هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

يتعلّق به أمر كما هو الحال في معظم العقود والإيقاعات ، أو يتعلّق به أمر لكن لا يتقيّد بوقوعه على جهة الامتثال ، كأداء الدين وإزالة النجاسات عن الثوب والبدن ونحوهما. وقد يتوقّف صحّة العمل على مجرّد قصد الامتثال والطاعة وإن لم يكن في الواقع أمر بذلك الواقع منه كما في الوقف والعتق ، لصحّة ما يقع منهما من المخالف والكافر ، وفي إدراجهما في العبادة بالمعنى المذكور إشكال ، والمعروف بين الأصحاب ذكرهما في طيّ المعاملات إمّا لذلك أو لكون معظم البحث عنهما من جهة ترتّب الآثار لا من جهة ملاحظة الامتثال.

وقد يراد بالعبادة ما يقع من المكلّف على وجه الطاعة ، سواء كان تشريعه على جهة تحصيل الامتثال وأداء الطاعة أو يكون أداء المكلّف له على جهة الطاعة فيما يتعلّق به الطلب على بعض الوجوه فيكون عبادة بالنيّة. والظاهر جريان حكم العبادة فيها بالنسبة إلى وقوعها على تلك الجهة ، ولحوق حكم المعاملات بالنسبة إلى نفسها على حسب ما يجيء الكلام فيه إن شاء الله.

رابعها : أنّ الصحيح من العبادات على ما فسّرها المتكلّمون ما وافق الشريعة وعند الفقهاء ما أسقط القضاء. قالوا : ويظهر الثمرة بين التفسيرين فيمن صلّى باستصحاب الطهارة ثمّ انكشف الخلاف ، فإنّها صحيحة على الأوّل ، لأدائها موافقا لأمر الشارع حيث جعله متعبّدا بالعمل به ، فاسدة على الثاني ، لعدم إسقاطه القضاء.

أقول : إن اريد بما وافق الشريعة ما وافقها بحسب الواقع وبما أسقط القضاء ما أسقطها كذلك لم يصحّ ما ذكر من التفريع ، لوضوح عدم موافقة ما أتى به من الصلاة للواقع وعدم إسقاطه القضاء كذلك. وإن اريد موافقته للشريعة بحسب ظاهر التكليف فينبغي أن يراد إسقاطه القضاء كذلك أيضا ، إذ لا وجه للتفكيك بين التعبيرين. وحينئذ فكما يصدق موافقة العمل للشريعة كذلك يكون مسقطا للقضاء في ظاهر الشريعة ، وبعد انكشاف الخلاف كما يتبيّن عدم إسقاطه القضاء كذا يتبيّن عدم موافقته للشريعة أيضا ، فلا فرق بين التعريفين.

١٢١

فإن قلت : إنّه إذا فسّر ما وافق الشريعة بما وافقها في ظاهر التكليف صدق الحدّ على الفعل المفروض وإن انكشف الخلاف بعد ذلك ، إذ لا يرتفع به الأمر الحاصل حين الفعل. وليس ذلك الفعل حينئذ مسقطا للقضاء في ظاهر التكليف مطلقا ، غاية الأمر إسقاطه له قبل الانكشاف ، والمأخوذ في الحدّ هو إسقاطه له على سبيل الإطلاق ، فلا يكون صحيحا على التعريف المذكور أيضا حسب ما ذكروه.

قلت : الظاهر عدم صحّتها بعد انكشاف الخلاف على التفسير الأوّل أيضا ، فإنّ الأمر المتعلّق بالفعل حين الإتيان به إنّما هو من جهة الحكم بكون المأتيّ به هو الواقع وكون الطريق المذكور موصلا إلى الواقع ، فليست المطلوبيّة الحاصلة هناك إلّا من جهة إيصاله إلى الواقع وكون المأتيّ به هو عين الواقع في حكم الشارع لا أمر آخر قائم مقامه ليكون واقعيّا ثانويّا مطلوبا من حيث ذاته ، بل ليست مطلوبيّته إلّا من حيث كونه نفس ما هو الواقع أيضا ، فيحكم حينئذ بموافقة العمل للشريعة لحكم الشارع حينئذ بالحكم به ما لم يتبيّن الخلاف ، فإذا انكشف الخلاف لم يكن موافقا للشريعة في الظاهر أيضا وإن كان موافقا له قبل الانكشاف كما أنّه كان مسقطا للقضاء قبله.

وتوضيح الكلام في ذلك مبنيّ على تحقيق القول في الحكم الظاهري والواقعي ولتفصيل الكلام محلّ آخر. فالظاهر من قولهم : «ما وافق الشريعة» ما أتى به على وفق ما قرّر في الشريعة واقعا ولو بالطريق المقرّر في ظاهر الشريعة ، وبعد انكشاف الخلاف لم يكن المأتيّ به ما قرّر في الشريعة واقعا ولو بحسب ظاهر الشريعة ، وإنّما كان محكوما بموافقته للشريعة قبل انكشاف الخلاف ـ حسب ما قرّرنا ـ فالمناط موافقته للواقع لكن الحكم بالموافقة قد يكون من جهة العلم بالمطابقة وقد يكون من جهة الطريق المقرّر في الشريعة لكشف الواقع ، فلا يكون مطابقا بعد انكشاف الخلاف.

نعم لو اريد بما وافق الشريعة ما وافقها بحسب الأمر المتعلّق به في ظاهر

١٢٢

الشريعة سواء كشف عن الواقع أو انكشف خلافه فانقطع كونه طريقا صحّ الفرق بين الحدّين ، فإنّ الفعل بعد انكشاف الخلاف قد وقع على وفق الأمر المقرّر في الشريعة ، وإن لم يكن حينئذ كاشفا عن الواقع كان متّجها لكنّه بعيد عن التفسير المذكور. فالأظهر ـ على حسب ما قرّرنا ـ عدم اختلاف الحدّين في ذلك فلا فارق بين الحدين من الجهة المذكورة ، وليس اختلاف الحدّين مبنيّا على اختلاف الاصطلاح في الصحّة حتّى يكون الصحيح في اصطلاح فاسدا في آخر ، وإنّما اعتبر كلّ من الفريقين أمرا في التعريف خلاف ما اعتبره الآخر يوافق غرضه.

والصحّة في المعاملات كون الفعل بحيث يترتّب عليه الآثار المطلوبة منه عقودا كانت أو إيقاعاتا أو غيرهما. والفاسد في العبادات والمعاملات ما يقابل حدّ الصحيح المذكور فيختلف بحسب اختلاف الحدود المذكورة.

وقد يتراءى من ظاهر كلامهم كون الصحّة والفساد مشتركا لفظيّا بين الوجهين ، حيث جعلوا حدّ الصحّة في العبادات مغايرا لحدّه في المعاملات لكنّ الظاهر خلافه ، فإنّ المنساق من الصحّة معنى واحد وهو أمر واحد يتّصف به العبادة والمعاملة. فلا يبعد أن يكون المناط في الحدّين أمرا واحدا وهو في الحقيقة مفاد الصحّة وإن اختلف الحال فيه بحسب اختلاف الموصوف به ، وانّما لاحظوا اختلاف الحدّين من تلك الجهة. وقد نبّه على ذلك بعضهم حيث جعل مفاد الصحّة في المقامين كونه بحيث يترتّب عليه أثره ، فإن كان في العبادات المطلوبة منها الانقياد كان أثرها المترتّب عليها هو الطاعة والانقياد وأداء مطلوب الشارع ويتبعه الإجزاء وسقوط التعبّد به ثانيا ، وقد لوحظ واحد من ذينك الأمرين في كلّ من التعريفين على حسب ما يلائم قصد المعرّف ، وإن كان في المعاملات كان الأثر المترتّب عليها هو ما وضعت لها تلك المعاملات من الآثار المترتّبة عليها.

خامسها : أنّ النهي قد يتعلّق بذات العبادة ، وقد يتعلّق بجزئها ، وقد يتعلّق بشرطها ، وقد يتعلّق بأمر خارج عنها لازم لها أو مفارق عنها. والنهي المتعلّق بالخارج إمّا متعلّق به لأجل العبادة أو لا لأجلها ، ثمّ الخارج إمّا أن يكون أمرا

١٢٣

مباينا له أو متّحدا معه. والنهي المتعلّق بذات العبادة إمّا أن يكون متعلّقا بها لذاتها أو لغيرها سواء كان ذلك الغير جزءا لها أو لا. ثمّ النهي المتعلّق إمّا أن يكون أصليّا أو تبعيّا ، نفسيّا أو غيريّا. والنهي المتعلّق بالخارج المفارق المتّحد مع العبادة هو بعينه الكلام في المسألة المتقدّمة ـ أعني مسألة اجتماع الأمر والنهي ـ ولذا نصّ بعض الأفاضل بإخراج ذلك عن محلّ البحث وخصّ البحث بالنسبة إلى العبادات في المقام بما إذا كان النسبة بين المأمور به والمنهيّ عموما مطلقا ، وأمّا إذا كانت النسبة بينهما عموما من وجه ـ كما في الفرض المذكور ـ فهو المسألة المتقدّمة ، وصرّح أيضا بخروج ما يكون النهي متعلّقا بأمر خارج مفارق مباين للعبادة عن محلّ النزاع ، لعدم ارتباط النهي حينئذ بالعبادة كما في الأمر بالعبادة والنهي عن النظر إلى الأجنبيّة.

وفيه : أنّه إن كان النهي عن ذلك الأمر الخارج لا لأجل العبادة فالأمر كما ذكر وإن كان النهي عنه لأجل العبادة فالمتّجه إدراجه في المسألة ـ كالنهي عن التكفير في الصلاة ، وعن قول آمين ونحوهما ـ وأيضا البحث المتقدّم عمّا إذا كانت النسبة بين الكليّين عموما من وجه إنّما كان من جهة حكم العقل ، حيث إنّه الملحوظ بالبحث عندهم ولذا أدرج ذلك جماعة منهم في مباحث الأحكام ، والبحث الواقع هنا من جهة الدلالة اللفظيّة. أو يقال : إنّ المبحوث عنه هنا هو حال النهي المتعلّق بالعبادة وإن كان من جهة خارجة عن ذات العبادة فيستدلّ هنا على دلالته على الفساد ، والملحوظ في مسألة اجتماع الأمر والنهي هو المنع من اجتماع الطبيعتين اللتين بينهما عموم من وجه إذا كان أحدهما متعلّقا للأمر والآخر للنهي في مصداق واحد. ومرجع كلام المجوّز هناك إلى عدم تعلّق النهي بالعبادة ، فإنّ كلّا من متعلّق الأمر والنهي إنّما هو الطبيعة. وكلّ من الطبيعتين مغايرة للاخرى ، غاية الأمر إيجاد المكلّف لهما بسوء اختياره في فرد واحد ، وليس الفرد متعلّقا للأمر والنهي. نعم مرجع كلام المانع كما مرّ إلى كون الطبيعة من حيث الوجود متعلّقة للأمر والنهي ، وهما متّحدان وجودا ، فيكون النهي متعلّقا بنفس العبادة وإن كان من

١٢٤

جهة خارجة عن ذاتها وهو لا يقضي أيضا باتّحاد المسألتين ، إذ يقع مسألتنا هذه كبرى للدليل الدالّ على المنع هناك. فلا مجال لتوهّم إدراج المسألة المتقدّمة في هذه المسألة وكونها من بعض جزئيّاتها ، حتّى يلتزم بالتخصيص هنا في مورد البحث لئلّا يتّحد البحثان.

قوله : (ثالثها يدلّ في العبادات ... الخ.)

المحكيّ في المسألة أقوال عديدة :

أحدها : القول بالدلالة على الفساد في العبادات والمعاملات لغة وشرعا ، حكاه الرازي عن بعض أصحابه ، وحكاه في النهاية عن جمهور فقهاء الشافعيّة ومالك وأبي حنيفة والحنابلة وأهل الظاهر كافّة وجماعة من المتكلّمين.

ثانيها : القول بعدم الدلالة مطلقا ، حكاه في النهاية عن جماعة من الأشاعرة كالقفّال والغزالي وغيرهما وجماعة من الحنفيّة وجماعة من المعتزلة كأبي عبد الله البصري وأبي الحسن الكرخي والقاضي عبد الجبّار.

ثالثها : الدلالة فيهما شرعا لا لغة ، ذهب إليه الحاجبي وعزي إلى السيّد رحمه‌الله.

رابعها : الدلالة في العبادات مطلقا دون المعاملات مطلقا ، ذهب إليه المصنّف رحمه‌الله وجماعة ـ حسب ما أشار إليه ـ واختاره الرازي وحكاه عن أبي الحسين البصري.

خامسها : الدلالة فيهما شرعا لا لغة إلّا إذا رجع النهي في المعاملة إلى أمر مقارن للعقد غير لازم كالنهي عن البيع في وقت النداء يوم الجمعة ، وحكي القول به عن الشهيد الثاني والشهيد رحمهما‌الله.

سادسها : القول بالدلالة في العبادات مطلقا وفي المعاملات شرعا خاصّة ، اختاره بعض متأخّري الأصحاب.

سابعها : الدلالة على الفساد لغة وشرعا في العبادات والمعاملات إن رجع النهي إلى العين أو الجزء أو اللازم وصفا كان أو غيره دون الوصف والخارج الغير اللازم ، وحكي القول به عن الرازي في المعاملة والعدي وعزاه العضدي إلى الشافعي وربما يحكى عن الشيخ في العدّة.

١٢٥

ثامنها : القول بالدلالة في العبادات والدلالة في المعاملات شرعا بشرط أن يكون تعلّقه بالمنهيّ عنه لعينه أو وصفه اللازم دون ما إذا كان لأمر خارج مفارق كالبيع وقت النداء وذبح الغاصب ، اختاره السيّد الاستاذ قدس‌سره وحكاه عن الشهيد في القواعد ، والمحقّق الكركي في شرح القواعد قال : وكلام الفقهاء هناك في كتب الفروع يعطي ذلك.

تاسعها : الدلالة عليه شرعا خاصّة في العبادات والمعاملات إن رجع الى العين أو الجزء أو اللازم ، وحكي القول به من البيضاوي في المنهاج.

عاشرها : الدلالة عليه في العبادات مطلقا وفي المعاملات إن كان مقتضى الصحّة منحصرا في ما يفيد الحلّية.

حادي عاشرها : الدلالة عليه في العبادات شرعا خاصة عزاه ذلك الى أكثر الأصحاب.

ويدلّ على المختار : أمّا على عدم دلالة النهي الغيري على الفساد في العبادات ، فبما عرفت الوجه فيه إلّا فيما مرّ من الصورة المتقدمة نظرا إلى امتناع مجامعة النهي للأمر على الوجه المذكور.

وأمّا على عدم دلالته على الفساد في المعاملات ، فلوضوح عدم المنافاة عقلا بين التحريم وترتّب الآثار ولا عرفا وشرعا فيما إذا كان المنع حاصلا لأجل الغير.

وأمّا على دلالة النهي النفسي المتعلّق بالعبادات على الفساد إذا تعلّق بذات العبادة أو جزئها فلوجوه :

أحدها : وضوح المنافاة بين الأمر والنهي والرجحانيّة والمرجوحيّة ، فإذا تعلّق به النهي قضى بارتفاع الأمر ، ومعه يرتفع الصحّة عن العبادة ، إذ الصحّة في العبادة بمعنى موافقة الأمر أو كونها بحيث يحصل بها الانقياد والإطاعة فيها وهو فرع الأمر ، ولا فرق حينئذ بين أن يتعلّق النهي بها لذاتها أو لأمر خارج عنها متّحد معها وإن كان الحال أوضح في الصورة الاولى ، لوضوح أنّ ما ذكرناه من ارتفاع الأمر فرع تعلّق النهي بها وهو حاصل في الصورتين.

١٢٦

فإن قلت : إنّ النهي في الصورة الثانية إنّما يتعلّق حقيقة بالخارج وإنّما يتعلّق بالعبادة من جهة اتحاده معها ، فإذا لوحظت تلك العبادة بذاتها لم يتحقّق مرجوحيّة بالنسبة إليها لينافي صحّتها.

قلت : المفروض في المقام تعلّق النهي بذات العبادة ، غاية الأمر أن لا يكون النهي معلّلا بنفس الذات ، والمانع من تعلّق الأمر هو تعلّق النهي بالذات لا تعليل النهي بها. وما ذكر من تعلّق النهي حقيقة بالخارج فاسد ، إذ الحيثيّة المأخوذة هنا تعليليّة لا تقييديّة. فالنهي متعلّق بنفس العبادة ، على أنّك قد عرفت أنّه مع تعلّق النهي أوّلا بالخارج يرجع الأمر إلى تعلّقه بالعبادة ولو من جهة اتّحادهما بحسب الوجود ، وإلّا لم يندرج في موضوع النزاع ، إذ محلّ البحث إذا تعلّق النهي بالعبادة ، ولو لا ذلك لرجع إلى البحث في المسألة السابقة ـ حسب ما تخيّله القائل بجواز الاجتماع ـ على أنّك قد عرفت أنّ الحقّ هناك هو المنع من الاجتماع وإرجاع الأمر في الطلبين إلى جهة الوجود. فعند التحقيق يرجع الأمر فيها إلى تعلّق النهي بالعبادة وإن لم يلتزمه القائل بالجواز حيث توهّم تعلّق كلّ من الأمر والنهي بطبيعة غير ما تعلّق به الآخر.

فإن قلت : إنّ أقصى ما يدلّ عليه الوجه المذكور ـ على فرض تسليمه ـ دلالة النهي المتعلّق بذات العبادة على الفساد دون المتعلّق بجزئها ، إذ لا يتعلّق الأمر هناك إلّا بالكلّ دون كلّ من الأجزاء سيّما على القول بعدم وجوب المقدّمة ، فغاية ما يلزم من تعلّق النهي بجزء العبادة عدم تعلّق الأمر بذلك الجزء ، وهو لا يستدعي فساد الكلّ ، إذ لا يتوقّف صحّة الكلّ على تعلّق الأمر بالأجزاء وإنّما يتوقّف على تعلّقه بالكل.

قلت : من البيّن أنّه إذا تعلّق الأمر بالكلّ كان كلّ من الأجزاء مطلوبا بمطلوبيّة الكلّ واجبا بوجوبه ـ سواء قلنا بوجوب المقدّمة أو لا ، حسب ما مرّ بيانه عند الكلام في مقدّمة الواجب ـ وهو لا يجامع تحريمه بنفسه من جهة تعلّق النهي به ، فمع فرض حرمة الجزء لا يعقل تعلّق الوجوب بالكلّ ، فإنّه إمّا أن يقال : حينئذ

١٢٧

بكون المطلوب هو نفس الأجزاء خاصّة فيلزم خروج الجزء بعد تعلّق الوجوب بالكلّ عن الجزئية وهو خلف ، وإمّا أن يقال بكون المطلوب هو الإتيان بالجميع وإن يكن كلّ منهما مطلوبا مستقلّا فهو لا يجامع حرمة البعض والمنع من الإتيان به ، ومع الغضّ عن ذلك فلا ريب في استلزام الكلّ لجزئه وعدم انفكاكه عنه ، فإذا فرض كون اللازم حراما امتنع الأمر بالملزوم لما عرفت من استحالة تعلّق كلّ من الأمر والنهي بالمتلازمين نظرا إلى استحالة التكليف بالمحال.

ثانيها : صريح فهم العرف في المقام ، فإنّه إذا قال للمكلّفين «صلّوا وللحائض لا تصلّي» فهم التخصيص وخروج الحائض عن متعلّق الأمر ، وكذا لو أمر بالصلاة المشتملة على السورة ثمّ قال : ولا يقرأ سور العزائم في الصلاة دلّ على كون المطلوب هو الصلاة الّتي لا يؤتى فيها بتلك السور وهكذا ، فإذا خرج ذلك عن متعلّق الأمر في حكم العرف لزمه فساد العمل.

فإن قلت : غاية ما يفهم من العبارة المذكورة عدم كون الصلاة الّتي يقرأ أحد العزائم مكان السورة الواجبة فيها مطلوبا للشارع ، فيكون النهي المتعلّق بقراءة العزيمة دالّا على عدم الاجتزاء بها في الصلاة ، لا أنّ الصلاة المشتملة عليها فاسدة وإن أتى فيها بسورة اخرى حتّى يكون النهي المتعلّق به قاضيا بفساد العبادة.

قلت : المقصود في المقام من دلالة النهي المتعلّق بجزء العبادة على فسادها هو ما لو جعل المنهيّ عنه جزءا للعبادة وأتى به مكان الجزء المطلوب ، كما في الصورة المفروضة. وأمّا لو تعلّق النهي حينئذ بالجزء مطلقا من غير أن يكون هناك ما يؤتى به مكانه ، فإنّه يقضي بفساد أصل العبادة ، كما إذا طرءه مرض في آخر النهار يضرّ معه الصوم لنهيه حينئذ عن الإمساك ، فإذا صام على الوجه المذكور فسد صومه ـ حسب ما بيّناه ـ وأمّا إذا تعلّق النهي ببعض أجزاء العبادة مع التمكّن من إتيان الجزء على الوجه الغير المنهيّ عنه فأتى به على الوجهين لم يفد ما ذكرناه من دلالة النهي على الفساد على فسادها في المقام ، وذلك يشبه ما لو تعلّق النهي بأمر خارج عن العبادة الحاصلة على الوجه المطلوب كالإتيان بفعل منهيّ عنه في أثنائها.

١٢٨

توضيح ذلك : أنّ النهي المتعلّق بالجزء على الوجه المذكور يخرج الجزء المذكور من كونه جزءا للعبادة وقد خرج عن الجزئيّة بتعلّق النهي.

ثالثها : أنّه إذا تعلّق النهي بالعبادة فلابدّ هناك من مصلحة قاضية به فإن فرض تعلّق الأمر به أيضا لزم هناك من وجود مصلحة قاضية بذلك أيضا ، فإمّا أن يتساوى المصلحتان أو يترجّح مصلحة الأمر أو النهي ، لا سبيل إلّا إلى الثالث ، إذ لا يمكن تعلّق النهي بالعبادة إلّا مع البناء عليه. وحينئذ فلا سبيل إلى تعلّق الأمر به ، لاضمحلال مصلحة الأمر بالنسبة إلى مصلحة النهي ، فلا يكون باعثا على الأمر ومع انتفائه يتعيّن البناء على الفساد.

وأمّا دلالته على الفساد إذا تعلّق بأمر خارج لازم لها ، فلما عرفت من امتناع تعلّق الأمر والنهي بالمتلازمين. ولا فرق في اللازم بين أن يكون لازما لأصل الفعل أو لبعض من أنواعه بل ولبعض أفراده ، لما عرفت من أن الفرد الملزوم للمحرّم يكون خارجا حينئذ عن مورد التكليف ، فإنّ إيجاده في ضمن ذلك الفرد إذا كان مستلزما للمحرّم لم يكن ذلك الإيجاد مطلوبا للآمر ، فتقيّد به الطلب المتعلّق بالطبيعة فلا يكون الإتيان به مجزيا.

وأمّا دلالته على الفساد إذا تعلّق بأمر خارج متّحد مع الماهيّة في الوجود ، فبما عرفت من امتناع اجتماع الأمر والنهي ورجوع النهي في ذلك إلى نفس العبادة وإن لم يكن لذاتها ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه.

وأمّا دلالته على الفساد إذا تعلّق بأمر خارج لأجل العبادة سواء كان وصفا عارضا للعبادة أو أمرا مباينا مساويا لها ، فلقضاء ظاهر العرف حينئذ بفهم المانعيّة وكون ذلك الأمر الخارج مخلّا بأداء المطلوب ، بل وقد لا يفهم منه حرمة ذلك الفعل وإنّما يراد منه مجرّد بيان كونه مانعا عن حصول ذلك الفعل أو عن ترتّب آثاره عليه ، فكما أنّ أجزاء الفعل وشرائطه يعبّر عنها بالأوامر فكذا موانعه. ويجري ذلك في التكاليف العرفيّة أيضا إذا كان للمكلّف به أجزاء وشرائط ، فإنّهم يفهمون من الأوامر المتعلّقة بخصوصيّات الأفعال الواقعة والنهي عنها اعتبار تلك

١٢٩

الأفعال وجودا وعدما في صحّتها. ولا فرق في ذلك بين كون ذلك الأمر الخارج شرطا في العبادة أولا ، إلّا أنّ الحكم بالنسبة إلى الشرط أوضح ، فإنّه قد يستفاد منه أيضا عدم حصول الشرط بذلك فيفيد الفساد.

وأمّا عدم دلالته على الفساد إذا لم يكن النهي لأجل العبادة ، فبانتفاء الملازمة العقليّة والدلالة العرفيّة. ولا فرق حينئذ بين كون المنهيّ عنه شرطا أو غيره.

فإن قلت : إذا كان المنهيّ عنه شرطا دلّ النهي عنه على عدم وجوبه وهو لا يجامع وجوب المشروط ، لما عرفت من كون وجوب المقدّمة من لوازم وجوب ذيها ، وحينئذ فسقوط الوجوب عن ذيها يكون قاضيا بفسادها ، حسب ما مرّ (١).

وأمّا دلالته على الفساد إذا تعلّق بذات المعاملة لذاتها أو لجزئها كذلك أو بأمر خارج عنها لازم لها أو مفارق عنها لأجل تلك المعاملة شرطا كان أو غيره فلوجوه :

أحدها : أنّ ذلك هو المنساق منها بحسب الاستعمال وإن لم يكن هناك ملازمة عقليّة بين التحريم والفساد ـ حسب ما قرّرناه بالنسبة إلى العبادات ـ إذ ليست الصحّة هنا إلّا ترتّب الأثر ، ولا مانع من ترتّبه على المحرّم ، إلّا أنّه لمّا كان الغرض الأهمّ من المعاملة هو ترتّب الأثر وكان كمالها الذاتي يتفرّع آثارها عليها كان النهي المتعلّق بها لذاتها دالّا بحسب المقام على نقصها في حدّ ذاتها وعدم كونها مثمرة للثمرة المقصودة منها ـ كما يظهر ذلك من التأمّل في المقام ـ بل لا يبعد استفادة ذلك من النواهي الواردة في العرف أيضا من الموالي بالنسبة إلى العبيد أو الحكّام إلى الرعيّة ونحوهم في مثل هذا المقام ، فانّه لا ريب في ظهوره بملاحظة المقام في عدم ترتّب الآثار المطلوبة من تلك الأفعال ، بل ليس المقصود من تلك النواهي غالبا إلّا بيان ذلك ، فإيرادها في صورة الطلب إنّما هو لبيان ذلك لا لإرادة التحريم ، ولا يبعد القول في كثير من النواهي الشرعيّة بل في معظمها إلّا ما شذّ وندر ، فإنّ نهيه عن بيع الغرر وبيع الملامسة والحصاة ونحوها إنّما يراد به بيان

__________________

(١) لم يرد في النسخ جواب إن قلت.

١٣٠

فساد تلك البيوع ، لا أنّ الإتيان بها من المحرّمات في الشريعة بحسب ذاتها مع قطع النظر عن حصول التفريع بها كما هو قضيّة ظاهر النهي مضافا إلى أنّ التفريع غير حاصل في جميع الصور.

الثاني : أنّ العلماء خلفا عن سلف لم يزالوا يستدلّون بالنواهي على الفساد ويستندون إليها في أبواب البيوع والأنكحة وغيرهما من مباحث المعاملات إذا تعلّق النهي بها على أحد الوجوه المذكورة ، يظهر ذلك من ملاحظة كتب الاستدلال في المباحث المتفرّقة دون ما إذا تعلّق النهي بذاتها لأمر خارج عنها كالنهي عن البيع وعن النكاح في المكان المغصوب أو الذبح المتعلّق بالحيوان المغصوب أو الآلة المغصوبة أو في المكان المغصوب ونحو ذلك فلم يحكموا بالفساد في شيء منها ، واورد على ذلك بوجوه :

أحدها : أنّه لا حجّة في أقوال العلماء ما لم يصل إلى حدّ الإجماع ، ودعوى وصوله في المقام إلى ذلك في حيّز المنع بل الظاهر خلافه ، حيث إنّ الخلاف والتشاجر في المسألة من الامور الظاهرة الجليّة.

ثانيها : أنّ احتجاج العلماء بالنواهي على الفساد في أبواب المعاملات معارض بتصريحهم بعدم دلالة النهي على الفساد حيث اشتهر في ألسنتهم عدم دلالة النهي في المعاملات على الفساد ، وإذا كان الحال على ذلك لم يصحّ الحكم بدلالتها على الفساد بمجرّد حكمهم بفساد عدّة من المعاملات الّتي ورد النهي عنها ، إذ قد يكون ذلك من جهة قيام ضرورة أو إجماع أو دليل آخر على الفساد ليصحّ به الجمع بين الأمرين المذكورين.

ثالثها : أنّه قد يكون استناد الفقهاء في حكمهم بفساد المعاملات المفروضة إلى الأصل بعد انحصار دليل الصحّة فيما دلّ على حلّ نوع تلك المعاملة أو الأمر بإيقاعها ونحوهما ، إذ بعد النهي عن خصوص بعض أقسامها لا يندرج ذلك فيما يفيد الصحّة لثبوت المنع منه ، وقضيّة الأصل حينئذ هو الحكم بالفساد فلا يفيد ذلك دلالة النهي على الفساد كما هو المدّعى.

١٣١

ويدفع الأوّل : أوّلا بأنّه لا حاجة إلى إثبات الإجماع عليه ، فإنّ المسألة من مباحث الألفاظ ويكتفى فيها بالظنّ.

ومن البيّن أنّ اشتهار ذلك في كلامهم خصوصا عند القدماء منهم من أقوى الأسباب على حصول الظنّ بالاستفادة المذكورة ، إذ يبعد جدّا استناد معظم الأصحاب في المداليل اللفظيّة إلى ما لا دلالة فيه أصلا ، كيف! ولا يقصر ذلك عن الاستناد إلى كلمات أهل اللغة والرجوع إلى سائر الأمارات الظنّية في إثبات المداليل اللفظيّة فلا مانع من الاحتجاج به مع عدم البلوغ حدّ الإجماع المفيد للقطع ، إذ ليست المسألة إلّا من مباحث الألفاظ ولا حاجة فيها إلى القطع.

وثانيا : بأنّ دعوى الإجماع في المقام غير مستبعد فالّذي يظهر من تتبع كلامهم في المباحث المتفرّقة كون الاستناد إلى ذلك معروفا في كلام القدماء من عصر الصحابة والتابعين ، وقد نقله علماء الفريقين في المقام ، وذكروا أنّ الاستناد إلى النواهي في الحكم بالفساد ممّا اتفق عليه علماء الأعصار في جميع الأمصار.

والثاني بأنّ أقصى ما يلزم من ذلك وقوع الخلاف في المسألة وعدم انعقاد الإجماع عليها.

وقد عرفت أنّه غير مناف لما هو المقصود من حصول الظنّ باستفادة الفساد إلّا أن يدّعى شهرة خلافه بينهم ، وهو غير ظاهر بعد ملاحظة ما قرّرناه من حمل النواهي على الفساد. وما يدّعى من اشتهار القول بعدم دلالة النهي في المعاملات على الفساد ـ على فرض تسليمه ـ يمكن حمله على عدم دلالة مجرّد النهي على الفساد ، وهو كذلك فإنّا لا نقول بدلالة مجرّد النهي على الفساد وإنّما نستفيد الفساد من كون النهي لأجل المعاملة فيكون ذلك أمارة قاضية بذلك ، مضافا إلى أنّ وجود الخلاف بل واشتهاره لا ينافي انعقاد الإجماع الكاشف عن قول الحجّة كما هو الحال في عدّة من مسائل الاصول وكثير من مسائل الفروع وهو ظاهر.

وعن الثالث بأنّ الكلام المذكور حجّة القول بالتفصيل بين الصورتين المذكورتين كما هو المحكيّ من بعض المتأخّرين وسنقرّر ضعفه.

١٣٢

الثالث : أنّ ذلك هو المستفاد من تتبّع الأخبار فقد روي (١) وجه الدلالة أنّ المراد بالتعليل المذكور انّه لم يعص بالنكاح من حيث كونه نكاحا ، إذ ليس العقد المذكور محرّما لأجل كونه عقدا وإنّما المنع منه من جهة عصيان السيّد وإيقاع العقد من دون إذنه ورضاه ، فهو محرّم لأمر خارج ، فليس المراد من نفي عصيانه تعالى نفي عصيانه له مطلقا ، لوضوح كون عصيان السيّد عصيانا له تعالى بل المقصود نفي عصيانه تعالى على الوجه المذكور ، كما هو واضح بعد التأمّل في الرواية ، وحينئذ فالمستفاد منها أنّه لو تعلّق النهي بنفس المعاملة من حيث نفسها حتّى يتحقّق عصيانه تعالى بنفس إيقاع المعاملة كانت باطلة ، وأمّا إذا لم يتعلّق بها نهي لأجل نفسها وإن تعلّق بها من جهة خارجيّة ككونها عصيانا للسيّد لم يقض ذلك بفسادها ، فحينئذ ينطبق ذلك على ما اخترناه من أنّ النهي إن تعلّق بالمعاملة إمّا بنفسها أو بجزئها أو بأمر خارج عنها لازم لها أو مفارق لأجل المعاملة كان قاضيا بفسادها ، لكون الإتيان بالعقد المفروض حينئذ مخالفة له تعالى وأمّا إذا تعلّق النهي بها على أحد الوجوه المذكورة لكن لا لأجل المعاملة بل من جهة خارجيّة لم يقض ذلك بالفساد.

وقد يورد عليه بوجوه :

أحدها : أنّ المستفاد من التعليل المذكور أنّه لو كان تحريم المعاملة من جهة منعه تعالى وحصول عصيانه تعالى ابتداء من جهة الإتيان بها كان ذلك قاضيا بفسادها سواء كان ذلك لأجل المعاملة أو لغيرها وأمّا إن كان تحريمها لا من جهة منعه تعالى ابتداء ... (٢).

__________________

(١) الرواية هكذا : ما رواه ثقة الإسلام الكليني وشيخ الطائفة في التهذيب في الحسن ـ بابراهيم بن هاشم ـ ورئيس المحدّثين الصدوق فيمن لا يحضره الفقيه في الموثّق ـ بعبد الله بن بكير ـ عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال: سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده؟ فقال ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما ، قلت : أصلحك الله إنّ الحكم بن عتيبة وابراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : إنّ أصل النكاح فاسد ولا يحلّ له إجازة السيّد له فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنّه لم يعص الله بل عصى سيّده فإذا أجاز فهو له جائز. (هامش المطبوع)

(٢) كذا.

١٣٣

حجّة التفصيل المذكور أمّا على عدم الدلالة مع عموم دليل الصحّة وشموله للمحرّم وغيره فبما مرّ من عدم المنافاة بين الصحّة والتحريم فلا معارضة بين الأمرين حتّى يحتاج إلى الجمع فلابدّ من العمل بهما معا ، لعدم جواز تقييد الإطلاق وتخصيص العامّ من دون حصول المعارضة بينه وبين المقيّد والخاصّ ، وأمّا على استفادة الفساد منه مع اختصاص دليلها بالمحلّل فظاهر أيضا ، لما عرفت من قضاء الأصل الأصيل في المعاملات بالفساد ، والمفروض أنّ ما دلّ على الصحّة غير شامل للمحرّم فيكون النهي الدالّ على تحريمه مخرجا له عن الاندراج فيما يدلّ على صحّة تلك المعاملة وترتّب الأثر عليه فيتعيّن الحكم بفساده أخذا بمقتضى الأصل المذكور هذا. ولمّا كان الشأن هنا في بيان عدم شمول الإطلاقات الدالّة على صحّة جملة من المعاملات للقسمين وكون دليل الصحّة في بعضها منحصرا في المحلّل منها تصدّى المفصّل المذكور لإثبات ذلك وبين ما يدلّ على صحّة المنع وترتّب الأثر له امور :

الأوّل : قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) فإنّ من البيّن عدم شموله للبيوع المحرّمة فلابدّ بعد ثبوت التحريم في بعض أنواعه من تقييد الإطلاق المذكور.

الثاني : قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) فإنّ مقتضاه صحّة العقد الّذي يجب الوفاء به والحرام لا يجب الوفاء به ، لأنّه يعاقب على فعله فكيف يعاقب على ترك الوفاء به ، فإنّ الظاهر أنّ أهل العرف يفهمون التنافي بين هذين.

الثالث : قوله تعالى والكلام فيه نظير الكلام في الآية السابقة.

الرابع : قوله تعالى (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(٣) استثنى التجارة عمّا نهى عنه من أكل أموال الناس فمعناه انتفاء التحريم بالنسبة إلى التجارة فهو نصّ صريح في الحكم بالحليّة ، وبما ذكر يرتفع ما يتوهّم من التناقض في كلام الفقهاء فإنّ الموضع الّذي يستدلّون به على الفساد هو الموضع الّذي يكون مقتضى الصحّة

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٧٥.

(٢) سورة المائدة : ١.

(٣) سورة النساء : ٢٩.

١٣٤

منحصرا في نحو ما ذكر ، وما يحكم فيه بعدم الدلالة على الفساد هو غير ذلك ممّا يعمّ فيه دليل الصحّة ، أو أنّ مقصودهم من ذلك عدم دلالة النهي بنفسه على الفساد وإنّما يأتي الفساد فيما ذكر من جهة الأصل لاختصاص دليل الصحّة لا من جهة النهي.

والجواب أمّا عن عدم المنافاة بين الصحّة والتحريم فبأنّه كذلك إلّا أنّ هناك فرقا بين النهي المتعلّق لأجل المعاملة والمتعلّق بها لأمر خارج ـ حسب ما بيّناه ـ بل قد عرفت أنّ استفادة التحريم من الأوّل محلّ تأمّل فالمنافاة بينهما على ما قرّرناه ظاهرة لابدّ من تقييد ما دلّ على الصحّة بذلك. وأمّا عمّا ذكر «من استفادة الفساد مع اختصاص دليل الصحّة بالمحلّل» فبأنّ استفادة الفساد منه حينئذ من جهة الأصل ممّا لا تأمّل فيه إلّا أنّ الشأن في بيان اختصاص أدلّة الصحّة ـ حسب ما ذكر ـ فبأنّ أقصى ما يسلّم عدم شمول الآية الاولى للبيوع المحرّمة. وأمّا عن آيات المتاجر فما ذكر من الوجه «في اختصاصها بالمحلّل» غير متّجه ، أمّا الاولى منها فلأنّ مدلول الآية الشريفة وجوب الوفاء بمقتضى العقود ، وغاية ما دلّ عليه النهي هو حرمة نفس العقود ولا منافاة بين الأمرين بالذات لوضوح اختلاف متعلّق التحريم والحلّ ولا بالالتزام ، فإنّه إنّما يتحقّق المنافاة إذا قلنا باستلزام حرمة العقد لحرمة الوفاء بمقتضاه ـ أعني الفساد ـ فإنّه ينافي ما يستفاد من الحلّ إلّا أنّ ذلك أوّل الدعوى ، ومبنى كلام القائل على عدم المنافاة بينهما ـ حسب ما صرّح به في القسم الأوّل ـ والظاهر أنّ قوله «فإنّ الظاهر أنّ أهل العرف يفهمون التنافي» رجوع عن حصول المنافاة العقليّة ـ حسب ما يقتضيه أوّل الكلام ـ واستناد إلى التنافي العرفي.

وأنت خبير : بأنّ المنافاة العرفيّة إنّما يتمّ على ما ذكرناه من دلالة النهي عن المعاملة على الوجه الّذي قرّرناه على الفساد عرفا ، فإنّه لمّا كان مفاد النهي هنا الفساد ظهر المنافاة بين الحكمين في فهم العرف فهو حينئذ رجوع إلى ما قلناه. ومنه يظهر الكلام في الآية الثانية. وأمّا الآية الأخيرة فبأنّ استثناء أكل المال على

١٣٥

سبيل التجارة من الأكل المنهيّ إنّما يفيد عدم تعلّق النهي بالأكل المفروض ، وعدم تحريمه القاضي بحصول الانتقال وهو لا يقضي بجواز التجارة الواقعة وإباحتها ، إلّا أن يقال : إنّ جواز التصرّف في المال الحاصل بواسطتها يفيد بحسب العرف إباحتها أيضا ، وهو لا يجامع القول بعدم دلالة النهي على الفساد ، لوضوح بطلان القول بحرمة المعاملة وترتّب الأثر عليه وجواز التصرّف في المال ، فيكون البناء على ذلك أيضا مبنيّا على دلالة النهي على الفساد كما هو المدّعى. وينبغي تتميم الكلام في المرام بذكر امور :

أحدها : أنّ ما عنونوه من البحث إنّما هو في غير النهي الّذي يراد به الكراهة وأمّا النهي المستعمل في الكراهة فظاهر أنّه لا يفيد الفساد في المعاملات ، لما هو واضح من عدم المنافاة بين الكراهة والصحّة ، وبعد استعماله في الكراهة لا دلالة فيها على الفساد من جهة المقام أيضا ، بل ربما يشير إلى الصحّة لإفادة الجواز الظاهر في الصحّة. وأمّا بالنسبة إلى العبادات فقد يقال بإفادته الفساد ، لما تقرّر من اعتبار الرجحان في العبادة فالمرجوحيّة المدلول للنهي المفروضة يناقض الرجحان المعتبر في مفهومها فيجيء الفساد من تلك الجهة ، لكن الّذي يقتضيه النظر في المقام أنّ النهي المفروض إمّا أن يكون متعلّقا بالعبادة أو بجزئها أو بشرطها أو بغيره من الامور الخارجة عنها المتّحد بها أو غيرها ، وعلى كلّ حال فإمّا أن يكون متعلّقا بها لأجل العبادة أو لا ثمّ المتعلّق بالعبادة إمّا أن يكون متعلّقا بها لذاتها أو لوصفها فإن تعلّق النهي بذات العبادة لذاتها اتّجه القول بفسادها وخروجها عن مفهوم العبادة وإن تعلّق بها لوصفها.

والثاني : أنّك قد عرفت أنّ دلالة النهي في العبادة على الفساد إنّما هو من جهة قضاء النهي بارتفاع الأمر لاستحالة كون شيء واحد مأمورا به ومنهيّا عنه فإذا انتفى عنه الأمر قضى بفساده ، إذ الصحّة فيه موافقة الأمر حسب ما مرّ فإذا كان الحال على وجه يجوز حصول التكليف بالمحال كما إذا كان ذلك بسوء اختيار المكلّف بناءا على جواز التكليف بالمحال حينئذ كما إذا توسّط المكان المغصوب ،

١٣٦

فإنّه إذن مأمور بالخروج منهيّ عن التصرّف بالخروج أيضا ، بل لا مانع حينئذ من تعلّق الأمر به على وجه كونه عبادة أيضا ، إن لم تكن الجهة عبادة.

لا فرق في دلالة النهي على الفساد بين النهي النفسي والغيري والأصلي والتبعي ، إذ الجهة المذكورة للدلالة عقليّة لا يختلف الحال فيها بين الوجوه المذكورة ، لكن ذلك إنّما يتمّ في التكليفين المستقلّين ، أمّا لو كان أحد التكليفين مترتّبا على الآخر أمكن اجتماع الأمر المترتّب مع النهي الغيري إذا كان التكليف بالأوّل مترتّبا على عصيان الثاني ـ حسب ما فصّلنا القول فيه في بحث اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه في الواجبين المضيّقين والموسّع المعارض للمضيّق والمندوب ـ فإذا كان أحدهما أهمّ من الآخر صحّ المعارض للواجب ، فإنّ غير الأهمّ في الأوّل منهيّ عنه من جهة الإيصال إلى الأهمّ وكذا الموسّع أو المندوب بالنسبة إلى الواجب المضيّق. ولا مانع من كونه مأمورا به على فرض العصيان بالآخر ، إذ لا مانع من الأمر بالضدّين على سبيل الترتيب فلا مانع من اجتماع الأمر والنهي في الواجب المذكور فلا يكون النهي المفروض قاضيا بارتفاع الأمر كذلك ، ولا فرق بين كون النهي الغيري حينئذ أصليّا أو تبعيّا ، إذ المناقضة بينهما عقلية لا لفظيّة فإذا ارتفعت جاز في الصورتين ولا يجري ذلك بالنسبة إلى النهي النفسي ، فإنّ حرمة الشيء في نفسه لا يجامع وجوبه كذلك ولو على سبيل الترتّب.

نعم يصحّ ترتّب الوجوب على التحريم لكن بعد حصول الوجوب بحصول المترتّب عليه يرتفع عنه التحريم فيخرج عن مورد النهي ، والفرق بين النفسي والغيري في ذلك مع اشتراكهما في مطلوبيّة الترك أنّ المنهيّ عنه لنفسه يكون تركه مطلوبا كذلك فلا يجامع ذلك فعله لا لنفسه ولا لغيره ، ولا يعقل الترتّب المسوّغ في المقام إذ لا يمكن ترتّب وجوب الشيء على وجوده ، وأمّا لو كان التحريم غيريّا كان التحريم المتعلّق به إنّما هو لأجل الغير فإذا فرض عصيانه وتركه لذلك الغير صحّ الأمر بذلك المنهي عنه ، فإنّه إنّما لا يصحّ الأمر به من جهة استحالة اجتماع الأمر بالضدّين وهو إنّما يتمّ إذا كان في مرتبة واحدة لا مرتبتين ، ولا يرتفع عنه

١٣٧

التحريم حينئذ لظهور أنّ عصيان الأمر لا يقضي بسقوط التكليف مع بقاء التمكّن منه ، فهو في حال كونه مأمورا به منهيّ عنه أيضا من جهة الأداء إلى الآخر ولا يحكم بعصيانه في تلك الحال.

فإن قلت : إنّ تحريم ذلك الفعل حينئذ إنّما هو من حيث أدائه إلى ترك الواجب فإذا فرض ترك المكلّف له وعدم أداء هذا الترك إليه لم يتّصف بالتحريم ، لوضوح عدم تحريم ذلك في نفسه وإنّما كان تحريمه لأداء تركه إلى فعل الواجب ، فإذا علم عدم حصول الأداء فلا تحريم له ، وحينئذ يصحّ اتّصافه بالوجوب فهو متّصف بالتحريم على تقدير وحينئذ لا يتصف بالوجوب ، وإنّما يتّصف بالوجوب على تقدير آخر ولا يتّصف حينئذ بالتحريم ، فلا تعلّق للنهي بما هو واجب حتّى يقضى فعله. ألا ترى أنّه قد يكون الشيء حراما في نفسه واجبا لغيره ، كالدخول في دار الغير بغير إذنه ، فإنّه محرّم في نفسه لكن لو توقّف حفظ النفس عليه وجب ذلك ، غير أنّ وجوبه من الجهة المذكورة يرفع التحريم لكن من تلك الجهة خاصّة لا مطلقا ، فإذا دخله حينئذ لا لأجل حفظ النفس كان ما أتى به محرّما صرفا وإن كان الإتيان به لأجل الحفظ واجبا ، فكذا الحال في المقام فيكون ترك ذلك الفعل المؤدّي إلى الواجب الآخر واجبا ويكون فعله حينئذ حراما ، ولا يكون تركه الغير المؤدّي إلى ذلك الواجب واجبا فلا يكون فعله حراما ، فلا مانع من اتّصافه بالوجوب.

قلت : لا يخفى أنّ تركه الّذي لا يؤدّي إلى فعل الآخر واجب أيضا لوجوب ذلك الواجب بالفعل ووجوب ذلك الترك للأداء إليه ، لوضوح أنّ عصيان الأمر لا يقتضي سقوطه.

غاية الأمر : عدم وجوب ذلك الترك في نفسه ومن حيث إنّه لا يؤدّي إلى فعل ذلك الواجب ، فعدم أدائه بالفعل مع إمكان كونه مؤدّيا لا يسقط عنه الوجوب من حيث الأداء ، فغاية الأمر أن لا يجعله المكلّف مؤدّيا إلى فعل الآخر فذلك الترك حين كونه غير مؤدّ إلى الواجب واجب من حيث أدائه إليه ، فما يقتضيه الحيثيّة

١٣٨

الملحوظة أن لا يكون في تلك الحال واجبا إلّا من جهة الأداء سواء تحقّق به الأداء أو لا ، وذلك لا يقضي بعدم وجوب الترك الغير المؤدّى مطلقا ، وإنّما يقضي بعدم وجوبه من حيث إنّه لا يؤدّي ، فلا ينافي وجوبه من حيث الأداء وإن لم يؤدّه المكلّف إليه لعدم سقوط الوجوب بعدم إتيان الواجب ، فالفرق بينه وبين المثال المذكور ظاهر حيث إنّ الدخول في دار الغير بغير إذنه محرّم ، ولا يستثنى منه إلّا الدخول المؤدّى إلى الواجب المفروض فغيره يندرج في الحرام. فما تحقّق به الإيصال أو كان ملحوظ الداخل إيصاله إليه وإن لم يتحقّق به الإيصال لطروّ مانع بعد ذلك متّصف بالوجوب ، فيكون الإتيان به لا لأجل ذلك محرّما غير مستثنى من التحريم.

فإن قلت : إنّه قد يكون الدخول لأجل أداء ذلك الواجب واجبا ، لكون الدخول مقدّمة له فيكون ذلك واجبا من حيث الأداء إليه ـ كما هو المفروض في محلّ البحث ـ وحينئذ لو أتى بذلك لا لأجل الأداء إليه كان محرّما قطعا ؛ فظهر بذلك أنّ الواجب في المقام هو الدخول المؤدّي من حيث أدائه فالواجب في المقام أيضا هو الترك المؤدّي من حيث الأداء لا مطلقا من غير فرق بين المقامين. فيظهر بذلك كون الواجب هو الفعل الموصل على حسب ما مرّ القول فيه.

قلت : الفرق بين الصورة المذكورة وما هو المفروض في المقام ظاهر حيث إنّ الحكم هنا على عكس ما ذكرنا من المثال ، فإنّ المفروض في المقام كون الفعل واجبا في نفسه محرّما من حيث أداء تركه إلى الواجب ، ويكون الترتيب هناك بين وجوب الأهمّ وتحريم غير الأهمّ من جهة أداء تركه إلى الفعل الأهمّ ، وهنا إنّما يتعيّن عليه الواجب الأهمّ من الحرام ويكون ذلك الحرام واجبا من جهة الأداء إليه ويكون محرّما مطلوبا تركه على تقدير ترك ذلك الأهمّ ، فيكون تحريمه مترتّبا على ترك ذلك الأهمّ فهو حين ترك الأهمّ وجب عليه ترك مقدّمته المفروضة من حيث ترتّب تحريمه على ترك ذلك الواجب ، فيكون ذلك الترك حراما واجبا من حيث الأداء إلى الواجب ، ولا مانع من اجتماعهما من جهة الترتّب على عكس

١٣٩

المفروض في المقام ولا دلالة في ذلك على كون الحرام بعد الواجب ، بل اجتمع الأمران على سبيل الترتّب المفروض فذلك الترك حينئذ واجب وإن كان محرّما من حيث كونه مانعا عن أداء الواجب. فظهر بذلك جواز اجتماع الوجوب الغيري والحرمة النفسيّة أيضا على وجه الترتيب على الوجه المذكور كما أنّه يجوز اجتماع الوجوب النفسي والحرمة الغيريّة على ذلك الوجه فتأمّل في المقام ، فإنّه من مزالّ الأقدام.

* * *

١٤٠