هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

لطلب ترك الطبيعة وقلنا بكون ذلك مستلزما للدوام لزمه الفور قطعا ، وهو ظاهر ، وأمّا إذا قلنا بدلالة صيغة النهي على جواز التراخي ووجوبه كما قد يقال بذهاب شاذّ إليه في الأمر كما مرّ فلا منافاة بينه وبين القول بدلالتها على الدوام ، فإنّها إنّما تفيد الدوام على حسب الطلب الحاصل في المقام ، فإذا كان الطلب على سبيل التراخي جوازا أو وجوبا كان الدوام الملحوظ فيه كذلك أيضا ، سيّما إذا قلنا بكون دلالتها على الدوام على سبيل الالتزام ، فإنّ دلالته على التراخي بحسب الوضع ، فيكون الدوام المعتبر فيه تابعا للطلب الحاصل. فما ذكره من «أنّ القول بدلالتها على الدوام يستلزم القول بالفور» غير ظاهر على إطلاقه.

قوله : (ومن نفى كونه للتكرار) لا يخفى أنّه لا ملازمة بين الأمرين المذكورين. فما ذكره من أنّ النافي للتكرار ناف للفور إن أراد به أنّه يلزمه ذلك ـ حسب ما ذكره في الصورة الاولى ـ فهو واضح الفساد ودعوى وضوح الوجه فيه أوضح فسادا. وإن أراد النافي للتكرار نافيا للفوريّة على سبيل الاتّفاق ، ففيه أيضا أنّه خلاف الواقع. إذ الشيخ رحمه‌الله من النافين لدلالتها على التكرار ويقول بدلالتها على الفور كما ذهب إليه في الأمر ، بل قال في غاية المأمول : إنّ من قال بأنّ النهي للمرّة قال بالفوريّة كما هو ظاهر من كلام بعضهم حيث صرّح بأنّ النهي لا يفيد إلّا الانتهاء في الوقت الّذي يلي وقت النطق بالنهي. انتهى.

* * *

٤١
٤٢

معالم الدين :

أصل

الحقّ امتناع توجّه الأمر والنهي إلى شيء واحد. ولا نعلم في ذلك مخالفا من أصحابنا. ووافقنا عليه كثير ممّن خالفنا. وأجازه قوم. وينبغي تحرير محلّ النزاع أوّلا فنقول :

الوحدة تكون بالجنس وبالشخص. فالأوّل يجوز ذلك فيه ، بأن يؤمر بفرد وينهى عن فرد ، كالسجود لله تعالى ، وللشمس ، والقمر. وربّما منعه مانع ، لكنه شديد الضعف ، شاذّ. والثاني إمّا أن يتّحد فيه الجهة ، أو تتعدّد. فان اتّحدت ، بأن يكون الشيء الواحد من الجهة الواحدة مأمورا به منهيّا عنه ؛ فذلك مستحيل قطعا. وقد يجيزه بعض من جوّز تكليف المحال ـ قبّحهم الله ـ ومنعه بعض المجيزين لذلك ؛ نظرا إلى أنّ هذا ليس تكليفا بالمحال ، بل هو محال في نفسه ؛ لأنّ معناه الحكم بأنّ الفعل يجوز تركه ، ولا يجوز. وإن تعدّدت الجهة، بأن كان للفعل جهتان ، يتوجّه إليه الأمر من إحديهما ، والنهي من الاخرى ، فهو محلّ البحث ؛ وذلك كالصّلاة في الدار المغصوبة ، يؤمر بها من جهة كونها صلاة ، وينهى عنها من حيث كونها غصبا ؛ فمن أحال اجتماعهما أبطلها ، ومن أجازه صحّحها.

٤٣

لنا : أنّ الأمر طلب لايجاد الفعل ، والنهي طلب لعدمه ؛ فالجمع بينهما في أمر واحد ممتنع. وتعدّد الجهة غير مجد مع اتّحاد المتعلّق ؛ إذ الامتناع إنّما ينشأ من لزوم اجتماع المتنافيين في شيء واحد. وذلك لا يندفع إلّا بتعدّد المتعلّق ، بحيث يعدّ في الواقع أمرين ، هذا مأمور به وذلك منهيّ عنه. ومن البيّن أنّ التعدّد بالجهة لا يقتضي ذلك بل الوحدة باقية معه قطعا ؛ فالصلاة في الدار المغصوبة ، وإن تعدّدت فيها جهة الأمر والنهي ، لكن المتعلّق الذي هو الكون متّحد ؛ فلو صحّت ، لكان مأمورا به ـ من حيث انّه أحد الأجزاء المأمور بها للصلاة وجزء الجزء جزء والأمر بالمركّب أمر باجزائه ـ ومنهيّا عنه ، باعتبار أنّه بعينه الكون في الدار المغصوبة ، فيجتمع فيه الأمر والنهي وهو متّحد. وقد بيّنا امتناعه ؛ فتعيّن بطلانها.

احتجّ المخالف بوجهين ، الأوّل : أنّ السيّد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ، ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ، ثمّ خاطه في ذلك المكان ، فانّا نقطع بأنّه مطيع عاص لجهتي الأمر بالخياطة والنهي عن الكون.

الثاني : أنّه لو امتنع الجمع ، لكان باعتبار اتّحاد متعلّق الأمر والنهي ، إذ لا مانع سواه اتّفاقا. واللازم باطل ؛ إذ لا اتّحاد في المتعلّقين. فانّ متعلّق الأمر الصلاة ، ومتعلّق النهي الغصب ، وكلّ منهما يتعقّل انفكاكه عن الآخر ، وقد اختار المكلّف جمعهما ، مع إمكان عدمه. وذلك لا يخرجهما عن حقيقتهما اللتين هما متعلّقا الأمر والنهي ، حتّى لا يبقيا حقيقتين مختلفتين ؛ فيتّحد المتعلّق.

والجواب عن الأوّل : أنّ الظاهر في المثال المذكور إرادة تحصيل خياطة الثوب بأيّ وجه اتّفق. سلّمنا ، لكن المتعلّق فيه مختلف ، فانّ الكون ليس جزء من مفهوم الخياطة ، بخلاف الصلاة. سلّمنا ، لكن نمنع

٤٤

كونه مطيعا والحال هذه. ودعوى حصول القطع بذلك في حيّز المنع ، حيث لا يعلم إرادة الخياطة كيف ما اتّفقت.

وعن الثاني : أنّ مفهوم الغصب ، وإن كان مغايرا لحقيقة الصلاة ، إلّا أنّ الكون الذي هو جزؤها بعض جزئيّاته ؛ إذ هو ممّا يتحقّق به. فاذا أوجد المكلّف الغصب بهذا الكون ، صار متعلّقا للنهي ، ضرورة أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالكلّيّات باعتبار وجودها [في ضمن الأفراد] ، فالفرد الذي يتحقّق به الكلّيّ هو الذي يتعلّق به الحكم حقيقة. وهكذا يقال في جهة الصلاة ، فانّ الكون المأمور به فيها وإن كان كلّيّا ، لكنه إنّما يراد باعتبار الوجود. فمتعلّق الأمر في الحقيقة إنّما هو الفرد الذي يوجد منه ، ولو باعتبار الحصّة التي في ضمنه من الحقيقة الكلّية ، على أبعد الرأيين في وجود الكلّيّ الطبيعيّ.

وكما أنّ الصلاة الكلّيّة تتضمّن كونا كلّيّا ، فكذلك الصلاة الجزئيّة تتضمّن كونا جزئيّا؛ فاذا اختار المكلّف إيجاد كلّيّ الصلاة بالجزئيّ المعيّن منها ، فقد اختار إيجاد كلّيّ الكون بالجزئي المعيّن منه الحاصل في ضمن الصلاة المعيّنة. وذلك يقتضي تعلّق الأمر به. فيجتمع فيه الأمر والنهي ، وهو شيء واحد قطعا ؛

فقوله : «وذلك لا يخرجهما عن حقيقتهما ، الخ» ، إن أراد به خروجهما عن الوصف بالصلاة والغصب ، فمسلّم ، ولا يجديه ؛ إذ لا نزاع في اجتماع الجهتين ، وتحقّق الاعتبارين ؛ وإن أراد أنّهما باقيان على المغايرة والتعدّد بحسب الواقع والحقيقة ، فهو غلط ظاهر ومكابرة محضة ، لا يرتاب فيها ذو مسكة.

وبالجملة فالحكم هنا واضح ، لا يكاد يلتبس على من راجع وجدانه ، ولم يطلق في ميدان الجدال والعصبيّة عنانه.

٤٥

قوله : (الحقّ امتناع توجّه الأمر والنهي ... الخ.)

هذه المسألة أيضا من المسائل المتعلّقة بالأحكام ، ولذا ذكرها هناك جماعة من الأعلام فلا ربط لخصوصيّة الأمر والنهي بمحلّ الكلام ، وإنّما يناط البحث في المقام باجتماع الوجوب والتحريم في شيء واحد ، فترتبط المسألة بمباحث الأوامر والنواهي من جهة كون الوجوب والتحريم مدلولا للأمر والنهي على نحو غيرها من المقامين المتقدّمة ، فالكلام في جواز اجتماع الوجوب والتحريم بأيّ لفظ وردا ، هذا بالنظر إلى الكلام في الجواز العقليّ. وأمّا بالنسبة إلى الفهم العرفيّ الّذي هو أحد المقامين اللذين وقع البحث فيهما فإنّما تقدّم البحث في الظواهر والإطلاقات دون النصوص والتصريحات ، وسيجيء الكلام أيضا في اجتماع سائر الأحكام بعضها مع بعض واجتماع كلّ منها مع كلّ من الوجوب والتحريم ونحن نفصّل القول في جميع ذلك في آخر المسألة إن شاء الله تعالى.

ثمّ نقول : إنّ الأمر والنهي إمّا أن يتعلّقا بشيئين أو بشيء واحد ، وعلى الأوّل فإمّا أن يكونا متباينين أو متساويين أو يكون بينهما عموم وخصوص مطلق مع تعلّق النهي بالأخصّ أو الأعمّ أو عموم من وجه ، وعلى الأوّل فإمّا أن يكونا متلازمين بحسب الوجود أو متفارقين ، أو يكون المأمور به ملازما للمنهيّ عنه أو بالعكس ، وعلى الثاني فإمّا أن يكون تعلّق الأمر والنهي من جهة واحدة أو من جهتين ، والجهتان إمّا أن تكونا تعليليّتين أو تقييديّتين ، أو يكون الجهة المأخوذة في المأمور به تقييديّة والاخرى تعليليّة أو بالعكس ، ثمّ إنّ الجهتين إمّا أن تكونا متباينتين أو متساويتين أو يكون بينهما عموم مطلق أو من وجه ، وعلى فرض التباين يجري فيهما. والتلازم من الجانبين أو من جانب واحد. والتفارق حسب ما مرّ. ثمّ إنّ الوحدة الملحوظة في متعلّق الأمر والنهي إمّا أن تكون شخصيّة أو نوعيّة أو جنسيّة. والوجوب والتحريم المتعلّقتين بالشيء الواحد أو الشيئين إمّا أن يكونا نفسيّين أو غيريّين أو الوجوب نفسيّا والحرمة غيريّا أو بالعكس ، وإمّا أن يكونا أصليّين أو تبعيّين أو الوجوب أصليّا والحرمة تبعيّا أو بالعكس ، وإمّا أن

٤٦

يكونا تعيينيّين أو تخييريّين أو الوجوب عينيّا والحرمة تخييريّا أو بالعكس ، وكذا يجري الكلام بالنسبة إلى العينيّ والكفائيّ.

فهاهنا مسائل :

منها : ما لا إشكال فيه أصلا.

ومنها : ما يقع فيه الإشكال وإن كان خارجا عن محلّ البحث في المقام ونحن نشير إلى الحال في جميع ذلك. فمن الصورة الاولى تعلّق الأمر والنهي بشيئين متباينين متفارقين في الوجود فإنّه لا إشكال في جوازه سواء كانا متعاندين كالصلاة والزنا أو غير متعاندين كالصلاة والنظر إلى الأجنبيّة.

ومنها : أن يتعلّقا بأمر واحد جنسيّ بالنظر إلى قيدين منوّعين له كعبادة الله تعالى وعبادة الصنم وهذا ممّا لا خلاف في جوازه ومرجعه إلى الصورة الاولى.

ومنها : أن يتعلّقا بأمر واحد نوعيّ باعتبار قيدين مصنّفين له أو مشخّصين ولا تأمّل عندنا في جوازه ومرجعه أيضا إلى القسم الأوّل ، إلّا أنّه قد يجيء على قول من يجعل الحسن والقبح ذاتيّين للأفعال غير مختلفين بحسب الاعتبارات المنع من ذلك ، كما سيجيء الإشارة إليه في كلام المصنّف ، وهو قول ضعيف كما فصّل الكلام فيه في محلّه ، وتفريع ذلك عليه غير متّجه أيضا ، كما سنشير إليه إن شاء الله.

ومنها : توجيه الأمرين إلى شيء واحد شخصيّ من جهة واحدة ، ولا إشكال في المنع منه ، كما سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله ، وكذا الحال إلى واحد نوعي أو جنسي من جهة واحدة فإنّ مآله إلى التوجيه إلى الواحد الشخصي.

ومنها : تعلّقهما بشيئين متساويين ولا تأمّل أيضا في المنع منه ، فإنّ ما يجب على المكلّف بحسب الخارج المتعلّق هو إيجاد المأمور به وترك المنهيّ عنه ، والمفروض اتّحادهما بحسب الوجود فيتّحد متعلّق الطلبين مضافا إلى عدم إمكان الخروج عن عهدة التكليفين.

ومنها : أن يكون بين متعلّقهما عموم مطلق مع تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد من جهتين متلازمتين.

٤٧

ومنها : تعلّقهما بشيء واحد شخصي أو نوعي أو جنسي من جهتين متلازمتين وإن كانت الجهتان مميّزتين لمتعلّق الأمر والنهي ، إذ عدم الانفكاك بينهما في الوجود يقضي بامتناع الخروج عن عهدة التكليفين ، فيكون توجيه الخطابين إلى المكلّف من قبيل التكليف بالمحال ، إذ لا فرق في استحالة التكليف بالمحال بين التكليف الواحد والتكاليف العديدة. ومنه يظهر الحال في امتناع تعلّقهما بشيء واحد من جهتين مع ملازمة جهة الأمر لجهة النهي لا لاستحالة الخروج عن عهدة التكليفين ـ كما أشرنا إليه ـ وكذا الحال في تعلّقهما بشيئين متلازمين أو ما يلازم المأمور به منهما للمنهيّ عنه.

ومنها : تعلّقهما بشيء واحد من جهتين تعليليّتين وإن أمكن تفارق الجهتين ، فإنّ تعدّد العلّة لا يقضي باختلاف المتعلّق ، فلا فرق إذن بين الواحد الشخصي وغيره.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من المنع ظاهر بالنسبة إلى الوجوب العيني التعييني سواء كان نفسيّا أو غيريّا أصليّا أو تبعيّا ، نعم لو كان وجوبه مشروطا بحصول الحرام المفروض فيما إذا تعدّد المتعلّق فلا مانع ـ حسب ما مرّت الإشارة إليه ـ.

وأمّا بالنسبة إلى الوجوب التخييري أو الكفائي فقد يقع فيه الإشكال ، سيّما فيما إذا كان الوجوب تبعيّا أو غيريّا أو هما معا خصوصا إذا كان التحريم كذلك أيضا ، والحقّ فيه أيضا المنع ، كما سنفصّل القول فيه إن شاء الله تعالى. وبعض الصور المذكورة هو موضوع البحث في المقام ـ على ما ذكره جماعة من الأعلام ـ وستعرف حقيقة الحال فيه. هذا وبقيّة الوجوه المذكورة ممّا يقع الكلام في جوازها ومنعها. ونحن بعد ما نفصّل القول في المسألة نبيّن الحال في كلّ من الوجوه المذكورة إن شاء الله تعالى.

قوله : (الوحدة قد يكون بالجنس ... الخ.)

المراد بالجنس هنا يعمّ النوع كما هو المتداول بين علماء المنقول ويشير إليه مقابلته بالوحدة الشخصية.

٤٨

قوله : (وربما منعه مانع لكنّه شديد الضعف ... الخ.)

الظاهر أنّه مبنيّ على القول بكون حسن الأفعال وقبحها ذاتيّا لها غير منفكّ عنها ـ حسب ما عزي إلى قدماء المعتزلة ـ لا بحسب الوجوه والاعتبارات ، فاذا ثبت الحسن أو القبح لطبيعة في ضمن بعض الأفراد كان منوطا بنفس الذات ـ أعني الطبيعة النوعيّة ـ فلا يمكن انفكاكه عنها بالعوارض المصنّفة أو المشخّصة ، لأنّ ما بالذات لا يزول بالغير ، ومنه يعرف اختصاص المنع بالوحدة النوعيّة ولا يجري في غيرها ، لكن المبنى المذكور ضعيف جدّ ، فإنّ التحسين والتقبيح العقليّين يدور غالبا مدار الوجوه والاعتبارات ، كما سيجيء الكلام فيه مفصّلا إن شاء الله تعالى ، ومع الغضّ عن ذلك وتسليم كونهما ذاتيّين للأفعال فليس الأمر والنهي دائرا مدار ذلك قطعا ، لوجوب الأمر بأقلّ القبيحين حينئذ عند دوران الأمر بينهما ، فأيّ مانع إذا من أن يكون بعض أصناف الطبيعة المنهيّ عنها مأمورا به؟ فيرتفع النهي بالنسبة إليه لدوران الأمر بين ارتكاب القبح الحاصل فيه وما هو أقبح منه وإن لم نقل حينئذ بانقلاب القبيح حسنا فتأمّل.

قوله : (ومنعه بعض المجيزين لذلك نظرا إلى أنّه ... الخ) يمكن أن يقرّر كونه تكليفا محالا لا تكليفا بالمحال من وجوه :

أحدها : أنّ الوجوب مشتمل على جواز الفعل وعدم جواز الترك والحرمة مشتملة على جواز الترك وعدم جواز الفعل ، وجواز الفعل يناقض عدم جوازه كما أنّ جواز الترك يناقض عدم جوازه ، فجنس الوجوب يناقض فصل الحرمة كما أنّ جنس الحرمة يناقض فصل الوجوب ، فيكونان في اجتماع الحكمين في محلّ واحد من جهة واحدة اجتماع النقيضين من وجهين. ولو لوحظ اجتماع المجموع مع المجموع أعني نفس الحكمين كان من اجتماع الضدّين.

ويدفعه : أنّ مفاد الوجوب ليس إلّا مطلوبية الفعل على سبيل الحتم كما أنّ مفاد الحرمة هو مطلوبية الترك على الوجه المذكور ، ومن البيّن أنّه لا منافاة بين الطلبين من حيث أنفسهما ، واستلزام مطلوبيّة الفعل لجوازه بحسب الواقع

٤٩

ومطلوبيّة الترك كذلك أوّل المسألة ، والقائل بجواز التكليف بالمحال لا يقول به.

ثانيها : أنّ إيجاب الشارع للفعل يفيد حسنه ونهيه عنه يفيد قبحه ، فيلزم من اجتماع الأمر والنهي كذلك اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد من جهة واحدة وهو جمع بين الضدّين.

ويضعفه : أنّه إنّما يتمّ عند العدليّة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين.

وأمّا الأشاعرة المجوّزون للتكليف بالمحال فلا يقولون به ، وليس مفاد الحسن عندهم إلّا ما تعلّق به أمر الشارع والقبيح إلّا ما تعلّق به نهيه ، ولا يتفرّع على أمره ونهيه تعالى حسن عقلي للفعل ولا قبح كذلك ، فإنّه كما ينكر الحسن والقبح العقليّين مع قطع النظر عن أمر الشارع ونهيه كذا ينكرهما بعد تعلّق الأمر والنهي أيضا ، بل ينكر ذلك ولو على فرض تسليمه للأوّل ، حيث إنّه يمنع وجوب شكر المنعم الحقيقي على فرض تسليم الحسن والقبح العقليّين ، فلا يحصل للفعل من تعلّق أمر الشارع به إلّا كونه مأمورا به ولا من تعلّق النهي به سوى كونه منهيّا عنه ، وهو مفاد الحسن والقبح الشرعيّين عنده. ومن البيّن أنّه لا تضادّ بين الأمرين المذكورين بحسب أنفسهما ليلتزم القائل بجواز التكليف بالمحال بالمنع منه.

نعم لا يمكن ذلك عند العدليّة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين.

ثالثها : أنّ اجتماع الأمر والنهي يقتضي اجتماع الضدين بالنظر إلى الآمر فإنّ الآمر مريد للفعل كما أنّ الناهي مريد للترك ، واجتماع الإرادتين بالنسبة إلى شيء واحد في زمان واحد اجتماع للضدّين.

ويدفعه : أنّه إنّما يتمّ إذا قلنا باشتمال الأمر والنهي على إرادة الفعل والترك وليس الحال كذلك عند القائل المذكور ، إذ ليس الأمر والنهي عندهم إلّا نوعين من الطلب ، والطلب عندهم يغاير الإرادة النفسيّة ، إذ ليس الطلب عندهم إلّا نفس الاقتضاء الإنشائي الحاصل بالأمر والنهي دون الإرادة النفسيّة الحاصلة مع قطع النظر عن الأمر والنهي ، وقد مرّ بيان ذلك في مقامات عديدة. هذا على مذهب هؤلاء الجماعة. وقد عرفت أنّ التحقيق عندنا اتّحاد الطلب والإرادة الفعليّة

٥٠

التشريعيّة الحاصلة بإنشاء الصيغة وإثبات التضادّ بين هاتين الإرادتين محلّ نظر ، إلّا على قواعد العدليّة من ثبوت التحسين والتقبيح العقليّين. فظهر ممّا قرّرنا أنّه لا مانع من اجتماع الحكمين المذكورين في شيء واحد من جهة واحدة على قواعد الأشاعرة. فالّذي ينبغي أن يقال به على اصولهم هو الجواز ، فما عزي إلى جماعة منهم من القول بالمنع غير متّجه على اصولهم. وأمّا على اصول العدليّة فلا يجوز ذلك مع قطع النظر عن امتناع التكليف بالمحال عندهم ، لكونه حينئذ تكليفا محالا حسب ما قرّر من الوجهين الأوّلين ، إذ لا مجال للمناقشة فيهما على اصول الجماعة ، نعم لا يتمّ الوجه الآخر على اصولهم أيضا إلّا مع القول باتّحاد الطلب والإرادة النفسيّة ، كما هو ظاهر من كلامهم كما مرّ ، إلّا أنّه موهون بما فصّلنا القول فيه في محلّه.

قوله : (لأنّ معناه الحكم بأنّ الفعل يجوز ... الخ.)

كأنّه إشارة إلى الوجه الأوّل وهو اجتماع الجواز وعدمه في شيء واحد فإنّ حكم الشارع بالجواز وعدمه في شيء واحد يقتضي ثبوتهما بحسب الواقع لعدم جواز الكذب عليه تعالى فيلزم الجمع بين الضدّين.

وأنت خبير : بأنّه بعد تسليم إرجاع الأمر والنهي إلى الحكمين الخبريّين أنّهم لا يثبتون الكذب عليه تعالى بناءا على اصولهم ، فلا يقتضي حكمه بثبوت الضدّين وجودهما بحسب الواقع ليلزم المحال. وقد يقال : إنّ المراد لزوم حكمنا بثبوت الجواز وعدمه يعني أنّ اللازم من اجتماع الأمر والنهي ثبوت المتنافيين ـ حسب ما أشرنا إليه ـ فينطبق على الوجه الأوّل وقد عرفت ما فيه.

قوله : (فهو محلّ البحث في المقام.)

لا يخفى أنّه لا فرق في ذلك بين تعلّقهما بواحد شخصي أو كلّي إذا لم يكن هناك ما يميّز مورد الأمر عن مورد النهي بأن يجعلهما شيئين ، ومرجع ذلك إلى الواحد بالشخص كما مرّت الإشارة إلى نظيره.

ثمّ إنّ المختار عند جماعة من المتأخّرين في تحرير مورد النزاع ـ حسب

٥١

ما يستفاد من الدليل الآتي ـ أنّ البحث في تعلّق الأمر والنهي بكلّيين يكون النسبة بينهما عموما من وجه وأنّ ذلك هل يقتضي تقييد أحدهما بالآخر؟ فيكون المأمور به والمنهيّ عنه غير مورد الاجتماع ، أو أنّه لا حاجة إلى الالتزام بالتقييد؟ بل يؤخذ بمقتضى الإطلاقين غاية الأمر اجتماع المأمور به والمنهيّ عنه في مورد اجتماع الطبيعتين.

وأمّا توارد الأمر والنهي على خصوص الفرد فلا يصحّ ولو تعدّدت جهتا الأمر والنهي، إذ بعد فرض تعلّقهما بخصوص الشخص لا يجدي تعدّد الجهة ، ولذا نصّ بعضهم بابتناء النزاع في المقام على تعلّق الأمر والنهي بالطبائع أو الأفراد فيقال بالجواز على الأوّل ويتعيّن المنع على الثاني.

فعلى هذا يشكل الحال فيما قرّره المصنّف في بيان محلّ النزاع ، إلّا أنّ ما ذكره موجود في كلام جماعة من الاصوليّين منهم العلّامة في النهاية والقاضي عبد الوهّاب في جمع الجوامع والزركشي في شرحه والآمدي والحاجبي والعضدي حيث حرّروا محلّ النزاع على الوجه المذكور ، ويمكن الجمع بين الوجهين وإرجاع أحدهما الى الآخر ، بأن يقال : إنّ المقصود من تعلّق الأمر والنهي بالواحد الشخصي من جهتين هو تعلّق التكليفين المفروضين بالفرد بملاحظة الجهتين الحاصلتين فيه ، فيكون المطلوب بالذات فعلا أو تركا هو نفس الجهتين ، ويكون الفرد مطلوبا كذلك تبعا بملاحظة حصول الجهة المفروضة فيه وانطباقها عليه سراية من الجهة المفروضة إلى الفرد. وهذا بعينه مقصود الجماعة من المتأخّرين من تقرير النزاع في بقاء إطلاق التكليفين عند تعلّقهما بالطبيعتين اللتين بينهما عموم من وجه ، لاجتماع الأمر والنهي حينئذ في الفرد الّذي يكون مصداقا للطبيعتين من الجهتين المفروضتين. فإن شئت قلت : إنّه هل يجوز تعلّق الأمر والنهي بالفرد الواحد من جهة تعلّقه بالجهتين الحاصلتين فيهما ـ أعني الطبيعتين المفروضتين ـ أولا؟ وإن شئت قلت : إنّه لو تعلّق الأمر بالطبيعتين اللتين بينهما عموم من وجه فهل يبقيان على إطلاقهما ليكون المكلّف آتيا بالمأمور به والمنهيّ

٥٢

عنه معا في مورد الاجتماع أولا؟ ويبقى الفرق بين ظاهر التعبيرين المذكورين في امور :

أحدها : أنّ تعبير المصنّف يعمّ ما إذا كان الأمر والنهي متعلّقين بالفرد صريحا أو من جهة تعلّقهما بالطبيعتين بخلاف التعبير الآخر لاختصاصه بالأخير.

ثانيها : أنّ التعبير المذكور يعمّ ما إذا تعلّق الأمر والنهي المعيّنين بالفرد من جهتين حاصلتين فيه ، والظاهر أنّه لا كلام في المنع منه بناءا على امتناع التكليف بالمحال ، ولا بدّ من حمل كلامهم على غير هذه الصورة ، كما هو صريح ما ذكره من أنّ الاجتماع من سوء اختيار المكلّف ، بل الظاهر أنّ مرادهم من تعلّق الأمر والنهي بالفرد تعلّقهما به من جهة الطبيعة سواء قلنا بتعلّق الأوامر حقيقة بالطبائع أو الأفراد ، لا ما إذا فرض تعلّقهما صريحا بخصوص الفرد فلا فرق بين التعبيرين المذكورين في ذلك.

ثالثها : أنّ التعبير المذكور يعمّ ما لو كانت النسبة بين الجهتين العموم المطلق أو من جهة بل التساوي أيضا وما إذا كانت الجهتان متلازمتين أو كانت جهة الأمر ملازمة لجهة النهي أو بالعكس ، ولا ريب في خروج صورة التساوي والتلازم وملازمة جهة الأمر لجهة النهي عن محلّ الكلام ، لوضوح امتناعه بناءا على استحالة التكليف بالمحال ـ كما مرّت الإشارة إليه ـ وأمّا العموم المطلق فالّذي يقتضيه كلام الحاجبي ظاهرا والعضدي والأبهري والزركشي والاصفهاني على ما نقل الكرماني من كلامه في جواب القاضي هو خروجه عن محلّ البحث. والظاهر ممّا نقل عن القطب نسبته إلى الجمهور. وصرّح الفاضل الشيرازي بدخوله في محلّ البحث واعترض على العضدي في قوله بتخصيص الدعوى وهو الظاهر من جمال المحقّقين وغيره. والأظهر خروجه عن محلّ البحث حسب ما ذكره الجماعة المذكورة ـ ويستفاد من فحاوى كلماتهم عند تحرير الأدلّة مضافا إلى أنّ العرف أقوى شاهد هناك على التقييد ، إذ حمل المطلق على المقيّد حينئذ ممّا لا مجال للريب فيه فلا فائدة في البحث عنه في المقام وإن كان ما ذكروه من الوجه

٥٣

العقلي جاريا في العموم المطلق أيضا على بعض الوجوه كما سيجيء الإشارة إليه إن شاء الله تعالى. فالظاهر تنزيل إطلاق المصنّف وغيره على ذلك. ثمّ إنّ ما ذكرناه من جريان الكلام المذكور في العموم المطلق إنّما هو فيما إذا تعلّق الأمر بالأعمّ والنهي بالأخصّ ، وأمّا صورة العكس فلا مجال للكلام فيه حسب ما مرّ.

نعم لو كان الأمر أو النهي حينئذ تخييريّا فربما يقع الكلام فيه وسيجيء الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.

فإن قلت : إذا انحصر الفرد في المحرّم يجيء على ظاهر التعبيرين المذكورين إدراجه في محلّ البحث ، لتعلّق الأمر والنهي بطبيعتين يكون النسبة بينهما هو العموم من وجه ، ومن الظاهر أنّ بقاء التكليفين حينئذ ليس إلّا تكليفا بالمحال.

قلت : قد عرفت خروج الجهتين المتلازمتين عن محلّ النزاع وقد نصّ عليه بعضهم أيضا ، والجهتان المفروضتان وإن أمكن انفكاك إحداهما عن الاخرى في نفسهما إلّا أنّه لا يمكن الانفكاك بينهما بالعارض. ومن البيّن أنّ المخرج عن محلّ البحث هو الأعمّ من الوجهين لاتّحاد العلّة الباعثة عليه.

قوله : (فمن أحال اجتماعهما أبطلها.)

قد يحتمل عدم بطلانها مع استحالة الاجتماع بناءا على كون الغصب أمرا خارجا عن الصلاة غير متّحد معها ، وإنّما هو متّحد مع الكون الّذي هو من مقدّماتها ـ كما قد يستفاد من كلام بعضهم ـ وهو ضعيف جدّا. وقد يحتمل البناء على الصحّة من جهة تغليب جانب الأمر كما حكي القول به عن بعض المحقّقين ، وأيّد ذلك بما ورد من أنّ للناس من الأرض حقّا لأجل الصلاة. وفيه أيضا ضعف كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

قوله : (ومن أجازه صحّحها) لا ملازمة بين الأمرين ، بل القول بالفصل بينهما مختار غير واحد من أفاضل المتأخّرين ، نظرا إلى الإجماعات المحكيّة على بطلان الصلاة في الدار المغصوبة مطلقا ، المعتضدة بظاهر بعض الروايات المأثورة ، وكان بناء الحكم فيها على هذه المسألة حسب ما ذكره كان معروفا

٥٤

منهم ، حيث إنّ الأصحاب حكموا بالبطلان من الجهة المذكورة كما يقتضيه تعليلاتهم حسب ما أشرنا إليه وأكثر العامّة حكموا بالصحّة نظرا إلى بنائهم على الجواز.

قوله : (لنا أنّ الأمر ... الخ.)

أقول يمكن الاحتجاج لما صرنا إليه من المنع بوجوه :

أحدها : أنّ متعلّق الوجوب والتحريم هو إيجاد الفعل وترك إيجاده لا نفس الطبيعة من حيث هي ، والطبيعتان المفروضتان متّحدتان بحسب الوجود في المقام ، فيتّحد متعلّق الوجوب والتحريم ، وحيث إنّ الحكمين المذكورين متضادّان يستحيل اجتماعهما في شيء واحد ويستحيل من الحكيم إنشاءه لهما. والمقدّمة الأخيرة ظاهرة على اصولنا ، غنيّة عن البيان. وإنّما الكلام في المقدّمتين الاوليين أمّا المقدّمة الاولى فيدلّ عليها امور :

منها : أنّ متعلّق الطلب في الأمر هو إيجاد الفعل ومتعلّقه في النهي عدم إيجاده كما عرفت من كون المطلوب بالنهي هو العدم والمضاف إليه للعدم هو الوجود في الحقيقة وإن اضيف إلى نفس الماهيّة في الظاهر.

فإن قلت : إنّ متعلّق الأوامر والنواهي إنّما هو الطبائع المطلقة المأخوذة لا بشرط شيء ـ كما مرّ مرارا ـ حسب ما يظهر من الرجوع إلى التبادر ، ويومئ إليه كون الأفعال مشتقّة من المصادر الخالية عن اللام والتنوين الموضوعة بإزاء الطبيعة المطلقة ـ كما نصّوا عليه ـ والطبيعتان المفروضتان شيئان متغايران.

غاية الأمر إيجاد المكلّف ايّاهما في مصداق واحد وليس خصوص المصداق متعلّقا للتكليف ليلزم اجتماع المتنافيين ، بل محلّ الحكمين نفس الطبيعتين وقد اختار المكلّف بسوء اختياره إيجادهما بوجود واحد وفي ضمن مصداق واحد.

قلت : إنّ متعلّق الأمر والنهي وإن كان نفس الطبيعة المطلقة ـ حسب ما ذكر ـ إلّا أنّ متعلّق الطلب في الأمر هو إيجاد تلك الطبيعة ، كما أنّ متعلّقه في النهي عدم إيجاده ، فمفاد هيئة الأمر هو طلب الإيجاد ، كما أنّ مفاد هيئة النهي بضميمة حرف

٥٥

النهي هو طلب عدم الإيجاد ، ومفاد المادّة المعروضة لهما هو نفس الطبيعة وملاحظة التبادر أقوى شاهد على ذلك. وقد يقال : إنّ معنى الوجود والإيجاد مأخوذ في المصادر ، ألا ترى أنّ ضرب ويضرب يفيد الحكم بإيجاد الضرب في الماضي أو المستقبل. وفيه : أنّ دلالة الجمل على الوجود إنّما هي من جهة اشتمالها على النسبة ، فإنّ مناط النسبة الإيجابيّة هو الوجود ، كما أنّ مناط النسبة السلبيّة هو سلب الوجود ، وتلك النسبة في الإخبارات خبريّة وفي الإنشاءات إنشائيّة حاصلة باستعمال الصيغة في معناها ، ومفاد ذلك في المقام إيجاد الطلب لا إيجاد المطلوب ، فلا دلالة في نفس المبدأ على الوجود ، وإنّما يستفاد كون الطلب متعلّقا بالوجود من جهة الوضع الهيئي ـ حسب ما ذكرنا ـ فكون متعلّق الأمر والنهي نفس الطبيعة المطلقة لا ينافي كون متعلّق الطلب هو الإيجاد وعدم الإيجاد كما هو المدّعى.

ومنها : أنّ الأحكام الشرعيّة من الوجوب والندب والحرمة وغيرها إنّما يتعلّق بالماهيّات مقيسا إلى الوجود الخارجي ، فإنّ الوجوب رجحان إيجاد الماهيّة على عدمه رجحانا مانعا من النقيض ، والحرمة بالعكس وهكذا ، إذ لا يعقل اتّصاف الماهيّة مع قطع النظر عن الوجود بشيء من الأحكام الشرعيّة. فظهر بذلك أنّ متعلّق الرجحان والمرجوحيّة هو الوجود دون نفس الماهيّة.

ومنها : أنّ الوجوب والحرمة وغيرهما من الأحكام الشرعيّة من عوارض الوجود الخارجي لأفعال المكلّفين دون الوجود الذهني ولا نفس الماهيّة ، ضرورة أنّه لا يتّصف بالوجوب وأخواته إلّا فعل المكلّف بحسب الخارج فعلا أو تقديرا ، إذ من الواضح أنّ تصوّر فعله لا يتّصف بالوجوب حتّى يكون من عوارض الماهيّة أو من عوارض الوجود الذهني ، وإذا كانت الأحكام المذكورة من عوارض الوجود الخارجي كان المتّصف بها إمّا نفس الوجود الخارجي أو الماهيّة الموجودة بذلك الوجود ، وعلى التقديرين يتمّ المقصود.

وأمّا المقدّمة الثانية : فلأنّ المفروض اتّحاد الطبيعتين المفروضتين في

٥٦

المصداق وهو لا يكون إلّا مع اتّحادهما في الوجود ، إذ مع تعدّدهما وتميّزهما بحسب الخارج كلّيّا لا تكون النسبة بينهما إلّا تباينا كلّيّا لا عموما من وجه. كما هو المفروض في محلّ البحث.

فإن قلت : كيف يصحّ القول باتّحادهما بحسب الوجود مع أنّ المفروض كون النسبة بين الكلّيّين عموما من وجه وقد تقرّر في محلّه استحالة اتّحاد الكلّيّين المفروضين بحسب الوجود ليؤول الأمر في تركيبهما إلى الوحدة الحقيقيّة ، بل لا يمكن اتّحاد الكلّيّين بحسب الوجود إلّا إذا كان بينهما عموم مطلق ليكون أحدهما جنسا والآخر فصلا ، وأمّا غيرهما فهما متغايران بحسب الوجود عند التحقيق قطعا وإن اتّحدا اتّحادا عرضيّا ويعدّان بحسب العرف واحد ، كما هو المفروض في محلّ البحث ، فإنّ هذا الوجه من الاتّحاد غير مانع من تعدّدها بحسب الواقع ، وهو كاف في تغاير الموضوعين.

قلت : فيه أوّلا : أنّ ما ذكر إنّما يتمّ بالنسبة إلى الماهيّات المتأصّلة في الخارج بحيث يكون ما يحاذيها موجودا في الخارج ، وأمّا الامور الاعتباريّة المنتزعة من الوجود الخارجي ممّا لا يكون الموجود المتأصّل في الخارج إلّا ما ينتزع منها ويكون وجودها الخارجي بوجود ما ينتزع منها فلا نسلّم ذلك ، إذ يمكن اتّحادها في الوجود الخارجي أيضا من جهة اتّحاد وجود ما ينتزع منها ، وحينئذ فيكون ذلك الوجود الواحد واجبا محرّما من الجهتين المفروضتين فيهما.

وثانيا : بعد تسليم تعدّد الأمرين المذكورين خارجا بحسب الواقع وتغايرهما في الوجود فلا شكّ في اتّحادهما أيضا بحسب الواقع من وجه ، ولذا يصحّ حمل أحدهما على الآخر ويكون النسبة بينهما عموما من وجه من تلك الجهة ، فهناك جهة اتّحاد بين الأمرين المذكورين وجهة مغايرة بينهما ، والنسبة بين الكلّيّين المفروضين بالملاحظة الاولى عموم من وجه ، لتصادقهما على مصداق واحد ، وبالاعتبار الثاني مباينة كلّية فإن كان تعلّق الحكمين المذكورين بهما بالملاحظة الثانية فلا مانع منه ، وهو حينئذ خارج عن محلّ النزاع ، إذ ليس حينئذ بين مورد

٥٧

الحكمين عموم من وجه ، بل هي مباينة كلّية ، وإن كان تعلّقهما بالملاحظة الاولى كما هو المفروض في موضع النزاع لم يجر ذلك ، لاتّحادهما إذا في مورد الاجتماع نظرا إلى الوجه المذكور ، ويكون الأمر والنهي متعلّقين بهما من حيث كونهما متّحدين في الوجود ـ حسب ما قرّرنا ـ وسيجيء لهذا مزيد توضيح إن شاء الله تعالى.

ثانيها : أنّ الأحكام الشرعيّة إنّما يتعلّق بالماهيّات من حيث حصولها في ضمن أفرادها فالحكم على الماهيّة حينئذ إنّما يرجع إلى الحكم على أفرادها ، كما نصّوا عليه في تقرير دليل الحكمة لإرجاع المفرد المحلّى باللام إلى العموم ، فصرّحوا بأنّ الطبيعة من حيث هي لا يصحّ أن يراد من المفرد المعرّف إذا تعلّق به أحد الأحكام الشرعيّة ، كيف! ومن المقرّر أنّ القضية الطبيعية غير معتبرة في شيء من العلوم ، إذا المقصود منها معرفة حال ما وجد أو يوجد في الخارج ، ولا يستفاد من القضيّة الطبيعيّة حال الطبيعة في الخارج أصلا ولو على سبيل الجزئيّة، ولذا لم يتوهّم أحد إرجاع القضيّة الطبيعيّة إلى الجزئيّة كما أرجعوا المهملة إليها ، وليس المقصود بذلك تعلّق الأحكام بخصوص الأفراد ابتداءا ، بل المدّعى تعلّق الحكم بنفس الطبيعة من حيث حصولها في ضمن أفرادها ، وهناك فرق بين لحاظ الأفراد ابتداءا وإناطة الحكم بها ـ كما يقول القائل بتعلّق الأوامر بالأفراد ـ وبين إناطة الحكم بالطبيعة من حيث حصولها في ضمن الأفراد ، كما في تعريف الجنس في نحو قولك : البيع حلال ، فإنّ المراد به تعريف الطبيعة على ما هو ظاهر اللفظ. لكن لا من حيث هي بل من حيث حصولها في ضمن الأفراد واتّحادها بها ، وانّما يتعلّق الحكم المذكور بها من تلك الجهة فهو في الحقيقة قضيّة مهملة إلّا أنّه يرجع إلى العموم بملاحظة الحكمة ، وليس المراد بتعريف الجنس في الغالب إلّا ذلك دون ما يكون المراد به تعريف نفس الطبيعة من حيث هي ، كما في القضيّة الطبيعيّة في نحو «الرجل خير من المرأة» فإنّ ذلك لا يفيد إلّا حكم تلك الجهة من غير أن يفيد حكم الأفراد ، إلّا أنّ ذلك غير متداول في المخاطبات العرفيّة أيضا ، بل الملحوظ

٥٨

عندهم في الغالب بيان حكم الأفراد. وسيجيء تفصيل القول في ذلك في محلّه إن شاء الله تعالى.

إذا تمهّد ذلك ، فنقول : إنّ كلّا من الماهيّتين المفروضتين إن تعلّق به الأمر والنهي من حيث حصوله في ضمن جميع الأفراد كما هو ظاهر الإطلاق ، وإن كان تعلّق الأمر به في ضمن أيّ فرد منه على سبيل العموم البدلي والتخييري بين الأفراد وتعلّق النهي به من حيث حصوله في ضمن كلّ منها على سبيل التعيين والعموم الاستغراقي ، أمكن القول بما ذكر من حصول الامتثال من جهة والعصيان من اخرى لو أتى بمورد الاجتماع. إلّا انّه لا مجال للقول به ، لاتّحاد الكلّيّين حينئذ في المصداق ، فيلزم أن يكون ذلك الفرد الواحد مطلوبا فعله وتركه معا وهو جمع بين المتنافيين ، فلابدّ إذا من التزام عدم شمول الأمر أو النهي للفرد المفروض وهو المدّعى. نعم ، لو صحّ القول بثبوت الأحكام لنفس الطبائع من حيث هي حتّى يكون القضايا المستفادة من الشريعة قضايا طبيعيّة لم يكن هناك مانع من اجتماع الطبيعة المطلوبة مع المبغوضة ولم يقض ذلك بارتكاب التقييد في شيء من الجانبين ، ولا يلزم منه اجتماع المتنافيين في الفرد ، لما تقرّر من عدم استفادة حكم الأفراد من القضايا الطبيعيّة أصلا ، فقد يكون حكم الفرد المفروض حكما ثالثا غير كلّ من الحكمين المفروضين ، وقد يثبت له إذا أحد الحكمين دون الآخر ـ كما إذا رجّح الشارع حينئذ جانب التحريم فحكم بحرمة الفرد ـ فإنّه لا ينافي وجوب الطبيعة على الوجه المفروض أصلا ، بل ولا حكمه بوجوب الفرد من حيث حصول الطبيعة المفروضة في ضمنه ، فإنّ ثبوت شيء لشيء من جهة لا يستلزم ثبوته له في الواقع حتّى ينافي ثبوت التحريم له ، ألا ترى أنّ خيريّة طبيعة الرجل من طبيعة المرأة لا ينافي خيريّة كلّ من أفراد المرأة من كلّ من أفراد الرجل؟

غاية الأمر أن يكون كلّ من أفراد الرجل من حيث كونه رجلا خيرا من كلّ من أفراد المرأة من حيث كونه مرأة ، وهو لا يستلزم خيريّته منه بالنظر إلى الواقع ، فالقول باجتماع الأمر والنهي على الوجه المذكور ممّا لا مانع فيه أصلا. إلّا أنّك قد

٥٩

عرفت أنّه لا مجال لتوهّم تعلّق الأحكام الشرعيّة بالطبائع على الوجه المذكور. وربما يستفاد من كلام جماعة من المجيزين للاجتماع توهّم كون المسألة من قبيل المذكور ، وهو بمكان من الضعف. وسيجيء زيادة بيان لذلك إن شاء الله تعالى.

ثالثها : أنّ الأمر إذا تعلّق بطبيعة فإن كانت تلك الطبيعة على إطلاقها متعلّقة للأمر من غير أن يكون تعلّق الأمر بها مقيّدا بقيد قضى ذلك في حكم العقل بوجوب كلّ واحد من أفرادها على سبيل التخيير ، ضرورة انطباق الواجب عليه وأدائها به ، وإذا تعلّق النهي بعبادة على الوجه المذكور قضى بالمنع من كلّ واحد من أفرادها على سبيل الاستغراق أو العموم ـ حسب ما عرفت ـ وحينئذ فنقول : إنّ الأمر والنهي المتعلّقين بالطبيعتين المفروضتين إن قيّد أحدهما بالآخر فهو المدّعى ، إذ لا اجتماع حينئذ ، وإن بقيا على إطلاقهما كما هو مقصود الخصم لزم أن يكون الفرد الّذي يجتمع فيه الطبيعتان واجبا محرّما معا.

غاية الأمر أن يكون وجوبه على سبيل التخيير وتحريمه على وجه التعيين وهما متنافيان.

فإن قلت : إنّ الأمر والنهي إنّما يتعلّقان بالطبيعة دون الأفراد فيكون خصوصيّة الأفراد مقدّمة لأداء الواجب ـ أعني الطبيعة ـ فلا يشملها الأمر المتعلّق بالفعل ، غاية الأمر أن تكون واجبة من باب المقدّمة إن قلنا بوجوبها ، وهو في محلّ المنع ، فلا اجتماع هناك للوجوب والتحريم.

قلت : ولو سلّم ذلك فأقصى الأمر حينئذ اجتماع الوجوب والتحريم في المقدّمة ، فلا مانع ـ كما مرّت الإشارة إليه في كلام المصنّف ـ حيث قال : إنّ الوجوب فيها ليس على حدّ غيرها من الواجبات ... الخ ولو سلّم المنع منه فغاية الأمر أن تكون خصوصيّة الفرد محرّمة محضة لا واجبا ، وهو لا ينافي وجوب أصل الطبيعة كما هو المدّعى ، إذ تحريم المقدّمة يجامع وجوب ذيها مع عدم انحصارها في الحرام كما هو المفروض في المقام ، فغاية الأمر أن تكون المقدّمة المحرّمة مسقطة للواجب كما هو الحال في قطع المسافة إلى الحجّ على الوجه

٦٠