليهود من بنى إسرائيل ومعهم فضل المائدة فلم يزالوا بهم حتى ارتدوا عن الإسلام فكفروا بالله ، وجحدوا بنزول المائدة فمسخهم الله ـ عزوجل ـ وهم نيام خنازير وليس فيهم صبي ولا امرأة (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) يعنى بنى إسرائيل فى الدنيا (اتَّخِذُونِي وَأُمِّي) مريم (إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ) فنزه الرب ـ عزوجل ـ أن يكون أمرهم بذلك فقال : (ما يَكُونُ لِي) يعنى ما ينبغي لي (أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) يعنى بعدل أن يعبدوا غيرك (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ) لهم (فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) يعنى ما كان منى وما يكون (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) يقول ولا أطلع على [١١٢ ب] غيبك. وقال أيضا : ولا أعلم ما فى علمك ، ما كان منك وما يكون (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ـ ١١٦ ـ يعنى غيب ما كان وغيب ما يكون (ما قُلْتُ لَهُمْ) وأنت تعلم (إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) فى الدنيا (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) يعنى وحدوا الله (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) قال لهم عيسى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ذلك فى هذه السورة ، وفى كهيعص (٢) ، وفى الزخرف (٣) (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) يعنى على بنى إسرائيل بأن قد بلغتهم الرسالة (ما دُمْتُ فِيهِمْ) يقول ما كنت بين أظهرهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) يقول فلما بلغ بى أجل الموت فمت (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) يعنى

__________________

(١) فى أ : مكبلا بدون إعجام.

(٢) يشير إلى الآيات ٣٠ ـ ٣٦ من سورة مريم من قوله ـ تعالى ـ (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ...) الآيات.

(٣) يشير إلى الآية ٦٤ من سورة الزخرف وهي قوله تعالى ـ على لسان عيسى (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).

٥١٩

الحفيظ (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ـ ١١٧ ـ يعنى شاهدا بما أمرتهم من التوحيد وشهيد عليهم بما قالوا من البهتان وإنما قال الله ـ عزوجل ـ (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) ولم يقل «وإذ يقول يا عيسى ابن مريم» لأنه قال ـ سبحانه ـ قبل ذكر عيسى يوم يجمع الله الرسل فيقول : ماذا أجبتم؟ قالوا : يومئذ ـ وهو يوم القيامة ـ حين يفرغ من مخاصمة الرسل ، «فينادى» (١) أين عيسى ابن مريم فيقوم عيسى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شفق فرق يرعد رعدة حتى يقف بين يدي الله ـ عزوجل ـ يا عيسى ، (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ).

وكما قال ـ سبحانه ـ : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢) فلما دخلوا الجنة قال : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ) (٣) فنسق بالماضي على الماضي والمعنى مستقبل ولو لم يذكر الجنة قبل بدئهم بالكلام الأول لقال فى الكلام الأول وينادى (أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) (٤). وكل شيء فى القرآن على

__________________

(١) زيادة اقتضاها السياق.

(٢) سورة الأعراف : ٤٣ (... وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وتمامها : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

(٣) من سورة الأعراف : ٥٠ ، وتمامها : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ).

(٤) سورة الأعراف : ٤٤ ، وتمامها : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).

٥٢٠