هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

في مادّة الفكر أنّ المشائين ادّعوا البداهة في أنّ تفرّق ماء كوز إلى كوزين إعدام لشخصه وإحداث لشخصين آخرين وعلى هذه المقدّمة بنوا إثبات الهيولي ، والإشراقيّين ادّعوا البداهة في أنّه ليس إعداما للشخص الأوّل وإنّما انعدمت صفة من صفاته وهو الاتّصال.

ثمّ قال إذا عرفت ما مهدّناه من الدقيقة الشريفة فنقول : إن تمسّكنا بكلامهم «عليهم الصلاة والسلام» فقد عصمنا عن الخطأ ، وإن تمسّكنا بغيره لم نعصم عنه إلى غير ذلك ممّا ذكره في المقام.

والمستفاد من كلامه عدم حجّية إدراكات العقل في غير المحسوسات وما يكون مبادئه قريبة من الإحساس ، بل وفيما يقطع به على سبيل البداهة إذا لم يكن محسوسا أو قريبا منه إذا لم يكن ممّا توافقت عليه العقول وتسالمت فيه الأنظار.

وقد استحسن ما ذكره غير واحد ممّن تأخّر عنه ، وممّن نصّ عليه الفاضل الجزائري في أوائل شرح التهذيب قال : ـ بعد ذكر كلام الأمين بطوله وتحقيقه في المقام بمقتضى ما ذهب إليه ـ

فإن قلت : قد عزلت العقل عن الحكم في الاصول والفروع فهل يبقى له حكم في مسألة من المسائل.

قلت : أمّا البديهيّات فهي له وحده وهو الحاكم فيها ، وأمّا النظريّات فإن وافقه النقل وحكم بحكم قدّم حكمه على النقل وحده ، أمّا لو تعارض هو والنقلي فلا شكّ عندنا في ترجيح النقل وعدم الالتفات إلى ما حكم به العقل. قال : وهذا أصل يبتنى عليه قواعد كثيرة.

ثمّ ذكر جملة من المسائل المتفرّعة عليه. وقضيّة كلامه حجّية العقل في البديهيّات وعدم حجّيته في النظريّات غير أنّه يصير معاضدا للنقل فيترجّح به على ما يعارضه من النقلى الآخر.

ثمّ إنّ ما عناه من البديهي غير واضح في المقام ، فإن عنى به البديهي في اعتقاد العالم وإن لم يكن بديهيّا عند غيره أو لا يعلم فيه حال الغير فقد نصّ

٥٤١

في تحقيقه المتقدّم وكذا فيما حكاه من كلام الأمين الّذي هو عنده من التحقيق المتين بعدم حجّيته وإن أراد به البديهي عند جميع العقلاء فهو مع أنّه ممّا يتعذّر العلم به ـ إلّا على سبيل الحدس الّذي هو أيضا من العلوم الضروريّة المتوقّف حجّيتها على الاتفاق عليها عنده ـ مدفوع ، بأنّ الاتّفاق على الحكم بالبداهة لا يفيد الحكم بالصحّة إلّا من جهة توافق الأفهام ، واستنباط مطابقته للواقع من قبيل الاستنباط من الإجماع وإفادته العلم في الامور العقليّة محلّ إشكال ، وعلى فرضه فليس أقوى من سائر الضروريّات فكيف يجعل معيار الحجّية غيرها من البديهيّات.

وقد وافقه على ذلك صاحب الحدائق وقد حكى عنه كلاما ذكره في الأنوار النعمانيّة يشبه كلامه في شرح التهذيب واستحسنه ، إلّا أنّه صرّح بحجّية العقل الفطري الصحيح ، وحكم بمطابقته للشرع ومطابقة الشرع له.

ثمّ نصّ على أنّه لا مدخل له للعقل في شيء من الأحكام الفقهيّة ـ من عبادات وغيرها ـ ولا سبيل إليها إلّا السماع عنهم عليهم‌السلام لقصور العقل المذكور من الاطّلاع على أغوارها.

ثمّ قال : نعم يبقى الكلام بالنسبة إلى ما لا يتوقّف على التوقيف فنقول : إن كان الدليل العقلي المتعلّق بذلك بديهيّا ظاهر البداهة ـ كقولهم الواحد نصف الاثنين ـ فلا ريب في صحّة العمل به ، فإن عارضه دليل عقلي آخر ، فإن تؤيّد أحدهما بنقلي كان الترجيح للمؤيّد بالدليل النقلي وإلّا فإشكال ، وإن عارضه دليل نقلي فإن تؤيّد العقلي أيضا بنقلي كان الترجيح للعقلي ، إلّا أنّ هذا في الحقيقة تعارض في النقليّات ، وإلّا فالترجيح للنقلي وفاقا للسيّد المحدّث المتقدّم وخلافا للأكثر ، هذا بالنسبة إلى العقلي بقول مطلق.

أمّا لو اريد المعنى الأخصّ وهو الفطري الخالي عن شوائب الأوهام الّذي هو حجّة من حجج الملك العلّام وإن شذّ وجوده بين الأنام ففي ترجيح النقلي عليه إشكال.

٥٤٢

[البحث الثالث](١)

في أصالة النفي

وهي أصالة عدم أمر وجودي حتّى يتبيّن الخلاف ، وهي أقسام إذ ذلك الأمر الوجودي إمّا أن يكون تكليفا بالفعل أو بالترك ، أو يكون شيئا آخر غير الأمرين المذكورين وإن استتبع أحدهما كسائر الأحكام الوضعيّة ، ويطلق على الاولى أصالة البراءة ، وعلى الثانية أصالة الإباحة ، وعلى الثالثة أصالة العدم ، وقد يعمّ الأخير للوجوه الثلاثة ، وقد يعمّ الاولى للثانية بكون الحظر تكليفا ولا مشاحّة في الاصطلاح.

ثمّ الأصل فيها هنا قد يؤخذ بمعنى الاستصحاب ، والظاهر بعد صحّة إطلاق الأصل عليه بالخصوص عدم إرادته في المقام ، لكونه دليلا برأسه مغايرا لأصالة البراءة والإباحة ، كما سيظهر الوجه فيه. وقد يؤخذ بمعنى الراجح كما نصّ عليه جماعة ، ويضعّفه بعد القطع بعدم كونه حقيقة فيه ـ كما يعرف من عدم اطّراده في الاستعمال ، بل والتأمّل في ثبوت استعماله فيه ، كما يظهر من ملاحظة الإطلاقات والمثال المذكور في كلامهم غير متعيّن الحمل عليه ـ أنّه ليس المناط في حجّية الأصل المذكور حصول الظنّ كما يوهمه كلام بعضهم لما هو معلوم من الاحتجاج به في محلّ الشكّ والوهم أيضا ، وبالجملة فيما لم يقم دليل شرعي على خلافه ، فتخصيصه بصورة الظنّ ممّا لا وجه له.

والقول بأنّ المقصود رجحان العدم في نفسه ، بمعنى أنّ الراجح في نظر العقل من الوجود والعدم هو العدم ، ومن الشغل والبراءة هي البراءة إلى غير ذلك ، فلا ينافيه حصول الظنّ بخلافه من الخارج مدفوع بأنّ الرجحان فيه حينئذ يكون شأنيّا لا فعليّا ، وهو مخالف لظاهر اللفظ ، مضافا إلى أنّه لو دار الأمر مدار الرجحان لم يثمر شأنيّة الظنّ ، مع عدم تحقّقه كما في كثير من موارد الاحتجاج به ، وإلّا فلا ثمرة للحمل على المعنى المفروض ثمّ تصحيحه بالتوجيه المذكور.

__________________

(١) لم يرد في بعض النسخ ، وفي سائر النسخ «البحث الثاني». والموافق للسياق ما أثبتناه ، راجع ص ٥٠٤ و ٥٣٩.

٥٤٣

على أنّه لا يظهر من شيء من الأدلّة القائمة عليه اعتبار لتلك الرجحانيّة في المقام ، فالظاهر أنّ المراد بالأصل هنا هو القاعدة المستفادة من الأدلّة الآتية ، والمقصود بالنفي في المقام إن تعلّق بالتكاليف انتفاؤه بالنسبة إلينا وعدم تعلّقه بنا وبالنسبة إلى غيرها البناء على عدمه ، والحكم بعدم ترتّب شيء من الأحكام المتفرّعة على وجوده.

فظهر أنّه لا ارتباط للأصل المذكور بالواقع ولا يدلّ على نفي الحكم في نفس الأمر ، وإنّما يفيد نفي الحكم في الظاهر ، ولو فرض حصول ظنّ هناك بانتفاء ذلك في الواقع فهو من المقارنات الاتّفاقيّة ، ولا مدخليّة له في الحجّية ولم يقم شيء من الأدلّة المذكورة على حجّية تلك المظنّة.

نعم على القول بأصالة حجّية الظنّ كما هو مختار بعض منّا ، والمعروف من طريقة مخالفينا يمكن القول بحجّيته ، وكأنّه الوجه فيما يستفاد من العامّة وغيرهم من أخذ الأصل فيه بمعنى الراجح غير أنّه لا ينحصر الاحتجاج به في الصورة المذكورة ، لما عرفت من جريانه عندهم في محلّ الشكّ وغيره.

ثمّ إنّ الفرق بينه وبين استصحاب حال العقل ظاهر ممّا قرّرنا ، فإنّ الملحوظ في الاستصحاب استمرار حكم النفي بعد ثبوته أوّلا ، وهاهنا لا يلحظ ذلك أصلا ، بل يحكم بكون العدم أصلا حتّى يثبت خلافه بالدليل.

نعم يصحّ الاستدلال بالاستصحاب في معظم موارده ، إذ كما قضت القاعدة بالبناء على النفي حتّى يثبت الوجود كذا يستصحب العدم القديم حتّى يتبيّن المزيل ، ولذا يجعل الاستصحاب من الأدلّة على أصالة البراءة والإباحة كما سنقرّر القول فيه.

والفرق بين الأصل المذكور والقاعدة الاخرى ـ المعبّر عنها في كلامهم بأنّ عدم الدليل دليل العدم ـ أنّ تلك القاعدة إنّما تفيد انتفاء الحكم في الواقع ، ولذا خصّها بعض المحقّقين بما يعمّ به البلوى ، إذ عدم وصول الدليل في مثله دليل على انتفائه في الواقع ، وهو دليل على انتفاء الحكم في الشريعة ، إذ لو كان هناك حكم لبيّنه الشارع.

٥٤٤

وأمّا أصالة البراءة ونحوها فإنّما تفيد انتفاء الحكم بالنسبة إلينا وإن فرض ثبوته في الواقع، وكان الأظهر إدراج ذلك في أصالة النفي بعد حمل النفي على الأعمّ من الواقع والظاهر ، بأن يقال : إنّ قضيّة الأصل النفي الواقعي مع انتفاء الدليل عليه بحسب الواقع والنفي في الظاهر مع انتفاء الوصول إليه في الظاهر وحينئذ ينبغي تعميم الحكم في تلك القاعدة بالنسبة إلى عامّ البلوى وغيره فيقال : إنّ عدم الدليل في الواقع دليل على عدم الحكم في الواقع ، وعدمه في الظاهر دليل على عدمه في الظاهر ، فيرجع إحدى القاعدتين إلى الاخرى.

ولنفصّل الكلام في الاصول الثلاثة المذكورة برسم مقامات ثلاثة :

المقام الأوّل : في أصالة البراءة والمعروف من المذهب ثبوت الأصل المذكور ، بل لا يعرف قائل معروف بالبناء على الوجوب وثبوت التكليف بأمر وجودي من غير قيام دليل عليه ، سوى ما ستعرف من بعض كلمات الأخباريّة ، بل عن المحقّق في اصوله : أنّه أطبق العلماء على أنّ مع عدم الدلالة الشرعيّة يجب إبقاء الحكم على ما يقتضيه البراءة الأصليّة.

وذكر في المعالم في عداد أدلّة القائلين بحجّية الاستصحاب : أنّ العلماء متّفقون على وجوب إبقاء الحكم مع عدم الدلالة الشرعيّة على ما يقتضيه البراءة الأصليّة ولم يذكر بعد ذلك ما يومئ إلى تأمّل منه في الاتّفاق المذكور.

وقد حكى صاحب الحدائق مع أنّه من عظماء الأخباريّة الاتّفاق على ما ذكر حيث قال : في مقدمات الحدائق والدرر النجفيّة بعد أن قسم البراءة الأصليّة فيهما إلى قسمين :

أحدهما : أنّها عبارة عن نفي وجوب في فعل وجودي إلى أن يثبت دليله ، بمعنى أنّ الأصل عدم الوجوب حتّى يقوم عليه دليل ، وهذا القسم ممّا لا خلاف في صحّة الاستدلال به والعمل عليه ، إذ لم يذهب أحد إلى أنّ الأصل الوجوب حتّى يثبت عدمه ، لاستلزام ذلك تكليف ما لا يطاق ، وأشار في الأوّل إلى غيره من الأخبار الدالّة على انتفاء التكليف مع الجهل ، وقال أيضا في الدرر النجفيّة : إن كان الحكم المطلوب دليله هو الوجوب فلا خلاف ولا إشكال في انتفائه حتّى يظهر

٥٤٥

دليله ، لاستلزام التكليف به بدون دليل الحرج وتكليف ما لا يطاق كما عرفت ، لا من حيث عدم الدليل كما ذكروا ، بل من حيث عدم الاطّلاع عليه ، إذ لا تكليف إلّا بعد البيان «والناس في سعة ما لا يعلمون».

وأشار أيضا إلى بعض الأخبار الآتية ، وقد ناقش فيه صاحب الفوائد المدنيّة بأنّ التمسّك بالبراءة الأصليّة من حيث هي هي إنّما يجوز قبل إكمال الدين ، وأمّا بعد أن كمل الدين وتواترت الأخبار عن الأئمّة الأبرار صلوات الله عليهم أجمعين بأنّ كلّ واقعة يحتاج إليها الامّة إلى يوم القيامة ورد فيها خطاب قطعي من قبله تعالى حتّى أرش الخدش ، فلا يجوز قطعا ، وكيف يجوز وقد تواترت الأخبار عنهم عليهم الصلاة والسلام بوجوب التوقّف في كلّ واقعة لم نعلم حكمها معلّلين بأنّه بعد أن كمل الدين لا يخلو واقعة عن حكم قطعي وارد من الله تعالى ، وبأنّ من حكم بغير ما أنزل الله فاولئك هم الكافرون؟

ثمّ أقول : هذا المقام ممّا زلّت فيه أقدام أقوام من فحول العلماء ، فحريّ منّا أن نحقّق المقام ، ونوضّحه بتوفيق الملك العلّام ودلالة أهل الذكر عليهم‌السلام.

فنقول : التمسّك بالبراءة الأصليّة إنّما يتمّ عند الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح الذاتيّين ، وكذلك عند من يقول بهما ولا يقول بالوجوب والحرمة الذاتيّين ، وهو المستفاد من كلامهم عليهم‌السلام وهو الحقّ عندي ثمّ على هذين المذهبين إنّما يتمّ قبل إكمال الدين لا بعده ، إلّا على مذهب من جوّز من العامّة خلوّ الواقعة عن حكم وارد من الله تعالى.

لا يقال بقي أصل آخر وهو أن يكون الخطاب الّذي ورد من الله تعالى موافقا للبراءة الأصليّة.

لأنّا نقول : هذا الكلام ممّا لا يرضى به لبيب ، وذلك لأنّ خطابه تعالى تابع للحكم والمصالح ، ومقتضيات الحكم والمصالح مختلفة ، إلى أن قال : لا يعلمها إلّا هو جلّ جلاله.

ونقول : هذا الكلام في قبحه نظير أن يقال : الأصل في الأجسام تساوي نسبة طبائعها إلى جهة السفل والعلو ، ومن المعلوم بطلان هذا المقال.

٥٤٦

ثمّ أقول : الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الامور في ثلاثة : «أمر بيّن رشده ، وأمر بيّن غيّه ، وشبهات بين ذلك» (١). وحديث «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٢) ونظائرهما أخرج كلّ واقعة لم يكن حكمها بيّنا عن البراءة الأصليّة وأوجب التوقّف فيها ثمّ استشهد بكلام بعض العامّة قال :

ثمّ أقول : الاشتباه قد يكون في وجوب فعل وجودي وعدم وجوبه مثلا ، وقد يكون في حرمة فعل وجودي وعدم حرمته مثلا ، وقد جرت عادة العامّة وعادة المتأخّرين من علماء الخاصّة بالتمسّك بالبراءة الأصلية في المقامين ، ولمّا أبطلنا جواز التمسّك بها ـ لعلمنا بأنّه تعالى أكمل لنا ديننا ، ولعلمنا بأنّ كلّ واقعة تحتاج إليها الامّة إلى يوم القيامة أو تخاصم فيها اثنان ورد فيها خطاب قطعي من الله تعالى خال عن معارض ، ولعلمنا بأنّ كلّ ما جاء به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخزون عند العترة الطاهرة ، ولعلمنا بأنّهم عليهم‌السلام لم يرخّصوا في التمسّك بالبراءة الأصليّة في ما لم نعلم الحكم الّذي ورد فيه بعينه ، بل أوجبوا التوقّف في كلّ ما لم نعلم حكمه بعينه وأوجبوا الاحتياط في بعض صوره ـ فعلينا أن نبيّن ما يجب أن يعمل به في المقامين ، وسنحقّقه بما لا مزيد عليه في الفصل الثامن ، وقد ذكر هناك وجوب الاحتياط بالفعل فيما إذا ورد نصّ صحيح صريح في كون الفعل مطلوبا غير صريح في وجوبه وندبه إذا كان ظاهرا في الوجوب ، وكذا لو كان تساوى الاحتمالين ، ولو كان ظاهرا في الندبيّة بنى فيه على جواز الترك ، وكذا فيما إذا بلغنا حديث ضعيف دالّ على وجوب شيء.

واحتجّ عليه بقوله صلوات الله عليه : «ما حجب الله علمه عن العباد موضوع عنهم» (٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع القلم عن تسعة أشياء (٤) من جملتها ما لا يعلمون ، قال : فنحن معذورون ما دمنا متفحّصين ، وخرج عن تحتهما كلّ فعل وجودي لم

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ص ١١٤ ح ٩.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ص ١٢٢ ح ٣٨.

(٣) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ص ١١٩ ح ٢٨.

(٤) وسائل الشيعة : ج ١١ باب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ص ٢٩٥ ح ١ ، وفيه رفع عن امتي.

٥٤٧

نقطع بجوازه بالحديث المشتمل على حصر الامور الثلاثة إلى آخر ما ذكره.

وأنت تعلم أنّ قضية حجّته المذكورة جواز الترك في صورة تساوي الاحتمالين أيضا ، لحصول الحجب وانتفاء العلم ، مع أنّه نصّ على خلافه.

ثمّ نقول : إن كان الظنّ حجّة في المقام فلم يعدّ مظنون الدلالة من موارد الشبهة ، وإلّا فما الوجه في حكمه بوجوب الاحتياط إذا كان النصّ المفروض ظاهرا في الوجوب ، دون ما إذا كان ظاهرا في الندب ، أو كان النصّ واضح الدلالة قاصر السند ، مع اشتراك الجميع في حصول الشبهة. وليت شعري هل فرقه المذكور بنصّ من الأئمّة عليهم‌السلام ، أو بمجرّد الرأي وتشهّي النفس ، ولو وجد عنده نصّ في ذلك لكان عليه إيراده في المقام ليكتفي به في تبيين المرام.

ثمّ إنّه ذكر بعد كلام له على جملة من المتأخّرين وتكراره لبعض المطالب المتقدّمة. نعم يمكن أن يقال : بناء على ما نقله في كتاب العدّة رئيس الطائفة عن سيّدنا الأجلّ المرتضىرحمه‌الله من أنّه ذهب إلى أنّ في زمن الفترة الأشياء على الإباحة ـ بمعنى أنّه لم يتعلّق بهم شيء من التكاليف الواردة الّتي خفي عليهم ، إذ تعلّق التكليف يتوقّف على بلوغ الخطاب عند الأشاعرة وعليه أو على قطع العقل بالحكم عند المعتزلة ومن وافقهم ، والمفروض انتفاء الأمرين ـ أنّ من لم يتفطّن بحكم الله في واقعة لم يتعلّق به ذلك الحكم ، لكن هذا خلاف قواعدهم ، لأنّهم لم يبنوا فتاويهم على أنّ زمانهم زمان الفترة ، بل يقولون : هكذا نزلت الشريعة ، وبين المقامين بون بعيد. قلت : ما ذكره سهو بيّن ، فإنّ أحدا من أهل العلم لا يقول عند استدلاله بأصالة البراءة عند الفجر عن الأدلّة أنّه كذا نزلت الشريعة ، بل يجعلون ذلك قضيّة تكليفهم عند فقد الأدلّة ، كما يعرف من أدلّتهم المذكورة.

ثمّ إنّه اختار معذوريّة أهل الفترة قال : وكذلك من علم إجمالا ولم يعلم تفصيلها ، وبعد العلم بالتفاصيل في امّهات الأحكام ـ مثل : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(١) وعدّ عدّة من الآيات ـ لا يتّجه العذر.

__________________

(١) يونس : ٥٩.

٥٤٨

وقال : ثمّ اعلم أنّ التمسّك بما صار إليه المرتضى في زمن الفترة إنّما يجري في زمن الغيبة في سقوط وجوب فعل وجودي ، وفي الفتوى بسقوطه عنّا ما دمنا جاهلين متفحّصين، ولا يجري في سقوط حرمته ، لأنّا تلقّينا القواعد الكلّية الواردة عنهم عليهم‌السلام المشتملة على وجوب الاجتناب عن كلّ فعل وجودي لم يقطع بجوازه عند الله. هكذا ينبغي أن يحقّق هذا المبحث إلى آخر ما ذكر.

وأنت خبير : بأنّ ظاهر كلامه الآخر الحكم بجواز نفي التكاليف المتعلّقة بالأفعال الوجوديّة ما لم يقم عليه دليل ، وهو قول بحجّية أصالة البراءة حسب ما ذكرنا. وعمدة الغرض من نقل أقاويله المذكورة الإشارة إلى شدّة اضطرابه في المسألة ، وعدم استقامته على طريقة واحدة ، مع دعواه قيام الدليل القاطع في كلّ واقعة.

ثمّ إنّه قد حكى بعد ما نقلنا عنه أوّلا ما ذكره المحقّق رحمه‌الله في اصوله : من أنّ الأصل خلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ، فإذا ادّعى مدّع حكما شرعيّا جاز لخصمه أن يتمسّك في انتفائه بالبراءة الأصليّة.

فنقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعيّة ، لكن ليس كذلك فيجب نفيه ولا يتمّ هذا الدليل إلّا ببيان مقدّمتين :

إحداهما أنّه لا دلالة عليه شرعا بأن يضبط طريق الاستدلالات الشرعيّة ويبيّن عدم دلالتها عليه.

والثانية : أن يبيّن أنّه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلت عليه احدى تلك الدلائل ، لأنّه لو لم تكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ، ولو كان عليه دلالة غير تلك الأدلّة لما كانت أدلّة الشرع منحصرة فيها ، لكن بيّنا انحصار الأحكام في تلك الطرق وعند هذا يتمّ كون ذلك دليلا على نفي الحكم ، والله أعلم.

ثمّ استحسن الكلام المذكور واستجوده وأثنى على المحقّق ومدحه ثمّ قال : وتحقيق كلامه أنّ المحدّث الماهر إذا تتبّع الأحاديث المرويّة عنهم عليهم‌السلام في

٥٤٩

مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر لعموم البلوى بها ، وإذا لم نظفر بحديث يدلّ على ذلك الحكم ينبغي أن يقطع قطعا عاديّا بعدمه ، لأنّ جمّا غفيرا من أفاضل علمائنا ـ أربعة آلاف منهم تلامذة الصادق عليه‌السلام كما مرّ نقله عن المعتبر ـ كانوا ملازمين لأئمتناعليهم‌السلام في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة ، وكان همّهم وهمّ الأئمّة إظهار الدين عندهم وتأليفهم كلّ ما يسمعون منهم في الاصول لئلّا يحتاج الشيعة إلى سلوك طريق العامّة ، وليعمل ما في تلك الاصول في زمن الغيبة الكبرى ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام لم يضيّعوا من كان في أصلاب الرجال من شيعتهم كما تقدّم في الروايات المتقدّمة ، ففي مثل تلك الصورة يجوز التمسّك بأنّ نفي ظهور الدليل على حكم مخالف للأصل دليل على عدم ذلك الحكم في الواقع ، إلى أن قال : ولا يجوز التمسّك به في غير المسألة المفروضة إلّا عند العامّة القائلين بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أظهر عند أصحابه كلّ ما جاء به ، وتوفّرت الدواعي على جمعه (١) وأخذه ونشره ، وما خصّ أحدا بتعليم شيء لم يظهر عند غيره ، ولم يقع بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتنة اقتضت إخفاء ما جاء به انتهى.

وكلامه هذا صريح في التفصيل في إجراء الأصل بين عامّ البلوى وغيره. وظاهره عدم الفرق في ذلك بين أصالة البراءة والإباحة وغيرهما ، فحكم بحجّيته في الأوّل دون الأخير. ولا يذهب عليك أنّ كلام المحقّق هنا بعيد الانطباق على ما فهمه ، بل هو كالصريح في حجّية أصالة البراءة مطلقا في نفي التكليف عنّا بعد الفحص واستقراء الأدلّة بحسب الوسع.

والحاصل : أنّ الفقيه بعد أن ضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة وبيّن عدم دلالتها عليه بنى على مقتضى أصالة البراءة أن لا تكليف عليه ، سواء كان هناك تكليف واقعي أو لا ، وليس غرضه الحكم بانتفاء الحكم واقعا عند انتفاء الدليل عليه بحسب الواقع ، كيف ولا إشارة في كلامه إلى اعتبار عموم البلوى في المقام حتّى يمكن حمل كلامه عليه ، بل في كلامه ما يدلّ على خلافه ، حيث قال : لأنّه

__________________

(١) حمله ، خ ل.

٥٥٠

لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق له ، فإنّ قضيّة ذلك ارتفاع التكليف مع عدم وصول المجتهد إليه بعد بذل وسعه ، فحمله العبارة المذكورة على خصوص عامّ البلوى ممّا لا وجه له أصلا.

وكيف كان فكلماته المنقولة من أوّلها إلى آخرها مبنيّة على الغفلة عمّا هو محلّ الكلام في المسألة. فتوهّم أنّ القائل بحجّية أصالة البراءة يجعلها دليلا على ثبوت الحكم في الواقع وطريقا يتوصّل به إلى معرفة الحكم الثابت في نفس الأمر ومجوّزا للحكم بثبوته على الوجه المذكور فأنكر عليهم ذلك ، وبيّن أنّه لا ملازمة بين أصالة البراءة وما حكم به الشرع في الواقع فكيف يمكن كشفه عنه. والظاهر أنّه لمّا تخيّل وجوب بيان الأحكام على النبيّ والإمامعليهم‌السلام وكان الحال فيما تعمّ به البلوى قاضية بوصول البيان إلينا لتوفّر الدواعي عليه كان عدم وصول ذلك إلينا كاشفا عن عدم وجوده في الواقع ، الكاشف عن انتفاء الحكم كذلك ، فلذا اعترف بحجّيته بالنسبة إليه دون غيره.

وقد عرفت ممّا أشرنا إليه : أنّ الكلام في المقام في حجّية أصالة البراءة إنّما هو بالنسبة إلى الظاهر دون الواقع ، والمقصود منه معرفة سقوط التكليف بالنسبة إلينا من غير ملاحظة لانتفائه بحسب الواقع ، إذ لا فائدة يعتدّ بها في معرفة ذلك بعد معرفة التكليف. كيف ومعظم أدلّة الفقه إنّما يثبت ما كلّفنا به في ظاهر الشريعة من دون إثبات الواقع ، لوضوح كون معظم الأدلّة ممّا لا دلالة فيها على الواقع ، وأقصى ما في المقام أن يفيد بعضها ظنّا به.

ومن البيّن : أنّ الظنّ بنفسه لا يعقل أن يكون طريقا مثبتا للواقع حتّى يصحّ الحكم بكونه الواقع ، فضلا عن كونه جائزا في الشريعة أو ممنوعا عنه.

غاية الأمر أنّه مع قيام الدليل على حجّيته في الظاهر يصحّ الحكم على صورة البتّ بثبوت ذلك الحكم ، وذلك إنّما يترتّب على قيام الدليل المذكور ، ولا اعتبار في ذلك الظنّ المفروض سواء انيط به الحجّية أو لا ، إذ من البيّن أنّ الظنّ ليس قابلا لأن يجعل سبيلا إلى الواقع على سبيل البتّ ، وانّما يكون سبيلا إليه على سبيل

٥٥١

الظنّ ، وهو ممّا لا يترتّب عليه فائدة ، ولا منع في الشريعة أيضا من الحكم بكون المظنون ذلك ظنّا غير معتبر وإن كان حاصلا من قياس أو استحسان وهو ظاهر.

فظهر بما قرّرنا : أنّ المقصود في المقام هو بيان حجّيته في الظاهر وجواز الاعتماد عليه في ظاهر التكاليف ، وحينئذ فلا مدخل لإكمال الدين وثبوت الحكم مخزونا عند الأئمّةعليهم‌السلام في كلّ واقعة في دفع الأصل المذكور ، ولا ارتباط بينهما نفيا ولا إثباتا بوجه من الوجوه ، كيف ويصحّ الحكم بانتفاء التكليف عنّا مع العلم بحصوله واقعا على سبيل الإجمال، كما إذا كلّفنا بمجمل ولم يتمكّن من بيانه في تمام الوقت ولم يمكن تحصيله على سبيل الاحتياط ، فكيف مع عدم العلم به وعدم قيام دليل على ثبوته.

وبالجملة : غاية ما يلزم ممّا ذكره ـ على فرض تسليمه ـ عدم إمكان تحصيل الحكم الواقعي من جهة الأصل المذكور ، وهو كما عرفت غير ما هم بصدده في المقام.

نعم لو عمّمنا الأصل المذكور بحيث يندرج فيه عدم الدليل ـ الّذي جعلوه دليلا آخر على عدم الحكم كما اخترناه ـ كان إذن في بعض صوره دليلا على انتفاء الحكم في الواقع ، حسب ما سلّمه المعترض المذكور واستحسنه ، على أنّ في دلالته حينئذ على انتفاء الحكم في الواقع أيضا إشكالا ، إذ قد يكون إخفاء الحكم منوطا بمصالح قضت به ، كما يستفاد من الأخبار ويشير إليه أيضا ما ورد في الأخبار من أنّ عليكم بالسؤال وليس علينا الجواب(١).

فغاية الأمر في هذه الصورة أيضا الحكم بانتفاء التكليف عنّا كما في الصورة الاخرى. وكيف كان فلا مانع من إبراز الحكم على صورة البتّ في الصورتين ، كما هو الشأن في سائر الأدلّة الّتي ثبت التعبّد بها في الشرع مع عدم كشفها عن الواقع على سبيل اليقين ، كيف وصريح كلامه تسليم جواز الحكم على سبيل البتّ في الصورة الأخيرة ، وقد علمت انتفاء دلالته على الواقع أيضا ، فإن كان كلامه

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ٧ من أبواب صفات القاضي ص ٤٣ ح ٩.

٥٥٢

المذكور مبنيّا على دلالته على انتفاء الحكم في نفس الأمر فهو من أفحش الخطأ ، وإن كان ذلك عنده كاشفا عن رضاء الإمام عليه‌السلام بالترك فالمفروض ... (١) في المقام بعد انسداد الطريق حسب ما نستنهضه من الأدلّة على الأصل المذكور وقد اعترف به في بعض صوره كما عرفت.

ومع الغضّ عن ذلك ـ والقول بقيام الدليل في سائر الأدلّة على جواز الحكم كذلك وعدم قيامه في المقام ـ فقد عرفت أنّه لا ثمرة يعتدّ بها في المناقشة المذكورة بعد الحكم بالاعتماد عليه في ارتفاع التكليف في الظاهر حتّى يحتاج إلى إطالة الكلام والمبالغة في الردّ على من اختاره في المقام كما لا يخفى.

ومن أعجب العجب! ما وقع من صاحب الحدائق في المقام ، حيث إنّه مع دعواه الاتّفاق على الأصل المذكور في كتابيه المذكورين ـ كما تقدّم الإشارة إليه ـ نصّ فيهما أيضا عند ذكره مسألة الاحتياط على وجوب الاحتياط فيما إذا تردّد المكلّف في الحكم إمّا لتعارض أدلّته ، أو لتشابهها وعدم وضوح دلالتها ، أو لعدم الدليل بالكلّيّة بناء على نفي البراءة الأصليّة ، أو لحصول الشكّ في اندراج بعض الأفراد تحت بعض الكلّيات المعلومة الحكم أو نحو ذلك.

ثمّ ذكر أيضا في مثال الاحتياط الواجب المتعلّق بالفعل ما إذا اشتبه الحكم من الدليل بأن تردّد بين احتمالي الوجوب والاستحباب ، فالواجب هو التوقّف في الحكم والاحتياط بالإتيان بذلك الفعل.

ومن يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجّحة للاستحباب.

وفيه أوّلا : ما عرفت من عدم الاعتماد على البراءة الأصليّة في الأحكام الشرعيّة.

وثانيا : أنّ ما ذكروه يرجع إلى أنّ الله تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة الأصليّة، ومن المعلوم أنّ أحكامه تعالى تابعة للحكم والمصالح المنظورة له تعالى وهو أعلم بها. ولا يمكن أن يقال : مقتضى المصلحة البراءة الأصليّة ، فإنّه رجم بالغيب وجرأة بلا ريب.

__________________

(١) بياض في الأصل.

٥٥٣

ومن هذا القسم أيضا ما تعارضت فيه الأخبار على وجه يتعذّر الترجيح فيها بالمرجّحات المنصوصة ، فإنّ مقتضى الاحتياط التوقّف في الحكم ووجوب الإتيان بالفعل متى كان يقتضي الاحتياط ذلك.

فإن قيل : إنّ الأخبار في الصورة المذكورة قد دلّ بعضها على الإرجاء وبعضها على العمل من باب التسليم.

قلنا : هذا أيضا من ذلك ، فإنّ التعارض المذكور ـ مع عدم ظهور مرجّح لأحد الطرفين ولا وجه يمكن الجمع به في البين ـ ممّا يوجب دخول الحكم المذكور في المتشابهات المأمور فيها بالاحتياط.

ومن هذا القسم أيضا ما لم يرد فيه نصّ من الأحكام الّتي لا تعمّ بها البلوى عند من لم يعتمد على البراءة الأصليّة ، فإنّ الحكم فيه ما ذكر كما سلف في مسألة البراءة الأصليّة ، انتهى.

وأنت خبير : بأنّ الصور المذكورة في كلامه ممّا لم يقم في شيء منها دليل على وجوب الفعل ، فيندرج الجميع فيما قرّره أوّلا من البناء على البراءة الأصليّة في نفي الوجوب من فعل وجودي إلى أن يثبت خلافه ، وقد ذكر أنّه لا خلاف في صحّة الاستناد إليه ، فحكمه هنا بوجوب مراعاة الاحتياط بالإتيان بالفعل تناقض واضح ، وكلامه هنا موافق لما ذكره المحدّث المذكور ، بل مأخوذ منه ، وقد اتّضح فساده بما قرّرناه وبما يأتي الإشارة إليه من الأدلّة على الأصل المذكور ، وفي الأخبار الّتي أشار إليها في المقام المتقدّم كفاية في إبطال (١) الحجج.

ثمّ إنّه قد تلخّص ممّا قرّرناه ذهاب الفاضلين المذكورين ومن تبعهما إلى لزوم مراعاة الاحتياط بالإتيان بالفعل مع دوران الأمر بين الوجوب وعدمه. وهذا القول وإن لم يعرف لأحد من الأصحاب بل قد عرفت حكاية جماعة (٢) على عدم

__________________

(١) في الأصل بعد لفظ الإبطال بياض ، وبعض النسخ كتب فيه لفظ الحجج كما في الكتاب.

(٢) في الأصل بعد لفظ جماعة بياض ، وينبغي أن يكون الساقط فيه لفظ «الإجماع». محمّد رحمه‌الله.

٥٥٤

وجوبه إلّا أنّ أهل (١) ذكروا خلافا في وجوب الاحتياط.

وحكى في المعالم عن جماعة القول بوجوبه ، وقضيّة ذلك عدم جواز الاعتماد على أصالة البراءة إلّا أنّه لا يعرف كون القائل المذكور من الأصحاب.

نعم يوجد في كلمات جماعة من الأصحاب التمسّك بطريقة الاحتياط وذلك يومئ إلى ... (٢) مراعاته عندهم ، إلّا أنّ كثيرا من تلك المقامات ممّا ثبت فيه التكليف على سبيل الإجمال ، وهو غير ما نحن بصدده الآن ، والبناء فيه هناك على وجوب الاحتياط غير بعيد كما سيأتي الإشارة إليه.

ولو وجد منهم احتجاج بالاحتياط في غير هذا المقام فيمكن أن يكون ذلك لتشييد المرام لاختلاط الأدلّة بالمؤيّدات في كلماتهم ، أو في مقام المنازعة مع من يقول بوجوبه. وكيف كان فكلماتهم في كتبهم مشحونة بالاحتجاج بأصالة البراءة ، بحيث لا يخفى على من راجع كتبهم ، وحيث إنّ المسألة وإن كانت غنيّة عن التعرّض لبيانها وإطالة الكلام في حجّيتها ، إلّا أنّها لمّا صارت محلّا لمناقشة الجماعة فبالحريّ أن نشير إلى أدلّتها في الجملة.

أمّا الكتاب : فيمكن الاستناد فيه إلى عدّة آيات كقوله تعالى (ما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ)(٣) وقوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(٤) ونحوهما ممّا سيأتي الإشارة إليها وإلى ما فيها من المناقشة عند بيان أصالة الإباحة.

وأمّا السنّة : فأخبار كثيرة دالّة على ذلك :

منها : ما رواه الشيخ في ... (٥) عن ... (٦) أنّه قال : كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نصّ فإنّه يعمّ الأمر والنهي.

__________________

(١) ما اضيف إليه «الأهل» غير مذكور في الأصل ترك موضعه بياضا وكأنّ المراد أهل الاصول. محمّد.

(٢) بياض في الأصل.

(٣) التوبة : ١١٥.

(٤) الطلاق : ٧.

(٥ و ٦) بياض في الأصل.

٥٥٥

ومنها : الحديث المشهور «رفع عن امّتي» وسيأتي الكلام في بيان دلالتها مع سائر الأخبار الدالّة على ... (١) التكليف عن ... (٢) ويشير إليه أيضا ما دلّ على حجّية الاستصحاب ، إذ البراءة القديمة ثابتة من غير شكّ فيستصحب ، وقضيّة ذلك البناء على البراءة حتّى يثبت الشغل ، فيكون ذلك من الأدلّة على الأصل المذكور كما أشرنا إليه.

وأمّا الإجماع : فقد عرفت الإجماعات المحكيّة عليه سيّما من الأخباريّة وهو أيضا ... (٣) من ملاحظة الكتب الاستدلاليّة وجريان الطريقة عليه خلفا بعد سلف من أعصار الأئمّةعليهم‌السلام ، بل الظاهر ثبوته في الصدر الأوّل أيضا ، فإنّ أهل البلاد النائية ما كانوا ... (٤) على لزوم مراعاة الاحتياط في جميع أفعالهم بالمواظبة على جميع ما يحتملون وجوبه إلى أن يأتي نصّ على عدمه ، بل من البيّن أنّهم ما كانوا يحكمون على شيء بحكم إلّا بعد قيام البيّنة عليه ونهوض الحجّة به ، كما لا يخفى على من تأمّل في طريقتهم ، وفي الأخبار المتقدّمة إشارة إليه.

وأمّا العقل : فإنّه إنّما بعث الأنبياء ونصب الأوصياء لتبليغ الأحكام وإرشاد الأنام إلى مسائل الحلال والحرام ، فإذا لم يرد التبليغ بوجوب شيء والتكليف به دلّ ذلك على انتفاء وجوبه ، إذ لو وجب لكان قضيّة الحكمة الباعثة على بعث الرسل تبليغ الحكم فيه. هذا إذا انتفى البيان من أصله. وأمّا إذا انتفى الوصول إليه فقد يتخيّل أنّ الأمر بعكس ذلك ، إذ قضيّة رفع الضرر وجوب الاحتياط فيما يحتمل فيه الوجوب إذا انتفى فيه احتمال المنع كما هو مورد البحث.

ويدفعه : أنّ البناء عليه قاض بلزوم العسر والحرج الشديد الّذي لا يوافق طريقة اللطف سيّما بعد العلم بكون الشريعة سمحة سهلة ، بل قد يؤول الأمر إلى التكليف بغير المقدور ، لتكثّر الاحتمالات ، وترجيح بعضها على بعض ترجيح من غير مرجّح ، فبملاحظة ذلك يقطع العقل بانتفاء التكليف.

ويرد عليه : أنّه لو تمّ ذلك فإنّما يتمّ فيما إذا كانت الاحتمالات كثيرة غير

__________________

(١ ـ ٤) بياض في الأصل.

٥٥٦

محصورة ، وأمّا إذا انحصرت في امور عديدة لا حرج في الإتيان بها فلا. وهذا أمر حاصل في الأغلب ، لقيام الإجماع وغيره من الأدلّة على انتفاء احتمال الوجوب في معظم الأفعال ، وما يحتمل وجوبه ممّا لم يدلّ دليل على انتفاء الوجوب فيه امور عديدة يمكن مراعاة الاحتياط فيها ، فمع الغضّ عن الأدلّة المتقدّمة فينبغي القول بوجوب الاحتياط نظرا إلى حكم العقل.

نعم إذا لوحظ دلالة الشرع على سقوط التكليف حينئذ فلا كلام. وما ذكر من الوجوه في إثبات الإباحة غير جارية في المقام لما عرفت من الفرق.

نعم إن فرض عدم انحصار الأمر في المقام ـ كما قد يتّفق بالنسبة إلى من بعد عن بلدان الإسلام بحيث لا يقدر على تعرّف الأحكام ، وكان بناؤه على مراعاة الاحتياط متعذّرا أو متعسّرا جدّا ، بحيث يقطع العقل بعدم ابتناء الشريعة عليه ـ كان ما ذكر من حكم العقل متّجها. وأمّا في غيره فالقول بإطلاق استقلال العقل بنفي التكليف بعيد جدّا.

وقد ظهر بما قرّرنا ضعف ما ذكره بعض الأفاضل في تقرير الدليل المذكور : من أنّ الأصل الّذي لا زالت عليه الذمّة قبل ثبوت التكاليف هو البراءة ـ إذ لو لم يكن على ذلك لكانت على الشغل ، وهو الحرج العظيم الّذي دلّت على نفيه الآية والرواية. ومتى ثبت الأصل المذكور لم يحتج في التعلّق به إلى حجّة ، لاستمراره كما في أصل الإباحة والطهارة والعدم ، فإنّا لا نحتاج في إجراء هذه الاصول إلى أكثر من إثباتها ـ لاندفاعه بأنّ الأصل المفروض إن ثبت مطلقا تمّ ما ذكروا ، وإلّا فلا يوجب الخروج عن مقتضاه بمجرّد الاحتمال ما لم يقم دليل شرعي على خلافه.

وأمّا إذا كان ثبوته لجهة خاصة كما في المقام إذ لم يكن ثبوته إلّا لمجرّد الحرج والضيق ، لدورانه بين غير المحصور أو ما هو بمنزلته ، كما هو المفروض ، فإنّما يدور ثبوت الأصل المذكور مدار حصوله ، فلا يمكن الحكم بثبوت الأصل المذكور مع زوال الحرج ، بل لابدّ إذن من ملاحظة العقل في تلك الحال.

٥٥٧

وقد عرفت : أنّ قضيّة العقل حينئذ مراعاة الاحتياط ، لقيام احتمال الضرر الباعث على الخوف. وهذا وإن جرى في الصورة المتقدّمة إلّا أنّ اشتماله هناك على الضيق أو الحرج قد قضى بعدم لزومه القاضي بزوال الخوف.

وما قد يقال : من أنّ التكليف فرع العلم وأنّ من المقرّر في الأذهان أن لا تكليف إلّا بعد البيان مدفوع ، بأنّه إن اريد به انتفاء التكليف بالشيء إلّا بعد بيان كونه مأمورا به بحسب الواقع فهو ممنوع ، ودعوى استقلال العقل به بيّنة الفساد. كيف ومن الواضح إيجاب العقل للاجتناب من كثير من المشتبهات. وإن اريد به أنّ التكليف فرع العلم بلزوم الإقدام أو الأولويّة من باب الاحتياط فمسلّم ، والمفروض في المقام ثبوت العلم (١) ، فالمسلّم من بطلان التكليف قبل البيان ما إذا كان المكلّف غافلا بالمرّة ، أو متفطّنا غير عالم بلزوم الإقدام أو المنع عنه في الظاهر ولو من باب الاحتياط ودفع الضرر المخوف ، سواء تعلّق تيقّن بعدم وجوب الإقدام في الواقع لقيام بعض الشبه القاضية به بعد بذل وسعه ، أو لم يعلم وجوب الإقدام في الظاهر ، كما إذا لم يكن المقام مقام الخوف لسقوط الاحتمال في نظر العقل كما في بعض الفروض وإن قارن وجوده في الواقع.

وأمّا مجرّد الجهل بالحكم الواقعي فغير مانع من التكليف ، كما هو ظاهر ممّا قرّرنا.

فتحصّل ممّا ذكرنا ضعف الحكم بكون البراءة عقليّة بعد ورود الشرع أيضا على سبيل الإطلاق ، بل هي عقليّة في بعض الوجوه ، وشرعيّة في بعضها حسب ما مرّ.

هذا ، ثمّ إنّ ما ذكرنا من البناء على أصالة البراءة فيما إذا تعلّق الشكّ بنفس التكليف.

وأمّا إذا تعلّق بخصوصية المكلّف به فلا وجه لجريان الأصل المذكور فيه على كلّ الوجوه.

__________________

(١) والمفروض من أنّ المقام ترك الأصل ، خ ل.

٥٥٨

وتفصيل الكلام : أنّ ما تعلّق التكليف به قد لا يتعيّن عند المجتهد ، فيكون دائرا بين أمرين أو امور عديدة يتعذّر عليه تعيينه بعد بذل وسعه ، وقد يتعيّن المكلّف به عنده إلّا أنّه يتعذّر عليه تفسيره وتعيين حقيقته ، وعلى كلّ منهما فإمّا أن يندرج أحد الوجهين أو الوجوه في الباقي أو لا؟ ثمّ مع تكثّر الوجوه إمّا أن ينحصر الاحتمالات بحيث يمكن اليقين بالامتثال بالجميع أو لا؟

وتوضيح الحال فيها : أنّه إذا دار التكليف بين أمرين غير متداخلين أو امور مختلفة كذلك مع إمكان الإتيان بالجميع قضى ذلك بلزوم الإتيان بها أجمع ، لاقتضاء اليقين بالشغل اليقين بالفراغ ، ولا يحصل بدون التكرار والإتيان بجميع المحتملات ، واحتمال سقوط التكليف بمجرّد ذلك مع كونه خلاف الأصل ممّا لا وجه له ، لإمكان تفريغ الذمّة بما قلناه ، ومع القول ببقاء التكليف لا وجه للترجيح مع انتفاء المرجّح ، ولا التخيير ، فيتعيّن طريق الجمع المحصّل لليقين بالفراغ. وكذا الحال إذا تعيّن المتعلّق لكن طرءه الإجمال ودار بين الأمرين أو امور لذلك (١) وإذا لم يتمكّن من تحصيل اليقين بالفراغ لعدم انحصار الوجوه المحتملة فيما تعلّق به التكليف فالظاهر سقوط التكليف به ، لعدم إمكان الإتيان بالجميع ، والاقتصار على البعض غير مفيد ، فهو بمنزلة الجهل بأصل التكليف ، إذ لا فائدة في معرفته كذلك ، لانتفاء طريق للمكلّف إلى معرفة الواجب ، فالتكليف به من قبيل التكليف بغير المقدور ، والإتيان بما يحتمل كونه الواجب لا يوجب تفريغ الذمّة عنه ، فأصالة البراءة هنا قاضية بسقوط التكليف عنه وإن علم بحصوله في الجملة. وكذا الحال في التكليف بالمجمل إذا دار بين امور كثيرة حسب ما ذكرنا.

وأمّا إذا دار التكليف أو التفسير بين أمرين أو امور متداخلة فهل يؤخذ بالأقلّ وينفى الباقي بالأصل ، أو لابدّ من الإتيان بسائر ما يحتمل جزئيّته أو شرطيّته إن لم يكن هناك احتمال المانعيّة ، وإلّا كرّر العمل مع امكان تحصيل العلم به وجهان.

__________________

(١) كذلك ، خ ل

٥٥٩

وتحقيق الكلام فيها : أنّ الفعل إمّا أن يكون بعض أجزائه منوطا بالباقي بحيث لو نقص شيء منها كان الفعل كعدمه ولم يحصل الامتثال بالقدر الباقي أيضا ، أو لا يكون كذلك ، بل يحصل الامتثال على قدر ما يأتي منه. غاية الأمر عدم حصول الامتثال بالباقي إذا فرض ثبوت التكليف بالزائد. فالكلام هنا في مقامين :

الأوّل فيما إذا لم يكن الصحّة منوطا بالاجتماع ، والظاهر جريان الأصل هنا في نفي الزائد ، سواء كان التكليف من أصله دائرا بين الوجهين أو الوجوه ، أو تعلّق بكلّي معلوم على سبيل الإجمال صادق على جميع مراتبه قد شكّ فيما اشتغلت الذمّة منه ـ كما إذا علم التكليف بأداء الدين ودار بين الأقلّ والأكثر مع صدق اسم الدين على القليل والكثير ـ أو تعلّق بمجمل ودار ذلك المجمل بين الزائد والناقص إمّا للشكّ في وضعه للأقلّ أو الأكثر ، أو لقيام الإجمال في تلك الواقعة ـ كما إذا تلف مالا لزيد فكلّف بأداء القيمة وهي دائرة بين الأقلّ والأكثر مع عدم الاشتراك بينهما في الاسم ـ والوجه في ذلك : أنّ القدر المتيقّن من التكليف في الوجوه المذكورة هو اشتغال الذمة بالأقل والزيادة غير معلومة فينفى بالأصل.

والحاصل : أنّه يدور الأمر في الزائد بين البراءة والشغل فيرجّح جانب البراءة على مقتضى الأصل المذكور.

فإن قلت : إنّه مع العلم بحصول التكليف ودورانه بين الوجهين يدور التكليف بين أمرين وجوديّين ولا اقتضاء للأصل في تعلّقه بشيء منهما.

ألا ترى : أنّه لو دار التكليف بين نوعين وكان أحدهما أقلّ جزء من الآخر لم يصحّ الحكم بالاشتغال به عملا بالأصل.

قلت : ليس المقصود في المقام اقتضاء الأصل تعلّق التكليف بالأقلّ ، لوضوح استواء نسبتهما إلى الأصل ، بل الغرض أنّ التكليف بالأكثر قاض باشتغال الذمّة بالأقلّ من غير عكس ، فالاشتغال بالأقلّ ثابت على الوجهين ، معلوم على التقديرين ، بخلاف الأكثر فينفي بالأصل ويحكم ببراءة الذمة عنه شرعا ، فيرجع الأمر إلى وجوب الأقلّ خاصّة في ظاهر الشرع. وبما قرّرنا يندفع ما قد يقال فيما

٥٦٠