تفسير مقاتل بن سليمان - ج ٥

تفسير مقاتل بن سليمان - ج ٥

المؤلف:


المحقق: عبدالله محمود شحاته
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٩

١
٢

مقدمة

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل الكائنات ، أما بعد.

فهذه دراسة وافية عن مقاتل بن سليمان ومنهجه فى تفسير القرآن الكريم ، وقد اشتملت هذه الدراسة على قسمين :

القسم الأول : عن حياة مقاتل والعلوم التي نبغ فيها.

والقسم الثاني : عن منهج مقاتل فى تفسير القرآن.

أما القسم الأول يشتمل على أربعة أبواب هي :

١ ـ حياة مقاتل.

٢ ـ مقاتل وعلم الحديث.

٣ ـ مقاتل وعلم التفسير.

٤ ـ مقاتل وعلم الكلام.

وأما القسم الثاني فقد درس منهج مقاتل فى تفسير القرآن وميره بخصائص واضحة فى ثمانية أمور هي :

١ ـ أسباب النزول.

٢ ـ النسخ.

٣ ـ المحكم والمتشابه.

٤ ـ فواتح السور.

٥ ـ الاسرائيليات.

٦ ـ التشيع.

٧ ـ المكي والمدني.

٨ ـ كيفية إنزال القرآن.

وقد درست كل موضوع منها دراسة محررة وبينت منهج مقاتل ومسلكه فيه.

ومدى ما أحرزه من توفيق أو زلل ، من صواب أو خطأ.

٣

وهذه الدراسة بقسميها : عن مقاتل ، وعن منهجه فى التفسير ، قمت بها بعد تحقيق التفسير الكبير لمقاتل ، وهو أقدم تفسير كامل للقرآن الكريم وصل إلينا ، ولذلك فقد جمعت نسخة من أنحاء العالم ، وبذلت فى تحقيقه كل ما أستطيع ، رجاء أن أسهم فى تحقيق تراثنا الحضارى والفكرى ، فضلا عن أنه تفسير لكتاب ربنا ، وهو الهدى والنور لأمتنا فى الماضي والحاضر.

والله أسأل أن ينفع به انه سميع مجيب ..

٤

تمهيد

التفسير قبل مقاتل

نزل القرآن الكريم بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم ، فكانوا يفهمونه ، ويدركون أغراضه ومراميه ، وان تفاوتوا فى هذا الفهم والإدراك ، تبعا لاختلاف درجاتهم العلمية ، ومواهبهم العقلية ، ولعل ابن خلدون كان مبالغا حين ذهب إلى أن الصحابة جميعا كانوا فى فهمه سواء (١) ، وقد قال ابن قتيبة وهو ممن تقدم على ابن خلدون ببضعة قرون : (ان العرب لا تستوي فى المعرفة بجميع ما فى القرآن من الغريب والمتشابه بل ان بعضها يفضل فى ذلك على بعض) (٢).

وقال مسروق : «جالست أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجدتهم كالاخاذ ، فالإخاذ يروى الرجل ، والاخاذ يروى الرجلين ، والاخاذ يروى العشرة ، والاخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم ، فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك الاخاذ» (٣).

وكان الصحابة رضوان الله عليهم ، إذا أشكل عليهم معنى من معاني القرآن ، لجأوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيوضحه لهم ، ويبينه كما قال تعالى : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) (٤).

فمن ذلك ما رواه أحمد والشيخان وغيرهم عن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق ذلك على الناس فقالوا يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه؟ قال انه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح «(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ، سورة لقمان : ١٣ انما هو الشرك.

وما رواه الترمذي وابن حبان ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الصلاة الوسطى صلاة العصر).

__________________

(١) المقدمة : ٤٨٩ ، (ان القرآن أنزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه فى مفرداته وتراكيبه)

(٢) ابن قتيبة : المسائل والأجوبة : ٨.

(٣) طبقات ابن سعد : ٢ / ١٥٠ ، بإسناد صحيح إلى مسروق.

(٤) سورة النحل : ٤٤.

٥

وما أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (ان المغضوب عليهم هم اليهود ، وان الضالين هم النصارى).

وما أخرجه مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ـ وهو على المنبر ـ : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ألا وأن القوة الرمي.

وما أخرجه الترمذي ... أن يوم الحج الأكبر ، هو يوم النحر.

وأن كلمة التقوى (٥) هي لا اله الا الله.

وما أخرجه أحمد ومسلم عن انس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الكوثر نهر أعطانيه ربى فى الجنة (٦)».

وغير هذا كثير مما صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

«وفى صحيح البخاري كتابان هما : كتاب تفسير القرآن وكتاب فضائل القرآن يشغلان حيزا واضحا من الكتاب ربما كان نحو الثمن منه (٧)».

وقد اختلف العلماء فى المقدار الذي بينه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه من القرآن.

فمنهم من ذهب إلى أنه بين لأصحابه كل معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه (٨) ، ومنهم من ذهب إلى أنه لم يبين لأصحابه من معاني القرآن الا القليل (٩) وقد استدل كل فريق لرأيه بعدد من الأدلة (١٠).

والحق أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الكثير من معاني القرآن لأصحابه كما تشهد بذلك كتب الصحاح ، ولم يبين كل معاني القرآن ، لأن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه ، ومنه ما يعلمه العلماء ، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها ، ومنه ما لا يعذر أحد فى جهالته.

قال ابن عباس : (التفسير على اربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعرفه العلماء ، وتفسير لا يعلمه الا الله) (١١).

__________________

(٥) فى قوله تعالى (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) : سورة الفتح : ٢٦.

(٦) الإتقان : ٢ / ١٩١ ـ ٢٠٥.

(٧) دائرة المعارف الاسلامية مادة تفسير : ٥ / ٣٤٩ (تعليق أمين الخولي)

(٨) ابن تيمية : مقدمة فى اصول التفسير : ٥.

(٩) الإتقان : ٢ / ١٧٩.

(١٠) انظر ابن تيمية : مقدمة فى أصول التفسير : ٥ ، والإتقان : ٢ / ٢٠٥.

وفى أدلة الفريق الآخر : انظر القرطبي : ١ / ٣١. والإتقان : ٢ / ١٧٤.

(١١) تفسير ابن جرير الطبري : ١ / ٢٥.

٦

ولعل الروعة الدينية لهذا العهد ، والمستوى العقلي لأهله ، ووضوح حاجات حياتهم العملية ، وتطبيق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقرآن تطبيقا عمليا فى حياته ، حتى قالت عائشة : كان خلقه القرآن ، كل هذا جعل حاجتهم إلى التفسير غير كبيرة ، خصوصا أنهم كانوا يعيشون فى معاني القرآن ، ويتسابقون إلى العمل بآياته قبل ان يحفظوا الجديد منها ، إلى جوار بيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمجمل القرآن ، وتوضيحه لمشكله ، وتخصيصه لعامه ، وتقييده لمطلقه ، فمن ذلك بيانه لمواقيت الصلوات الخمس وعدد ركعاتها وكيفيتها ، وبيانه لمقادير الزكاة وأوقاتها وأنواعها ، وبيانه لمناسك الحج. فكان القدوة الحسنة فى السلوك القرآنى ، والتطبيق العملي لأوامر القرآن. ولذا ورد فى الحديث : (صلوا كما رأيتمونى أصلى).

ومن توضيح المشكل : تفسيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم للخيط الأبيض والخيط الأسود فى قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (١٢) ، بأنه بياض النهار وسواد الليل.

ومن تقييد المطلق ، تقييده اليد باليمين فى قوله تعالى : (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (١٣).

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبين لهم معاني القرآن وأهدافه ، وروحه العامة ، فى سفره وإقامته ، وحربه وسلمه ، وغزوه وجهاده ، حتى قال يحيى بن أبى كثير : السنة قاضية على الكتاب ، وليس الكتاب بقاص على السنة. وعن الفضل بن زياد : سمعت أحمد بن حنبل ، وقد سئل عن قول يحيى هذا ، فقال : ما أجسر على هذا أن أقوله ، ان السنة تفسر الكتاب وتبينه.

التفسير فى عصر الصحابة

كان القرآن هو المرجع الأول للمسلمين فى ذلك العصر أيضا ، يقرءونه فى صلاتهم ، ويهدرون به فى غزوهم ، ويرتلونه فى قيام ليلهم.

وكان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين إذا لم يجدوا التفسير فى كتاب الله تعالى ، ولم يتيسر لهم أخذه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجعوا فى ذلك إلى اجتهادهم واعمال رأيهم ، وساعدهم على التفسير ، أنهم عرب خلص ، يعرفون معاني اللغة وأسرارها ، وأنهم عاشوا فترة نزول الوحى مع النبي ، فعرفوا أسباب النزول ، وأدركوا ما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات ، تعين على فهم كثير من الآيات ، لهذا

__________________

(١٢) سورة البقرة : ١٨٧.

(١٣) سورة المائدة : ٣٨.

٧

قال الواحدي : (لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان سبب نزولها).

غير أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا متفاوتين فى قدرتهم على تفسير القرآن ، تبعا لمقدار سماعهم التفسير من رسول الله ، ولمقدار ما شاهدوا من أسباب النزول ولمدى ما فتح الله به عليهم من طريق الرأى والاجتهاد ، قال تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (١٤).

قال السيوطي فى الإتقان : «وقد اشتهر بالتفسير من الصحابة الخلفاء الأربعة ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبى بن كعب ، وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعرى ، وعبد الله بن الزبير (١٥)».

وهناك من تلك من الصحابة فى التفسير كأبى هريرة «ت ٥٧ ه‍» وجابر بن عبد الله (ت ٧٤ ه‍) وعبد الله بن عمر (ت ٧٣ ه‍) وعبد الله بن عمرو بن العاص (ت ٦٣ ه‍) وأنس بن مالك (ت ٩١ ه‍) ، غير أن ما نقل عنهم فى التفسير قليل جدا بالنسبة للعشرة الذين ذكرهم السيوطي :

وأكثر من روى عنهم من هؤلاء العشرة ، أربعة هم : عبد الله بن عباس ، ثم عبد الله بن مسعود ، ثم على بن أبى طالب ، ثم أبى بن كعب ، رضى الله عنهم جميعا.

وها نحن نترجم لهؤلاء الأربعة ، فيما يلي من الصفحات :

١ ـ

عبد الله بن عباس :

هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، القرشي الهاشمي ، ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولد والنبي وأصحابه بالشعب بمكة. وعند ما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان له ـ رضى الله عنه ـ من العمر ثلاث عشرة سنة ، وقد عاش حتى توفى بالطائف سنة ٦٨ ه‍.

وهو ترجمان القرآن ، وحبر الأمة ، ورأس المفسرين. دعا له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل. وقد روى عنه فى التفسير ما لا يحصى كثرة ، بطرق معظمها ليس بصحيح ، ومن ذلك التفسير المنسوب اليه ، وهو الذي طبع باسم : تنوير المقياس من تفسير ابن عباس ، للفيروزآبادي ، صاحب القاموس المحيط.

__________________

(١٤) سورة البقرة : ٢٦٩.

(١٥) وقال صاحب كشف الظنون ما نصه : «أما المفسرون من الصحابة فمنهم الخلفاء الأربعة ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبى بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعرى ، وعبد الله بن الزبير ، وأنس بن مالك ، وأبو هريرة ، وجابر وعبد الله بن عمرو بن العاص رضوان الله تعالى عليهم أجمعين».

٨

وحسبنا فى التعقيب على هذا ما روى منسوبا إلى الامام الشافعي ـ رضى الله عنه ـ من قوله : (لم يثبت عن ابن عباس فى التفسير الا شبيه بمائة حديث) (١٦). مع أن هذا التنوير المنسوب اليه مطبوع فى نحو أربعمائة صفحة من القطع العادي.

وقد ساعد ابن عباس على تضلعه فى التفسير وقوته فيه ، نشأته فى بيت النبوة ، وملازمته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم لأكابر الصحابة بعد وفاة الرسول.

ثم حفظه للعربية ، ومعرفته لغريبها وآدابها وخصائصها وأساليبها ، شعرا ونثرا ، وبلوغه مرتبة الاجتهاد ، وعدم تحرجه من التفسير ، وقد وهبه الله عقلا راجحا ، ورأيا صائبا ، وقريحة وقادة ، ويقينا وايمانا. حتى قال مجاهد : انه إذا فسر الشيء رأيت عليه النور ، وكان ابن عباس شيخ المفسرين بمكة ، وصاحب مدرسة التفسير بها.

قال ابن تيمية : (وأعلم الناس بالتفسير أهل مكة ، لأنهم أصحاب ابن عباس ، كمجاهد وعطاء بن أبى رباح وعكرمة مولى ابن عباس ، وغيرهم من أصحاب ابن عباس كطاووس (١٧) ، وأبى الشعناء ، وسعيد بن جبير ، وأمثالهم ، وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود.

ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم ، وعلماء أهل المدينة فى التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالك التفسير ، وأخذ عنه أيضا ابنه عبد الرحمن ، وعبد الله بن وهب (١٨).

أشهر الطرق عن ابن عباس :

١ ـ طريق معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة (ت ١٤٣) عن ابن عباس. وهذه أجود الطرق عنه.

قال الامام أحمد : «ان بمصر صحيفة فى التفسير رواها على بن أبى طلحة ،

__________________

(١٦) شذرات الذهب لابن العماد ج ١ ، وخلاصة تذهيب الكمال فى أسماء الرجال : ١٥٠ ، طبعة الخيرية سنة ١٣٢٣ ه‍ ، والإتقان : ٢ / ٢٢٤.

(١٧) انظر ترجمة مجاهد : ٤٨.

وعطاء بن أبى رباح يمنى من الجند تحول إلى مكة ، وبلغ مرتبة الامامة والفقه ، وانتهت اليه الفتوى بمكة ، قال فيه ابن عباس لأهل مكة : تجتمعون على وعندكم عطاء؟ توفى سنة ١١٤ ه‍.

وعكرمة ، مولى ابن عباس : هو أبو عبد الله عكرمة البربري ، أحد الأئمة الأعلام ، قال الشعبي : ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة ، توفى سنة ١٠٥ ه‍. (تهذيب التهذيب : ٧ / ٢٦٣ ـ ٢٧٣). وطاووس ، هو : طاووس بن كيسان يمنى من الجند أيضا ، أدرك خمسين من الصحابة ، وبلغ منزلة الأئمة الأعلام ، وأخذ عنه الصفوة من التابعين. قال ابن عباس انى لأظن طاووسا من أهل الجنة. توفى يوم التروية من سنة ١٠٦ ه‍ ، وصلّى عليه هشام بن عبد الملك.

(١٨) ابن تيمية ، مقدمة فى أصول التفسير : ٢٣ ـ ٢٤.

وانظر. فجر الإسلام ق ١٤٧ ـ ١٤٨. ط ٩.

٩

لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا». وقد اعتمد عليها البخاري فى صحيحه.

٢ ـ طريق قيس بن مسلم الكوفي (ت ١٢٠ ه‍) عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس. وهذه الطريق صحيحة على شرط الشيخين.

٣ ـ طريق ابن إسحاق صاحب السير ، عن محمد بن أبى محمد مولى آل زيد ابن ثابت ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس. وهي طريق جيدة واسنادها حسن.

٤ ـ طريق إسماعيل بن عبد الرحمن السدى الكبير ، تارة عن أبى مالك ، وتارة عن أبى صالح عن ابن عباس ، والسدى الكبير مختلف فيه.

٥ ـ طريق عبد الملك بن جريج عن ابن عباس. وابن جريج لم يقصد الصحة فيما جمع ، وانما روى ما ذكر فى كل آية من الصحيح والسقيم.

٦ ـ طريق الضحاك بن مزاحم الهلالي عن ابن عباس وهي غير مرضية.

٧ ـ طريق عطية العوفى عن ابن عباس ، وهي غير مرضية أيضا.

٨ ـ طريق مقاتل بن سليمان الأزدى الخراساني ، صاحب التفسير الذي نقدم له. وقد مدح الامام الشافعي تفسير مقاتل ، وقال : «من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان».

ولكن أهل الحديث جرحوه واتهموه بالكذب.

وبالجملة فقد أثنى العلماء على تفسير مقاتل ، فى حين اتهمه رجال الحديث بالكذب.

٩ ـ طريق محمد بن السائب الكلبي (ت ١٤٦ ه‍) عن أبى صالح عن ابن عباس وهذه أوهى الطرق.

فالكلبي ـ وان وجد من قال رضوه فى التفسير ـ متروك الحديث ليس بثقة عند جميع أهل الحديث.

وإذا انضم إلى طريق الكلبي رواية محمد بن مروان السدى الصغير فهي سلسلة الكذب (١٩).

__________________

(١٩) الإتقان : ٢ / ١٨٩.

وانظر ، محمد حسين الذهبي : التفسير والمفسرون : ١ / ٧٨ ـ ٨١. وفجر الإسلام : ٢٠٣ ،؟؟ وكشف الظنون ، ومقدمة تفسير أحمد مصطفى المراغي؟ ٢.

١٠

٢ ـ

عبد الله بن مسعود : (ت سنة ٣٢ ه‍)

ذكرنا أن أشهر المفسرين أربعة : عبد الله بن عباس ، ثم عبد الله بن مسعود ، ثم على بن أبى طالب ، ثم أبى بن كعب.

وقد عرفنا بعبد الله بن عباس ، وعرفنا بأشهر الطرق اليه ومنها طريق مقاتل ابن سليمان.

أما عبد الله بن مسعود ، فهو صحابى جليل ، من السابقين إلى الإسلام ، وأول من جهر بالقرآن بمكة ، وكان خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلبسه نعله ويمشى معه وأمامه إذا سار ، ويلج داره بلا حجاب ، هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، وشهد المشاهد مع رسول الله.

وكان ابن مسعود من أحفظ الصحابة لكتاب الله. وأخرج ابن جرير وغيره عنه أنه قال : (والله الذي لا اله غيره ما نزلت آية من كتاب الله الا وأنا أعلم فيمن نزلت؟

وأين نزلت؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته) (٢٠).

وقد روى عن ابن مسعود كثيرون لكن تتبعهم العلماء بالنقد والتجريح ومن أشهر الطرق إلى ابن مسعود :

١ ـ طريق الأعمش عن أبى الضحى عن مسروق عن ابن مسعود وهي أصح الطرق اليه.

٢ ـ طريق مجاهد عن أبى معمر عن ابن مسعود وهذه أيضا طريق صحيحة.

٣ ـ طريق الأعمش عن أبى وائل عن ابن مسعود وهي مثل سابقتها.

٤ ـ طريق أبى روق عن الضحاك عن ابن مسعود ، وهي غير مرضية لأن الضحاك لم يلق ابن مسعود طريق منقطعة (٢١).

٣ ـ

على بن أبى طالب رضى الله عنه :

هو ابن عم رسول الله وصهره على ابنته فاطمة الزهراء. ولد وشب فى الإسلام ، وتوفى سنة ٤٠ ه‍ ، وكان أكثر الخلفاء الأربعة تفسيرا للقرآن لتأخر وفاته ولاحتياج الناس إلى التفسير فى حياته.

وقد أسرف بعض الشيعة فى حبه وجاوزوا الحد فى تقديره فنسبوا اليه ما هو منه برىء ، وقولوه ما لم يقل ، ومن ثم

ورد فى المروي عنه دس كثير ، وتصدى صيارفة النقد من رجال الرواية للمروي عنه حتى مازوا ما صح منه مما لم يصح.

__________________

(٢٠) انظر ترجمة ابن مسعود فى اسد الغابة : ٣ / ٢٥٦ ـ ٢٦٠.

(٢١) محمد حسين الذهبي : التفسير والمفسرون : ١ / ٨٧ ، ٨٨.

١١

٤ ـ

أبى بن كعب الأنصارى : (ت سنة ٢٠ ه‍)

كان من أعلام القراء ومن كتاب الوحى ومن أعلم الصحابة بكتاب الله ، وكان أبى حبرا من أحبار اليهود قبل إسلامه ، وكان من المكثرين فى التفسير ، ولم يسلم كغيره من الوضع عليه (٢٢).

التفسير فى عصر التابعين

لم يدون التفسير فى عهد الصحابة ، لقرب العهد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولقلة الاختلاف والتمكن من الرجوع إلى الثقات.

فلما انقضى عصر الصحابة أو كاد ، وصار الأمر إلى تابعيهم ، «انتشر الإسلام واتسعت الأمصار وتفرقت الصحابة فى الأقطار ، وحدثت الفتن واختلفت الآراء وكثرت الفتاوى والرجوع إلى الكبراء فأخذوا فى تدوين الحديث والفقه وعلوم القرآن (٢٣)».

فأول ما دونوه من العلوم التفسير ، ومن أقدم التفاسير تفسير أبى العالية رفيع ابن مهران الرياحي (ت ٩٠ ه‍) ، ومجاهد بن جبر (١٠١ ه‍) ثم تفسير عطاء بن أبى رباح (ت ١١٤ ه‍) ، ثم تفسير محمد بن كعب القرظي (ت ١١٧ ه‍) (٢٤).

وقد انقسمت جماعة المفسرين إلى ثلاث مدارس :

أولاها : مفسرو مكة المكرمة وهم تلاميذ عبد الله بن عباس (٢٥).

والثانية : مفسرو الكوفة وهم تلاميذ عبد الله بن مسعود (٢٦).

والثالثة : مفسرو المدينة. وهي أصحاب زيد بن أسلم العدوى (٢٧).

وإذا قارنا بين التفسير فى عهد الصحابة والتفسير فى عهد التابعين خرجنا بالنتائج الآتية :

__________________

(٢٢) انظر خلاصة تذهيب الكمال : ١٨٠ ، وميزان الاعتدال : ٢ / ٦٨ ، ومناهل العرفان ، ١ / ٤٨٧ ، والتفسير والمفسرون : ١ / ٩٢.

(٢٣) حاجي خليفة : ١ / ٣٣.

(٢٤) حاجي خليفة : ١ / ٤٢٧.

(٢٥) ومن تلاميذه : مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وطاووس.

(٢٦) ومن تلاميذه : مسروق بن الأجدع ، وقتادة بن دعامة ، والحسن البصري وعلقمة بن قيس.

(٢٧) ومنهم : أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي مولاهم ، ومحمد بن كعب القرظي.

١٢

(ا) التفسير فى عهد الصحابة :

١ ـ لم يفسر القرآن جميعه انما فسر ما غمض منه ٢ ـ قلة الاختلاف فى فهم معاني القرآن ٣ ـ الاكتفاء بالمعاني الاجمالية للآيات ٤ ـ قلة الخلاف المذهبى حول الآيات ٥ ـ لم يدون التفسير ٦ ـ اتخذ التفسير شكل الحديث ٧ ـ قلة الرجوع إلى أهل الكتاب

(ب) التفسير فى عهد التابعين :

ظهرت تفاسير شاملة لأكثر آيات القرآن زاد الخلاف نسبيا فى فهم معاني القرآن عما كان فى عصر الصحابة.

ظهر تفسير لكل آية ولكل لفظة زاد الخلاف المذهبى حول الآيات مثل تفسير قتادة والحسن البصري حول القدر دون التفسير استقل التفسير فى كتب مستقلة وان ظل فى شكل رواية الحديث كثر الرجوع إلى أهل الكتاب ، ودخل فى التفسير كثير من الاسرائيليات وذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب فى الإسلام وتساهل التابعين فى الاستماع إليهم.

ابتداء التدوين فى عصر التابعين :

ابتدأ فى هذا العصر تدوين التفسير والتصنيف فيه ، وأول كتاب ظهر فى التفسير كان لسعيد بن جبير بن هشام الكوفي الأسدى مولى بنى والبة بن الحارث بطن من بنى اسد بن خزيمة المتوفى سنة ٩٥ ه‍ ، قتله الحجاج وكان اعلم التابعين فى نص على ذلك قتادة وحكاه السيوطي فى الإتقان ، كما نسب تدوين التفسير إلى مجاهد : قال ابن أبى مليكة : «رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه فيقول ابن عباس اكتب. قال : حتى سأله عن التفسير كله» (٢٨).

وتميزت فى عصر التابعين ثلاث مدارس فى التفسير :

١ ـ مدرسة مكة ، وأصحابها تلاميذ ابن عباس رضى الله عنه ومنهم أبو الحجاج (٢٩) مجاهد بن جبر المكي المتوفى سنة ١٠١ ه‍ ، حكى عن نفسه أنه عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة. وقد اعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري ، وعكرمة مولى ابن

__________________

(٢٨) ابن جرير الطبري : تفسير : ١ / ٣٠.

(٢٩) له طرق منها طريق ابن أبى نجيح ، وطريق ابن جريج ، وطريق ليث.

١٣

عباس المتوفى سنة ١٠٤ ه‍ ، وطاووس بن كيسان اليماني المتوفى بمكة سنة ١٠٦ ه‍. وعطاء بن أبى رباح المكي المتوفى سنة ١١٤ ه‍.

٢ ـ ومدرسة العراق ، وأصحابها تلاميذ ابن مسعود ومنهم : مسروق بن الأجدع الكوفي المتوفى سنة ٦٣ ه‍ (٣٠) ، والأسود بن يزيد المتوفى سنة ٧٥ ه‍ ، وعلقمة ابن قيس المتوفى سنة ١٠٢ ه‍ ، وعامر الشعبي المتوفى سنة ١٠٥ ه‍ ، وقتادة ابن دعامة السدوسي البصري المتوفى سنة ١١٧ ه‍ ، والحسن البصري المتوفى سنة ١٢١ ه‍.

٣ ـ ومدرسة المدينة ، ورجالها تلاميذ أبى بن كعب ، وأصحاب زيد بن أسلم المتوفى سنة ١٣٦ ه‍. ومنهم : أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي المتوفى سنة ٩٠ ه‍ ، ومحمد بن كعب القرظي المتوفى سنة ١١٨ ه‍.

التفسير فى عهد تابعي التابعين

فى هذا العهد اتجهت الهمم إلى جمع ما أثر من التفسير عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن صحابته وعن التابعين بدون تفرقة بين المدارس الثلاث التي امتازت فى عصر التابعين بروايات مخصوصة.

فدونوا علم التفسير فى الكتب الصغار والكبار ، وصارت كتبهم أجمع للعلم من الكتب السابقة.

واشتهر من بينهم : شعبة بن الحجاج المتوفى سنة ١٦٠ ه‍ ، وسفيان بن سعيد الثوري المتوفى سنة ١٦١ ه‍ ، ووكيع بن الجراح والمتوفى سنة ١٩٧ ه‍ ، وسفيان ابن عيينة المتوفى سنة ١٩٨ ه‍ ، ويزيد بن هارون المتوفى سنة ٢٠٦ ه‍ ، وروح ابن عبادة القيسي المتوفى سنة ٢٠٧ ه‍ ، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني شيخ الامام البخاري فى الحديث ، المتوفى سنة ٢١١ ه‍ ، وتفسيره مخطوط محفوظ بدار الكتب المصرية ، وهي نسخة وحيدة فى العالم ، واسحق بن راهويه المتوفى سنة ٢٣٨ ه‍ ، وآدم بن أبى إياس العسقلاني المتوفى سنة ٢٢٠ ه‍.

وقد ضاع أكثر هذه التفاسير فلم يبق منها ، فى علمي ، الا تفسير سفيان الثوري ، وقد طبع حديثا بالهند. وتفسير عبد الرزاق بن همام الصنعاني.

وإذا كانت معظم التفاسير فى عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم لم تصل إلينا ، فان مضمون ما فيها قد نقله إلينا محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير الكبير المتداول بين الناس الآن.

__________________

(٣٠) انظر تهذيب التهذيب : ١٠ / ١٠٩ ـ ١١١.

١٤

قال السيوطي : (وكتابه أجل التفاسير وأعظمها ، فان يتعرض لتوجيه الأقوال ، وترجيح بعضها على بعض. والإعراب والاستنباط ، فهو يفوق بذلك على تفاسير الأقدمين).

وقال النووي : أجمعت الأمة على أنه لم يصنف فى التفسير مثل تفسير الطبري.

ويقع تفسير ابن جرير فى ثلاثين جزءا من الحجم الكبير ، وقد كان هذا الكتاب من عهد قريب يكاد يعتبر مفقودا لا وجود له ثم قدر الله له الظهور والتداول ، فكانت مفاجأة سارة للأوساط الاسلامية والعلمية «أن وجدت فى حيازة أمير حائل : الأمير حمود ابن الأمير عبد الرشيد من أمراء نجد نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب.

طبع عليها التفسير فى مطبعة بولاق بالقاهرة ، فأصبحت فى يدنا دائرة معارف غنية فى التفسير المأثور» (٣١) قال ابن تيمية : «وأما التفاسير التي بأيدى الناس ، فأصحها تفسير محمد ابن جرير الطبري ، فانه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة ، وليس فيه بدعة ، ولا ينقل عن المتهمين ، كمقاتل بن بكير (٣٢) والكلبي (٣٣)».

وقد ظهر بعد ابن جرير عدة تفاسير بالمأثور منها تفسير أبى بكر بن المنذر النيشابوري المتوفى سنة ٣١٨ ه‍. وابن أبى حاتم المتوفى سنة ٣٢٧ ه‍ ، وأبو الشيخ ابن حيان المتوفى سنة ٣٦٩ ه‍ ، والحاكم المتوفى سنة ٤٠٥ ه‍ ، وابن مردويه المتوفى سنة ٤١٠ وغيرهم.

التفسير النقلى والتفسير العقلي

كان جمهور الصحابة والتابعين وتابعيهم يتحرون التفسير بالمأثور ، بل كان منهم من يفضل المشي فى النار على القول فى القرآن بالرأى.

وكان ابن جرير يورد المأثور من الأقوال فى الآية ويرجح بعضها على بعض وغالبا ما يعتمد فى الترجيح على قوة السند. وقد أنكر بشدة على من فسر القرآن برأيه بدون اعتماد على شيء الا على مجرد اللغة (٣٤)

__________________

(٣١) المذاهب الاسلامية فى تفسير القرآن : ٨٦.

وقد طبع تفسير الطبري عدة طبعات بعد ذلك وآخرها طبعة بتحقيق وتخريج الأسانيد بعناية أحمد شاكر ومحمود شاكر ، وقد توقفت هذه الطبعة بعد الجزء السادس عشر.

(٣٢) هكذا بالأصل وصوابها بشير.

(٣٣) فتاوى ابن تيمية : ٢ / ١٩٢.

(٣٤) انظر تفسيره للآية (٤٩) من سورة يوسف : ١٢ / ١٣٨.

١٥

ولكنا مع ذلك نعتبر ابن جرير ممن جمع بين النقل والعقل وان كان تفسيره من أهم مراجع التفسير النقلى ، الا أنه مع ذلك يعتبر مرجعا عظيم الأهمية من مراجع التفسير العقلي ، نظرا لما فيه من الاستنباط وتوجيه الأقوال ، واختيار أولاها بالصواب اختيارا يعتمد على صحة السند ، كما يعتمد على النظر العقلي والبحث الحر الدقيق ، فهو قد احتكم إلى المعروف من كلام العرب (٣٥) ، ورجع إلى الشعر القديم بشكل واسع ، متبعا فى هذا ما أثاره ابن عباس سابقا (٣٦) ، كما اهتم بالمذاهب النحوية (٣٧) والأحكام الفقهية (٣٨) وبعض مسائل علم الكلام (٣٩) فيمكن أن نعتبر تفسير ابن جرير من التفاسير التي جمعت بين النقل والعقل.

ونلاحظ ان المأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تفسير القرآن كان محدودا ، ثم كثر التفسير النقلى عن الصحابة والتابعين ، ثم نشأت طبقة جمعت المأثور من التفسير عن النبي وأصحابه وتابعيهم ، ومنهم من أضاف إلى التفسير رأيه واجتهاده ، ومنهم من جمع التفسير النقلى ثم فسر الآيات التي لم يرد فيها تفسير بالمأثور تفسيرا اجتهاديا عقليا ، معتمدا على ما عرف من لغة العرب وأساليبها ، وما ورد من التاريخ فى الأحداث التي حدثت فى عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد وقف الناس فى ذلك موقفين وانقسموا فريقين. فقوم تشددوا فى التفسير فلم يروا أن يجرؤوا على تفسير شيء من القرآن ما لم يرد فيه قول للنبي أو للصحابة ، كالذي روى عن عبد الله بن عمر أنه قال : «لقد أدركت فقهاء المدينة وأنهم ليعظمون القول فى التفسير ، منهم سالم بن عبد الله ، والقاسم بن محمد ، وسعيد بن المسيب ، ونافع» (٤٠).

وقال الشعبي : «ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت : القرآن ، والروح ، والرأى» (٤١).

ومن أمثلة ذلك الأصمعى ، فهو مع علمه الواسع باللغة كان شديد الاحتراز فى تفسير الكتاب والسنة ، فإذا سئل عن شيء منها قال : العرب تقول معنى هذا كذا ، ولا أعلم المراد منه فى الكتاب والسنة أى شيء هو (٤٢) وأمثال هؤلاء حملوا على المفسرين بالرأى ، ورووا حديث (من تكلم فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ).

__________________

(٣٥) انظر تفسيره للآية (٤٠) من سورة هود : ١٢ / ٢٥.

(٣٦) انظر تفسيره للآية (٢٢) من سورة البقرة : ١ / ١٢٥.

(٣٧) انظر تفسيره للآية (١١٨) من سورة ابراهيم : ١٣ / ١٣١.

(٣٨) انظر تفسيره للآية (٨) من سورة النحل : ١٤ / ٥٧ ـ ٥٨.

(٣٩) انظر تفسيره للآية (٧) آخر سورة الفاتحة ١ / ٦٤.

(٤٠) أحمد أمين : ضحى الإسلام : ٢ / ١٤٤ ط ٦.

(٤١) تفسير ابن جرير : ١ / ٢٩.

(٤٢) ابن خلكان : ١ / ٤٠٩.

١٦

وفريق آخر لم يجدوا بأسا ولا حرجا من تفسير القرآن باجتهادهم ، معتمدين على درايتهم باللغة وأساليبها ، وما يتصل بذلك من العلم بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ.

قال الماوردي : «قد حمل بعض المتورعين هذا الحديث على ظاهره ، وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده ، ولو صحبها الشواهد ولم يعارض قواعدها نص صريح ، وهذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من النظر فى القرآن واستنباط الأحكام ، كما قال تعالى : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٤٣) ولو صح ما ذهب اليه لم يعلم شيء من استنباط ، ولما فهم الأكثر من كتاب الله ، وان صح الحديث فتأويله : «ان من تكلم فى القرآن بمجرد رأيه فقد أخطأ» (٤٤).

وقد كان أكثر من قام بالتفسير العقلي علماء العراق أصحاب مدرسة الرأى فى التشريع ، وتلاميذ ابن مسعود أستاذ أصحاب الرأى.

وقد فرق قوم بين التفسير والتأويل ، بناء على الاعتماد على النقل والعقل.

فعنوا بالتفسير ما اعتمد فيه على النقل ، مما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصدر الأول ، وخاصة فى الأمور التوقيفية التي ليس للعقل فيها كبير مجال ، كتفسير الحروف المقطعة : الم ، حم ، يس ، وكأسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ ، وعنوا بالتأويل ما يعتمد فيه على الاجتهاد ، ويتوصل اليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها فى لغة العرب واستعمالها بحسب السياق ومعرفة الأساليب العربية واستنباط المعاني من كل ذلك.

وقد انقسمت كتب التفاسير إلى هذين النوعين : كتب التفسير بالمأثور ، وكتب التفسير بالمعقول.

وسنرى عند الكلام عن تفسير مقاتل ـ ومنهجه هو موضوع هذا البحث ـ كيف فسر مقاتل القرآن الكريم وتحت أى نوع من هذين النوعين ينبغي أن نضع تفسيره.

__________________

(٤٣) سورة النساء : ٨٣.

(٤٤) انظر مقدمة تفسير الماوردي ، وهو مخطوط مخطوط بدار الكتب المصرية.

١٧
١٨

القسم الأول

مقاتل بن سليمان

الباب الأول : حياة مقاتل.

الباب الثاني : مقاتل وعلم الحديث.

الباب الثالث : مقاتل وعلم التفسير.

الباب الرابع : مقاتل وعلم الكلام.

١٩
٢٠