هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

وجه ، لظهور أنّه قد يحصل الظنّ بتفريغ الذمّة في حكم الشرع مع عدم حصول الظنّ بأداء الواقع.

وقد يكون بالعكس فيما إذا شكّ في كون ذلك مناطا في حكم الشرع أو ظنّ خلافه، والمعتبر في المقام بمقتضى حكم العقل كما عرفت هو الأوّل ، وحينئذ فلا يتمّ الاحتجاج إذ مجرّد ظنّ المتجزّئ بالحكم مع الشكّ في كونه مكلّفا شرعا بالعمل بظنّه أو رجوعه إلى ظنّ المجتهد المطلق لا يكفي في الحكم بحجّية ظنّه ، وجواز الاعتماد عليه في حكم الشرع.

نعم ، لو اقيم دليل ظنّي على حجّية ظنّه والاكتفاء به في الشريعة أمكن الاستناد إلى الوجه المذكور ، وهو غير مأخوذ فيما ذكر من البيان.

رابعها : أنّ الاحتجاج المذكور إنّما يتمّ إذا قام دليل قطعي على عدم وجوب الاحتياط على مثله ، إذ مع احتمال وجوب الاحتياط عليه يتعيّن ذلك بالنسبة إليه ، إذ هو أيضا نحو من العمل بالعلم ، إذ المقصود في المقام تحصيل اليقين بالفراغ الحاصل بذلك وهو ممنوع ، بل الظاهر خلافه ، إذ أقصى ما يستفاد ممّا دلّ على عدم وجوبه هو عدمه في أصل الشريعة ، وعدم وجوبه على المجتهد المطلق ومن يقلّده.

وأمّا عدم وجوبه في الصورة المفروضة فلا ، كما هو الحال بالنسبة إلى غير البالغ درجة الاجتهاد إذا تعذّر عليه الرجوع الى المجتهد فإنّ القول بوجوب الاحتياط عليه حينئذ ـ إذا أمكن من تحصيله ـ هو الموافق لظاهر القواعد ، بل لا يبعد البناء عليه ، وحينئذ فلا يصحّ الحكم بانتقاله إلى الظنّ بعد انسداد باب العلم والعلم ببقاء التكليف.

فإن قلت : إنّما يتمّ ما ذكر فيما يمكن فيه الاحتياط ، وأمّا فيما لا يمكن مراعاته فلا يتمّ ذلك ، وحينئذ فيمكن إقامة الدليل بالنسبة إليه فيتمّ إثبات المدّعى حينئذ بعدم القول بالفصل.

قلت : انعقاد الإجماع على عدم القول بالفصل غير معلوم ، غاية الأمر عدم

٦٤١

قائل به في الكتب المعروفة ، ومجرّد ذلك لا يعدّ إجماعا سيّما في المقام ، فغاية الأمر حينئذ هو جواز الاعتماد على ظنّه في بعض الفروض النادرة ممّا لا يمكن فيه مراعاة الحائطة بشيء من وجوهها ، لمكان الضرورة وأين ذلك من المدّعى.

ـ الثالث ـ

إطلاق ما دلّ على المنع من التقليد والأخذ بقول الغير من العقل والنقل ، غاية الأمر جوازه في شأن غير القادر على الاستنباط لمكان الضرورة وقيام الإجماع عليه ، فيبقى غيره مندرجا تحت أدلّة المنع.

ويمكن الإيراد عليه بوجوه :

أحدها : أنّ العمل بالظنّ على خلاف الأصل أيضا خرج عنه ظنّ المجتهد المطلق لقضاء الاضطرار به وقيام الإجماع عليه ، فيبقى غيره مندرجا تحت قاعدة (١) المنع.

واجيب عنه : بأنّ رجوعه إلى الظنّ ممّا لا كلام فيه ، إذ بعد انسداد باب العلم لا يجوز للمتجزّئ البناء على ترك العمل ، فلابدّ له من الرجوع إلى الظنّ الحاصل من الاجتهاد ، أو الحاصل من التقليد ، فلا يكون منهيّا عن اتّباع الظنّ على الإطلاق بخلاف التقليد.

وردّ ذلك : بأنّه ضعيف في الغاية ، إذ غاية ما يحصل للمتجزّئ العلم بكونه مكلّفا بالعمل بغير العلم ، وأمّا أنّه التقليد أو الاجتهاد فغير معلوم عنده ، إذ لا دليل على التعيين، فعلى هذا يجب عليه العمل بأحد الأمرين دون الآخر من دون علم بالتعيين ، فهو حينئذ من باب اشتباه الحرام بالحلال ، كالزوجة المشتبهة بالأجنبيّة فيجب الاجتناب عنهما ، ولو لم يكن هناك بدّ من الإقدام على أحدهما تخيّر ، وأين هو من لزوم الرجوع الى الاجتهاد كما هو المدّعى.

ويمكن دفعه : بأنّ مقصود المجيب أنّ هناك عمومات قاضية بالمنع عن العمل

__________________

(١) أدلّة ، خ ل.

٦٤٢

بالظنّ ، وأدلّة قاضية بالمنع من خصوص الظنّ الحاصل من التقليد ، فتلك العمومات مخصوصة قطعا ، إذ لا مناص له من الأخذ بأحد الظنّين ، بخلاف ما دلّ على المنع من خصوص التقليد ، إذ لا دليل على الخروج من مقتضاه حينئذ ، فبعد تعيّن الرجوع إلى الظنّ لابدّ من الأخذ بالظنّ الحاصل من غير التقليد ، للأدلّة الدالّة على المنع من التقليد من غير باعث للخروج عنها.

نعم يمكن الإيراد عليه : بأنّ الرجوع إلى التقليد ليس أخذا بالظنّ حتّى يكون بين ما دلّ على المنع من الرجوع إلى الظنّ وما دلّ على المنع من الأخذ بالتقليد عموم مطلق ليكون عدم المناص من الرجوع إلى أحد الظنّين موجبا للخروج عن مقتضى تلك الأدلّة ، دون هذه، بل هو نوع آخر من الأخذ بغير العلم قد دلّ الدليل على المنع منه. فبعد عدم المناص من الأخذ بأحد الوجهين يدور الأمر بين تخصيص كلّ من الدليلين ، ولا دليل على الترجيح ، فيجب تركهما ، أو يتخيّر في البناء.

ولا يمكن دفعه تارة : بأنّ الترجيح حينئذ في تخصيص ما دلّ على المنع من العمل بالظنّ ، إذ بعد كون السبيل إلى الواقع أوّلا هو العلم بكون الأقرب إليه هو الظنّ ، فبعد دوران الأمر بين الرجوع إلى الأقرب إليه أو الأبعد من غير قيام دليل على التعيين يتعيّن الأخذ بالأقرب. وفيه : أنّه إنّما يتمّ إذا جعلنا الواجب أوّلا هو الأخذ بالعلم بالواقع ، وأمّا إذا قلنا بوجوب الأخذ بما يعلم معه بتفريغ الذمّة من حكم الشرع سواء حصل معه العلم بالواقع أو لا كما هو الأظهر ، ومرّ تفصيل القول فيه فلا يتمّ ذلك ، إذ لو ظنّ بكونه مكلّفا شرعا بالرجوع إلى التقليد لزم اتّباعه ، ومع الشكّ في كونه مكلّفا بالأخذ بالظنّ أو التقليد لا يصحّ له الحكم بالرجوع إلى شيء منهما ، لتساويهما بالنسبة إلى الحكم بتفريغ الذمّة في حكم الشرع كما هو قضيّة الشكّ.

فأقصى الأمر مع عدم المناص في الأخذ بأحد الوجهين أن يحكم بالتخيير. ومجرّد اقتضاء أحد الوجهين ظنّا بالواقع لا يقضي بحصول الظنّ بالبراءة في حكم

٦٤٣

الشرع ، إذ لا ملازمة بين الأمرين حسب ما مرّ بيانه. نعم لو قام دليل ظنّي على كونه مكلّفا بالاجتهاد صحّ الأخذ به ، وليس في الاحتجاج المذكور ما يفيده.

وتارة : بأنّ التقليد أيضا اتّكال على الظنّ وإن لم يوجب حصول الظنّ للمقلّد نظرا إلى حكمه بحجّية الظنّ الحاصل للمجتهد بالنسبة إليه ، وما دلّ على عدم حجّية الظنّ وعدم جواز الاتّكال عليه يفيد عدم جواز الاستناد إليه مطلقا ، سواء كان المستند إليه هو الظانّ أو غيره ، بل ربما كان الثاني أولى بالمنع ، فلابدّ من التزام التخصيص فيما دلّ على عدم الاعتداد بالظنّ فيتمّ التقرير المذكور.

ومع الغضّ عنه فالحاصل في تقليد المجتهد جهتان للمنع نظرا إلى الاتّكال فيه إلى الظنّ وإلى الغير ففيه استناد إلى التقليد وإلى الظنّ بخلاف العمل بالظنّ.

نعم لو كان من يقلّده عالما بالحكم كان المانع هناك مجرّد التقليد ، فربما يكافئ ذلك رجوعه إلى الظنّ ، إلّا أنّه لا يكون ذلك إلّا في نادر من الأحكام. وقد يدفع ذلك : بأنّه لا كلام في حجّية ظنّ المجتهد المطلق ، إنّما الكلام في حجّية ظنّه بالنسبة إلى المتجزّئ وهو المراد من تقليده له ، فليس هناك أمران مخالفان للأصل. وبعبارة اخرى : إنّ ظنّ المجتهد المطلق منزّل منزلة العلم قطعا ، فليس في المقام إلّا إثبات جواز التعويل على علم الغير ، أو ما بمنزلته. وفيه : أنّ ما دلّ على حجّية ظنّ المجتهد إنّما أفاد حجّيته بالنسبة إلى نفسه ومن يقلّده من العوام دون المتجزّئ ، ولا دليل على تنزيله منزلة العلم مطلقا ، فما يدلّ على عدم جواز الاتّكال على الظنّ يدلّ على المنع منه ، وكون ذلك عين التقليد لا ينافي تعدّد الحيثيّة وحصول جهتين قاضيتين بالمنع ، بخلاف الأخذ بالظنّ ، فتأمّل.

ثانيها : أنّه ليس فيما دلّ على المنع من التقليد ما يشمل تقليد المجتهد مع كمال ثقته، وأمانته ، ووفور علمه ، وكونه بحسب الحقيقة حاكيا لقول الإمام عليه‌السلام بحسب ظنّه.

غاية الأمر أنّه لا دليل على جواز اعتماد المتجزّئ على ذلك ، فلا يمكن الحكم ببراءة ذمّته بمجرّد ذلك ، وحينئذ فالدليل على المنع منه هو الدليل على

٦٤٤

المنع من الأخذ بالظنّ مع اختصاص الظنّ بظواهر اخرى ، فليس على المنع من التقليد دليل خاصّ يلزم الخروج عن مقتضاه لو قلنا بوجوب الرجوع إليه ، بخلاف ما لو قلنا برجوعه إلى الظنّ ليتمّ ما ذكر في الاحتجاج. ومنه يظهر وجه آخر لضعف ما ذكر في الإيراد المتقدّم.

ثالثها : أنّ المتلخّص من الأدلّة الدالّة عليه والملحوظ في المقام (١) : أنّ المتجزّئ بعد تحصيل الظنّ بالحكم هل هو داخل في عنوان الجاهل أو العالم؟ فاندراجه فيما دلّ على المنع من التقليد غير ظاهر ، بل الظاهر خلافه ، لدلالة الأدلّة الدالّة على المنع من العمل بالظنّ على عدم الاعتداد بظنّه ، فيندرج في الجاهل ، ويشمله ما دلّ على وجوب رجوعه إلى العالم حسب ما مرّت الإشارة إليه.

ـ الرابع ـ

انّ الأدلّة الدالّة على حجّية الظنون الخاصّة ـ من الروايات الدالّة على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، والأخذ بالأخبار المأثورة عن الأئمّة عليهم‌السلام ، بتوسّط من يعتمد عليه من النقلة وغيرها ـ يعمّ المطلق والمتجزّئ ، ولا دليل على اختصاصها بالمطلق ، بل الظاهر منها كون الأخذ بها وظيفة لكلّ قادر على استنباط الحكم منها.

ومن هنا نشأ توهّم كون الاجتهاد واجبا عينيّا ، ولو لا قيام العسر والحرج العظيم واختلال نظام المعاش ـ الباعث على اختلال امور المعاد ـ مضافا إلى غير ذلك من الأدلّة الدالّة على جواز التقليد لكان القول بوجوبه العيني متّجها نظرا إلى ما ذكر.

والحاصل : أنّ مرتبة الاجتهاد متقدّمة على مرتبة التقليد ، ولو لا قيام ما قام من الأدلّة على جواز التقليد لقلنا بوجوب الاجتهاد على الأعيان. وحينئذ نقول : إنّ

__________________

(١) لا يخفى قصور العبارة ، وينبغي أن يكون هكذا : أنّ المتحصّل من الأدلّة حرمة التقليد بالنسبة إلى العالم بالحكم وما بمنزلته ، وأمّا الجاهل بالحكم فيجوز التقليد في حقّه إجماعا والملحوظ في المقام.

٦٤٥

غاية ما ثبت من الأدلّة جواز التقليد بالنسبة إلى غير المتمكّن من الاستدلال ، وأمّا القادر عليه على نحو المجتهد المطلق فلا دليل على جواز التقليد بالنسبة إليه. وحينئذ فيتعيّن عليه الرجوع إلى الكتاب والسنّة وسائر الأدلّة المقرّرة.

ويرد عليه : أنّ أقصى ما يفيده تلك الأدلّة هو الظنّ بشمول الحكم للمتجزّئ ، ومن المقرّر أنّ الظنّ من حيث هو لا حجّية فيه ، فالعبرة في المقام بالدليل القاطع القائم على حجّية الظنّ ، وليس إلّا الإجماع أو الضرورة ، وهما لا يفيدان ما يزيد على حجّية ظنّ المطلق، إذ لا اجماع ولا ضرورة بالنسبة إلى غيره. ولو قلنا بأصالة حجّية الظنّ مطلقا وقيامه مقام (١) بنفسه حجّة على المطلق من غير حاجة إلى ملاحظة تلك الأدلّة.

نعم لو قلنا بقيام الظنّ بتفريغ الذمّة مقام العلم به حسب ما مرّ بيانه صحّ إلّا أنّ جريان تلك القاعدة هنا على فرض ثبوتها غير ظاهر ، لابتنائها على مقدّمات لا يمكن إثبات غير واحد منها في المقام كما ظهر الحال فيه ممّا قدّمناه.

ـ الخامس ـ

أنّ جواز التقليد في الأحكام مشروط بعدم كون المكلّف مجتهدا فيها ، ضرورة عدم جواز تقليد المجتهد لغيره ، وحينئذ فإن قام دليل على عدم جواز رجوعه إلى ظنّه وعدم تحقّق الاجتهاد في شأنه فلا كلام.

وأمّا مع عدم قيامه كما هو الواقع فلا وجه لرجوعه إلى التقليد ، إذ لو كان أمران مترتّبان يكون التكليف بأحدهما متوقّفا على انتفاء الآخر لم يصحّ الأخذ بالثاني مع عدم قيام الدليل على انتفاء الأوّل ، وهذا الوجه بظاهره في غاية الوهن ، إذ من البيّن أنّ الوجه المذكور على فرض صحّته إنّما يفيد عدم جواز الحكم بالرجوع إلى التقليد قبل قيام الدليل عليه.

__________________

(١) هكذا وجد فيما عندنا من النسخ والظاهر هكذا : وقيامه مقام العلم كان الأصل المذكور بنفسه ... الى آخره.

٦٤٦

أمّا صحّة الرجوع إلى الاجتهاد كما هو المدّعى فلا ، كيف! ولو اريد إثبات جواز رجوعه إلى ظنّه قبل إثبات اجتهاده ـ نظرا إلى قضاء توقّف صحّة تقليده على انتفاء اجتهاده ، وترتّب الأمرين ، وتقدّم الرجوع إلى الاجتهاد على الأخذ بالتقليد ليكون قضيّة الأصل هو الرجوع إلى الاجتهاد ، حتّى يتبيّن المخرج عنه ـ لكان ذلك مقلوبا عليه ، فإنّ صحّة اجتهاده في المسألة وجواز رجوعه إلى ظنّه مشروط بأن لا يكون وظيفته التقليد ، ضرورة أنّه ليس الرجوع إلى الأدلّة من وظيفة المقلّد إلى آخر ما ذكر. فمجرّد اشتراط جواز تقليده على انتفاء اجتهاده لا يفيد تقدّم الآخر بحسب التكليف على الوجه المذكور ، كيف! ومن البيّن أنّ وجود كلّ من الضدّين يتوقّف على انتفاء الآخر ، ومع ذلك فلا ترتّب بينهما كذلك ، وإلّا لزم حصوله من الجانبين وهو غير معقول.

ـ السادس ـ

جريان الطريقة في أعصار الأئمّة عليهم‌السلام وما قاربها بالرجوع إلى الروايات الواردة عن الأئمّة عليهم‌السلام ، ومعلوم بعد ملاحظة كتب الرجال عدم اطّلاع الجميع على جميع روايات الباب فضلا عن غيرها ، بل ربما كان عند واحد منهم أصل أو أصلان أو اصول عديدة متعلّقة ببعض مباحث الفقه ـ كالطهارة والصلاة والصوم ونحوها ـ مع أنّهم كانوا بانين على الأخذ بها والعمل بمقتضاها من غير استنكار منهم لذلك ، فكان إجماعا منهم كاشفا عن تقرير أئمّتهم عليهم‌السلام لقيام العلم العادي على اطّلاعهم على ذلك.

ويرد عليه أوّلا : بالنقض ، لقضاء ذلك بجواز الأخذ بما عثر عليه من الروايات من غير أن يجب البحث عمّا يعارضها ، أو يؤيّدها ، وملاحظة الترجيح بينها ، ولا قائل به.

وثانيا : بالحلّ وذلك ، لظهور الفرق بين أعصار الأئمّة عليهم‌السلام وما قاربها وهذه الأعصار وما ضاهاها ، لكون الإمام عليه‌السلام بالنسبة إلى كثير من أهل تلك الأعصار

٦٤٧

كالمجتهد بالنسبة إلى عوامنا ، فكما أنّه يأخذ العامي بقول المجتهد عند سماعه منه أو نقله إليه بتوسّط الثقات من غير حاجة إلى تحصيله لملكة الاجتهاد ، فكذا الحال بالنسبة إلى كثير من الموجودين في تلك الأعصار في جملة من الأحكام ، وليس ذلك من التجزّي في الاجتهاد في شيء ، كيف! ولا خلاف في جواز العمل بما يأخذه المكلّف عن الإمام عليه‌السلام بالمشافهة وإن كان حكما واحدا أو أحكاما عديدة ، فلو كان ذلك من التجزّي فالاجتهاد لما كان محلّا للخلاف ، فظهر أنّ استنباط الأحكام على النحو المذكور خارج عمّا هو محلّ الكلام ، فلا حجّة فيه على ما هو مورد النزاع في المقام.

ـ السابع ـ

ظواهر عدّة من الأخبار :

منها : مشهورة أبي خديجة (١) المرويّة في الفقيه وغيره ، وقد ادّعي اشتهارها بين الأصحاب واتّفاقهم على العمل بمضمونها ، فينجبر بذلك ضعفها ، وفيها : انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم قاضيا ، فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه ، وورود الرواية في القضاء لا يمنع من دلالتها على المدّعى ، للاتّفاق على عدم الفرق بين القضاء والإفتاء.

وقد يناقش فيه : بأنّ المذكور في الرواية خصوص العلم ، ولا شكّ في جواز عمل المتجزّئ به ، إنّما الكلام في الظنّ الحاصل له ، ولا دلالة في الرواية على جواز أخذه به ، وحمل العلم على الأعمّ من الظنّ وإن كان ممكنا لشيوعه في الاستعمالات سيّما في الشرعيّات ، إلّا أنّه مجاز لا يصار إليه إلّا بدليل ، ومجرّد الاحتمال غير كاف في مقام الاستدلال. وحمل قوله عليه‌السلام «عرف أحكامنا» في مقبولة عمر بن حنظلة على الأعمّ من الظنّ نظرا إلى الإجماع على عدم اعتبار خصوص العلم في الأخذ بقول المطلق لا يكون دليلا على حمل العلم هنا أيضا على ذلك ، لإمكان الفرق بين الأمرين.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٣ ح ٣٢١٦.

٦٤٨

وقد يجاب عنه : بقيام الإجماع على اعتبار الاجتهاد في القاضي ، فإن كان ما يظنّه ذلك العالم بالبعض حجّة ثبت المقصود ، وإلّا لم يكن مجتهدا ، فيلزم الحكم بصحّة قضاء من لم يبلغ درجة الاجتهاد ، وهو كما عرفت خلاف الإجماع فتأمّل.

ومنها : مكاتبة إسحاق بن يعقوب (١) إلى الحجّة عليه‌السلام وفيها : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله. فإنّ ظاهر إطلاقها يعمّ القضاء والإفتاء ، ويتناول ما لو كانوا قادرين على استنباط جميع الأحكام أو لا؟

وقد يناقش فيه : بأنّ أمره عليه‌السلام بالرجوع إليهم في الحوادث الواقعة شاهد على كون المرجوع إليهم عالمين أو قادرين على استنباط الجميع ، إذ لا يمكن إرجاعهم إلى غير القادر على الاستنباط ، ولا يكون ذلك في شأن المتجزّئ.

وقد يدفع ذلك : بأنّ غاية الأمر اعتبار قدرة الكلّ على استنباط الكلّ ، ولا يلزم من ذلك اقتدار كلّ من الآحاد على الكلّ لئلّا ينطبق على المدّعى فتأمّل.

ومنها : مكاتبة ابن ماجيلويه وأخيه إلى أبي الحسن الثالث عليه‌السلام المرويّة في رجال الكشي ، حيث سألاه عمّن يأخذا معالم دينهما ، فكتب عليه‌السلام إليهما : فاعتمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا وكلّ كثير القدم في أمرنا فإنّهم كافوكما (٢).

ومنها : ما في تفسير الإمام عليه‌السلام «فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا لهواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه» (٣) فإنّ ظاهر إطلاقها يعمّ المتجزّئ في الجملة بناء على شمول لفظ «الفقيه» لمن قدر على استنباط جملة وافية من الأحكام ، وعرفها عن الأدلّة وإن عجز عن الباقي ، وفيه تأمّل.

ويمكن الإيراد على الاستناد إلى تلك الأخبار : بأنّ أقصى ما يستفاد من إطلاقها على فرض دلالتها الظنّ بجريان الحكم في المتجزّئ ، ومن المقرّر عدم جواز الاستناد إلى الظنّ من حيث هو ، فلا يصحّ اعتماد المتجزّئ عليها. نعم لو قام

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ١١ من أبواب صفات القاضي ص ١٠١ ح ٩.

(٢) رجال الكشي : ص ٤ رقم ٧.

(٣) تفسير الامام العسكري عليه‌السلام : ٣٠٠.

٦٤٩

دليل على حجّية الظنّ الحاصل من الأخبار مطلقا تمّ الاستدلال ، إلّا أنّه محلّ المنع ، لعدم قيام الإجماع عليه كذلك ، كيف! ولو سلّم ذلك لكان بنفسه حجّة مستقلّة على جواز التجزّي من غير حاجة إلى ضمّها إلى ذلك.

حجّة القول بالمنع من التجزّي وجوه :

ـ أحدها ـ

أصالة المنع من العمل بالظنّ الثابت من العقل ، والعمومات الناهية عن الأخذ به كتابا وسنّة خرج عنه ظنّ المجتهد المطلق بالإجماع فيبقى غيره تحت الأصل ، إذ لم يقم دليل قطعي على حجّية ظنّ المتجزّئ كما قام على حجّية ظنّ المجتهد المطلق.

وفيه : أنّ الأصل كما قضى بالمنع من العمل بالظنّ كذا قضى بالمنع من التقليد ، بل هو أولى بالترجيح ، لكونه كاشفا عن الواقع على سبيل الرجحان ، بخلاف التقليد ، إذ لا يدور مدار ذلك ، سيّما فيما إذا قضى الظنّ الحاصل للمتجزّئ بخلافه.

ويمكن دفعه بما مرّت الإشارة إليه : من أنّ ما دلّ على عدم جواز رجوعه إلى ظنّه لمّا قضى بعدم حجّية ظنّه في شأنه كان الظنّ الحاصل له كعدمه ، فيندرج حينئذ في عنوان الجاهل ، فلا يندرج فيما دلّ على المنع من التقليد.

والقول بقضاء ما دلّ على المنع من التقليد أيضا باندراجه في العالم ـ لانتفاء الواسطة بين الأمرين ـ مدفوع ، بأنّ ما دلّ على المنع من التقليد لا يفيد جواز عمله بالظنّ ، إذ أقصى الأمر قضاء الإطلاقين بعدم جواز عمله بشيء منهما ، لكن بعد دلالة إطلاق الأوّل على عدم جواز عمله بالظنّ يتعيّن عليه الأخذ بالتقليد ، لاندراجه حينئذ بذلك في عنوان الجاهل حسب ما ذكرنا لا يقال : إنّه بعد قضاء الإطلاقين بعدم جواز عمله بكلّ من الظنّ والتقليد وقضاء الإجماع بكون وظيفته في الشرع الأخذ بأحد الوجهين ، لابدّ من ملاحظة الترجيح بين الأمرين ، أو التخيير ، فلا يصحّ الحكم بتحكيم الأوّل نظرا إلى ما ذكر. أو (١) نقول : ذلك إنّما

__________________

(١) كذا ، والظاهر : إذ.

٦٥٠

يتمّ لو لم يكن هناك دليل على وجوب رجوعه إذن إلى التقليد ، وأمّا إذا أفاد ما دلّ على عدم جواز عمله بالظنّ اندراجه في الجاهل ولم يفد ما دلّ على المنع من التقليد سوى منعه من الرجوع إلى الغير كان الأوّل حاكما على الأخير ، بملاحظة ما دلّ على وجوب رجوع الجاهل إلى العالم ، لوجوب تقديم الخاصّ على العامّ ، فليس الحكم بوجوب التقليد عليه إلّا بملاحظة ذلك ، لا بمجرّد تحكيم الإطلاق الأوّل على الأخير.

وبالجملة : بعد دلالة الإطلاقين على ما ذكرنا يكون قضيّة ما دلّ على وجوب رجوع الجاهل إلى العالم لزوم التقليد ، فلا يبقى تردّد بين الأخذ بأحد الإطلاقين ليرجع إلى التخيير، أو غيره.

فإن قيل : إنّ ذلك مقلوب على المستدلّ ، لدلالة الإجماع على حجّية الظنّ على من ليس شأنه التقليد ، فإذا دلّ الإطلاق الثاني على عدم جواز التقليد في شأن المتجزّئ اخذ بما يقتضيه الإجماع من وجوب رجوعه إلى الظنّ لكونه حجّة في شأن غير المقلّد.

والحاصل : أنّه كما قضى ما دلّ على المنع من العمل بالظنّ باندراجه في الجاهل ، فيدلّ ما دلّ على وجوب التقليد في شأن الجاهل على وجوبه في شأنه ، كذا قضيّة ما دلّ على حجّية الظنّ في شأن غير المقلّد هو وجوب أخذه بالظنّ.

قلت : لو لا اقتضاء الإطلاق الأوّل بنفسه اندراجه في الجاهل وعدم اقتضاء الثاني كذلك اندراجه في المجتهد صحّ ما ذكر ، نظرا إلى قضاء الإطلاق الأوّل بعدم اندراجه في المجتهد ، فيلزم اندراجه في المقلّد ، للإجماع على لزوم التقليد في شأن غير المجتهد ، وقضاء الإطلاق الثاني بمنعه من التقليد ، فيرجع إلى الظنّ ، لقيام الإجماع أيضا على حجّية الظنّ بالنسبة إلى غير المقلّد ـ أعني المجتهد ـ فلا وجه لتحكيم أحد الإطلاقين على الآخر من غير قيام دليل عليه ، وأمّا بعد ملاحظة اندراجه في الجاهل بنفس ملاحظة الإطلاق الأوّل وعدم دلالة الثاني على اندراجه في العالم يكون قضيّة الإطلاقين المذكورين عدم جواز أخذ الجاهل

٦٥١

المفروض بالظنّ ، ولا التقليد ، وحينئذ فلا ريب في لزوم ترك الإطلاق الثاني ، للدليل الخاصّ القاضي بوجوب تقليد الجاهل فتأمّل.

ـ ثانيها ـ

أنّه قد قام الدليل القاطع على عدم العبرة بالظنّ من حيث إنّه ظنّ ، وإنّما يصحّ الاعتماد عليه بعد قيام القاطع على الاعتداد به وانتهائه بذلك إلى اليقين ، وحيث لم يقم دليل قاطع على حجّية ظنّ المجتهد في المقام كما عرفت من ملاحظة أدلّتهم لم يصحّ له الاعتداد بظنّه ، فيكون جاهلا بتكليفه فيما حصل له ظنّ بالحكم من المسائل الّتي اجتهد فيها ، ومع اندراجه في الجاهل يتعيّن عليه الرجوع إلى المجتهد في استعلام الأحكام الشرعيّة ، لما دلّ من الأدلّة على وجوب رجوع الجاهل إلى المجتهد ، فينتظم قياس بهذه الصورة : المتجزّئ جاهل بتكاليفه المتعلّقة به في الشريعة ، وكلّ جاهل يجب عليه الرجوع إلى العالم. أمّا الصغرى فلما قرّرناه ، وأمّا الكبرى ، فللأدلّة الدالّة عليه المقرّرة في محلّه.

وقد يناقش فيه : بعدم ظهور شمول ما دلّ على وجوب التقليد لمثله ، لعدم شمول الإجماع للمقام نظرا إلى شياع الخلاف فيه ، بل ذهاب الأكثر إلى خلافه ، وأمّا غير ذلك من الأدلّة الدالّة عليه لو قلنا لشمولها لذلك فهي أيضا ظواهر لا تفيد القطع.

وقد يذبّ عنه : بأنّ وقوع الخلاف في المقام إنّما هو من جهة البناء على حجّية ظنّه.

وأمّا مع البناء على عدم الاعتماد به وعدم حجّيته فلا ريب في وجوب تقليده.

ـ ثالثها ـ

الاستصحاب فإنّه قبل البلوغ إلى درجة التجزّي كان مكلّفا بالتقليد فيجب عليه الجري على التقليد إلى أن يثبت خلافه ، ببلوغه إلى درجة المطلق إن حصل

٦٥٢

له ذلك. والقول بعدم جريانه فيمن بلغ درجة التجزّي أوّل بلوغه أو قبله فلا يتمّ به المدّعى مدفوع ، بإمكان تتميم المقصود حينئذ بعدم القول بالفصل.

وفيه : أنّ جواز احتجاج المتجزّئ بالأصل المذكور أوّل الكلام ، إذ لا فرق بين إجرائه الاستصحاب في المقام أو في المسائل الفقهيّة ممّا يجري فيه ذلك ، فلا يصحّ استناده إلى ذلك إلّا بعد إثبات كونه حجّة في شأنه ، ومعه يتمّ المدّعى ، ولا حاجة إلى الاستناد إلى الاستصحاب ، على أنّه منقوض بما إذا بلغ درجة الاجتهاد المطلق ثمّ صار متجزّئا فإنّ قضيّة الاستصحاب حينئذ بقاؤه على العمل بظنّه.

ـ رابعها ـ

ظاهر مقبولة عمر بن حنظلة المرويّة عن الصادق عليه‌السلام «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فارضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» (١) فإنّ الجمع المضاف حقيقة في العموم ، فإن لم يكن يراد به الاستغراق الحقيقي فلا أقلّ من حمله على العرفي ، بأن يعرف جملة وافية من الأحكام بحيث يعدّ مع علمه بها عارفا بالأحكام.

وقد يناقش فيه : بأنّ الظاهر كون الإضافة فيه جنسيّة بقرينة ما تقدّمه من المفرد المضاف الظاهر في الجنسيّة وليجمع بينه وبين رواية أبي خديجة المتقدّمة.

ومع الغضّ عن ذلك فأقصى ما يفيده الرواية اعتبار الإطلاق في نصبه للقضاء والرجوع إليه في الحكومات ، وأين ذلك من الرجوع إليه في الفتيا ، بل حجّية ظنّه بالنسبة إلى نفسه كما هو المدّعى. ودعوى الملازمة بين الامور المذكورة ممنوعة ، فلا يثبت بها المدّعى ، ولو سلّم ذلك فليس في الروايات دلالة على اعتبار الظنّ سواء تعلّق بالكلّ أو بالبعض ، إذ المفروض فيها هو العلم الظاهر في اليقين ، إلّا أن يقال : إنّه إذا اعتبر الإطلاق في نصبه للقضاء في صورة تحصيله العلم بالأحكام فاعتباره عند تحصيله الظنّ بالاولى ، ولو سلّم حمله على الأعمّ من الظنّ فأقصى

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ٣١ من أبواب كيفيّة الحكم ص ٢٢٠ ح ٢ وفيه ينظران.

٦٥٣

ما في الرواية الدلالة على اعتبار ظنّ المجتهد المطلق ، وأمّا ظنّ المتجزّئ فلا دلالة فيها على اعتباره ولا عدمه.

ـ خامسها ـ

أنّ القول بجواز رجوع المتجزّئ إلى ظنّه يستلزم الدور. وقد يقرّر ذلك بوجوه :

منها : ما قرّره الفاضل الجواد «من أنّ صحّة اجتهاد المتجزّئ في مسائل الفروع متوقّفة على صحّة اجتهاده في مسألة التجزّي ، وصحّة اجتهاده في مسألة التجزّي موقوفة على صحّة اجتهاد المتجزّئ مطلقا ، لكونها من جزئيّات تلك المسألة ، حيث إنّها مسألة اجتهاديّة ، فالموقوف عليه في الثاني وإن لم يكن خصوص المتوقّف في الأوّل ، لكنّه أعمّ منه بحيث يندرج ذلك فيه اندراج الخاصّ تحت العامّ الاصولي وهو كاف في لزوم الدور. وأورد عليه : بمنع كون صحّة اجتهاده في مسائل الفروع متوقّفة على صحّة اجتهاده في مسألة التجزّي وإنّما يتوقّف على صحّتها نفسها ، ومع الغضّ عنه فالتوقّف فرع التغاير ، وظاهر أنّ صحّة اجتهاده في المسائل الفرعيّة هي عين صحّة اجتهاده في تجزّي الاجتهاد.

قلت : إن اريد بتوقّف صحّة اجتهاده في مسائل الفروع على صحّة اجتهاده في جواز التجزّي أنّ مطابقة اجتهاده في الواقع يتوقّف على ذلك فهو واضح الفساد ، إذ لا يعقل توقّف بينهما. وإن اريد أنّ جواز عمله بما اجتهد فيه من المسائل يتوقّف على جواز عمله بما اجتهد فيه من جواز التجزّي ففيه أيضا ذلك ، وإنّما يتوقّف على جواز التجزّي في نفسه كما أنّ جواز عمله بما اجتهده من جواز التجزّي يتوقّف على ذلك أيضا.

فغاية الأمر أن لا يكون عالما بالجواز ، فلا يعقل الدور على شيء من التقريرين المذكورين. ويمكن أن يقال : إنّ المراد بذلك أنّ حكم المتجزّئ بجواز اجتهاده في المسائل الفقهيّة وجواز عمله به في حكمه يتوقّف على حكمه بصحّة

٦٥٤

اجتهاده في جواز التجزّي. وحينئذ فالتوقّف ظاهر لا إشكال فيه ، لوضوح أنّ حكمه بجواز عمله في كلّ مسألة اجتهد فيها بالظنّ المتعلّق فيها مبنيّ على ثبوت كلّية الكبرى الواقعة في استدلاله على جواز عمله بظنّه في تلك المسألة ، كما أنّ المجتهد المطلق يتوقّف حكمه بجواز عمله بظنّه في خصوص المسائل ، على أنّ كلّ ما يظنّه المجتهد المطلق مطلقا ، أو عن الأدلّة الخاصّة حجّة في شأنه لينتظم له قياس بهذه الصورة : هذا الظنّ ممّا حصل للمجتهد المطلق ، وكلّ ظنّ حصل للمجتهد المطلق فهو حجّة في حقه ، لينتج أنّ ظنّه المتعلّق بكلّ من المسائل الخاصّة حجّة في حقّه ، فإنّ نظير ذلك جار في حقّ المتجزّئ ، وبيانه لكلّية الكبرى هو إثباته للمتجزّئ فإنكار التوقّف ممّا لا وجه له. ودعوى اتّحاد الأمرين غير معقول أيضا. وتوقّف حكمه بصحّة اجتهاده في جواز التجزّي على حكمه بحجّية ظنّ المتجزّئ مطلقا ظاهر أيضا ، إذ ذلك أيضا مسألة ظنّية على نحو سائر المسائل الفقهيّة ، فيتوقّف علمه بحجّية ظنّه فيها على علمه بتلك الكلّية الواقعة في كبرى القياس الدالّ على حجّية ظنّه به.

وقد يورد عليه : بأنّ الحكم بقبول الاجتهاد للتجزّي من المسائل الاصوليّة فيتوقّف جواز الاجتهاد في الفروع على جواز الاجتهاد في تلك المسألة الاصوليّة ، ولا يتوقّف جواز الاجتهاد في تلك المسألة على جواز التجزّي في الاجتهاد مطلقا ، بل على جواز التجزّي في المسائل الاصوليّة ، وهو خارج عن محلّ الكلام ، بل لا خلاف في جوازه على ما قيل فلا دور ، وأيضا لا ملازمة بين التجزّي في مسائل الفروع والتجزّي في الاصول ، فقد لا يكون متجزّئا في الاصول بأن يكون قادرا على استنباط جميع مسائل (١) له عن أدلّتها ، فلا يتوقّف العلم بالتجزّي في الاجتهاد على العلم بالتجزّي أصلا ، كيف! ولو تمّ ما ذكر لجرى ذلك بعينه في شأن المطلق ، إذ جواز اجتهاده في مسائل الفقهية يتوقّف على جواز اجتهاده في جواز الاجتهاد ، وجواز اجتهاده في هذه المسألة يتوقّف على جواز

__________________

(١) سقط من هنا شيء.

٦٥٥

اجتهاده في المسائل ، لكون تلك المسألة أيضا كغيرها من المسائل. والجواب في المقامين أمر واحد ، وهو ما ذكر من الفرق بين مسائل الاصول والفروع.

ويدفعه : أنّه لا فرق بين حجّية ظنّ المتجزّئ في الفروع أو الاصول ، كيف! والمسألة جارية فيما يجري فيه التكليف بالتقليد.

ومن البيّن : ثبوته في مسائل اصول الفقه في الجملة ممّا يتوقّف عليه عمل العوام ، إذ ما دلّ على الأخذ بالتقليد في الفروع دلّ عليه في الاصول أيضا كما سنفصّل القول فيه في محلّه إن شاء الله.

وما ذكر : من إمكان كونه مجتهدا مطلقا في الاصول فيخرج عن محلّ البحث مدفوع، بأنّه لا فائدة في فرض كونه مطلقا في استنباط الاصول ، إذ الكلام في المقام أنّ المتجزّئ في مسائل الفروع هل يعتدّ بظنّه شرعا أو لا؟ سواء تعلّق ذلك الظنّ بالفروع أو الاصول ، وسواء كان مطلقا في الاصول أو لا؟ بل يجري ذلك في سائر العلوم المرتبطة بالفروع.

ألا ترى : أنّه لو كان متجزّئا في الفقه كان جواز استناده في لفظ الصعيد ـ مثلا ـ إلى ظنّه مبنيّا على هذه المسألة ، ولم يتّجه القول بجواز استناده إلى ظنّه مع عدم القول بحجّية ظنّ المتجزّئ نظرا إلى كونه لغويّا غير متجزّ بحسبه ، كيف! ولو كان كذلك لجرى في المقلّد إذا كان لغويّا والظاهر أنّهم لا يقولون به.

وبالجملة : أنّ البلوغ إلى درجة الاجتهاد المطلق قاض بحجّية ظنّه في المسائل الفقهيّة وما يرتبط بها من مقدّماتها الاستنباطيّة ، سواء كانت اصوليّة ، أو لغويّة ، أو غيرهما ، ولا حجّية في شيء من ذلك الظنّ المقلّد في المسائل الشرعيّة.

وأمّا المتجزّئ فيها فالكلام المذكور جار فيه بعينه من غير فرق في ذلك بين كونه مطلقا في سائر العلوم ، أو متجزّئا فيها أيضا. وما ذكر من جريان الإيراد في المجتهد المطلق بيّن الفساد ، نظرا إلى قيام الإجماع على حجّية ظنّه. وقد عرفت فساد المناقشة في ثبوت الإجماع ، ولو سلّم ذلك فقضاء العقل به بعد انسداد سبيل العلم كاف في الحكم بحجّيته ولا يجري ذلك في المتجزّئ كما عرفت.

٦٥٦

نعم يمكن دفع الدور على التقرير المذكور باختلاف طرفيه نظرا إلى أنّ حكمه بحجّية ظنّ المتجزّئ مطلقا غير حكمه بحجّية الظنّ الحاصل للمستنبط المفروض في خصوص كلّ مسألة من المسائل الفقهيّة ممّا اجتهد فيها ، كيف! ويقع الكلّية المذكورة كبرى في القياس الدالّ عليه ، فكيف يتّحد معه ليلزم الدور ، حسب ما ذكر في الإيراد.

ومنها : أن يقال : إنّ صحّة اجتهاد المتجزّئ في المسائل الفقهيّة وجواز عمله به متوقّفة على صحّة اجتهاده في أنّ الاجتهاد يتجزّى ، وصحّة اجتهاده في تجزّي الاجتهاد متوقّفة على تجزّي الاجتهاد وجواز عمله بظنّه ـ أعني صحّة اجتهاده في المسائل الفقهيّة ـ ضرورة أنّ صحّة كلّ حكم يتوقّف على وقوع المحكوم به بحسب الواقع.

ودفعه ظاهر ، لاختلاف معنى الصحّة في المقامين ، فإنّ صحّة الاجتهاد في المسائل بمعنى جواز عمله على وفق اجتهاده وإن لم يكن مطابقا للواقع ، وصحّة الحكم المتوقّف على وقوع المحكوم به بمعنى مطابقته للواقع وإن لم يتعلّق التكليف على حسبه.

ومنها : أنّه قد تقرّر أنّ شيئا من الظنون لا يكون حجّة إلّا بعد انتهائه إلى اليقين ، فلا يجوز الاعتماد على الظنّ من حيث إنّه ظنّ. فحينئذ نقول : إنّ علم المتجزّئ بجواز عمله بظنّه في مسألة التجزّي وبالدليل الظنّي الدالّ على حجّية ظنّ المتجزّئ يتوقّف على علمه بقبول الاجتهاد للتجزّي ـ أعني حجّية كلّ ظنّ للمتجزّئ ، إذ المفروض أنّ المسألة المفروضة من المسائل الظنّية ، وعلمه بحجّية كلّ ظنّ للمتجزّئ متوقّف على علمه بجواز عمله بالدليل الظنّي الدالّ عليه ، إذ المفروض توقّف إثباته على ذلك ، وعدم قيام دليل قطعي عليه. والحاصل أنّ علمه بحجّية هذا الظنّ الحاصل متوقّف على علمه بحجّية كلّ ظنّ من ظنونه ، وعلمه بحجّية كلّ ظنّ له يتوقّف على علمه بحجّية هذا الظنّ الخاصّ. وإن شئت قلت : إنّ علمه بقيام ظنّه في المسائل مقام العلم يتوقّف على علمه بصحّة الدليل الدالّ على

٦٥٧

التجزّي ، وعلمه بصحّة الدليل يتوقّف على علمه بقيام ظنّه مقام العلم في المسائل. ولا يمكن دفعه إلّا بالقول بالفرق بين مسائل الاصول والفقه ، بأن يقال : إنّ المختلف فيه هو حجّية ظنّ المتجزّئ في المسائل الفقهيّة ، وأمّا المسائل الاصوليّة فلا كلام في حجّية ظنّ المتجزّئ بالنسبة إليها. ولذا وقع في كلام شيخنا البهائي حكاية الإجماع عليه ، وقد عرفت وهنه ، إذ لا فرق في مقام الحكم بالحجّية وجواز العمل بين مسائل الفقه والاصول وغيرهما من المسائل المربوطة بالعمل ، وإن كان موضوع التجزّي هو خصوص المسائل الفقهيّة نظرا إلى اختصاص الاجتهاد اصطلاحا بالمسائل الفرعيّة دون الاصوليّة ، إلّا أنّه لا فرق في البحث عن حجّية ظنّ المتجزّئ فيها بين الظنّ المتعلّق بها وبغيرها ممّا يرتبط بها حسب ما أشرنا إليه.

ومنها : أنّ علم المتجزّئ بجواز عمله بظنّه في المسائل يتوقّف على علمه بقبول الاجتهاد للتجزّي ، إذ مسألة التجزّي أيضا من جملة المسائل الظنّية ، وعلمه بجواز بنائه عليه موقوف على علمه بحجّية الظنّ الحاصل له.

ويرد عليه : أنّ علمه بحجّية ظنّه في المسائل هو عين علمه بقبول الاجتهاد للتجزّي ، إذ مفاده هو حجّية كلّ ظنّ حاصل للمتجزّئ في المسائل الفقهيّة ومقدّماتها ، فلا يتّجه لزوم الدور ، إذ هو فرع مغايرة الطرفين.

نعم هو من توقّف الشيء على نفسه وهو كاف في المقام ، فإنّه وإن لم يكن دورا في الاصطلاح ، إلّا أنّه نظيره في المفسدة ، بل هو أوضح فسادا منه في وجه.

وما قد يقال : من أنّه إن اريد بتوقّف علمه بجواز عمله بظنّه في المسائل على علمه بقبول الاجتهاد للتجزّي أنّ علمه بجواز اجتهاده في المسائل الفقهيّة موقوف على علمه بصحّة اجتهاده في تلك المسألة ليس اجتهادا في المسألة الفقهيّة ليتوقّف على جواز التجزّي في الاجتهاد ، وانّما هي مسألة اصولية ، ولا خلاف في جواز التجزّي في الاصول ، على أنّه قد يكون مجتهدا مطلقا فيه وإن كان متجزّئا في الفروع ، إذ لا ملازمة بين الأمرين. وإن اريد به أنّ علمه بجواز عمله بظنّه في

٦٥٨

المسائل اصوليّة كانت أو فروعيّة يتوقّف على علمه بقبول الاجتهاد للتجزّي ، فهو على إطلاقه ممنوع ، إذ لا توقّف للعلم بحجّيّة ظنّه في المسائل الاصوليّة على صحّة التجزّي في المسائل الفقهيّة.

فمدفوع ، بما مرّ بيانه من عدم الفرق في الحكم بحجّية الظنّ المتجزّئ في المسائل الفقهيّة والاصوليّة وغيرهما ممّا يتوقّف عليه استنباط الأحكام الشرعيّة ، فمنع التوقّف في المقام غير متّجه ، وفرض كونه مطلقا في استنباط الأحكام الاصوليّة غير مفيد كما عرفت.

والّذي يقتضيه التحقيق في المقام أن يقال : إنّ استنباط المتجزّئ إمّا أن يكون بالنسبة إلى المسائل القطعيّة أو الظنّية ، وعلى الثاني فإمّا أن يتّفق له القطع بالمسألة أو لا ، وعلى الثاني فإمّا أن يراد معرفة جواز التجزّي في الاجتهاد وعدمه في نفسه ولو كان الحاكم به مجتهدا مطلقا على نحو غيرها من المسائل ، أو يراد معرفة الحكم بالنسبة إلى معرفة تكليف المتجزّئ نفسه في جواز بنائه على ما يستنبطه في المسائل إذا ذهب إلى جواز التجزّي وحجّية ظنّ المتجزّئ ، وعلى كلّ حال فإمّا أن يراد معرفة حاله في جواز رجوعه إلى ظنّه ، أو جواز رجوع غيره إليه في الفتيا وإمضاء حكوماته في القضاء.

فنقول : لا ينبغي التأمّل ظاهرا في حجّية ما يحصله من الأدلّة بالنسبة إليه في الصورتين الاوليين ، إذ لا مزيد على القطع في معرفة التكاليف ، فبعد حصول القطع بالحكم لا مجال للتأمّل في حجّيته ، ولو حصل له القطع بكونه مؤدّى الأدلّة الموجودة وإنّ من خالفه فيه مخطئ قطعا لما قامت عليه الأدلّة الشرعيّة ممّا يمكن الوصول إليه ، ففي جواز اتّكاله عليه وجهان : من عدم حصول القطع بالواقع فيكون الحال فيه كسائر ظنونه ، ومن تحصيله القطع بالطريق وهذا هو الظاهر.

وكون المتيقّن من حجّية تلك الأدلّة حجّيتها بالنسبة إلى المجتهد المطلق دون المتجزّئ فلا فائدة في تحصيله القطع بمقتضاها مدفوع ، بأنّ قول المجتهد إنّما يكون حجّة من حيث كشفه عن الأدلّة الشرعيّة ، وليس قوله حجّة من حيث هو ،

٦٥٩

فإذا حصل له القطع بذلك ، فلا حاجة إلى التوصّل بقوله إليه ، بل لا يجوز له الرجوع إليه بعد القطع المذكور إذا كان ما فهمه مخالفا لذلك.

هذا إذا علم انحصار الأدلّة الموجودة فيما إذا وصل إليه وعلم كون مقتضاها ذلك ، وأمّا لو حصل له الظنّ بالأمرين أو أحدهما فهو يندرج في مسألة الظنّ ، والظاهر أنّه الملحوظ بالبحث في المقام.

وحينئذ فإن اريد معرفة حكم التجزّي في نفسه ولو كان الحاكم به مجتهدا مطلقا فالظاهر حينئذ هو القول بحجّية الظنّ الحاصل له وجواز أخذه به ، ولو قيل بعدم جواز الأخذ بمجرّد ظنّ المتجزّئ وكونه حجّة في شأنه ، فإنّ طريان المنع من الأخذ به من جهة عدم انتهائه إلى اليقين ، فلا ينافي ذلك جواز الأخذ به في حكم المطلق ، وحينئذ فله أن يحكم بجواز التجزّي وإن لم يكن للمتجزّئ الرجوع إليه بمجرّد ظنّه.

فإن قلت : إنّه إذا لم يجز للمتجزّئ الرجوع إلى ظنّه لعدم دليل قاطع على جواز رجوعه إليه لم يكن أيضا للمجتهد المطلق الحكم بجواز رجوعه إلى ظنّه بل اللازم عليه الحكم بمنعه من الرجوع إليه.

قلت : فرق بين عدم قبول الاجتهاد للتجزّي في نفسه وعدم حجّية ظنّ المتجزّئ من أصله وبين حجّيته في الواقع وعدم جواز كون المتجزّئ إليه من جهة انتفاء علمه به ، فهناك جواز للتجزّي وعلم بجوازه ، فعدم جواز الحكم بالتجزّي في شأن المتجزّئ لانتفاء علمه به غير الحكم بعدم جوازه من أصله ، وإنّما يمتنع حكم المطلق بالجواز مع اختيار عدمه في الثاني دون الأوّل ، فأقصى الأمر أن يحكم بعدم جواز اعتماد المتجزّئ بمجرّد ظنّه وإن جاز التجزّي في نفسه ، والملحوظ في المقام هو نفس الجواز وإن كان الحاكم به هو المطلق دون المتجزّئ. ومن هذا القبيل ما لو حكم المجتهد بجواز تقليد المفضول مع التمكّن من الرجوع إلى الأفضل ، فإنّه يجوز استناده إلى الأدلّة الظنّية وإن لم يجز ذلك للمقلّد ولم يكن له في نفسه إلّا الرجوع إلى الأفضل ، لعدم علمه بحصول البراءة إلّا به. وحينئذ يدلّ

٦٦٠