هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

وقد يضمّ إلى ذلك تلقّيهم لها بالقبول ، ولا يستلزم اشتهار الرواية ندور ما يقابلها ، بل قد يكون ذلك أيضا مشهورا ، وفي مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها دلالة عليه.

وقد يجتمع الشهرتان في بعض الأحيان ، وليست الشهرة في الرواية مقصودة بالبحث في المقام ، بل المبحوث عنه هنا هو الشهرة في الفتوى.

والمشهور بين الأصحاب من قدمائهم ومتأخّريهم ، بل لا خلاف يعرف فيه بينهم ـ إلّا ممّن عبّر عنه الشهيد رحمه‌الله ببعض الأصحاب واستقر به ـ عدم حجّية الشهرة وعدم جواز الاتّكال عليها بمجرّدها في إثبات الأحكام الشرعيّة.

والظاهر عدم حجّيتها عند معظم العامّة أيضا ، ولذا لم يتداول عدّها في عداد الأدلّة الشرعيّة في الكتب الاصوليّة ولا استندوا إليها في إثبات الأحكام في الكتب الاستدلاليّة ، بل لا زالوا يطلبون الدليل على الأحكام المشهورة ويناقشون في أدلّتهم المذكورة.

ومن المثل السائر في الألسنة ـ في مقام عدم الاعتداد بالشهرة ـ «ربّ مشهور لا أصل له».

نعم ربّما استند إليها العلّامة رحمه‌الله في المختلف في بعض المسائل على سبيل الندرة ، وليس ذلك اعتمادا منه على مجرّد الشهرة ، بل لا يبعد أن يكون من قبيل ضمّ المؤيّدات إلى الأدلّة حسب ما هو ديدنه في كتبه الاستدلاليّة. كيف! ولو كان ذلك حجّة لشاع ذلك عنه وأشار إليه في كتبه الاصوليّة وتكثّر استناده إليها في كتبه الاستدلاليّة. وإنّما ظهر الخلاف فيه عن نادر من علمائنا مجهول عبّر عنه الشهيد رحمه‌الله ببعض الأصحاب واستقر به رحمه‌الله لكن لم نجد جريه عليه في كتبه الاستدلاليّة ، فقد لا يكون مقصوده بالاستقراب حكما أو لا يكون مقصود القائل ومقصوده الاستناد إلى مجرّد الشهرة ، بل المراد التمسّك بالقطع بوجود المستند الشرعي من اتّفاق الجماعة ، فيدور الحكم مدار ذلك القطع كما هو أحد الطرق المتقدّمة في الإجماع ، فيكون مقصوده صحّة التمسّك به من جهة حصول ذلك القطع كما يومئ إليه تعليله الأوّل «وإن لم يكن مفيدا للقطع أو الظنّ بالواقع»

٤٤١

ويكون تعليله الثاني تأييدا له من جهة حصول الظنّ منها بمطابقة الواقع ، بناء على عدم حجّية مطلق الظنّ كما هو المقرّر عندنا ، وبذلك يندفع التدافع المتخيّل بين تعليله حسب ما أورده بعض الأجلّة كما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله.

وكيف كان ، فقد حكي اختيار ذلك عن المحقّق الخوانساري وربّما يعزى ذلك إلى المصنّف نظرا إلى كلامه الآتي مع ما ذكره في الدليل الرابع على حجّية أخبار الآحاد ، وهو بعيد عن مذاقه جدّا ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله.

وقد اختار بعض الأفاضل من متأخّري المتأخّرين حجّيتها إذا لم تخل عن حجّة ولو رواية ضعيفة ونحوها ، فصارت الأقوال فيها إذن ثلاثة ، والأقوى الأوّل. ويدل عليه امور :

أحدها : الأصل فإنّ إثبات الحجّية يتوقّف على قيام الدليل عليه ، وحيث لا دليل على صحّة الرجوع إليها والحكم بمقتضاها ـ حسب ما نقرّره من ضعف متمسّك المجيز ـ لم يجز التعويل عليها ، مضافا إلى أنّ النواهي المتعلّقة بالأخذ بالظنون شاملة لها من غير ريب ، فمع عدم قيام دليل على جواز الاتّكال عليها لا يجوز الأخذ بها.

ثانيها : أنّ المعلوم من حال الفقهاء قديما وحديثا اصولا وفروعا عدم الحكم بشيء بمجرّد شهرته بين الأصحاب ، بل لا زالوا يطالبون بأدلّة المشهورات ويتوقّفون عن الحكم حتّى ينهض دليل عليها ، وذلك أمر معلوم من ملاحظة تصانيفهم والتتبّع في مناظراتهم واحتجاجاتهم ، قد استمرّت عليه طريقتهم بحيث لا مجال لإنكاره ، فصار ذلك إجماعا من الكلّ ، كيف ولو كانت الشهرة حجّة عندهم لكان من أبين الحجج وأوضحها وأظهر الأدلّة وأكثرها وأقلّها مؤنة وأسهلها ، وشاع الاحتجاج بها عندهم ، وكانت أكثر دورانا من سائر الحجج مع أنّ الأمر بعكس ذلك ، فإنّا لم نجد أحدا من المتقدّمين والمتأخّرين قد تمسّك بها في مقام الاحتجاج على شيء من المطالب إلّا ما يوجد في بعض كلمات العلّامة رحمه‌الله في شذوذ من المقامات عن التمسّك بها ، وهو من قبيل ضمّ المؤيّد إلى الدليل على

٤٤٢

ما هو طريقته حسب ما أشرنا إليه ، ويدلّ عليه أيضا أنّهم لم يعتدّوا بها في الكتب الاصوليّة ولا ذكروها في عداد الحجج الشرعيّة كما عدّوا الإجماع وغيره من الحجج الوفاقيّة والخلافيّة ، مع أنّه أولى بذلك لكثرة حصولها وسهولة تحصيلها.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا اتّفاقهم من قديم الزمان إلى الآن على المنع من العمل بها والتعويل عليها والرجوع إليها ، فصار ذلك إجماعا من الكلّ.

وقد عرفت أنّ الإجماع من أقوى الحجج الشرعيّة نعم في المطالب الّتي يتسامح في أدلّتها من السنن والآداب لا مانع من الرجوع إليها والأخذ بها ، بل ربّما يؤخذ فيها بفتوى الفقيه الواحد أيضا حسب ما فصّل في محلّه.

ثالثها : أنّها لو كانت حجّة لم تكن حجّة ، لوضوح قيام الشهرة على عدم حجّية الشهرة ، وما يلزم من وجوده عدمه فهو باطل.

وبتقرير آخر : أنّه إمّا أن يقال بعدم حجّية الشهرة مطلقا ، أو بحجّيتها كذلك ، أو بحجّيتها في بعض المقامات دون البعض ، والأوّل هو المدّعى ، والثاني باطل لما فيه من التناقض ، نظرا إلى قيام الشهرة على عدم حجّية الشهرة ، فلو اخذ بمقتضى الشهرة المتعلّقة بالمسائل الفرعيّة لزم ترك الشهرة المتعلّقة بعدم حجّية الشهرة مع أنّها من أقوى الشهرات ، والثالث ترجيح من غير مرجّح ، إذ لا مرجّح بينها حتّى يقال بحجّية بعض الشهرات دون بعضها من دون قيام معارض يقاومها أو يترجّح عليها.

ويرد عليه : أوّلا : منع قيام الشهرة على عدم حجّية الشهرة مطلقا وإنّما المسلّم شهرة القول بعدم حجّية الشهرة إذا خلا عن المستند ، ولو كان ضعيفا كرواية ضعيفة ونحوها.

وأمّا إذا كان مستندا إلى دليل ولو كان رواية ضعيفة فحصول الشهرة بعدم حجّيتها غير واضح ، بل المشهور عندهم خلافه حيث إنّهم يعتمدون على الشهرة المقترنة بالرواية الضعيفة ويحكمون بمقتضاها ، فأقصى الأمر حينئذ عدم حجّية الشهرة المجرّدة الخالية عن المستند لا مطلقا.

٤٤٣

وثانيا : أنّا إنّما نقول بحجّية الشهرة في ما إذا لم يعارضها معارض أقوى على ما هو شأن الحجج الظنّية ، وحينئذ نقول : إنّ الشهرة القائمة على عدم حجّية الشهرة معارضة بالدليل القطعي القائم على حجّية الظنون عند انسداد باب العلم على ما مرّ تقريره.

ومن البيّن أنّ الظنّ لا يقاوم القطع ، ومع الغضّ عنه فهناك أدلة ظنّية قاضية بحجّية الشهرة كما سنشير إليها ، ولا يقاومها الظنّ الحاصل من الشهرة فلابدّ من تركها.

ومن ذلك يظهر ضعف التقرير الثاني فإنّا نقول بحجّية الشهرة مطلقا في ما لم يعارضها معارض أقوى لا مطلقا ، وقد ظهر بذلك أيضا اندفاع الحجّتين الاوليين ، فإنّ الأصل يخالف الدليل.

ومن البيّن أنّ القائل بحجّية الشهرة يتمسّك في ذلك بالدليل حسب ما يأتي بيانه ، والإجماع المدّعى لو سلّم فإنّما يسلّم في الشهرة المجرّدة دون المنضمّة إلى متمسّك ولو كان ضعيفا ، حسب ما أشرنا إليه ، وفي ذلك كلّه نظر سيأتي تفصيل القول فيه إن شاء الله.

حجّة القول بحجّيتها مطلقا أو في ما إذا لم تخل عن مستند أصلا ـ ولو رواية ضعيفة لا يجوز التمسّك بها بنفسها ـ امور :

منها : الوجهان المذكوران في كلام الشهيد رحمه‌الله. والأوّل منهما ضعيف جدّا حسب ما قرّره المصنّف ومرّ الكلام فيه ، إلّا أن يرجع إلى الوجه الثاني. والثاني مبنيّ على قاعدة الظنّ والبناء على حجّيته إلّا ما قام الدليل على خلافه وإن لم ينهض عليه في الاحتجاج ، لوضوح أنّ مجرّد حصول الظنّ أو قوّة الظنّ لا يقضي بجواز الاعتماد عليه ما لم يلاحظ معه أصالة حجّية الظنّ. ويمكن إرجاعه أيضا إلى بعض الوجوه الآتية ، كما سنشير إليه إن شاء الله.

ومنها : قيام الاتّفاق على حجّية جملة من الظنون ممّا هي أضعف من الظنّ الحاصل من الشهرة قطعا ، وهو قاض بحجّية الظنّ الحاصل من الشهرة بالأولى ،

٤٤٤

ألا ترى أنّهم يقولون بحجّية أخبار الآحاد مع أنّ فيها من جهات الوهن ما لا يحصى ، لابتناء الاحتجاج بها على معرفة أحوال رواتها وتعيين الراوي المشترك ، ولا يكون شيء منها غالبا إلّا بإعمال ظنون ضعيفة وأمارات خفيّة ، وكذا الحال في تصحيح دلالتها ومعرفة مفاد الألفاظ الواردة فيها أفرادا وتركيبا ، وكذا الحال في التعارض الحاصل بينها.

والحاصل : أنّ جهات الظنّ فيها سندا ودلالة وعلاجا كثيرة جدّا ، وكثير منها ظنون موهومة في الأغلب لا مناص لهم عن الأخذ بها والظنّ الحاصل من الشهرة أقوى بكثير من كثير منها.

ويرد عليه : أنّ ما ذكره من قبيل القياس بالطريق الأولى ـ المعبّر عنه بالقياس الجليّ ـ وهو من قبيل القياسات العامّة لا حجّة فيه عندنا.

نعم ما كان منه من قبيل مفهوم الموافقة بحيث يندرج في الدلالات اللفظيّة كان خارجا عن القياس وكان حجّة ، وذلك غير حاصل في المقام ، إذ ليس هنا لفظ يدلّ على حجّية ما ذكر من الظنون الموصوفة ليكون التعدّي عنها إلى ذلك مندرجا في مداليل الألفاظ ، أقصى الأمر أن يثبت حجّيتها بالإجماع ونحوه ، فيكون التعدّي عنها من قبيل القياس الجليّ.

وقد يجاب عنه : تارة بأنّ الإجماع ونحوه وإن لم يتضمّنا لفظ الشارع صريحا إلّا أنّهما كاشفان عن قوله ، وليست حجّيتهما عندنا إلّا من جهة الكشف عن قوله ، فهو الحجّة في الحقيقة لا هما ، وحينئذ مآلهما إلى اللفظ ، فإذا كان الأصل المذكور مستفادا من اللفظ كان ما يلزمه أيضا كذلك ، وإن لم يتعيّن ذلك اللفظ عندنا.

واخرى بأنّ المناط في الرجوع إلى الأدلّة الظنّية ، وهو تحصيل الواقع على سبيل الظنّ بعد انسداد سبيل العلم به ، وبعد تنقيح المناط المذكور كما هو ظاهر عند العقل السليم يثبت ذلك في ما نحن فيه بطريق الأولويّة القطعيّة ، لحصول المناط هنا بالنحو الأقوى.

ومنها : الروايات المستفيضة الدالّة عليه الواردة من طرق العامّة والخاصّة ،

٤٤٥

مثل ما رووه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «عليكم بالسواد الأعظم» (١) وقوله : «الحقّ مع الجماعة» وقوله : «يد الله على الجماعة» (٢) إلى غير ذلك ، وفي نهج البلاغة في كلامهعليه‌السلام للخوارج : «والزموا السواد الأعظم ، فإنّ يد الله على الجماعة ، وإيّاكم والفرقة فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان ، كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب» (٣) وما في مقبولة عمر بن حنظلة : «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكاه المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة بيّن رشده ـ إلى أن قال : ـ قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم» (٤) الخبر.

وفي قوله : «ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور» وقول الراوي : «فإن كان الخبران عنكم مشهورين» دلالة على كون المراد من المجمع عليه هو المشهور ، فلا يرد دلالة الرواية على حكم الإجماع دون الشهرة. وما في مرفوعة زرارة قلت : «جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال عليه‌السلام : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر ، فقلت : يا سيّدي إنّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم ... إلى آخره» (٥).

ومنها : أنّ المعروف بينهم بل من المسلّم عند المحقّقين بينهم حجّية الخبر الضعيف المنضمّ إلى الشهرة.

ومن البيّن عدم حجّية الخبر الضعيف ، فلو كانت الشهرة أيضا كذلك لم يصحّ الحكم المذكور ، لظهور أنّ انضمام غير الحجّة إلى مثله لا يجعل غير الحجّة حجّة كانضمام أحد الخبرين الضعيفين إلى الآخر ، فتعيّن أن يكون الشهرة هي الحجّة حتّى يكون انضمامها إلى الخبر قاضيا بالحجّية.

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ج ٢ ص ١٣٠٣ ح ٣٩٥٠.

(٢) مجمع الزوائد : ج ٥ ص ٢١٨. وفيه : على الجماعة ، كما في المتن.

(٣) نهج البلاغة : ١٨٤ ، رقم الخطبة «١٢٧» ، صبحي الصالح وفيه : مع الجماعة.

(٤) وسائل الشيعة : ج ١٨ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ص ٧٥ ح ١.

(٥) البحار : ج ٢ ص ٢٤٥ ح ٥٧.

٤٤٦

ومن هنا استشكل صاحب المدارك وبنوه (١) في حجّية الخبر المنجبر بالشهرة لزعمه عدم حجّية الشهرة أيضا ، فمن أين يجيء الحجّية بعد انضمام أحدهما بالآخر؟ لكنّه بعد ملاحظة الطريقة الجارية بين العلماء قديما وحديثا مقطوع الفساد ، كما سيجيء بيانه في بحث أخبار الآحاد إن شاء الله ، ولو لا البناء على ما ذكرناه من حجّية الشهرة لكان ما ذكره متينا متّجها ، فلا محيص بعد ذلك عدا الاعتراف بعدم حجّية الرواية المنجبرة بالشهرة ، وهو يستلزم باختلال كثير من الأحكام الشرعيّة ، وهذه من الثمرة العظمى في القول بحجّية الشهرة كما هو واضح لمن تدبّرها. فهذه الوجوه دالّة على حجّية الشهرة مطلقا وإذا ضمّ إليها قيام الشهرة على عدم حجّية الشهرة المعرّاة عن المستند بالمرّة ولو رواية ضعيفة قضى ذلك بخروج الشهرة المفروضة عن مقتضى دلالة الأدلّة المذكورة ، إمّا لقيام الشهرة على فرض حجّيتها كما هو مقتضى الأدلّة المذكورة حجّة شرعيّة على عدم حجّية ذلك النوع من الشهرة وهي أجلى منها ، فيؤخذ بمقتضاها ، أو لأنّها لو كانت حجّة مطلقا لما كانت حجّة كذلك ، نظرا إلى حصول الشهرة المذكورة على نحو ما مرّ بيانه على أنّ الوجه الأخير لا يفيد إلّا حجّية الشهرة المنضمّة إلى المستند ، ولو كان خبرا ضعيفا دون الشهرة المجرّدة ، إذ لا عمل عليها في المشهور.

فظهر بما قرّرنا أدلّة القولين المذكورين والكلّ ضعيف.

أمّا الأوّل : فبما مرّ بيانه في كلام المصنّف ويأتي تتمّة الكلام فيه أيضا إن شاء الله.

وأمّا الثاني : فبما عرفت تفصيله من عدم صحّة ما ادّعوه من أصالة حجّية الظنّ وعدم نهوض ما استنهضوه من الأدلّة عليها.

وأمّا الثالث : فبأنّ ما ذكر من دعوى الأولويّة في المقام أوهن شيء. ودعوى كونها مندرجة في الدلالة اللفظيّة بناء على كشف الاتّفاق المذكور عن لفظ دالّ على الحكم فيكون من مفهوم الموافقة مقطوع الفساد كما يشهد به صريح العرف

__________________

(١) كذا في النسخ ، ولعلّه كناية عمّن تبعه.

٤٤٧

بعد عرض الواقع عليه ، على انّ دعوى كشف الإجماع عن لفظ دالّ عليه محلّ منع. وإنّما يكشف الإجماع عن رأي المعصوم ، والطريق إلى معرفته غير منحصر في اللفظ حتّى يستعلم من الإجماع على شيء صدور لفظ دالّ عليه.

ودعوى تنقيح المناط في حجّية الظنون فيقطع معه بالأولويّة ممنوعة ، إذ لم يقم عندنا دليل من عقل أو نقل على كون الاحتجاج بالوجوه الظنّية مبنيّا على إفادة المظنّة وحدها ، منوطا بها وجودا وعدما من دون مدخليّة التعبّد في ذلك ، ومع قيام الاحتمال المذكور لا تصحّ الدعوى المذكورة ، كيف؟ وقيام الدليل على عدم حجّية عدّة من الظنّيات ـ ممّا قد يكون الظنّ الحاصل منها أقوى جدّا من الظنون المعتبرة ـ أقوى شاهد على خلافه ، ولو تمّت تلك الدعوى لما كان هناك حاجة إلى ملاحظة الأولويّة.

وأمّا الرابع : فبأن الأخبار العامية ممّا لا حجّية فيها مع أنّها ليست بتلك المكانة من الظهور ، وقد تداول عند العامّة الاستناد إليها في حجّية الإجماع فيمكن أن يكون ذلك هو المقصود منها فقد فسّرت الجماعة في بعض الروايات بأهل الحقّ وإن قلّوا ، فلا يوافق المدّعى.

ويمكن أن يحمل على ذلك أيضا ما في رواية النهج ، وقد يقال : إنّ الظاهر منها الاتّفاق في ما عدا الأحكام الشرعيّة فإنّ قوله عليه‌السلام : «فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب يفيد أنّ تفرّد الإنسان في الأمر مظنّة لاستيلاء الشيطان كما أنّ تفرّد الشاة مظنّة لاستيلاء الذئب ، إذ لو كان باطلا لكان عين استيلاء الشيطان لا أنّه مظنّة لحصوله بعد ذلك من جهة التفرّد ، وقد يكون ذلك هو المقصود من الروايات العامّية المتقدّمة. وما في المقبولة والمرفوعة مع الغضّ عن إسنادهما لا دلالة فيهما على المدّعى ، فإنّ في الاولى هو الأخذ بالخبر المجمع عليه كما هو صريح الرواية ، فلا دلالة فيها على حكم الفتوى المشهورة ولو سلّم كون المراد من المجمع عليه هو المشهور بقرينة ما بعده ، وكذا الحال في الثانية ، فإنّ الموصول في قوله «خذ بما اشتهر بين أصحابك» للعهد كما هو ظاهر العبارة ،

٤٤٨

بل صريحها بعد عرضها على العرف ، فلا يعمّ غيره حتّى يقال : إنّ العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المورد ، سواء كانت الشهرة المذكورة فيهما شهرة في الرواية أو الفتوى أو أعمّ منهما.

وقد يقال : إنّ التعليل المذكور في المقبولة من قوله عليه‌السلام «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» بعد بيان كون المراد بالمجمع عليه هو المشهور ، أو ما يعمّه يفيد شمول الحكم لشهرة الفتوى أيضا ولو كانت خالية عن الرواية ، وفيه أيضا إشارة إلى أنّ الباعث على نفي الريب إنّما هو الشهرة ، فلو كانت الرواية المنضمّة إليها ضعيفة لكانت الشهرة حجّة دون الرواية.

وفيه : أوّلا : أنّ كون المراد بالمجمع عليه هو المشهور أو ما يعمّه غير ظاهر ، فإنّ الإجماع هو الاتّفاق دون مجرّد الشهرة وأمره أوّلا بأخذه بالخبر المجمع عليه بين أصحابه وتركه للشاذّ الّذي ليس بمشهور عندهم لا يفيد ذلك ، إذ الاتّفاق على أحد الخبرين لا ينافي روايتهم للاخرى أيضا.

غاية الأمر أن يكون الرواية حينئذ شاذّة غير مشهور عندهم كما هو المفروض في الخبر، وقوله عليه‌السلام بعد ذلك : «وإنّما الامور ثلاثة بيّن رشده ...» يفيد كون الأخذ بالمجمع عليه بيّن الرشد وهو يشير إلى كون المراد بالإجماع الاتّفاق المفيد للقطع دون مجرّد الشهرة الباعثة على الظنّ.

وثانيا : أنّ المقصود في الخبر المذكور بيان ما يترجّح به أحد الخبرين المتعارضين على الآخر ، فلا يبعد أن يكون المراد من قوله : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» هو الخبر المجمع عليه ليكون اللام للعهد ، بل لا يستفاد من سياق الخبر ما يزيد على ذلك. ومجرّد احتمال إرادة العموم بحيث يفيد نفي الريب من الفتوى المشهورة غير كاف في مقام الاستدلال. ودعوى ظهورها في ذلك غير مسموعة مع عدم إقامة شاهد عليه ، بل مع عدم انفهامه منه بعد عرض العبارة على العرف.

وأمّا الروايات العامّية فلا حجّة فيها مع إمكان المناقشة في دلالتها ، لعدم

٤٤٩

وضوح دلالتها ، وقد احتجّوا بها على حجّية الإجماع ، فيمكن أن يكون المراد بها المنع من مخالفة الإجماع.

وقد فسّرت الجماعة في بعض الروايات بأهل الحقّ وإن قلّوا ، ويمكن أن يحمل على ذلك ما في رواية النهج.

وقد يستظهر ورودها في ما عدا الأحكام الشرعيّة ، فإنّ مفاد قوله عليه‌السلام : «فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب» أنّ تفرد الإنسان مظنّة لاستيلاء الشيطان كما تفرّد الغنم مظنّة لاستيلاء الذئب ، وهذا ممّا لا ربط له بكون ما ذهب إليه الجمهور حقّا ، وكون مخالفة المشهور باطلا ، وقد يحمل عليه الأخبار العامّية ، ويشير إليه ذكره عليه‌السلام لبعض تلك الألفاظ المرويّة.

وأمّا الخامس : فبأنّ ما يدلّ عليه عباراتهم هو حجّية الخبر المنجبر بالشهرة دون الشهرة المنضمّة إلى الخبر ، كيف! والأوّل هو الّذي لهجت به ألسنتهم وجرت عليه عملهم ، والثاني ما لم يتفوّه به أحد منهم ، ولم يوجد في شيء من كلماتهم سوى شاذّ منهم ممّن مرت الإشارة إليه ، ومع ذلك لم نر الجري عليه في مقام الاحتجاج من أحد منهم ولو كان المناط في ذلك حجّية الشهرة عندهم لاشتهر منهم كما اشتهر ذلك.

وما يقال : من جهة القول بالتفصيل من أنّ الحجّة في الحقيقة إنّما هي نفس الشهرة لا الرواية ، وإنّما ذكرت الرواية حجّة واسندت إليها الحجّية مسامحة تعويلا على الوضوح من الخارج ، والمقصود من ذكر الرواية حقيقة إنّما هو جعلها طريقة ووسيلة إلى التخلّص من الشهرة المانعة عن حجّية الشهرة لعدم قيامها عليها لاختصاصها بالشهرة المجرّدة ، وإلّا فليس الرواية هي الحجّة ، بل إنّما الحجّة هي الشهرة كما ترى ، بل ذلك ممّا يقطع بفساده بعد التأمّل في كلماتهم وتعبيراتهم ، كيف؟ ولو أرادوا ذلك لعبّروا عنه في بعض الأحيان على الوجه المذكور ولم يتّجه التزامهم للتعبير بذلك الوجه الموهم لخلاف مقصودهم ، بل الصريح فيه.

ومع الغضّ عن ذلك فلو كانت الشهرة هي الحجّة عندهم فأيّ مانع من حجّيتها

٤٥٠

مع عدم علمنا بمصادفتها للخبر الضعيف ، بل وعدم مصادفتها له واقعا ، فإنّه إذا كان المناط والملاك في الحجّية هو نفس الشهرة دون غيرها لزم صحّة الاعتماد عليها مهما حصل، وإن لم ينضمّ الرواية إليها ، كيف؟ ومن الواضح أنّ عدم انضمام غير الحجّة إلى الحجّة لا يوجب سقوط الحجّة عن الحجّية ، ففي ما حكموا به من عدم حجّية الشهرة الخالية عن الخبر أقوى شهادة على عدم كون الشهرة حينئذ هي الحجّة عندهم.

فإن قلت : إنّ ذلك بعينه جار في الخبر أيضا فإنّهم لا يقولون بحجّية الخبر الضعيف في نفسه كالشهرة الخالية عن الخبر.

قلت : غاية ما يلزم من ذلك أن يكون الحجّة حينئذ هو مجموع الأمرين المنضمّين من دون أن يقال بحجّية كلّ منهما منفردا ولا مانع من التزامه. وما اورد عليه من أنّ انضمام غير الحجّة إلى مثله لا يجعل غير الحجّة حجّة أوهن شيء ، إذ من البيّن تقوية كلّ منهما بالآخر، فلا مانع من بلوغها بعد الانضمام إلى درجة الحجّية إذا قام الدليل عليه كذلك حسب ما فرض في المقام ، فلا داعي إذن إلى التزام كون الحجّة هي الشهرة ، ويشير إليه أنّه قد ينتهي الأمر في انضمام الظنون بعضها إلى البعض إلى الوصول إلى حدّ القطع ، فيكون حجّة قطعا كما ترى في الخبر المتواتر ، لحصول القطع هناك من تراكم الظنون الحاصل من الآحاد مع عدم بلوغ شيء من آحاده إلى درجة الحجّية مع ضعف راويه ، فأيّ مانع منه في المقام؟

ومع الغضّ عن ذلك أيضا فنقول : إنّ الحجّة عند أصحابنا هو الخبر الموثوق به المظنون الصحّة والصدور عن المعصوم. وإثبات حجّيته يتوقّف على قيام الدليل عليه ، وقد بيّن في محلّه والشهرة المفروضة من أسباب الوثوق والاعتماد فهي محقّقة للموضوع المفروض من غير أن يكون هي بنفسها حجّة شرعيّة ، ولا يثبت بها إذن حكم شرعي حتّى يتوقّف على قيام الدليل على حجّيته في الشرع ، بل الحاصل به حكم عادي ، أعني الاعتماد والوثوق بصدق الخبر. ولا يتّجه القول بعكس ذلك بأن يجعل الخبر محقّقا لموضوع ما هو الحجّة من الشهرة حسب ما قد

٤٥١

يتخيّل في المقام ، إذ ذاك ـ مع عدم مساعدة شيء من عبائرهم له ، بل صراحتها في خلافه ـ ممّا يأبى عنه الطبع السليم ، بل الاعتبار الصحيح شاهد على أنّ وجدان الرواية الضعيفة لا مدخل له في كون الشهرة مثبتة للحكم موصلة إلى الواقع ، فإنّ الظنّ الحاصل منها يتحقّق في الصورتين كما يشهد به الوجدان ، وانضمام الخبر إليها لا يوجب مزيد وثوق بها لو لم يوجب وهنا ، إذ مع عدم الاستناد إلى الرواية الضعيفة يحتمل قويّا وجود مستند واضح لهم ، حتّى أنّه اعتمد الجمهور عليه. ومع استنادهم إلى الرواية الضعيفة يظهر كون ذلك هو المستند، فيضعف الظنّ المذكور وإن أمكن الذبّ عنه بأنّ ضعف الرواية عندنا لا يستلزم ضعفها في الواقع ، فيستكشف من الشهرة المفروضة كونها معتبرة قابلة للتعويل والاعتماد ، إلّا أنّ ذلك لا يقتضي ترجيح الظنّ الحاصل منها في هذه الصورة على الظنّ الحاصل منها في الصورة الاخرى.

أقصى الأمر مساواة هذه الصورة للاخرى إن لم يرجّح الاخرى عليها ، وبناء الأمر في التفصيل بين الوجهين في الحجّية وعدمها على التعبّد المحض بعيد جدّا ، بل ممّا لا وجه له أصلا.

وقد يجاب أيضا عن الإيراد المتقدّم عن صاحب المدارك ليدفع به الاحتجاج المذكور بأنّا نختار كون الحجّة هي الرواية المنجبرة بالشهرة ، نظرا إلى استفادته من آية النبأ ، لظهورها في جواز الاتّكال على خبر الفاسق بعد التبيّن ، فإنّ الله سبحانه لم يأمر بطرح الرواية الضعيفة ، بل أمر فيها بالتثبّت واستظهار الصدق ، فإن ظهر عمل بها ، وإلّا طرحت. ولا ريب أنّ الشهرة ممّا يحصل التثبّت بها ويستظهر صدق الخبر معها.

وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّه مبنيّ على تعميم التبيّن بها للتبيّن الظنّي ، وهو منظور فيه ، إذ ليس معناه لغة إلّا انكشاف حقيقة الخبر وصدقه ، ولا يحصل ذلك إلّا بكونه محصّلا للعلم به ، والأصل بقاء هذا المعنى إلى أن يظهر من أهل العرف خلافه بحيث يفهم شموله للظنّ الحاصل من نحو الشهرة ، بل الظاهر منهم خلافه

٤٥٢

والموافقة لمفهوم اللغة ، وعندي فيه تأمّل سيجيء تفصيل القول فيه في بحث الأخبار إن شاء الله.

ثمّ إنّه ذكر الفاضل المذكور أنّا لو سلّمنا تعميم التبيّن للظنّ أيضا حتّى يشمل التبيّن الحاصل بالشهرة كانت الآية الشريفة ظاهرة في حجّية الشهرة بنفسها مطلقا ، سواء كانت هناك رواية ، أو لا. فيكون ذلك إذن دليلا آخر على حجّيتها. تقريره : ظهور الآية حينئذ في أنّ الاعتماد في الحكم بمضمون الخبر في الحقيقة إنّما هو على التبيّن دون الخبر ، فليس رخصة العمل بالخبر بعد التبيّن إلّا من حيث كونه الكاشف عن صدقه ، والدليل عليه ، فتكون الشهرة هي الحجّة على إثبات مضمونه ، وذلك قاض بحجّية الشهرة مطلقا ولو خلت عن الرواية ، إذ المفروض أنّها المناط في العمل ، وأنّها المبيّن للواقع والكاشف عن الحقّ. والاعتبار القاطع شاهد على أنّ الرواية لا مدخل لها في وصف كون الشهرة مبيّنة ولا في رخصة العمل بها بعد حصول البيان من جهتها ، وذلك لأنّ الرواية الضعيفة بنفسها لا محصّل لها إلّا التردّد بين احتمالي الصدق والكذب ، ولو ترجّح الأوّل رجحانا ضعيفا فهو غير معتبر في نظر الشارع ، إذ وجود ذلك الرجحان كعدمه ، واحتمال صدقها وكذبها متساويان في حكم الشارع ، فإذا صلحت الشهرة أن تكون دليلا على صحّة أحد الجانبين والحكم بأحد الاحتمالين صحّ كونها دليلا على تعيين أحد الاحتمالين القائمين ، كذلك في كلّ مسألة سواء كانت هناك رواية أو لا ، لما عرفت من أنّ الدليل الباعث على تعيين أحد الاحتمالين إنّما هو الشهرة دون الخبر ، لكون الاحتمالين على حالهما قبل ورود الخبر وبعده ، فدلّت الآية الشريفة حينئذ على حجّية الشهرة دون الخبر المنجبر بها.

قلت : لو تمّ ما ذكره لكانت الآية الشريفة دليلا على حجّية الظنّ مطلقا من غير اختصاص لها بالشهرة ، لكنّك بعد التأمّل في ما قرّرناه خبير بضعفه ، فإنّ حصول الظنّ بصدق الخبر والوثوق به غير حصول الظنّ بالحكم ابتداء من غير أن يكون هناك خبر يوثق به. وما يستفاد من الآية الشريفة بناء على ما ذكر هو حجّية الخبر

٤٥٣

الموثوق به وإن كان الموثوق به من جهة الشهرة. ولا يفيد ذلك جواز الاتّكال على الشهرة من حيث كشفها عن الواقع ودلالتها عليه ، بل إنّما يدلّ على الاتّكال عليها من حيث كونها محقّقة لموضوع الدليل ـ أعني الخبر الموثوق به ـ ولا إشعار في ذلك بحجّية الشهرة في إثبات الأحكام الشرعيّة أصلا ، فكون الخبر الضعيف مع قطع النظر عن الشهرة المفروضة محتملا للأمرين من غير أن ينهض حجّة لإثبات أحد الجانبين لا ينافي كونه حجّة بعد انضمام الشهرة إليه ، من جهة حصول الوثوق به بعد انضمامها إليه. ولا يستدعي ذلك كون الشهرة بنفسها حجّة مع قطع النظر عن الخبر المفروض. ويشهد بذلك ملاحظة القرائن المنضمّة إلى المجاز القاضية بحصول الظنّ بالصرف أو تعيين خصوص المراد من بين المعاني المجازيّة ، فإنّه يصحّ الاتّكال عليها قطعا في فهم المراد وإثبات الحكم الشرعي من جهتها ، مع أنّه لو قامت تلك القرينة على ثبوت الحكم من غير حصول لفظ في المقام لم يكن حجّة مع جريان الكلام المذكور فيه بعينه.

والحاصل : أنّ في المقام أمرين :

أحدهما : كون الشهرة قاضية بالوثوق بالخبر وقوّة الظنّ بصدقه.

وثانيهما : كون الخبر الموثوق به والمعتمد عليه بحسب العادة حجّة في الشريعة ، ولا ريب أنّ الأوّل لا يتوقّف على قيام دليل شرعي عليه ، فإنّ الوثوق والاعتماد على الخبر أمر وجداني حاصل من ملاحظة القرائن والأمارات ، كما أنّه لا ريب في توقّف الثاني على قيام الدليل الشرعي عليه ، لكونه حكما شرعيّا متوقّفا على دليله. وحينئذ نقول : إنّ الوثوق والاعتماد العرفي حاصل بالخبر المنجبر بالشهرة قطعا كما يشهد به الوجدان من غير حاجة إلى قيام الدليل عليه شرعا. وأمّا كونه حينئذ حجّة فلظاهر الآية الشريفة بعد حملها على الوجه المذكور ، فما استفاده من الآية بناء على حملها على ما ذكر لا وجه له أصلا ، فإنّ الشهرة إذن شرط في قبول الخبر ـ لا أنّها هي المثبتة للحكم ـ نظير عدالة الراوي من غير فرق وإن كانت الشهرة مع قطع النظر عن إفادتها الوثوق بالخبر مفيدة

٤٥٤

للظنّ بثبوت الحكم ، إلّا أنّ تلك الحيثيّة غير معتبرة ، ولا دلالة في ما ذكر من الوجه على الاعتماد عليه من تلك الجهة أصلا ، أنّ غاية ما يدلّ عليه هو الاعتماد على الخبر من جهة الوثوق به نظرا إلى اعتضاده بالشهرة فيقوم الشهرة مقام عدالة الراوي في إفادة الوثوق بالخبر. والفرق بين الوجهين ظاهر لا يخفى ، ومقصود المستدلّ حجّيتها من الجهة الثانية ، وهو محلّ منع كما بيّنا ، إذ لا ملازمة بين الأمرين ، بل لا إشعار في ما يدلّ على حجّية الثاني شرعا على كون الحجّة في الحقيقة هي الجهة الباعثة على الوثوق استقلالا من دون اعتبار لكون الوثوق حاصلا بالخبر وكون الحكم مستفادا منه.

ودعوى ذلك في المقام مجازفة بيّنة. فتحصّل ممّا فصّلناه أنّ الحجّة هي الرواية المنضمّة إلى الشهرة ، نظرا إلى حصول الوثوق بها من جهة انضمامها إليها ، كما تدلّ عليه الآية الشريفة ويفيده صريح كلماتهم حسب ما قرّرنا ، لا أن يكون الحجّة مجموع الأمرين ، ولا ما رامه المستدلّ من عكسه بأن تكون الشهرة بنفسها حجّة لكن مع انضمامها إلى الرواية ونحوها ، على أنّ الاحتمال كاف في مقام دفع الاستدلال. وعدم حجّية الرواية الضعيفة في نفسها مع عدم انضمامها لا يدفعه ، كما أنّه لا يدفع الاستناد إليها عند المفصّل عدم حجّية الشهرة بنفسها مع عدم انضمام الخبر إليها.

فظهر بما قرّرنا ضعف القولين المذكورين ، لاشتراكهما في الدليل ويزيد القول الثاني ضعفا أنّ ما ذكر تكملة لبيان التفصيل ـ من خروج الشهرة المجرّدة عن المستند عن مقتضى الأدلّة المذكورة ، نظرا إلى قيام الشهرة على عدم حجّيتها إلى آخر ما ذكر ـ غير متّجه.

أمّا أوّلا فلما قرّره المستدلّ المذكور وغيره من المعتمدين على القاعدة المذكورة بكون المخرج عنها هو الدليل القاطع القاضي بعدم حجّية بعض الظنون الخاصّة كظنّ القياس ، إذ مجرّد الدليل الظنّي لا يقاوم الدليل القاطع المذكور حتّى يكون مخرجا عنه.

٤٥٥

وما ذكره من الوجه الآخر «من أنّها لو كانت حجّة لما كانت حجّة» مدفوع أيضا بأنّ الشهرة من الأدلّة الظنّية ، فمجرّد قيام الشهرة على عدم حجّية الشهرة الخالية عن المستند لا يقضي بعدم حجّية الشهرة ، فإنّه إنّما يتمّ ذلك إذا لم يعارض الشهرة المذكورة دليل أقوى.

ومن البيّن أنّ الدليل العقلي المذكور على فرض صحّته دليل قطعي فلا يقاومه الشهرة المدّعاة ، فهذه الشهرة من حيث الحجّية مستندة إلى الدليل المذكور متوقّفة عليه ، لكنّها بحسب المفاد معارضة له لدلالتها على عدم حجّية الظنّ المفروض فيسقط أيضا عن الحجّية، إذ ليس مفاد ذلك الدليل إلّا الأخذ بأقوى الظنون ، فلا يفيد ترك العلمي بالظنّي.

ولي في ذلك نظر يعرف وجهه ممّا قرّرناه سابقا في الإيراد على الدليل العقلي المذكور من أنّ قيام الدليل الظنّي على عدم حجّية بعض الظنون كاف في إخراجه عن القاعدة المذكورة ، لكن المستدلّ لا يقول بذلك.

ومن الغريب أنّ الفاضل المذكور مع إبائه عن ذلك كما أشار إليه في طيّ تقريره لذلك الدليل التزم به في المقام.

وأمّا ثانيا فلأنّ الشهرة كما قامت على عدم حجّية الشهرة المعرّاة عن المستند كذا قامت على عدم حجّية غيرها ، إذ لم ير منهم من عدّها من الأدلّة ولو في الجملة ، أو استند إليها في المسائل الشرعيّة أو ذكرها في عداد الأدلّة الشرعيّة في الكتب الاصوليّة ، حتّى أنّهم لم يفردوا له عنوانا في كتب الاصول ولا أشاروا فيه إلى وفاق أو خلاف.

نعم أشار إليه شذوذ منهم كما عرفت وهم لم يفرّقوا بين الصورتين.

ثمّ إنّه قد تردّد الفاضل المفصّل في بعض ما نمي إليه رحمه‌الله من المسائل في التفصيل المذكور ، ومال إلى اختيار حجّيتها على الإطلاق قال : ويختلج كثيرا بالبال وإن لم أطمئنّ به في الحال حجّية الشهرة مطلقا ، ولو خلت عن الرواية أصلا ، وذلك أنّ المانع الحاجز عن حجّيتها ليس إلّا الشهرة ، وحجّيتها إنّما يكون لو

٤٥٦

لم يظهر دليلها وأمّا لو ظهر وظهر في النظر ضعفها فليس بحجّة ظاهرة ، وهذه الشهرة الحاجزة قد ظهر لنا دليلها من كلماتهم فبين من احتجّ منهم على عدم حجّيتها بمثل ما ذكره صاحب المعالم ـ وقد ظهر لك ما فيه ـ وبين من اعتذر منهم بأنّه ربّ مشهور لا أصل له، ويرجع حاصله إلى تخلّف الشهرة عن الصواب في بعض الأحيان ، وهذا أضعف من سابقه ، وإلّا لخرج جميع الأدلّة الشرعيّة الظنّية عن الحجّية.

وأنت خبير بما فيه ، فإنّه إنّما يتمّ لو علم انحصار دليل المشهور في الوجه الفاسد ، فإنّ حكم الجمهور بصحّة الفاسد لا يوجب ظنّا بصحّته بعد ظهور فساده ، وأمّا في ما عدا ذلك فلا.

وتوضيح المقام : أنّ متمسّكهم في الحكم إمّا أن يكون معلوما لنا أو مجهولا ، وعلى الأوّل فإمّا أن نعلم انحصاره في ما نعلم أو يحتمل وجود متمسّك آخر لهم أيضا ، وعلى التقديرين فإمّا أن يكون الدليل المنقول إلينا صحيحا عندنا أو ضعيفا ، ومع ضعفه فإمّا أن يكون معلوم الفساد بالنظر إلى الواقع أو يكون فاسدا بالنسبة إلينا ، وإن احتملنا صحّته واقعا كالخبر الضعيف ، لاحتمال صحّته في الواقع وإن لم يجز لنا التمسّك به في نفسه. ولا مانع من الاستناد إلى الشهرة في شيء من الوجوه المذكورة على القول بحجّيتها عدا صورة واحدة ، وهي ما إذا علم انحصاره في ما علم فساده واقعا ، وكذا إذا ظنّ انحصاره فيه أو علم انحصاره في مظنون الفساد كذلك ، أو ظنّ انحصاره فيه إذا لم يرجّح عليه الظنّ الحاصل من الشهرة بصحّة المستند ، وأمّا باقي الصور فلا وجه لإنكار حجّيتها إلّا في ما زعمه المفصّل من الشهرة الخالية عن المستند ، ويحتمل إلحاق الشهرة الّتي يكون الموجود من مستنده ضعيفا مع العلم بوجود مستند آخر لهم لا نعرفه أو احتماله. وأمّا ما نحن فيه فمن البيّن أنّ الأوائل لم يذكروا لعدم الاتّكال على الشهرة مستندا ، بل ليس للمسألة عنوان في كلماتهم ، وإنّما يعرف مذهبهم فيها من عدم ذكرهم لها في عداد الأدلّة ، وعدم استنادهم إليها أصلا في إثبات الأحكام الشرعيّة في الكتب

٤٥٧

الاستدلالية ، بل حصر جماعة منهم الأدلّة في غيره ، وإنّما تصدّى الشهيد رحمه‌الله لعنوان المسألة وتبعه المصنّف وبعض من تأخّر عنه ، ولم يتعرّض المصنّف للاحتجاج على نفي حجّيته ، وإنّما تعرّض للايراد على ما احتجّ به الشهيد رحمه‌الله لحجّيته. فدعوى العلم لمستند الجماعة وحصره في ما ذكره غريب جدّا ، ولو سلّم ذكر الدليل المذكور في كلام جماعة منهم فمن أين يعلم أو يظنّ حصر الدليل في ذلك ، كيف؟ ولو بنى على عدم حجّية مثل هذه الشهرة القويّة القريبة من الإجماع ـ لو قطعنا النظر عن كون المسألة إجماعيّا ـ بمجرّد ضعف ما ذكر من التعليلات في كلام بعض المتأخّرين أو المعاصرين لكان أكثر الشهرات ضعيفة مطرودة ولكان ذلك إذن تفصيل آخر في المسألة غير التفصيل الأوّل ، ويظهر ضعفه بما قرّرناه فلا حاجة إلى تطويل الكلام فيه.

قوله : (ولقوّة الظنّ في جانب الشهرة ... الخ.)

اورد عليه بأنّ بين تعليليه تدافعا ، فإنّ الوجه الأوّل يقتضي العلم والثاني صريح في الظنّ.

واجيب عنه بأنّ كون أحد الدليلين مفيدا للعلم والآخر للظنّ ممّا لا حجز فيه ، ولا يعدّ ذلك تدافعا ، ومثله متداول في الاحتجاجات ، كيف؟ ولو كان كذلك لكان ضمّ المؤيّد إلى الدليل تدافعا وهو واضح الفساد. وأيضا كون دليله الأوّل مقتضيا للعلم على حسب دعواه ممنوع ، فإنّ الظاهر أنّ مراده من قوله : «إنّ عدالتهم تمنع عن الاقتحام ... إلى آخره» هو منعها عن ذلك ظنّا ، إذ المفروض ثبوت العدالة لهم دون العصمة. والعدالة وإن فسرت بمعنى الملكة فأقصى ما يحصل منه الظنّ بذلك دون العلم ، وقوله : «عن الاقتحام على الفتوى بغير علم» أراد به بغير علم معتبر في الاجتهاد من الاستناد إلى دليل معتبر شرعا ، سواء كان قطعيّا أو ظنّيا بالنسبة إليه ، ومع ذلك كلّه كيف يمكن ادّعاء أنّ عدالتهم تمنع قطعا عن الفتوى بذلك من غير دليل قطعي بالنسبة إليه (١) وإلى غيرهم؟

__________________

(١) في «ق» : إليهم.

٤٥٨

وبذلك يندفع ما أورده المصنّف عليه كما مرّت الإشارة إليه ، ويتطابق مفاد الدليلين ، بل دليله الثاني يفيد ظنّا أقوى من الأوّل ، حيث إنّ المستفاد من الأوّل مجرّد الظنّ ومن الثاني قوّة الظنّ ، نظرا إلى أنّ اتّفاق الجمع الكثير من الموصوفين أقوى في إفادة الظنّ من دونهم ، فلو عدّ مثل ذلك تدافعا كان تقرير الإيراد بالعكس أولى.

قلت : ليس مقصود المورد اختلاف مؤدّى الدليلين في كون أحدهما مفيدا للعلم والآخر للظنّ ، إذ ليس في ذلك مجال لتوهّم التدافع ، بل مراده أنّ قضيّة دليله الأوّل كونه مدّعيا لحصول العلم في المقام وكون الشهرة دليلا قطعيّا ، حيث إنّ ظاهره القطع بكون عدالتهم مانعة عن الإفتاء من غير علم فيكون مفيدا للقطع بقول المعصوم كاشفا عن رأيه ، ولذا اختار ـ بناء على ما ذكره من حصول القطع ـ حجّيته ، وكونه إذن إجماعا على خلاف ما اختاره الشهيد رحمه‌الله فإنّ الإجماع عندنا هو الاتّفاق الكاشف عن قول المعصوم ، سواء كان من الجميع أو البعض ، وقضيّة دليله الثاني كون الشهرة دليلا ظنّيا مفيدا للظنّ القويّ ، فمقصوده أنّ مقتضى الدليلين متدافع في إفادة ما هو المدّعى.

والقول بأنّ حكم الجماعة مع قطع النظر عن الشهرة إذا كان مفيدا للقطع ـ نظرا إلى كون عدالتهم مانعة عن الإفتاء بغير علم ، فكيف يجعل اشتهاره بينهم وندور المخالف قاضيا بإفادة الظنّ؟ مع أنّه ينبغي أن يفيد العلم بالأولى ـ مدفوع ، بأنّ هناك جهتين أحدهما يفيد العلم بالإصابة ، والآخر يفيد الظنّ بها ، فإنّ ملاحظة خبرتهم وعدالتهم قاضية بالعلم العادي على حسب دعواه بعدم إقدامهم على الإفتاء عن غير علم. وملاحظة مجرّد الاشتهار مع قطع النظر عن تلك الملاحظة لا يفيد إلّا قوّة الظنّ ، فيكون ضمّ الثاني إلى الأوّل من قبيل ضمّ المؤيّد إلى الدليل.

لكنّك خبير بضعف الدعوى الاولى ، فإنّ أقصى ما يفيده عدالتهم القطع بإصابة ما يعتقدونه دليلا حسب ما أشار إليه المصنّف ، وأين ذلك من القطع بالواقع؟

غاية الأمر حصول ذلك في بعض الأحيان ، ويندرج حينئذ عندنا في الإجماع كما عرفت ، ويبعد إدراجه إذن في المشهور.

٤٥٩

ويمكن أن يقال : إنّ مقصوده القطع بإصابة المدرك المعتبر دون القطع بقول المعصوم، فيكون الفرق بينه وبين الإجماع المعروف في ذلك ، وهذا أقرب من سابقه في حمل كلام الشهيد رحمه‌الله.

إلّا أنّ الدعوى المذكورة غير ظاهرة أيضا ، بل الظاهر عدم حصول العلم المذكور في كثير من الشهرات ، غاية الأمر حصول العلم بإصابة المدرك المعتبر في نظرهم.

نعم لو حصل العلم به على الوجه المذكور كان كافيا ، وكان الأولى إلحاقه إذن بالمجمع عليه في كونه إجماعا ، كما هو أحد الاحتمالين المذكورين في الذكرى وإن اختار خلافه.

وحينئذ فما ذكره المورد قدس‌سره من أنّ الحقّ حينئذ أنّه إجماع ـ لأنّ الإجماع عندنا هو الاتّفاق الكاشف عن قول المعصوم دون اتّفاق الجميع ـ محلّ مناقشة ، للفرق الظاهر بين الكشفين ، وظاهر المصطلح تخصيص الإجماع بالكشف على الوجه الأوّل وإن لم يكن التعميم بعيدا عن الاعتبار. ولذا ذكرنا الوجه المذكور في وجوه الكشف الحاصل بالإجماع كما مرّ القول فيه ، والظاهر أنّ مبنى كلام المورد على حمل الكشف على الوجه الأوّل حسب ما بيّناه أوّلا. وحينئذ فما ذكره متّجه إلّا أنّ حمل كلام الشهيد رحمه‌الله عليه بعيد جدّا كما عرفت.

فظهر بما قرّرنا أنّ هناك وجوها ثلاثة في حمل كلام الشهيد رحمه‌الله أقربها الوجه الأخير ، ومعه يظهر الفرق بين تعليليه المذكورين وعلى ما حمله المجيب وغيره عليه لا يكون هناك كثير فرق بينهما كما لا يخفى.

قوله : (ويضعّف بنحو ما ذكرناه في الفتوى) الظاهر أنّه أراد بذلك تضعيف الدليلين المذكورين نظرا إلى أنّ العدالة والاشتهار بين الطائفة إنّما يفيدان العلم أو قوّة الظنّ بوجود مدرك معتبر في اجتهاد الحاكم ، ولا يؤمن من الخطأ في المسائل الاجتهاديّة وإن توافقت فيها أراء الجماعة أو معظم الفرقة.

غاية الأمر حصول المظنّة ولا أمن معه إلّا مع قيام دليل على اعتبار ذلك الظنّ في الشريعة ، ولا دليل عليه في المقام. وحينئذ فما قد يدّعى من ظهور كلامه في

٤٦٠