هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

ثانيها : أنّ العقل هل يدرك حسن الأفعال وقبحها من غير إعلام الشارع بهما وبيانه لشيء منهما ، فالأشاعرة المنكرون لأصل الحسن والقبح العقليّين يلزمهم نفي ذلك رأسا ، وأمّا الآخرون فالمعروف بينهم جواز ذلك ، بل وحصوله في بعض المطالب.

وقد أنكر ذلك جماعة منهم المحدّث الاسترابادي حيث ذهب إلى أنّه لا اعتماد على شيء من الإدراكات العقليّة في غير الضروريّات فلا يثبت شيء من الحسن والقبح الواقعيين بإدراك العقل ، وبنى الأمر في ذلك على أنّ الامور المبنيّة على المقدّمات البعيدة عن الإحساس ـ ممّا يكثر فيها وقوع الغلط والالتباس ـ فلا يمكن الركون إلى شيء منها. ومحصّله نفي الإدراك المعتبر ، وأنّ ما يتراءى من إدراكه فليس بإدراك على وجه الحقيقة ليصحّ الاعتماد عليه. وقد تبعه في ذلك الفاضل الجزائري ، وقرّره في غير واحد من كتبه إلّا أنّه نصّ على أنّ ما كان من البديهيات يمكن الاستناد فيه إلى العقل ، وأنّه الحجّة فيه ، وما كان من النظريّات لا يصحّ الاستناد فيه إلى العقل أصلا. وكأنّه أراد بالبديهي ما كان بديهيّا عند أرباب العقول دون ما كان بديهيّا عند المدرك من غير طريق الإحساس وإن كانت المسألة من نظريّات الدين ، كما يظهر ذلك من التأمّل في كلامه وأدلّته ، فيرجع إلى ما ذكره المحدّث المذكور.

وقد نصّ أيضا ـ كالمحدّث المتقدّم ـ بانحصار المدرك في غير ضروريّات الدين بالأخبار المأثورة عن الصادق عليه‌السلام ، وقد تبعهما في المقالة المذكورة صاحب الحدائق إلّا أنّ في كلامه بعض خصوصيّات نشير إليه بعد ذلك. وكيف كان ، فمحصّل كلام هؤلاء ومن تبعهم في ذلك عدم الاعتماد في أمر الدين اصوله وفروعه على الادراكات العقليّة مطلقا ، بل لا اعتماد لهم على شيء من إدراكات العقول في شيء من الأحكام الّتي مبادئها غير محسوسة ولا قريبة من المحسوسة كمسائل الهندسة إلّا ما كان من قبيل البديهيّات الواضحة المتلقّاة بالقبول عند أرباب العقول.

٥٠١

وذهب بعض أفاضل المتأخّرين من علمائنا الاصوليّين إلى التفصيل بين العلم الحاصل للعقل بطريق الضرورة والحاصل بطريق الاكتساب والنظر ، فحكم بصحّة الاعتماد على الأوّل دون الأخير وكان الفرق بينه وبين كلام الجماعة أنّه يقول بالاعتماد على العلم البالغ إلى حدّ الضرورة مطلقا ، سواء كان ممّا تسالم فيها العقول أو كان ضروريّا عند المستدلّ ، وإن نازع غيره في كونه ضروريّا أو في أصل ثبوته ، لتفاوت العقول في قبول العلوم والإدراكات ، وهم لا يقولون بالاعتماد على الضروريّات إلّا في ما اتّفق العقول عليها حسب ما أشرنا إليه.

وسيبيّن ذلك من ملاحظة أدلّتهم الآتية بعون الله تعالى ، وقد ينقل هنا قول آخر أسنده بعضهم إلى بعض المتأخّرين ، وهو التفصيل بين المعارف الدينيّة والأعمال البدنيّة ، فقال بحجّيته في اصول الدين دون الفروع ، فهذه جملة الأقوال في المقام ، والكلام هنا إنّما هو في الإيجاب الجزئي والسلب الكلّي ، إذ لا يعقل ادّعاء الموجبة الكلّية في المقام.

ولا يذهب عليك أنّه بناء على مذهب الأشعري ليس للعقل إدراك شيء من الحسن والقبح الشرعيّين ، لكون الحكم عنده توقيفيّا متوقّفا على توقيفه وبيانه كالأوضاع اللفظيّة ، فليس للعقل فيها مدخليّة.

نعم قد يحصل العلم بها من طريق العادة ويمكن إرجاعه إلى النقل إذ سبيل معرفة العادة النقل (١). وقد يقال بحصول العلم بها على سبيل الإلهام ونحوه ، وهو على فرض تحقّقه لبعض الأشخاص نحو من التوقيف.

ثالثها : أنّه إذا قيل بإدراك العقل الحسن والقبح على نحو ما ثبت في الواقع فهل يثبت بذلك حكم الشرع به كذلك فيكون ما تعلّق به واجبا أو محرّما في الشريعة ـ مثلا ـ على نحو ما أدركه العقل ، أو لا يثبت الحكم الشرعي إلّا بتوقيف الشارع وبيانه فلا وجوب ولا حرمة ولا غيرهما من الأحكام الشرعيّة ، إلّا بعد وروده في الشريعة ، ولا يترتّب ثواب ولا عقاب على فعل شيء ولا تركه إلّا بعد بيانه؟

__________________

(١) في «ط ١» : إذ به دلّ العقل النقل.

٥٠٢

فالمعروف من المذهب هو الأوّل ، بل الظاهر إطباق القائلين بالحسن والقبح عليه عدا شذوذ منهم ، فإنّهم يقولون بالملازمة بين حكم الشرع والعقل فكلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع وبالعكس.

وقد خالف فيه بعض العامّة ، حكاه الزركشي عن جماعة من العامّة واختاره ، قال : وحكاه الحنفيّة عن أبي حنيفة نصّا ، وقد مال إليه صاحب الوافية من أصحابنا ، إلّا أنّه تردّد في المقام. وكيف كان ، فلم يحكم بثبوت الملازمة المذكورة ، واستشكل في الحكم بثبوت الحكم في الشريعة بعد استقلال العقل في الحكم بثبوت حسن الفعل أو قبحه ، وقد تبعه في ذلك السيّد الشارح لكلامه.

وقد ينسب إلى بعض الجماعة المتقدّمة القول بإنكار الملازمة المذكورة وليس كذلك ، بل قد صرّح غير واحد منهم بثبوت الحكم إذا قضى به الضرورة العقلية حسب ما مرّ. نعم قد يومئ إليه بعض أدلّتهم ، وليس صريحا فيه ، فلا وجه للنسبة المذكورة.

وقد ظهر بما قرّرناه أنّه قد وقع الكلام في المرام في مقامات ثلاثة ، إلّا أنّه لمّا كان الخلاف المعروف في المقام هو النزاع مع الأشاعرة ، وكان ذلك هو المعنون في الكتب الكلاميّة والاصوليّة ، وكان أصل نزاعهم في المسألة إنّما هو في المقام الأوّل ، وإنّما منعوا من الثاني لتفرّعه على الأوّل لم يفرّقوا في المقام بين الأمرين ، وجعلوا المسألتين مسألة واحدة ، لما عرفت من اتّحاد المناط في البحث معهم في المقامين ، لكن أدلّتهم المعروفة في الكتب الكلاميّة والاصوليّة إنّما تفيد ثبوت الحسن والقبح في الجملة ، إذ ليس احتجاجاتهم في المسألة إلّا من جهة إدراك العقل لحسن بعض الأفعال وقبحه في الجملة ، وكأنّهم اكتفوا بذلك عن إثبات الكلّية لعدم القول بالفصل كما ادّعاه بعض الأجلّة ويعطيه تتبّع كلماتهم في المسألة أو لأنّه المثمر في الأحكام الشرعيّة.

وأمّا تلك الدعوى ـ مع قطع النظر عن إدراك العقل لخصوص الحكم فيها ـ فلا يظهر لها ثمرة مهمّة. وكيف كان ، فتلك الأدلّة كافية في إبطال ما اختاره الأشاعرة ،

٥٠٣

وإن لم تف بأنفسها بتمام ما ادّعوه في المقام والخلاف في ذلك مع الأشاعرة في الإيجاب الجزئي والسلب الكلّي لينطبق أدلّتهم على تمام المقصود ، ونحن نتكلّم في الخلاف الأوّل على نحو ما ذكروه ، ثمّ نتبعه بالكلام في المقامين الآخرين.

وتفصيل القول في ذلك كلّه في أبحاث ثلاثة :

البحث الأوّل

في التحسين والتقبيح العقليّين

والخلاف فيه كما عرفت إنّما وقع من الأشاعرة ، وجمهور العقلاء اتّفقوا على إثباته.

ولنوضح الكلام برسم مقامات :

المقام الأوّل : في بيان محلّ النزاع في المسألة والإشارة إلى تحديد كلّ من الحسن والقبح عند المعتزلة والأشاعرة.

فنقول : إنّ المذكور للفظي الحسن والقبح في كلماتهم إطلاقات عديدة :

أحدها : كون الشيء كمالا وكونه نقصا كما يقال : إنّ العلم حسن والجهل قبيح ، ولم يذكره العضدي ، واعتذر له غير واحد من المحشّين بأنّ الكلام في ما يتّصف به الأفعال من معاني الحسن والقبح ، وهما بالمعنى المذكور إنّما يتّصف بهما الصفات كما في المثال المذكور ، ولذا نصّ في شرح المواقف : أنّه أمر ثابت للصفات.

وأنت خبير بصحّة اتّصاف الأفعال به أيضا إذا نسب إلى الفاعل ، بل هي من تلك الحيثيّة بمنزلة الصفات ، بل لا يبعد اندراجها فيها ، ألا ترى أنّه يصحّ أن يقال : إنّ طاعة العبد للمولى كمال العبد ، كما أنّ عصيانه له نقص فيه ، وقد احتجّ في المواقف من قبل الأشاعرة على امتناع الكذب عليه تعالى بأنّه نقص ، والنقص ممتنع عليه تعالى.

ثانيها : موافقة المصلحة ومخالفتها ، والمراد ما يعمّ المصلحة الواقعيّة

٥٠٤

والمصلحة الملحوظة بالنسبة إلى جهة خاصّة وإن لم تكن مصلحة له في الواقع ، فالأوّل كما نقول : إنّ طاعة الله سبحانه حسنة أي مشتملة على مصلحة العبد ، ومعصيته قبيحة يعني مشتملة على مفسدة ، والثاني كما تقول : إنّ قتل زيد مصلحة للسلطان أي بالنظر إلى امور سلطنته ، وإن كانت السلطنة وما يؤدّي إليها مفسدة له بحسب الواقع ، وهذا المعنى ممّا يختلف بحسب الاعتبار بالنسبة إلى الأشخاص ، فقد يكون وقوع فعل واحد مصلحة لشخص ومفسدة للآخر ، بل قد يختلف بالنسبة إلى الشخص الواحد كما إذا كان مصلحة له من جهة مفسدة من اخرى.

ثالثها : موافقة الغرض ومخالفتها وجعلها في المواقف وشرح الجديد للتجريد وغيرهما عبارة اخرى للمعنى الثاني ، وهو بعيد للمغايرة الظاهرة بينهما ، ولا داعي إلى التكلّف.

رابعها : ملائمة الطبع ومنافرته ، ذكره الرازي والعميدي ، وقد يتكلّف بإرجاعه أيضا إلى الثاني ولا باعث عليه. نعم قد يرجع هذان الإطلاقان إلى الثاني ، لعدم ثبوت إطلاقهما عليهما بالخصوص ، فيحتمل أن يكون إطلاقهما عليهما لكونهما نحوين من المصلحة والمفسدة.

خامسها : كون الفعل مشتملا على الحرج وخاليا عنه ، ذكره العضدي.

وسادسها : كونه ممّا يمدح فاعله أو يذمّ ، وقد نصّ جماعة بأنّ ذلك هو محلّ الخلاف ويمكن إرجاع الخامس إليه ، إذ المراد بالحرج في المقام هو المنع ، سواء كان من حكم العقل أو الشرع ، وهو يساوق الذمّ ، فيتطابق الحدّان في القبح. فما يوجد في كلام بعض الأعلام من إخراج الحسن والقبح ـ بمعنى ما لا حرج فيه وما فيه الحرج ـ عن محلّ الكلام ممّا لا وجه له ، إذ لا معنى لحكم العقل بعدم كون الفعل سائغا إلّا حكمه بحرمته وترتّب الذمّ عليه ، ومقصود العضدي وغيره ممّن ذكر المعنى المذكور إنّما هو بيان اختلاف معنى الحسن ، إذ لم يلاحظ فيه استحقاق المدح ولا ما يساوقه فيه كما اعتبر في الحدّ الأخير ، ولم يعتبر فيه سوى ارتفاع المنع ، ويجيء نظيره في الحدّ الأخير أيضا إذا اكتفى في صدق الحسن بمجرّد

٥٠٥

ارتفاع الذمّ ، فلا فرق في الحقيقة بين أخذ الحرج وعدمه في الحدّين وأخذ الذمّ وعدمه فيهما كذلك ، وكذلك الحال لو اخذ الثواب والعقاب في ذلك ويجري فيهما ما يجري في الأوّلين.

والحاصل : أنّ المدح والثواب ومطلوبيّة الفعل يساوق بعضها بعضا ، كما أنّ الذمّ والعقاب والحرج متساوقة. فما أورده بعض الأفاضل في المقام : من أنّ ترتّب الثواب والعقاب على الفعل ممّا لا يستقلّ به العقل إذ لا استقلال له في أمر الآخرة بيّن الاندفاع ، إذ ليس المقصود في المقام الحكم بترتّب الثواب والعقاب في الواقع ، بل ليس المقصود إلّا حسن الثواب والعقاب على فرض ورودهما على الفاعل ، وهو لا يتوقّف على الاعتقاد بالمعاد الجسماني أو ضرورة القول به بالنسبة إلى ما يدرك الحال فيه بالضرورة.

وقد ظهر بما قرّرنا أنّ للحسن عندهم تفسيرين.

أحدهما : أنّه ما يترتّب المدح أو ما يساوقه عليه.

والثاني : أنّه ما لا يترتّب الذمّ أو ما يساوقه عليه ، فعلى الأوّل ينحصر الحسن في الواجب والمندوب ، وعلى الثاني يشمل ما عدا الحرام من الأحكام.

وإلى الأوّل ينظر ما حكي عن بعض المعتزلة من تحديد الحسن على طريقتهم بأنّه ما اشتمل على صفة توجب المدح والقبيح بأنّه ما اشتمل على صفة توجب الذمّ ، وما ذكره بعض الأشاعرة في حدّه من أنّه ما أمر الشارع بالثناء على فاعله أو بالذمّ له.

وإلى الثاني ينظر الحدّ الآخر للمعتزلة ، وهو أنّ الحسن هو الّذي لا يكون على صفة تؤثّر في استحقاق الذمّ ، والقبيح هو الّذي يكون على صفة تؤثّر فيه. وكذا الحال في الحدّ المعروف عندهم وهو أنّ الحسن ما للقادر عليه العالم بحاله أن يفعله ، وأن القبيح ما ليس كذلك. ونحوه الحدّ المعروف من الأشاعرة من أنّ القبيح ما نهي عنه شرعا والحسن ما لا يكون متعلّقا للنهي ، وكذا الحدّ الآخر المذكور في كلام بعضهم من أنّ الحسن ما لا حرج فيه والقبيح ما فيه حرج ، والظاهر أنّهما

٥٠٦

معنيان مختلفان للحسن يندرج أحدهما في الآخر ، فليس هناك خلاف في التفسير وإنّما هناك اختلاف بين التفسيرين.

وقد عرفت أنّ أكثر تحديداتهم يوافق الأخير فكأنّه الأعرف في الاستعمال ، وهو الأنسب بالمقام ليعمّ الكلام سائر الأحكام.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من تعاريف الحسن والقبح حدود ستّة : ثلاثة منها للمعتزلة ، وثلاثة للأشاعرة.

وقد اورد على الأوّل بأنّه لا يشمل ما كان حسنه أو قبحه ثابتا لذاته مع قطع النظر عن الصفات الخارجة عنه ، ويرد نحوه على الحدّ الثاني للمعتزلة بالنسبة إلى حدّ القبيح.

ويرد عليه في حدّ الحسن شموله للقبيح الذاتيّ ، إذ ليس فيه صفة تؤثّر في استحقاق الذمّ.

والجواب : أنّ ما ثبت لذات الفعل يمكن اسناده إلى الصفة الذاتيّة أيضا ـ أعني المنتزعة من نفس الذات ـ فيندفع الإيراد عن الحدود المذكورة.

وقد يجاب عنه أيضا : بأنّ الاختلاف الحاصل في حدودهم مبنيّ على ما اختلفوا من كون الحسن والقبح اللاحقين للأفعال حاصلا لهما لذواتهما ، أو للوجوه والاعتبارات على ما سيجيء الكلام فيه ، فالحدّان الأوّلان مبنيّان على الثاني ، والحدّ الثالث على الأوّل.

وأنت خبير بأنّ المناسب للتحديد صحّة الحدّ على جميع الأقوال ليصحّ تعلّق الخلاف بالمحدود. وما ذكر من الجواب اعتراف بفساد الحدّ على بعض تلك الأقوال على ما هو التحقيق هناك من التفصيل ، إذ الظاهر ثبوت الحسن والقبح لبعض الأفعال بالنظر إلى ذاته كما سيجيء الإشارة إليه إن شاء الله ، على أنّ الحدّ الثالث يصحّ على كلّ من الأقوال المذكورة في تلك المسألة ، فلا اختصاص له بالقول الأوّل على ما يظهر ممّا ذكر.

وقد يناقش في الحدود المحكيّة عن الأشاعرة : بأنّ محلّ النزاع في الحسن

٥٠٧

والقبح عندهم كما نصّوا عليه هو كون الفعل بحيث يترتّب المدح أو الذمّ عليه ، فهم لمّا نفوا حكم العقل جعلوا الحسن عبارة عن كون الفعل متعلّق مدح الشارع أو حكمه بنفي الذمّ عليه على اختلاف التفسيرين ، والقبح كونه متعلّق لذمّه من غير حصول استحقاق هناك في حكم العقل قبل ورود الشرع وبعده ، فلا فرق عندهم في ذلك بالنظر إلى العقل بين ما ورد الأمر به في الشريعة والنهي عنه في استحقاق المدح أو الذمّ ، إلّا أنّه ورد مدح المطيعين فصارت الطاعة حسنة وذمّ العاصين فصارت المعصية قبيحة ، ولو انعكس الأمر كان بالعكس.

فظهر بذلك : أنّه لا مدخل في النهي وعدمه في التحسين والتقبيح وكذا غيره ممّا ورد في الحدّين المذكورين. وقد يصحح الحدود المذكورة بالملازمة الاتّفاقية بين الامور المذكورة وتعلّق مدح الشرع أو ذمّه ، فلا مانع من أخذ أيّ منها في الحدّ.

وهو كما ترى ، مضافا إلى أنّه قد يورد على الحدّ الثاني أنّ ما لم يتعلّق به النهي يعمّ الحسن وغيره ممّا لم يتعلّق به حكم الشرع كأفعال المجانين والأطفال ونحوهما ، وكذا حال الأشياء قبل تعلّق حكم الشرع بها على ما ذهبوا إليه من خلوّها إذن عن الحكم فلا يكون حدّ الحسن مانعا.

وقد يورد ذلك على الثالث أيضا ، إذ لا حرج في شيء من الأفعال المذكورة ، وكذا في الأفعال قبل ورود الشرع ، وقد يذبّ عنه بأنّ الظاهر تقابل الحرج وعدمه تقابل العدم والملكة فلا يندرج فيه ما لا يكون قابلا لورود النهي.

وفيه : أوّلا : أنّه يلزم عدم صحّة اتّصاف شيء من أفعاله تعالى بالحسن مع توصيفهم له بذلك.

وثانيا : أنّ الأفعال قبل ورود الشرع قابلة للنهي ، وكذا أفعال الأطفال وغيرهم لجواز تعلّق التكليف بهم على مذهبهم ، ومع الغضّ عن ذلك نقول : إنّهم يجوّزون خلوّ بعض الأفعال عن الحكم ، وحينئذ يندرج ذلك في الحد.

ثمّ إنّ الظاهر من الحدود المذكورة للحسن على التفسير الأخير شموله لأربعة من الأحكام فيختصّ القبيح بالحرام.

٥٠٨

وعن الخنجي الحكم بإدراج المكروه في القبيح فيختصّ الحسن بثلاثة من الأحكام ذكر ذلك في بيان الحدّ المعروف من المعتزلة ، وقد أشرنا إليه.

وفيه أنّ الظاهر من الحدّ المذكور شمول الحسن للمكروه ، إلّا أن يقال : إنّ الظاهر منه ما يكون له فعله من دون غضاضة عليه ، وهو في محلّ المنع.

وعن شارح المنهاج الحكم بإدراج المكروه في القبيح في الحدّ المنسوب إلى الأشاعرة ، وكأنّه لاحظ كون المكروه ممّا نهي عنه عندهم ، وهو كما ترى ، إذ كما أنّه ليس المندوب بمأمور به عند الجمهور وكذا المكروه ليس بمنهيّ عنه عندهم ، ومعه لا يتمّ الكلام المذكور.

نعم إنّما يتمّ ذلك على القول بكون النهي حقيقة في الأعمّ وظاهر الشهيد الثاني في التمهيد عند بيان الحدّ المذكور إدراج المكروه في الحسن ، وهو أوفق بظاهر الحدّ ، هذا.

وقد يورد في المقام : أنّ الظاهر من الحدود المذكورة اختلاف معنى الحسن والقبح عند الفريقين من غير اشتراك بينهما إلّا في التسمية ، إذ المعتزلة يقولون بكون الحسن صفة قائمة بالفعل من شأنها استحقاق المدح عليه عند العقل أو عدم ترتّب الذمّ عليه ، وكون القبح صفة قائمة به من شأنها استحقاق الذمّ عليه ، والأشاعرة يقولون بكون الحسن عبارة عن كون الفعل ممّا مدح الشارع فاعله ، أو حكم بعدم ذمّه ، والقبح كونه ممّا ذمّ عليه من غير حصول استحقاق للمدح أو الذمّ في الصورتين ، ولا حصول صفة باعثة عليه بعد حكم الشرع أو قبله ، فلا جامع ظاهرا بين المعنيين ليكون ذلك المعنى متّفقا عليه عند الفريقين ، ويكون الحسن والقبح عبارة عنه ليقع الخلاف في كونه عقليّا أو شرعيّا ، بل الخلاف بينهم في معنى الحسن والقبح دون وصفهما كما هو ظاهر عنوان البحث.

ويمكن الجواب عنه بأنّ الحسن بالمعنى الّذي وقع فيه الخلاف كون الفعل بحيث يترتّب عليه المدح ، إذ لا يترتّب الذمّ عليه والقبح كونه يترتّب الذمّ عليه ، ولا خلاف بين الفريقين في تفسير الحسن والقبح بالمعنى المذكور ، وإنّما الكلام

٥٠٩

في الحاكم بالمدح والحاكم بالذمّ ، فالعدليّة على أنّ المدح إنّما يترتّب عليه بحكم العقل لصفة قائمة به وكذا الذمّ ، والأشاعرة على أنّه إنّما يترتّب عليه بمجرّد حكم الشارع من غير أن يكون لحكم العقل مدخليّة فيه قبل حكم الشرع أو بعده ، فالمفهوم المذكور هو القدر الجامع بين المعنيين وإن كان القيد المذكور باعثا على اختلاف الأمرين حسب ما ذكر هنا ، والمأخوذ في محلّ النزاع هو القدر المذكور ، وهو كاف في المقام ، ويمكن أن يجعل النزاع في إثبات الحسن والقبح العقليّين ونفيهما ، فيكون تفسير الأشاعرة لهما بما مرّ مبنيّا على مذهبهم بعد بنائهم على نفي العقليّين ، فتأمّل.

المقام الثاني : في بيان حجج العدليّة على ثبوت الحسن والقبح العقليّين وإدراك العقل في الجملة لكلّ من الأمرين ، ولهم في ذلك متمسّكات من العقل والنقل.

أمّا الأوّل فمن وجوه :

أحدها : أنّ حسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان ممّا يشهد بهما في الجملة ضرورة الوجدان ، ولذا يحكم به الفرق المنشعبة من صنوف الإنسان حتّى منكري الشرائع والأديان ، بل ربّما لم يخف الحال في بعض مصاديقه على الصامت من الحيوان ، فإنّ الحكم بحسن الإحسان على بعض المضطرّين ممّن له كمال الحاجة والإنعام عليه بما يحفظ حياته عند الوقوع في الهلكة كقبح فعل من جازاه بعد ذلك بكمال الإساءة وقابل صنعه الجميل على قدر تمكّنه من الإيذاء والإهانة من الضروريّات الأوّليّة والفطريات الجليّة ، بحيث لا يخفى الفرق بين الأمرين في استحقاق المدح والذمّ على أحد من البريّة ، ولا يتوقّف فيه من كان على الغريزة الإنسانيّة.

ألا ترى ان من صادف رجلا منقطعا عن الرفقة وقد بقي منفردا في مهمة قفر في شدة من الحرّ بلا زاد ولا راحلة ولم يعرف طريقا إلى نجاته ولا حيلة وقد غلب عليه حينئذ الحرّ والعطش بحيث لم يبق له قوّة على النهوض والحركة وقد

٥١٠

بقي طريحا على الرمضاء تصهره شمس السماء وانقطع عنه الرجاء بالبقاء وأيقن بالموت والفناء قد غلبه الإغماء ، لما ألفى من التعب والنصب والعناء ، فلمّا وافاه أقبل عليه بكلّه ووضع رأسه في حجره ومسح التراب من وجهه ، وكان أشفق عليه من أبيه وامّه ، وجعل يضع الماء شيئا فشيئا في حلقه وقد أظلله عن الشمس بنفسه إلى أن أفاق من غشوته وتقوّى ممّا كان فيه من شدّة ضعفه فأخذه من ذلك المكان وأتى به إلى منزله ، فمهّد له الموائد ، وسقاه من الزلال البارد ، وأنعم عليه غاية الإنعام ، وأكرمه فوق ما يتوقّع من الإكرام ، وأخدمه أهله وعياله ومن له من الخدّام ، إلى أن زال ما كان فيه من التعب ، وارتفع عنه ما لقي من النصب ، أعطاه زادا وراحلة ودفع إليه سلاحا ليتمكّن من دفع عدوّه ، وتبعه إلى أن أوصله إلى طريقه ، ودلّه إلى ما كان يرومه من مقصده ، ولم يفعل به كلّ ما ذكر من الجميل إلّا لمجرّد دفع الضرر عن المضطرّين من غير أن يقصد به مجازاة أو شيئا آخر.

ثمّ إنّ ذلك الرجل لمّا رأى حينئذ قوّة نفسه وانفراد صاحبه وتمكّنه من قهره كرّ عليه بسلاحه ، وأخذ جميع ما عنده ، ثمّ قابله بأنواع البلاء من الشتم والضرب والجرح والإيذاء إلى أن صرعه على الأرض في أشدّ الحال وأسوأ الأحوال ، ثمّ عاد إلى أهله وعياله فهتك عرضه ، وأخذ من أمواله ما قدر على أخذه ، وأحرق ما لم يقدر عليه ، إلى غير ذلك من أنواع الإضرار والإيذاء والإهانة. كلّ ذلك من غير ضرورة داعية إليه ، أو شدّة حاجة أو اضطرار باعث عليه ، أو عداوة سابقة تدعو إليه ، بل لمحض مقابلة الإحسان بالإساءة ومجازات النعمة بالنقمة ، فأيّ عاقل يحكم بتساوي الفعلين في استحقاق المدح والذمّ وترتّب الثناء واللوم؟! أفيجوز في عقل من العقول الحكم بمساواة الصنيعين وتساوي ذينك الشخصين في ما أتيا به من الفعلين إلى أن يرد الشرع بمدح أحدهما وذمّ الآخر مع تساوي نسبة مدحه وذمّه إلى الأوّل والآخر ، ليكون حسن أحد الفعلين وقبح الآخر بمجرّد مدحه وذمّه من غير ملاحظة شيء آخر غيره ، وهو كما ترى أوضح في البطلان من أن يخفى على ذهن من الأذهان حتّى النسوان والصبيان.

٥١١

وممّا ينادي بضرورة إدراك العقل استحقاق المدح على بعض الأفعال والذمّ على بعضها إطباق العقلاء على المدح على جملة من الأفعال والذمّ على جملة اخرى ، ولذا يحكمون بحسن عقوبة السيّد عبده إذا عصاه ، ويذمّونه على عصيانه مولاه ، ويمدحونه إذا رأوه ممتثلا لأوامره ومنتهيا عمّا نهاه ، ويذمّون المولى لو أذاه بغير ما يستحقّه. ولا زالت العلماء والخطباء في سائر الأعصار والأزمان في جميع الأمصار والبلدان ينهون الناس بمقتضى ضرورة العقل على حسن بعض الأفعال وقبح بعضها وعدم إقدام الفاعل على ترك بعضها وفعل بعضها كحسن طاعة المنعم الحقيقي وقبح معصيته ، سيّما إذا علم بما يترتّب على الأمرين من المثوبات الجزيلة والعقوبات الشنيعة ، فإنّ ضرورة العقل قاضية بحسن الإتيان بالأوّل وقبح الإقدام على الثاني مع قطع النظر عن ملاحظة ما ورد فيه من الشرع.

وممّا ينبّه على ذلك أيضا بأنّه لو خيّر العاقل بين الصدق والكذب مع تساويهما في النفع والضرر وسائر الجهات الخارجيّة لاختار الصدق على الكذب ، وليس ذلك إلّا لحسنه، إذ لا سبب غيره.

وما يتوهّم من عدم استواء الصدق والكذب من جميع الجهات ، ومجرّد فرضه غير نافع مع انتفائه في الواقع ، إذ لا أقلّ من الاختلاف بينهما في المطابقة واللامطابقة ، ومن أنّه لا يستلزم أن يكون إيثار الصدق من جهة حسنه بالمعنى المعروف أو قبح الكذب كذلك ، بل ليس ذلك إلّا من جهة كون الكذب نقصا ، أو لكونه منافرا للطبع بخلاف الصدق ، فلا يفيد ذلك ثبوت الحسن أو القبح بالمعنى المتنازع فيه مدفوع.

أمّا الأوّل ، فلأنّ المفروض استواؤهما في المصالح والمفاسد وسائر الجهات الموافقة للغرض والمخالفة [له] لا في مطلق الصفات ، إذ لا فائدة في اعتباره في المقام ، ومن البيّن إمكان استوائهما في ما فرض في كثير من الأحيان.

وأمّا الثاني ، فلأنّه من البيّن أنّ شيئا من الصدق والكذب من حيث هو لا موافقة فيه للطبع ولا منافرة ، سيّما مع تحقّق ما فرض من المساواة في الآثار ، ولذا

٥١٢

إذا صدر من غير المميّز لم يجد اختلافا بينهما أصلا ، مع أنّ مخالفات الطبع ممّا يدركه غير المميّز في الغالب ، فليست الموافقة والمخالفة في المقام إلّا للعقل ، وهو ملزوم الحسن والقبح العقليّين ، لملائمة العقل للامور المحسّنة وتنفّره من الامور المستقبحة كما هو الشأن بالنسبة إلى سائر الحواسّ بالنسبة إلى ما يلائمها وينفر عنها ، وصفة الكمال والنقص إن ثبت حصولها في الأفعال فليس إلّا من جهة الحسن أو القبح ، إذ ليس الفعل المتّصف بالكمال إلّا ما يمدح فاعله والمتّصف بالنقص ليس إلّا ما يذمّ فاعله.

وقد اعترف به صاحب المواقف حيث أورد على أصحابه المستدلّين على امتناع الكذب عليه تعالى بكونه صفة نقص والنقص عليه محال بالإجماع قائلا : إنّه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي ، فإنّ النقص في الأفعال هو القبح العقلي بعينه فيها ، وإنّما يختلف العبارة. وهو كما ترى بمنزلة اعترافه بالحقّ ، لإقرار أصحابه كما هو مقتضى الضرورة من كون الكذب نقصا ، واعترافه بكون ذلك عين القبح المتنازع.

وقد يورد في المقام تارة : بمنع قيام الضرورة من العقل بحسن شيء أو قبحه ، وما ادّعي من إدراك الحسن والقبح في الامور المذكورة فإنّما هو من جهة الإلف بالشريعة وملاحظة أحكام الشرع والعادة ، لا من مجرّد العقل.

وتارة بالمنع : من كون المدرك هو الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه ، بل قد يكون بأحد المعاني الاخر الخارجة عن محلّ النزاع كموافقة الغرض ومخالفته وصفة الكمال والنقص ونحوهما.

واخرى : بأنّ ذلك لو سلّم فإنّما يفيد ثبوت الحسن والقبح بالنسبة إلى أفعالنا دون أفعاله تعالى ، واستنباط الأحكام الشرعيّة من العقل مبنيّ عليه. وقياس الغائب على الشاهد ممّا لا وجه له سيّما بالنسبة إلى الله تعالى ، مع أنّا نقطع بأنّه تعالى لا يقبح منه تمكين العبد من المعصية ، مع أنّه قبيح منّا.

واندفاع الجميع ظاهر.

٥١٣

أمّا الأوّل : فإنّا نفرض ذلك فيمن لا إلف له بالشريعة والعادة أصلا.

ومن البيّن : أنّه يحكم بعين ما حكمنا ويقطع بمثل ما قطعنا ، أو نقطع النظر عن ملاحظة الشرع والعادة بالمرّة ومع ذلك نجد من أنفسنا إدراك الحكم المذكور كذلك من غير ريبة.

وما قد يتوهّم : من أنّ فرض انتفاء الشيء غير انتفائه في الواقع ، فإذا كان الإلف بالشرع قاضيا بذلك كان ذلك سببا لإدراك العقل وإن فرض العقل انتفاء الشرع أو العرف مدفوع بأنّ العلم الحاصل من الأسباب إنّما يكون بملاحظة العقل ذلك السبب ، وإن فرض العقل انتفاء تلك الأسباب لا يحصل العلم بتلك الأشياء على ذلك التقدير.

ألا ترى أنّه لو قطع النظر عن المقدّمتين لم يحصل للنفس علم بالنتيجة ، وإنّما يحصل لها العلم بها مع ملاحظتها إمّا تفصيلا أو إجمالا ، وكذلك العلم الحاصل من جهة الحواسّ كالإبصار والإسماع ونحوهما ، فلو قطع النظر عن الإحساس وفرض عدمه لم يحكم العقل بشيء منها ، وكذا الحال في الأحكام العاديّة كقبح المشي عريانا في المجالس والأسواق ومجامع الناس ، والأحكام الشرعيّة حتّى ضروريّات الدين والمذهب ـ كوجوب الصلاة والصيام ونحوهما ـ فإنّه لو قطع النظر عن ملاحظة العادة والشرع لم يكن هناك حكم بأحد الطرفين ، مع أنّا نعلم في المقام علما ضروريّا بثبوت الحكم المذكور من دون تفاوت أصلا بين وجود الشرع والعادة وعدمهما.

والحاصل : أنّ العقل إذا قطع النظر عن جميع ما عداه وجد العلم المذكور حاصلا له، وهو دليل على كونه من الفطريّات الأوّليّات ، إذ لو لم يكن كذلك وكان متوقّفا على أحد الأسباب لم يكن حكم العقل به كذلك.

فظهر بما قرّرنا ضعف ما قد يورد في المقام من أنّ الحكم في المقام ضروريّ حاصل من العادة فيتوقّف العلم به على العلم بسببه في الجملة ، لكن لمّا حصل ذلك وشاع ورسخ في النفوس وصار من الواضحات عندها بلغ في الوضوح إلى حيث استغنت النفس عن ملاحظتها فيحكم بها مع غفلتها عن السبب.

٥١٤

ومع الغضّ عنه فإنّ غير الأوّليّات ممّا لا يصل إلى الحدّ المذكور وإن بلغت في الوضوح ما بلغت. نعم قد يحصل الاشتباه في المقام في تجريد النظر عمّا عداه وملاحظة الشيء بنفسه من غير ملاحظة لما سواه ، وهو ممّا يمكن (١) تمييزه بالوجدان الصحيح كما في المقام فتعيّن الحال فيها بنحو ما بيّنا.

ومع الغضّ عن ذلك كلّه نقول : إنّا نقطع أيضا أنّ الشرع والعادة ممّا لا مدخل له في العلم المذكور أصلا ، كيف؟ وليس ذلك بأوضح في الشريعة والعادة من سائر ضروريّات الدين من وجوب الصلاة والزكاة والصوم ونحوها وسائر ما جرت عليه العادات في المأكولات والملبوسات والآداب ، ومع ذلك نجد الفرق البيّن بين الأمرين والاختلاف الواضح بين المقامين ونقطع بانتفاء القطع في ما ذكر مع الغضّ عن الشرع والعادة بخلاف ما ذكرنا ، كما لا يخفى.

وأمّا الثاني : فبأنّ المعلوم عند العقل في المقام على سبيل الضرورة هو خصوص استحقاق المدح والذمّ ، مع أنّ موافقة الغرض ومخالفته ممّا يختلف باختلاف المقامات والأغراض ، والحكم المذكور ممّا لا اختلاف فيه ، ولذا يعترف بحسن أحدهما وقبح الآخر من وافق ذلك أغراضه او خالفها ، وصفة الكمال والنقص إذا لوحظت بالنسبة إلى الأفعال لم يبعد إرجاعها إلى محلّ النزاع كما اعترف به صاحب المواقف كما أشرنا إليه.

وأمّا الثالث : فمع اندفاعه إذن بعدم القول بالفصل فاسد من جهة حصول القطع المذكور بالنسبة إلى الله تعالى أيضا.

ألا ترى أنّه لو عاقب ـ العياذ بالله ـ خاتم الأنبياء عليه آلاف السلام والثناء مع أنّه من أوّل عمره الى آخره كان مشتغلا بطاعته متحمّلا للأذى في جنبه لم يعصه طرفة عين ، ولم يحصل منه سوى الانقياد لربّ العالمين ، حتّى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقع منه مكروه أبدا ولا مباح غالبا فضلا عن الحرام لكان مستقبحا عند العقل مستنكرا في حكمه ، ولذا يقطع العقل بخلافه ولا يحتمل وقوع مثله عن جنابه؟!

__________________

(١) في «ق ٢» : ممّا لا يمكن.

٥١٥

الثاني : أنّه لو لم يثبت التحسين والتقبيح العقليّان لم يقبح من الله شيء من الأفعال ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله ، والملازمة ظاهرة.

وأمّا بطلان التالي فلأنّه لولاه لزم جواز إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فينسدّ باب إثبات النبوّات ، ولا يتمّ معه الحجّة على أحد من البريّات ، وجاز الكذب في جميع أخباره وأخبار رسوله وخلفائه ، فيحتمل أن يكون جميع الواجبات محرّمة وبالعكس ، والمستحبّات مكروهة وبالعكس ، إلى غير ذلك ، فينسدّ الطريق إلى معرفة الأحكام وتميّز الحلال من الحرام ، فيتعطّل الشرائع المنزلة ، وينتفي الفائدة في إنزال الكتب وبعثة الرسل بالمرّة ، ولزم أيضا جواز الخلف في وعده ووعيده وثوابه وعقابه وإن وقع الحكم بها على سبيل البتّ والتحتيم ، فينتفي الوثوق بوعده ووعيده ، وجاز أن يعامل مع المحسن معاملة المسيء ومع المسيء بالعكس ، فيعاقب أطوع عباده بأشدّ العقاب ويثيب أعصى العصاة فوق ما وعده المطيعين من الثواب ، وينتفي حينئذ فائدة الوعد والوعيد والترغيب والترهيب.

وقد اجيب عنه بوجهين : ينحلّ كلّ منهما إلى وجهين :

أحدهما : القول بثبوت الحسن والقبح في أفعاله تعالى بغير المعنى المذكور ، فتارة يؤخذ فيها الحسن بمعنى موافقة المصلحة ومخالفتها فيقال : إنّ إظهار المعجزة في يد الكذّاب مخالف للمصلحة فلا يقع منه تعالى ، وكذا الكلام في الكذب ومخالفة الوعد.

وتارة يقال : إنّ كلّا من المذكورات نقص فلا يمكن في حقّه سبحانه ، وقد نصّ الأشاعرة في الاحتجاج على استحالة الكذب عليه تعالى بأنّه نقص والنقص عليه تعالى محال.

ثانيهما : أنّه لا ملازمة بين جواز وقوع تلك الأفعال من الله تعالى ووقوعه منه ، بل يصحّ أن يقال بإمكان وقوعها منه تعالى مع القطع بعدم الوقوع ، إذ لا منافاة بين العلم بشيء واحتمال خلافه بمقتضى الإمكان.

٥١٦

فتارة نقول بجريان العادة على عدم وقوع الامور المذكورة منه تعالى ، وهي كافية في القطع بعدم الوقوع ، كما أنّا نقطع بعدم انقلاب الجبل ذهبا بعد غيابنا عنه ، مع إمكان انقلابه بالنظر إلى قدرة الله تعالى ، وليس ذلك إلّا من جهة العادة ونقول بمثله في المقام.

وتارة نقول : إنّ الله سبحانه يوجد العلم الضروري عقيب إظهار المعجزة بصدقه في كلّ ما يخبر به من الأحكام والوقائع.

وقد يزاد هناك وجهان آخران بالنسبة إلى استحالة الكذب :

أحدهما : أنّه لو جاز الكذب عليه تعالى لكان صفة له تعالى فتكون قديمة ، وإلّا لزم اتّصافه بالحوادث ، وهو محال ، وإذا كانت قديمة امتنع عليه الصدق ، أمّا الملازمة فلتقابله مع الصدق فيقتضي صدق أحدهما كذب الآخر (١) ، ومن المقرّر أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ، وأمّا بطلان التالي فلقضاء الضرورة بأنّ من علم شيئا يمكن أن يخبر عنه على ما هو عليه.

وثانيهما : وهو الّذي اعتمد عليه في المواقف في استحالة الكذب عليه إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكونه صادقا في كلامه ، وقد علم إخباره به من ضرورة الدين وقد دلّ المعجزة على صدقه في خبره. ولا يذهب عليك أنّ ذلك بعينه هو الوجه المتقدّم من الاستناد في التصديق إلى المعجزة.

ويمكن دفع الجميع أمّا الأوّل : فبما هو بيّن من أنّ مجرّد موافقة المصلحة وعدمها لا يقضي بوجوب الفعل على الله تعالى وامتناعه ، إذ لا يجب عليه الإتيان بالأفعال على وفق المصالح ولا يمنع عليه خلافه ، كما هو مختارهم في ذلك على ما نصّوا عليه ولو قالوا فيه بالوجوب والمنع عادت المسألة إلى محلّ النزاع لرجوعه إذن إلى المدح والذمّ وقد وقع الاحتجاج بالنحو المذكور على استحالة الكذب عليه تعالى في كلام المعتزلة ، وقد صرّح الأشاعرة بإبطالها بمنع المقدّمة المتقدّمة.

__________________

(١) فيقتضي وجود أحدهما عدم الآخر ، خ ل.

٥١٧

وأمّا الثاني : فلإرجاع صفة الكمال والنقص بالنسبة إلى الأفعال إلى الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه حسب ما مرّت الإشارة إليه.

وأمّا الثالث : فبأنّ جريان العادة إنّما يعلم بعد تكرار الفعل كثيرا على نحو واحد حتّى يستقرّ الأمر عليه ويعلم من جهتها بالحال ، فلا يجري ذلك في أوّل الأنبياء ، بل ولا في أحد منهم ، إذ لا يعلم صدقهم إلّا بالمعجزة ، فمن أين يحصل العلم بالصدق حتّى يتحقّق عادة في المقام؟ وكذا الكلام في الكذب ، إذ العلم بجريان العادة إنّما يحصل بعد العلم بعدم كذبه في شيء من إخباراته حتّى يتحقّق العادة المذكورة ، وهو غير معلوم ، لاحتمال أن يكون جميع إخباراته الغائبة عن حواسّنا أو معظمها كذبا ، هذا إن أرادوا بالعلم العادي هو الحاصل من جريان العادة دائما على النحو المخصوص ، وإن اريد به حصول العلم العادي الضروري عقيب ذلك يرجع إلى الجواب الرابع ، وهو الّذي يظهر من كلامهم عند بيان دلالة المعجزة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الكتب الكلاميّة.

وأمّا الرابع : فبأنّ حصول العلم الضروري في المقام بمجرّد الإتيان بالمعجزة ـ كما ادّعوه ـ مخالف لما جرت عليه عادة الله سبحانه في إفاضة العلوم الضروريّة ، إذ هي منحصرة بحسب الاستقراء في ثلاثة : الفطريّات والوجدانيّات وذوات الأسباب من المحسوسات والحدسيّات والتجربيّات ، ولا يندرج ذلك في شيء منها.

ودعوى حصول العلم الضروري في غير المذكورات مخالفة لما جرت عليه العادة. ودعوى حصول العلم الضروري في ما لم تجر العادة في نظائره بحصول العلم غير مسموعة ، كما إذا ادّعى أحد حصول علم ضروري له بتركّب الجسم من الهيولى والصورة أو بحدوث الأفلاك عقيب موت زيد أو تولّد عمرو ونحوهما ممّا لا ارتباط له بحدوث الأفلاك ، فضلا عن دعوى حصوله بعد ذلك بالنسبة إلى سائر الناس ، مضافا إلى أنّه لو بني الأمر على إيجاد العلم الضروري كيف ما كان لما كان هناك حاجة إلى المعجزة ، وجاز إيجاده بمجرّد ادّعائه النبوّة ، فيكون اعتبار ذلك

٥١٨

لغوا ، بل يكون إرسال الرسل وإنزال الكتب أيضا عبث ، للاكتفاء بإيجاد العلم الضروري بالأحكام من دون سبب ومقتض في الجميع كذا ذكره بعضهم في المقام ، وقد أضفنا إليه بعض ما يؤيّد المرام.

قلت : ويمكن دفعه بإدراجه في المحسوسات لا بأن يكون نفسه محسوسا ، بل ما يؤدّى إليه حسّيا ، فإنّه أيضا بمنزلة الإحساس به كالعلم الضروري بالشجاعة والسخاوة ونحوهما من الصفات النفسيّة من الإحساس بآثارها البيّنة ، فإنّ الإحساس بتلك الآثار بمنزلة الإحساس بمبادئها ، وبذلك يندرج العلم الحاصل بها في الضروريّات ، ويكون العلم به من مؤدّي المحسوس.

وحينئذ نقول : إنّ الإحساس بالخارق بعد ادّعائه النبوّة كما يوجب العلم الضروري بحصول الخارق كذا يفيد العلم بصدق المدّعي كما يشاهد ذلك بالنسبة إلى الفطرة السليمة إذا القي عليه المعجزة ، إذ بمجرّد رؤيته صدور المعجزة العظيمة الخارقة للعادة يقطع بصدق ذلك المدّعي في دعواه ، كما يشاهد ذلك في معاشر الأنبياء ، فإنّ من يرى منهم ذلك لا يبقى له مجال للريب في تصديقهم إلّا أن ينكر كون ذلك معجزة بدعوى السحر ، كما هو الحال في الكفّار المشاهدين للمعاجز ، وإلّا فبعد تسليم عدم كونه سحرا لم يكن للكفّار أيضا مجال للتشكيك ، وإنّما كان تلبيسهم على الناس أو على أنفسهم من جهة دعوى كونه سحرا لا معجزة ، كيف؟ ولو لا ذلك لم يقم للأنبياء عليهم‌السلام حجّة بإبداء المعجزة إلّا بعد إثبات الصانع وحكمته وعموم علمه وقدرته حتّى يتمّ لهم دلالة المعجزة على تصديقهم ، وليس الحال كذلك ، بل كان مجرّد إبدائهم المعجزة برهانا لهم على تصديقهم.

ألا ترى إلى قول فرعون لقومه : ما علمت لكم من إله غيري؟! ومع ذلك لم ينقل عن موسى عليه‌السلام المباحثة معه في إثبات المطالب المذكورة وإقامة البرهان عليها ، ولا حكاه سبحانه تعالى في شيء من قصص موسى وفرعون ، بل جعل برهانه العصا واليد البيضاء ، حيث قال له سبحانه : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى

٥١٩

فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ)(١) وبعد ما جاء بهما لم يناقش معه فرعون في إفادة تصديقه إلّا بدعوى كونه سحرا.

والحاصل : أنّ إبداء المعجزة بعد دعوى الرسالة يفيد علما ضروريّا بصدق المدّعي بحيث لا مجال للفطرة السليمة إنكاره ، وبه يثبت وجود الصانع وسائر صفاته الكماليّة ، فلا توقّف لإثبات صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قبح إجراء المعجزة على يد الكاذب حسب ما ذكر في الاستدلال فلا يتمّ الاحتجاج المذكور.

نعم قد يقال بأنّه لابدّ من ارتباط بين إبداء المعجزة وبين صدق صاحبها ليصحّ من جهته الانتقال منها إليه ، والظاهر أنّ ذلك من جهة دلالتها علوّ مرتبة الآتي بها ، وبلوغه إلى أقصى درج الكمال ، فلا يقع منه الكذب لعلوّ منصبه عن ذلك. وحينئذ يكون ذلك أيضا مبنيّا على قاعدة التحسين والتقبيح ، إذ لو كان الصدق والكذب متساويين في ذلك لجاز منه وقوع الأمرين فلا يتمّ الجواب أيضا من دون البناء على القاعدة المذكورة ، فتأمّل.

الثالث : أنّه لو لم يثبت حكم العقل بالتحسين والتقبيح لزم إفحام الأنبياء وانقطاعهم في ما يظهرونه من الدعوى ، والتالي واضح الفساد. بيان الملازمة أنّه لا حسن ولا قبح إذن مع قطع النظر عن حكم الشرع ، فإذا جاءهم النبيّ وادّعى وجوب إطاعته على الامّة فمن البيّن أنّه لا يجب عليهم اتّباعه في أوامره ونواهيه ، وما يخبرهم به من أحكامه تعالى إلّا بعد ثبوت نبوّته.

كيف؟ ولو وجب عليهم ذلك بمحض الادّعاء لوجب طاعة سائر المدّعين للنبوّة ، وهو مخالف للضرورة.

فنقول : إنّه إذا ادّعى النبوّة وأراد إقامة الحجّة بإبداء المعجزة ليجب عليهم اتّباعه ، صحّ للامّة أن يقولوا : لا يجب علينا النظر في معجزتك ليتبيّن لنا صحّة نبوّتك ، إذ وجوب النظر إليها ممّا لا يثبت إلّا بقولك ، وكلّ ما لا يثبت إلّا بقولك لا يقوم حجّة علينا إلّا بعد ثبوت نبوّتك ، وإذا لم يقم حجّة علينا قبل ثبوت نبوّتك

__________________

(١) سورة القصص : ٣٢.

٥٢٠