هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

فاختيار الوجه الأوّل قاض بتحريم الحلال وإجراء حكم النجس على الطاهر ، للعلم بحلّية أحدهما وطهارته ، فكيف! يحكم بالتحريم بالنسبة إليهما ويسلب حكم الطاهر عنه ، فما يجاب به بناء على اختيار هذا الوجه يجاب به على التقدير الآخر.

الثاني : إنّا نختار الوجه الأوّل من الوجهين الأخيرين ، وما قيل : من أنّه يؤدّي إلى آخره. إن اريد به الحكم بحلّية الحرام بحسب الواقع وكذا طهارة النجس كذلك فهو فاسد ، إذ لا كلام في ثبوت التحريم والنجاسة في الواقع ، ولذا لا يجوز الإقدام عليهما مجموعا. وإن اريد أداؤه إلى الحكم في الظاهر بجواز الإقدام على ما هو محرّم في الواقع مع عدم العلم بالإقدام على خصوص الحرام حين التلبّس بكلّ منهما فبطلانه أوّل الدعوى ، وأيّ مانع من ذلك بعد وضوح ثبوت كون الجهل عذرا للمكلّف في موارد شتّى؟

الثالث : إنّا نختار الوجه الثاني ، وما قيل : من لزوم الترجيح بلا مرجّح ، إنّما يتمّ إذا قلنا بحلّية أحدهما بالخصوص وحرمة الآخر كذلك ، وأمّا إذا قلنا بحلّية أحدهما وحرمة الآخر في الجملة فلا.

فإن قلت : لا وجه للقول بإباحة المبهم وحرمته ، فإنّ الترك والإتيان إنّما يكون للمعيّن فيتعيّن الوجه الأوّل ويلزم المحذور. وهذا هو الّذي رامه المستدلّ.

قلت : المقصود حرمة أحدهما وحلّية الآخر على وجه التخيير بأن يكون المكلّف مختارا في الإقدام على أيّ منهما ، وبعد الإقدام عليه لا يجوز له الإقدام على الآخر ، على حسب ما ذكرناه في تقرير القول الثالث من الأقوال المذكورة ، فلا يرد عليه شيء من المحذورين.

ويمكن الذبّ عن الأوّل : بأنّه لمّا كان الإقدام على الحرام مؤدّيا إلى الضرر قاضيا بورود المفسدة على من يقدم عليه بخلاف ترك الحلال إذ لا محذور فيه كان مقتضى العقل عند دوران الأمر بين الأمرين هو ترجيح جانب الترك ، لحصول الأمن من الضرر في البناء عليه بخلاف جانب الفعل ، لما فيه من خوف الإقدام

٦٠١

على الضرر ، ومن المقرّر وجوب دفع الضرر والخوف. فهذا هو الوجه في تعيين العقل ترجيح جانب الترك. وليس في ذلك تحريم الحلال ، بل حكم بوجوب ترك الحلال لئلّا يؤدّي إلى فعل الحرام ، ولا مانع منه. فمقتضى القاعدة حينئذ حرمة الأمرين في الظاهر نظرا إلى الوجه المذكور.

نعم لو قام دليل خاصّ على جواز الفعل حينئذ فلا مانع وقضى بالخروج عن مقتضى القاعدة المذكورة ، إلّا أنّه لم يقم ذلك في المقام ، وما احتجّ به الخصم على ذلك مدفوع حسب ما يأتي الإشارة إليه إن شاء الله.

وعن الثاني : بأن الأحكام الشرعيّة جارية على موضوعاتها الواقعيّة ، فإنّ الألفاظ موضوعة بإزاء الامور الواقعيّة من دون مدخليّة في مفاهيمها للعلم والجهل ، فإذا حصل موضوع التحريم بحسب الواقع كان من الواجب الاجتناب عنه ، فإذا قيل بجواز الإقدام على كلّ من الأمرين لزم الحكم بجواز الإقدام على الحرام ، وهو ما ذكر من اللازم. والقول بكون الجهل عذرا في جواز الإقدام إنّما يتمّ في الجاهل المحض الغافل عنه ، إذ هو القدر الثابت في اشتراط التكليف.

وأمّا الجاهل المتردّد بين الوجهين مع علمه بحرمة أحدهما ـ على ما هو مفروض المقام ـ فلا دليل على كون جهله المفروض عذرا ، بل مقتضى القاعدة لزوم الاجتناب عنه أخذا بمقتضى التحريم حتّى يتبيّن خلافه.

نعم لو قام دليل خاصّ على جواز الإقدام حينئذ وسقوط التكليف المذكور بهذا النوع من الجهل وجب الخروج عن مقتضى الأصل المذكور ، وحينئذ فلا كلام ، والمقصود من الدليل المذكور قضاء الأصل أوّلا بالمنع من الإقدام إلى أن يثبت الجواز وأنّى لهم باثباته.

وعن الثالث : بأنّه إنّما يتمّ الحكم بالتخيير في المقام إذا لم يكن هناك مناص للمكلّف عن الإتيان بأحدهما ، وأمّا إذا أمكن تركهما معا فلا وجه للتخيير ، لعدم تساوي جانبي الفعل والترك بحسب ترتّب المصلحة والمفسدة حتّى يحكم العقل بتساويهما في الإقدام والإحجام ، وأمّا مع ترتّب المفسدة على أحد الجانبين

٦٠٢

والقطع بعدم ترتّب مفسدة على الجانب الآخر فلا وجه لحكم العقل بالتخيير بينهما ، لعدم تساويهما.

والحاصل : أنّ مفسدة الحكم بالتخيير عدم تساوي الأمرين في نظر العقل ، لوضوح التفاوت بينهما ، فيتعيّن عنده جانب الترك ، ومفسدة التعيين ما ذكر من لزوم الترجيح بلا مرجّح والعقل لا يحكم في مثل ذلك بالتخيير إلّا مع قيام دليل خاصّ عليه ، كما أنّه لا يحكم بتعيين أحدهما إلّا لدليل دالّ عليه. ولا يذهب عليك أن الأولى في تقرير الدليل المذكور تربيع الاحتمالات وإبطال ثلاثة منها بالوجوه المذكورة ليتعيّن الرابع.

الثاني : أنّ اجتناب الحرام مطلوب لله تعالى فيجب امتثال طلبه ، ولا يتمّ ذلك إلّا باجتناب الجميع ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، فاجتناب الجميع واجب.

ويرد عليه امور :

أحدها : أنّه إن اريد أنّ اجتناب ما هو حرام بحسب الواقع واجب سواء علم كونه حراما أو لا فهو ممنوع ، بل هو أوّل الدعوى. وإن اريد أنّ اجتناب ما هو حرام واجب في الجملة فمسلّم ، ولا يرتبط به المقدّمة الثانية لينتج المدّعى.

ثانيها : أنّ ما ذكر : من أنّ اجتناب الحرام لا يتمّ إلّا باجتناب الجميع ، ممنوع ، إذ قد يحصل ذلك باجتناب البعض ، لاحتمال مصادفته لترك الحرام. وفيه : أنّ المقصود صدق امتثال طلبه تعالى لأداء ذلك ، ولا يحكم بتحقّقه عرفا بمجرّد الاحتمال ، فصدق الامتثال عرفا غير الإتيان بما هو مطلوبه تعالى في الواقع مع عدم العلم بحصوله.

ومع الغضّ عن ذلك فيمكن تغيير الاحتجاج في الجملة بأن يراد فيه : أنّه يجب العلم بأداء مطلوبه تعالى ، إذ كما يجب الإتيان بمطلوبه تعالى يجب العلم بأدائه أيضا والعلم بأدائه يتوقّف على ترك الجميع من غير إشكال.

ثالثها : النقض بغير المحصور ، فإنّ اجتناب الحرام هناك واجب أيضا ، ولا يتمّ إلّا باجتناب الجميع ، فما يجاب به هناك يجاب به في المقام.

٦٠٣

ويمكن دفعه أوّلا بأنّه وإن كان يقتضي وجوب الاجتناب عن الجميع هناك أيضا إلّا أنّه خرج ذلك بالدليل ، لقيام الإجماع على عدم وجوبه ، وقضاء العسر والحرج به ، مضافا إلى الفرق الظاهر بين المحصور وغير المحصور ، حيث إنّ احتمال إصابة الحرام في المحصور ممّا يعتدّ به في العادة ، بخلاف غير المحصور وقد مرّ تفصيل القول فيه.

الثالث : أنّ أحد المشتبهين محرّم ، وكلّ محرّم يجب الاجتناب عنه ، فالاجتناب عن الحرام المفروض واجب ، أمّا الكبرى فظاهر ، وأمّا الصغرى فلقضاء ما دلّ على تحريم ذلك الشيء بدورانه مدار التحريم الواقعي ، والمفروض حصول العلم بوجوده في المقام ، وأيضا المفروض في المقام اشتباه الفرد الحلال بالفرد الحرام ، مع تحقّق الأمرين ، فلو لا وجود الفرد الحرام لم يتحقّق الفرض المذكور.

غاية الأمر أن يدّعى حصول الإباحة من جهة الاشتباه ، لقيام الدليل عليه كذلك ، وإذا ثبت تحريم المصداق المفروض تخصّص به القاعدة الدالّة على الإباحة ، بل كان خارجا عنها ، للعلم بحصول التحريم بالنسبة إليه. وحيث إنّ الخارج مجهول دائر بين الأمرين كانت القاعدة المذكورة بالنسبة إليه كالعامّ المخصّص بالمجمل ، فلا حجّية فيها بالنسبة إلى مورد الاشتباه ، فلا دليل إذن على حلّية شيء منهما في الظاهر ، ولا كلام ظاهرا بعد ذلك في عدم جواز الإقدام عليه ، فإنّ القائل بجواز الإقدام انّما يقول به من جهة اندراجه تحت الأصل المذكور ، ومع الغضّ عنه فالعقل حاكم في مثله بعد دوران الأمر بين الوجهين وعدم قيام دليل في الظاهر على البناء في خصوص كلّ من الأمرين على المنع من الإقدام ، حسب ما مرّ بيانه في الوجه المتقدّم.

الرابع : ما روي عنه عليه‌السلام «انّه ما اجتمع الحرام والحلال إلّا غلب الحرام الحلال» (١) وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة إلّا أنّها مجبورة بعمل الأصحاب. وحملها على خصوص صورة الامتزاج ممّا لا داعي إليه. ودعوى ظهور تلك

__________________

(١) البحار : ٦٥ ص ١٤٤.

٦٠٤

الروايات في غير صورة الامتزاج وهذه فيها أو كونها أعمّ من الامتزاج وغيره ـ فيكون التعارض بينهما من قبيل العموم المطلق فيحمل المطلق على المقيّد ـ غير متّجهة.

أمّا القول بانصراف هذه إلى خصوص الامتزاج فممّا لا شاهد عليه في الرواية ، بل ظاهر إطلاقها يعمّ غيره قطعا. وأمّا دعوى كون التعارض من قبيل المطلق فمدفوعة ، بظهور تلك الروايات في صورة دوران الفرد بين الاندراج تحت النوعين ، كما هو المفروض في الصورة الثانية من الصور المتقدّمة من غير أن يكون هناك علم بحصول المصداقين في المقام والاشتباه في التعيين ، كما هو المفروض في الشبهة المحصورة ، وهذه الرواية ظاهرة فيما يعمّ هذه الصورة وصورة الامتزاج ، فلا يتواردان على محلّ واحد حتّى يثبت التعارض بينهما. ولو قيل بشمول تلك الروايات للشبهة المحصورة ، لدوران كلّ من المصداقين بين الاندراج تحت كلّ من النوعين فالمعارضة بينهما من قبيل العموم من وجه ، لشمولها للصورة السابقة قطعا وعدم اندراج تلك الصورة في هذه الرواية ، والمرجّحات من جانب الرواية المذكورة نظرا إلى موافقتها للمشهور بين الأصحاب والروايات الكثيرة الواردة في جزئيّات الشبهة المحصورة الدالّة على المنع في الموارد الخاصّة.

الخامس : أنّ الظاهر من تتبّع الأخبار الواردة في خصوصيّات الشبهة المحصورة ، مثل ما ورد في الإنائين المشتبهين (١) ، وما ورد من الأمر بغسل الثوب كلّه عند اشتباه المحلّ النجس منه ، وما ورد من بيع اللحم إذا اشتبه الميتة منه بالمذكّاة ممّن يستحلّ الميتة الظاهر في حرمتهما ، كما في روايتين ، وما دلّ على الصلاة في الثوبين المشتبهين كما في حسنة صفوان، وقد أفتوا بمضمونها ، إلى غير ذلك ممّا ورد أنّ المشتبه بالحرام ممّا يجب الاجتناب عنه، وأنّ المشتبه بالنجس

__________________

(١) الوسائل : ١ باب ٨ من أبواب الماء المطلق ١١٣ ح ٢ و ١٤. وباب ١٢ ص ١٢٤ ح ١.

٦٠٥

في حكم النجس في عدم جواز استعماله فيما يشترط بالطهارة من رفع حدث أو ازالة خبث أو أكل أو شرب ونحوها. وليس ذلك من قبيل الاستقراء الظنّي كما قد توهمه بعض العبائر ليكون من قبيل إثبات القواعد النحويّة ونحوها من تتبّع مواردها. بل نقول : إنّه مستفاد من ملاحظة جميع تلك الأخبار فهو مدلول عرفي لمجموع تلك الروايات ، وكما أنّ المستفاد من ظاهر خبر واحد حجّة شرعا فكذا المستفاد من جميعها بعد ضمّ بعضها إلى البعض ، لاندراجه إذن تحت المداليل اللفظيّة ، فبدلّ على جواز الاتّكال عليه ما دلّ على حجّية ظواهر الألفاظ.

حجّة القول بالإباحة مطلقا امور :

أحدها : أنّ حرمة تلك المصاديق وجريان أحكام النجس عليها في المشتبه بالنجس تكليف شرعي ، يتوقّف ثبوتها على العلم ، سيّما بالنسبة إلى الموضوعات ، ولذا يجوز استعمال ما لم يعلم حرمته أو نجاسته بالمرّة ، والعلم بحرمة أحدهما أو نجاسته لا يثمر في المقام، لعدم قضائه بالعلم بحرمة شيء خاصّ فالجهل الأوّلي باق بالنسبة إلى كلّ منهما وهو قاض بنفي التكليف ، كيف! ولو كان العلم الإجمالي كافيا في إثبات التكليف لجرى في غير المحصور ، للعلم بحرمة البعض ونجاسته أيضا مع أنّه لا يثمر في الحكم بنجاسة شيء من الخصوصيّات ، وكذا الحال في الجنابة الدائرة بين الشخصين مع العلم به بالنسبة إلى أحدهما ، فإنّه لا يثمر في إثبات التكليف بالنسبة إلى شيء منهما. فمقتضى الأصل المقرّر هو البناء على عدم التكليف حتّى يقوم دليل على ثبوته ، والعلم بتحريم أحد الشيئين أو الأشياء غير قاض بالعلم بتحريم الخاصّ ، كما أنّ العلم بثبوت حرام ما ونجس ما غير قاض بثبوت الحرمة بالنسبة إلى الخاصّ ، والعلم بثبوت الجنابة لأحدهما لا يقضي بالحكم بها بالنسبة إلى شيء منهما.

الثاني : عدّة من الأخبار الدالّة على معذوريّة الجاهل ـ ممّا مرّت الإشارة إليها ـ فإنّها بإطلاقها تعمّ الجاهل بالموضوع ، بل ربما يدّعى ظهور بعضها في ذلك دون الحكم ، حسب ما مرّت الإشارة إليه ، منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع عن امّتي تسعة

٦٠٦

أشياء ، وعدّ منها ما لا يعلمون. وقوله عليه‌السلام أيّما امرئ ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه (١) ونحوهما.

الثالث : الأخبار المستفيضة الدالّة على حلّية الحلال المختلط بالحرام إلّا ما علم أنّه حرام بعينه ، منها : صحيحة عبد الله بن سنان المتقدّمة المرويّة في الفقيه والتهذيب عن الصادق عليه‌السلام. ومنها (٢) : ما رواه عبد الله بن سنان أيضا في الصحيح عن عبد الله بن سليمان قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبنّ فقال لي : قد سألتني عن طعام يعجبني ، ثمّ أعطى الغلام درهما ، فقال : ابتع لنا جبنّا ، ودعا بالغذاء فتغذّينا معه وأتى بجبنّ فأكل وأكلنا معه ، فلمّا فرغنا من الغذاء قلت له : ما تقول في الجبن؟ فقال لي : أو لم ترني آكله قلت : بلى ، ولكني احبّ أن أسمعه منك ، فقال : سأخبرك عن الجبنّ وغيره ، كلّ ما فيه حرام وحلال فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه (٣). وفي رواية مسعدة بن صدقة عن الصادق عليه‌السلام قال : سمعته يقول : كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك يكون مثل الثوب عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع ، أو قهر ، أو امرأة تحتك وهي اختك ، أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة (٤).

ومن ذلك ما رواه جماعة من المشايخ ، منهم الكليني بإسنادهم الصحيح عن حنان بن سدير أنّه قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام وأنا حاضر عنده ، عن جدي رضع من خنزيرة حتّى كبر وشبّ واشتدّت عظمه ، أنّ رجلا استفحله في غنمه ، فأخرج له نسل فقال : أمّا ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربنه ، وأمّا ما لم تعرفه فكله ، فهو بمنزلة الجبنّ ولا تسأل عنه(٥).

__________________

(١) الوسائل : ٥ باب ٣٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ٣٤٤ ح ١.

(٢) التهذيب : ٩ ص ٧٩ ح ٣٣٧ ، الفقيه : ٣ ص ٣٤١ ح ٤٢٠٨.

(٣) الوسائل : ١٧ باب ٦١ من أبواب الاطعمة المباح ٩٠ ح ١.

(٤) الوسائل : ١٢ باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ٦٠ ح ٤.

(٥) الكافي : ٦ ص ٢٤٩ ح ١.

٦٠٧

وروى الشيخان بإسنادهما عن بشر بن سلمة عن أبي الحسن عليه‌السلام في جدي رضع من خنزيرة ثمّ صرف في الغنم ، فقال : هو بمنزلة الجبن فما عرفت أنّه خنزير فلا تأكله وما لم تعرفه فكله (١). فقد دلّت هاتان الروايتان على الحلّ في الصورة المذكورة مع عدم العلم بتحريمه بعينه ، بل هما صريحتان في المدّعى.

ومن ذلك ما رواه جماعة من المشايخ بإسنادهم الصحيح إلى سماعة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب مالا من عمل بني اميّة ، وهو يتصدّق منه ويصل منه قرابته ، ويحجّ ليغفر له ما اكتسب ، ويقول : إنّ الحسنات يذهبن السيّئات ، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : انّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة وإن الحسنة تحطّ الخطيئة ، ثمّ قال إن كان خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال فلا بأس (٢) ودلالتها على المطلوب واضحة لا يخفى.

الرابع : الأخبار المستفيضة الدالّة على جواز الشراء عن السارق والعامل مع العلم بظلمه إلّا أن يعلم أنّه الحرام بعينه كصحيحة أبي عبيدة عن الباقر عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يشتري من السلطان من ابل الصدقة وغنم الصدقة وهو يعلم أنّه يأخذ منهم أكثر من الحقّ الّذي يجب عليهم ، قال ، فقال : ما الإبل إلّا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتّى تعرف الحرام بعينه (٣).

وفي صحيحة معاوية بن وهب قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أشتري من العامل الشيء وأنا أعلم أنّه يظلم؟ فقال : اشتر منه (٤).

وفي موثّقة إسحاق بن عمّار ، قال : سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم ، قال : يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحدا (٥).

__________________

(١) الكافي : ٦ ص ٢٥٠ ح ٢ ، التهذيب : ٩ ص ٤٤ ح ١٨٤.

(٢) الكافي : ٥ ص ١٢٦ ح ٩ ، التهذيب : ٦ ص ٣٦٩ ح ١٠٦٨.

(٣) الوسائل : ١٢ باب ٥٢ من أبواب ما يكتسب به ١٦٢ ح ٥.

(٤) الوسائل : ١٢ باب ٥٢ من أبواب ما يكتسب به ١٦١ ح ٤.

(٥) الوسائل : ١٢ باب ٥٣ من أبواب ما يكتسب به ١٦٣ ح ٢.

٦٠٨

وفي القويّ ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أشترى الطعام ممّن يظلم ويقول ظلمني فقال : اشتره (١). وفي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألت عن الرجل يشري من العامل وهو يظلم ، فقال : يشرى منه (٢). وروى أحمد بن محمّد بن عيسى في نوادره عن أبيه قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن شراء الخيانة والسرقة ، قال : إذا عرفت ذلك فلا تشتره إلّا من العمّال (٣).

الخامس : ما دلّ على حلّية الحلال المختلط بالحرام مع عدم التميّز عند إخراج الخمس فإن لم يكن عدم الامتياز قاضيا بالحلّ لما كان إخراج الخمس كافيا في المقام.

فإن قلت : إنّه لو كان عدم الامتياز قاضيا بالحلّ كما هو المدّعى لما كان حاجة إلى إخراج الخمس.

قلت : إنّ فائدة إخراجه الحكم بحلّية الجميع وجواز استعماله ، وعدم حصول ضمان في استعماله ، بخلاف ما إذا استعمله قبل الإخراج ، فإنّه وإن حلّ استعمال الجميع في الجملة إلّا أنّه لا يحلّ استعمال المخرج (٤) ، وحكم أيضا بالضمان في الجملة ولا كذلك الحال ما بعد الإخراج.

ويرد على الأوّل : أنّ التكليف إنّما يتوقّف على العلم في الجملة ، وهو حاصل في المقام ، إذ المفروض حصول العلم بوجود الحرام أو النجس ، وأمّا توقّفه على حصول العلم التفصيلي فممّا لا دليل عليه من جهة العقل ، بل ولا من جهة النقل ، كما مرّ الكلام فيه في الجواب عن الأخبار المذكورة ، بل نقول : إنّ مقتضى العلم بالتكليف في الجملة ـ كما هو المفروض في المقام ـ هو الأخذ بمقتضى العلم الإجمالي والجري عليه ، إذ لا مناص بعد القطع بالتكليف من الأخذ بمقتضاه ، كما يشاهد ذلك في طاعة العبيد لمواليهم ، ولذا يعدّ المخالف لمقتضى علمه حينئذ

__________________

(١) الوسائل : ١٢ باب ٥٢ من أبواب ما يكتسب به ١٦١ ح ٣.

(٢) الوسائل : ١٢ باب ٥٣ من أبواب ما يكتسب به ١٦٣ ح ٣.

(٣) الوسائل : ١٢ باب ٥٢ من أبواب ما يكتسب به ١٦٢ ح ٦.

(٤) المحرّم ، خ ل.

٦٠٩

عاصيا لمولاه إلّا أن يصرح المولى ويقوم دليل من جهته على عدم تكليفه حينئذ ، وإلّا فقضيّة إطلاق وجوب الطاعة هو وجوب مراعاة الامتثال في ذلك أيضا ، وذلك يقتضي وجوب مراعاة الاحتياط مع الاشتباه حسب ما مرّ بيانه ، فهو في الحقيقة دليل تفصيليّ على وجوب الاحتياط عن الأمرين ، وإنّما يتمّ ما ذكر ـ على فرض تسليمه ـ لو لم يقم ما ذكر من الدليل قاضيا بوجوب الاجتناب. وما ذكر من جريان ذلك في غير المحصور من غير ظهور فرق في ذلك بينه وبين المحصور قد عرفت فساده ممّا ذكرناه سابقا فلا حاجة إلى تكراره.

وعلى الثاني : أنّ ما ينصرف إليه تلك الأخبار هو الجاهل الصرف ، وغاية ما يسلّم اندراج غير المحصور فيه ، لعدم الاعتداد بالعلم الإجمالي الحاصل هناك في نظر العرف ، فيعدّ جاهلا مطلقا ، وأمّا فيما نحن فيه فلا ريب في حصول العلم بالحرام والحلال معا.

غاية الأمر دوران الحلّ والحرمة بين الفردين ، ومثل ذلك لا يعدّ جهلا بالحرام ، فلا يندرج ذلك في تلك الأخبار ، ولا أقلّ من عدم انصراف ظاهر إطلاقها إليه ، وهو كاف في عدم نهوضها حجّة في المقام.

وعلى الثالث : المستفاد من صحيحة عبد الله بن سنان وما بمعناها أنّه إذا كانت الطبيعة النوعيّة مشتملة على الفرد الحلال والحرام كانت محكومة بحلّها حتّى يتبيّن حرمتها ، ومحصّله أنّ مجرّد وجود الحرام في أفراد الطبيعة المفروضة لا يقضي بالاجتناب عن جزئيّاتها إلّا مع العلم بحرمتها. وأين ذلك ممّا إذا علم وجود حرام وحلال هناك واشتبه أحدهما بالآخر؟ ليفيد الرواية حلّ الحرام المعلوم من جهة الاشتباه المفروض ، بل غاية ما يستفاد منها هو حلّ الحرام المجهول من أصله حسب ما قرّرنا.

كيف! ولو كان الدوران بين الفردين مع العلم بحرمة أحدهما بخصوصه محلّلا من غير لزوم تجسّس عن خصوص المحرّم ولو مع سهولة الأمر في استعلامه ـ كما هو مقتضى الروايات المسطورة ـ لزم تحليل معظم المحرّمات بذلك ، كالمرأة

٦١٠

الأجنبيّة المشتبهة بالزوجة من جهة ظلمة أو ... (١) أو نحو ذلك ، وكذا حلّية الخمر إذ اشتبه لونها وطعمها بغيرها ، وكذا الحال في نحوهما من المحرّمات ، وذلك ممّا يقطع بخلافه فلا وجه لإدراجها في الرواية المذكورة.

وقد مرّ توضيح القول في مفاد الروايات المذكورة في المسألة المتقدّمة فلا حاجة إلى تكرار القول فيه. وقد يحمل الروايات المذكورة على ما إذا كانت هناك يد قاضية بالحلّ ، كما هو مورد رواية عبد الله بن سنان ، حيث سأله عن حال الجبنّ ، والأمثلة المذكورة في رواية مسعدة بن صدقة. ولا شبهة إذن في ثبوت الحكم المذكور مع الانحصار أيضا ، وهو خارج عن محلّ الكلام كما مرّت الإشارة إليه.

وهذا هو الوجه في حمل الخبرين الواردين في نسل الفحل المرتضع من الخنزيرة مع الاشتباه. وقد يحملان على غير المحصور ، والوجه الأوّل أوفق بظاهر الخبرين.

وأمّا موثّقة سماعة فهي محمولة على ما إذا أخرج منه الخمس فيقيّد إطلاقها بذلك ، لما دلّ على توقّف حلّية المال الممتزج بالحرام على إخراج الخمس ، فيحمل المطلق على المقيّد كما هو مقتضى القاعدة.

وعلى الرابع : أنّه لا دلالة في شيء منها على المدّعى ، لقضاء يد المسلم بصحّة التصرّف إلّا إذا علم فساده بخصوصه ، وقد عرفت الحال فيه.

وعلى الخامس : أنّ الحكم بحلّية الحلال المختلط بالحرام من جهة إخراج الخمس لا ربط له بالمحصور ، كيف ولو كان كذلك لما كان هناك خصوصيّة للخمس ، بل كان إفراز القدر الّذي ... (٢) يعلم كونه حراما قاضيا بحلّ الباقي.

والحاصل : أنّ تزكية المال المفروض بإخراج الخمس منه من جملة الأحكام الشرعيّة المخالفة للأصل الثابتة لقيام الدليل عليه ، ولذا يقول به القائل بالأصل المدّعي وغيره ، ولا مدخليّة له في المقام ، ولا يثبت به الأصل المذكور بوجه من الوجوه.

__________________

(١) هنا بياض.

(٢) هنا بياض.

٦١١

فظهر بما قرّرناه ضعف القول المذكور ، لانحصار مداركه حسب ما عرفت في الوجوه المذكورة ، وبظهور وهنها يظهر وهن القول المذكور.

حجّة القول الثالث : أمّا بالنسبة إلى جواز التصرّف ما لم يحصل العلم بارتكاب الحرام فبالوجوه المتقدّمة. وأمّا بالنسبة إلى المنع من الإقدام بما يحصل معه العلم باستعمال المحرّم فبأنّه كما يحرّم ارتكاب المحرّم الواقعي ، كذا يحرّم تحصيل اليقين بارتكاب الحرام ، وهو حاصل بارتكاب الفرد الآخر الّذي يوجب العلم بارتكاب الحرام الواقعي ، فارتكاب الفرد الآخر مقدّمة لتحصيل اليقين بارتكاب الحرام ، ومقدّمة المحرّم محرّمة ، فيكون ارتكاب الفرد الآخر محرّما من هذه الجهة لا من جهة كونه حراما بحسب الواقع ، ضرورة كون نسبة التحريم إليهما على وجه سواء ، فلا معنى للترجيح حتّى يقال بإباحة أحدهما وحرمة الآخر.

وأورد عليه تارة : بمنع كون مقدّمة الحرام حراما ، ويمكن دفعه : بأنّ مقدّمة الحرام إن كان شرطا للحرام وما بمعناه فمن الظاهر عدم تحريمه ، نعم إن قصد به فعل المحرّم كان محرّما من جهة اخرى ، لا من جهة كونه مقدّمة ، وهو غير المقصود في المقام. وأمّا إذا كانت علّة مقتضية لحصول المحرّم فالظاهر أنّه لا مجال للتأمّل في تحريمه ، حسب ما قرّر في محلّه ، كما هو الحال في المقام.

واخرى : بمنع كون تحصيل العلم بارتكاب الحرام محرّما ، وإنّما المحرّم هو الإتيان بالحرام، كيف ولو كان تحصيل العلم بارتكاب الحرام حراما لحرم أن يتجسّس الإنسان عن تحريم ما فعله بحسب الواقع حتّى يعلم حرمته ، كما إذا تصرّف في شيء أو أكل أو شرب ثمّ حصل له الشكّ في تحريمه ، أو كان شاكّا فيه من أوّل الأمر على وجه لا يقتضي المنع منه ، ثمّ بعد التعرّض له استعلم حاله فعلم تحريمه ، ومن الواضح عدم تحريم ذلك بوجه من الوجوه.

فإن قلت : إنّه لا تحريم هناك حال التعرّض نظرا إلى جهل التكليف ، غاية الأمر حصول التحريم حال العلم بما يستكشف به تحريم ما فعله ، لا حين ما أتى به حتّى يكون محرما ، نظرا إلى ما ذكر بخلاف المشتبهين ، للعلم بحرمة أحدهما

٦١٢

فإذا استعملهما فقد استعمل المحرّم قطعا ، فيحصل باستعمالهما العلم بارتكاب الحرام.

قلت : لا فارق بين الصورتين ، فإنّ الحرمة الواقعيّة حاصلة في المقامين. والمفروض كون الجهل بحرمته بخصوصه قاضيا بجواز الإقدام ، فيكون الإقدام على كلّ من المشتبهين سائغا ، فلا يحرم في الظاهر في شيء من الصورتين ، والحرام الواقعي والعلم به حاصل في المقامين ، والعلم بحرمة أحدهما في الظاهر لا يثمر في المقام بعد عدم تأثيره في تحريم الخصوصيّة.

نعم لو ثبت من الخارج تحريم تحصيل العلم بارتكاب الحرام الواقعي تمّ الكلام ، وقد عرفت ما فيه ، فظهر بذلك ضعف التفصيل المذكور ، مضافا إلى ما عرفت من وهن الأدلّة الدالّة على الجزء الأوّل من مقصوده.

وقد يحتجّ عليه بأنّه مع استعمال الجميع يشغل ذمّته بحقّ الناس قطعا ، وشغل الذمّة بحقوق الناس محظور ، فيحرم ما يحكم معه باشتغال الذمّة ، وهو أوهن من سابقه ، إذ مع عدم جريانه في جميع الفروض ، وعدم وضوح بطلان الفصل ، لا دليل على حرمة اشتغال الذمّة بالحقّ. كيف! وجميع المعاملات والمحاكمات مشتملة على اشتغال الذمّة إمّا على وجه ثبوتها في الذمّة أو باشتغال الذمّة بوجوب الدفع.

نعم لو كان ذلك على الوجه المحرّم ـ كالغصب ـ كان محرّما ، ومع ذلك ليس هناك تحريمان ، بل هناك حرام واحد يتبعه اشتغال الذمّة ، فجعل الذمّة مشغولة بحقّ ليس حراما مستقلّا هناك أيضا وإن وجب تفريغه والخروج عنه. وأمّا في المقام فلمّا قضى الدليل ـ على حسب ما يدّعيه المستدلّ ـ بجواز التصرّف كان اشتغال ذمّته بالحقّ على الوجه السائغ ، كما في نظائره من المعاملات ، مثل ما إذا كان التصرّف في المال عن إذن المالك له فيدفع عوضه إليه ، فإنّ الإذن الشرعي على حسب ما يدّعيه لا يقصر عن إذن المالك ، فإن كان لا يحرم هناك قطعا فمن أين يجيء التحريم في المقام ، وهو ظاهر.

* * *

٦١٣

[الاجتهاد]

قوله رحمه‌الله : الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد.

بالضمّ أو الفتح بمعنى الوسع والطاقة ، وقد يخصّ حينئذ بالضمّ فهو بذل الوسع والطاقة في أمر من الامور. أو مأخوذ من الجهد ـ بالفتح ـ بمعنى المشقّة فهو تحمّل المشقّة ، وقد يخصّ معناه اللغوي بالأوّل ويجعل الثاني تفسيرا له باللازم ، وكان الأظهر أنّهما معنيان متعدّدان والمناسبة بين كلّ من ذينك المعنيين ومعناه الاصطلاحي على كلّ من الوجهين الآتيين ظاهرة وإن اختلفت فيها جهة المناسبة.

قوله : وفي الاصطلاح استفراغ الفقيه وسعه ... الخ.

قد ذكروا للاجتهاد حدودا شتّى ، والّذي يتلخّص في المقام : أنّ له بحسب الاصطلاح إطلاقان : (١)

أحدهما : أن يؤخذ مصدرا ، فيكون بمعناه الحدثي ، وقد يجعل حينئذ اسما للحال في مقابلة ما سيجيء من إطلاقه على الملكة. وقد عرّفه المصنّف ـ تبعا للعضدي ـ بأنّه استفراغ الفقيه وسعه إلى آخره. وفي الوافية أنّه الاصطلاح المشهور.

ويرد على الحدّ المذكور امور :

أحدها : أنّ أخذ الفقيه في الحدّ يوجب الدور ، فإنّ الفقيه هو العالم بالمسائل عن الاجتهاد ، لوضوح خروج معرفة الأحكام عن التقليد عن اسم الفقه ، فأخذه في حدّ الاجتهاد قاض بالدور.

__________________

(١) إطلاقين ، خ ل.

٦١٤

ثانيها : أنّ الفقيه إنّما يصدق بعد المعرفة بقدر يعتدّ به من الأحكام ، فإنّ القادر على استنباط المسائل من الأدلّة لا يعدّ فقيها في العرف قبل تحصيله العلم بقدر يعتدّ به من الأحكام ، حسب ما مرّت الإشارة إليه عند تعريف الفقه ، كما هو الحال في المتكلّم ، والنحوي ، والصرفي ، وغيرها. وحينئذ نقول : إنّ الاستفراغ الحاصل منه قبل حصول الفعليّة المذكورة اجتهاد مع أنّه غير حاصل من الفقيه ، فلا ينعكس الحدّ.

ثالثها : أنّ الحدّ المذكور إن كان تحديدا للاجتهاد الصحيح فلابدّ من ضمّ قيود اخر لينطبق على المحدود ، وإن كان تحديدا للأعمّ فلا وجه لأخذ الفقيه في الحدّ.

رابعها : أنّ استفراغ الوسع غير معتبر في تحصيل كلّ من الأحكام ، بل وأقصى ما يلزم المجتهد ذلك في المسائل المفصّلة ، وأمّا سائر المسائل ممّا لا يكون بتلك المثابة فلا يلزم فيها ذلك.

توضيح ذلك : أنّ أقصى ما يجب على المجتهد هو الاطمئنان بتحصيله ما يستفاد من الأدلّة الموجودة ، وذلك قد يحصل بأوّل نظرة في المسألة ، كما في كثير من المسائل الّتي مداركها ظاهرة وقد لا يحصل إلّا بعد استفراغ منتهى الوسع ، كما في بعض المسائل المشكلة، وقد يكون بين الأمرين. ومن البيّن تحقّق الاجتهاد في جميع ذلك فلا ينعكس الحدّ أيضا.

خامسها : أنّ جملة من الأدلّة الفقهيّة ليست مفيدة للظنّ بالواقع ، بل إنّما يكون حجّة على سبيل التعبّد وإن لم يفد ظنّا بالواقع ، كما هو الحال في الاستصحاب وأصالة البراءة ، بل وكذا الحال في مداليل الألفاظ في كثير من الموارد ، حسب ما نبّهنا عليه في المباحث السالفة ، فليس هناك تحصيل ظنّ بالأحكام في كثير من الأحيان ، مع أنّ تحصيل الحكم المستفاد من تلك الأدلّة يندرج في الاجتهاد قطعا فلا ينعكس أيضا.

سادسها : أنّه قد يتوقّف الفقيه في الحكم بعد اجتهاده في المسألة ، فليس هناك تحصيل ظنّ بالحكم الشرعي مع استفراغه الوسع في ملاحظة الأدلّة ، وكون استفراغه المذكور اجتهادا قطعا.

٦١٥

سابعها : أنّ الفقيه كثيرا ما يحصل له القطع بالحكم ، إذ ليس جميع مسائل الفقه ظنّية ، غاية الأمر أن يكون معظمها ظنّية ، فأخذ الظنّ في الحدّ يقضي بخروج القطعيّات ، مع أنّ استنباطها عن الأدلّة يكون بالاجتهاد.

كيف! ومن البيّن : أنّ الاجتهاد قد ينتهي في بعض الأحيان إلى القطع لتراكم الظنون ، وظاهر الحدّ المذكور يقضي بخروجه من الاجتهاد.

ثامنها : أنّه يندرج في الحدّ استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الظنّ بالأحكام الاصوليّة ممّا يندرج في اصول الدين ـ كخصوصيّات عالم المعاد أو البرزخ ـ أو في اصول الفقه ـ كحجّية الحسن والموثّق والضعيف المنجبر بالشهرة ونحوها ـ مع أنّ ذلك لا يعدّ اجتهادا في العرف.

تاسعها : أنّه يندرج فيه استفراغ وسعه في تحصيل الأحكام الظنّية الخاصّة المتعلّقة بالموضوعات ، كتعيين الهلال لوجوب الصوم أو الإفطار ، والقيمة ، وسائر ما يتعلّق به القضاء ، ولا يندرج شيء من ذلك في الاجتهاد.

وقد يذبّ عن الأوّل : بأنّ المراد بالفقيه من مارس الفقه احترازا من غير الممارس ، كالمنطقي الصرف. وفيه : أنّ مجرّد ممارسة الفقه مع عدم المعرفة بالأدلّة وكيفيّة إجرائها والاقتدار على ردّ الفروع إلى الاصول غير كاف في المقام ، بل هو بمنزلة المنطقي الصرف في عدم الاعتداد باستفراغه ، وعدم كونه اجتهادا بحسب الاصطلاح ، وعدم اندراج المستفرغ المذكور في عنوان المجتهد ، مضافا إلى ما في الحمل المذكور من التعسّف لخروجه عن المعنى المصطلح من غير قيام قرينة عليه.

والقول بأنّ استفراغه الوسع في تحصيل الأحكام لا يحصل إلّا بتحصيل جميع ما يتوقّف عليه مدفوع ، بأنّه يأباه ظاهر الإطلاق ، إذ الظاهر منه استفراغ الوسع الحاصل للمستدلّ على حسب ما يقتضيه حاله ، وقد لا يسع لجميع ذلك ، ولو اريد به خصوص ما يعتدّ به شرعا من استفراغ الوسع صحّ ذلك ، إلّا أنّه لا شاهد في العبارة على التقييد.

٦١٦

وقد يقال : إنّه مع افتقاره إلى تحصيل تلك المقدّمات لا يعدّ الاستفراغ الحاصل منه قبل تحصيلها استفراغا للوسع. وفيه : ـ مع ظهور كونه في محلّ المنع ـ أنّ التقييد بالفقيه حينئذ يكون لغوا ، وكأنّه لذا أو لانصراف الإطلاق إلى خصوص الاستفراغ الحاصل منه ولو بملاحظة المقام ترك التقييد به في كلام جماعة من الأعلام ، منهم : المحقّق في المعارج ، والعلّامة في النهاية والمبادئ ، والآمدي في الإحكام.

وقد يقال : إنّ الاجتهاد يعمّ الصحيح ـ الّذي يترتّب عليه الآثار ـ والفاسد ، فينبغي أن يكون التحديد للأعمّ لا خصوص الصحيح منه ، فيندرج فيه الاستفراغ الحاصل من الفقيه وغيره.

غاية الأمر أن لا يعتدّ به إذا كان من غير الفقيه ، وذلك لا يقضي بخروجه عن الاجتهاد. فعلى هذا لا يتّجه التقييد بكونه من الفقيه ، كذا ذكره بعض الأفاضل ولذا عرّف الاجتهاد : بأنّه استنباط الحكم من الأدلّة. ولذا تراهم ـ بعد ذكر تعريف الاجتهاد ـ يجعلون المعرفة بما يتوقّف عليه ومنه القوّة القدسيّة من شرائطه ، لا من مقوّماته.

وأنت خبير بما فيه ، لظهور أنّه لا يعدّ كلّ استنباط من الأدلّة اجتهادا في الاصطلاح ولو صدر من العوامّ ، بل من غير القادر على الاستنباط المعتبر ، بل من القادر عليه إذا لم يأت به على وجهه. فظاهر الاصطلاح اختصاصه بالواقع عن المجتهد القادر على الاستنباط إذا أتى به على الوجه المعتبر ، وكان عدم التقييد به في كلام الجماعة مبنيّ على أحد الوجهين المتقدّمين ، ولذا وقع التقييد به في كلام آخرين ـ كالعلّامة في التهذيب والسيّد العميدي في منية اللبيب والعضدي ـ ولم يبنوا ذلك على اختلافهم في المقام. وعدّهم المعرفة بطرق الاستدلال ، والقوّة القدسيّة الباعثة على الاقتدار من ردّ الفروع إلى الاصول من شرائطه لا ينافي ذلك ، لوضوح أنّه بعد تقييده بالحاصل من القادر على الاستنباط يكون القدرة المذكورة شرطا في تحقّق الاجتهاد لا جزء مقوّما له ، فيوافق ذلك عدّهم ما ذكر

٦١٧

من شرائط الاجتهاد ، إذ ظاهر ما ذكروه كون ذلك من شرائط تحقّق الاجتهاد وحصوله ، لا من شرائط جواز الأخذ به والاعتماد عليه ، كما حاوله الفاضل المذكور ، فهو بالدلالة على خلاف ما حاوله أولى هذا.

والأظهر في الجواب أن يقال : إنّ عدم تحقّق الفقاهة إلّا بتحقّق الاجتهاد لا يقضي بتوقّف تصوّره على تصوّره ، والدور المذكور إنّما يلزم بناء على الثاني دون الأوّل ، على أنّ تحقّق الفقاهة من أصله غير مفتقر إلى الاجتهاد كما هو الحال بالنسبة إلى من يأخذ الأحكام من الإمام عليه‌السلام من غير واسطة ، إلّا أنّه قد توقّف حصوله على ذلك في عهد الغيبة من جهة العارض ، نظرا إلى خفاء الطرق ، ووقوع الفتن الباعثة على اختفاء الأحكام الشرعيّة.

وقد يورد الدور في المقام بوجه آخر بأن يقال : إنّ أخذ الفقيه في حدّ الاجتهاد يعطي توقّف حصول الاجتهاد على تحقّق الفقاهة ، ضرورة كونه الاستفراغ الحاصل من الفقيه ، ومن البيّن توقّف حصول الفقاهة على الاجتهاد فيلزم الدور في تحقّق الاجتهاد في الخارج ، لا في تصوّره ليندفع بما ذكر.

ويدفعه : منع توقّف كلّ من الاجتهاد والفقاهة على الآخر على نحو يوجب الدور ، غاية الأمر أن يستحيل انفكاك أحدهما عن الآخر لحصول الإناطة بينهما ، فالدور هناك معّي.

ومنه يظهر الجواب عن الإيراد الثاني : فإنّ ذلك الاستفراغ إنّما يعدّ اجتهادا إذا كان المستفرغ عالما بقدر يعتدّ به من الأحكام ، فإنّه حينئذ يكون حجّة بالنسبة إليه ، ويجوز لغيره تقليده فيه.

وأمّا قبل حصول الفعليّة المفروضة فهو كغيره ممّن يستنبط الأحكام من غير أن يعتدّ باستنباطه ، فصدق الفقه والاجتهاد في آن واحد وإن تقدّم منه حصول الاستفراغ. هذا إذا قلنا بتوقّف حجّية ظنّه على حصول الفعليّة المذكورة كما يبنى عليه (١) الحدّ المذكور.

__________________

(١) ينبئ عنه ، خ ل.

٦١٨

وأمّا إذا قلنا بجواز الرجوع إلى ظنّه بمجرّد قدرته على الاستنباط وحصول ملكة الاجتهاد له فلا إشكال إذن في صدق الاجتهاد على استفراغه الحاصل قبل حصول الفعليّة، فحينئذ يشكل الحال في الحدّ المذكور ، وينبغي أن يراد بالفعليّة حينئذ من له ملكة الفقه وإن لم يكن عالما بشيء منه فعلا ، ولا يخلو عن بعد ، والأولى على هذا ترك أخذ الفقيه في الحدّ.

وعن الثالث : أنّ المقصود حينئذ استفراغ الوسع في تحصيل الحكم على الوجه المعتبر ، كما هو الظاهر من لفظ الاجتهاد في الاصطلاح ، فلا يندرج فيه ما لا يعتدّ بشأنه. والقول بأنّه لا حاجة حينئذ إلى اعتبار قيد الفقيه في الحدّ مدفوع ، بأنّه إنّما اخذ ذلك فيه لإخراج استفراغ المقلّد وسعه في تحصيل قول المجتهد فيما إذا توقّف معرفته على ذلك ، فهو أيضا استفراغ للوسع في تحصيل الحكم الشرعي ، إلّا أنّه لا يعدّ اجتهادا في الاصطلاح ، وكذا فيما إذا بذل وسعه في تحصيل الاحتياط أو المشهور فيما وجب عليه العمل بذلك.

وعن الرابع : بأنّ المراد ببذل الوسع هو صرف النظر في التفتيش عن الأدلّة إلى أن يحصل له الاطمئنان بتحصيل ما هو مقتضى الأدلّة الموجودة ، بحيث يحسّ من نفسه العجز عن تحصيل ما عدا ذلك ممّا يفيد خلاف ما استفاده ، فيكون ما أدّى نظره إليه هو غاية ما يمكنه الوصول إليه ، وذلك أنّه يختلف حصوله بحسب اختلاف المسائل ، فربما يحصل بأدنى نظر في المسألة ، وقد يتوقّف على فحص جديد وتجسّس واف في الأدلّة ، وتأمّل تامّ في وجوه الاستنباط وطرق الاستدلال. وليس المراد به أن يصرف ما يسعه من النظر والزمان في كلّ واحد واحد من المسائل ، إذ المعلوم خلافه.

وفيه : أنّه لا يوافقه ظاهر التقرير المذكور ، فإنّ مفاد بذل الوسع في ذلك هو صرف الطاقة فيه على وجه لا يؤدّى إلى الحرج وأين ذلك من التفسير المذكور ، إلّا أن يقال : إنّ بذل الوسع إنّما يعتبر بالنسبة إلى مجموع المسائل الّتي يحتاج إلى استنباطها ، لا حصول كلّ مسألة. وحينئذ فيكتفي في كلّ منها بما يحصل به

٦١٩

الاطمئنان حسب ما ذكر ، وهو أيضا لا يوافق ظاهر الحدّ حيث اعتبر فيه بذل الوسع بالنسبة إلى خصوص الأحكام.

وعن الخامس : أنّ المطلوب عند المجتهد في المسائل الاجتهاديّة هو تحصيل الظنّ بالواقع ، إذ هو القائم مقام العلم بعد انسداد بابه ، غاية الأمر أنّه مع عدم تحصيل الظنّ بالواقع وعجزه عن ذلك في مقام الاجتهاد يرجع إلى أدلّة الفقاهة ، فيندرج استفراغه المفروض في الحدّ المذكور لكونه في تحصيل الظنّ وإن لم يحصل له الظنّ ، إذ لم يعتبر في الحدّ حصوله. فثمرة الاجتهاد فيما إذا حصل منه الظنّ بالحكم هو الأخذ به ، وكونه مكلّفا بالعمل بمؤدّاه ، وفيما إذا عجز عن تحصيل الظنّ الرجوع إلى أدلّة الفقاهة : من الحكم بأصالة البراءة والاحتياط ونحوهما.

فظهر بذلك : أنّ التوقّف في المسألة لا ينافي الاجتهاد فيها كما توهّمه بعضهم ، كما سيجيء الإشارة إليه إن شاء الله ومنه يظهر الجواب عن السادس.

وأنت خبير بأنّ ذلك إنّما يتّجه في دفع هذا الإيراد.

وأمّا دفعه للرابع فيبتنى على اعتبار الترتيب المذكور بأن يكون الواجب أوّلا على المجتهد في المقام تحصيل الظنّ بالأحكام ، ثمّ بعد العجز عنه ينتقل الى ما يقتضيه أدلّة الفقاهة ، وهو في محلّ المنع ، بل الظاهر أنّ اللازم عليه هو الرجوع إلى الأدلّة الشرعيّة ، وتحصيل ما يستفاد منها سواء أفادت الظنّ بالواقع أو لا. وتقديم بعض الأدلّة على بعض عند التعارض بينها لا يقضي بكون اللازم على المجتهد هو تحصيل تلك الأدلّة في جميع الأحكام حتّى يؤخذ بما يستفاد منها ، إذ قد يعلم من أوّل الأمر عدم قيام شيء منها في بعض المسائل ، فلا يمكن استفراغه الوسع في تحصيلها أصلا ، مضافا إلى أنّ بعض الأدلّة الاجتهاديّة قد لا يكون مفيدا للظنّ بالواقع أيضا ـ كما مرّت الإشارة إليه ـ فلا يتمّ الجواب بوجوب بذل الفقيه وسعه في تحصيل الظنّ في كلّ مسألة.

وقد يقال في الجواب : إنّ الرجوع إلى أدلّة الفقاهة أيضا إنّما يفيد الظنّ في الغالب ، لا بملاحظة الواقع ، بل بالنظر إلى الحكم الّذي يقتضيه الأدلّة الموجودة ،

٦٢٠