هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

على حجّية ما سواه من وجوه الأدلّة. فإذا فرض عدم قيام دليل عليه عندنا وعدم صحّة ما ذكروه من الأدلّة ، فكيف يجعل الاتّفاق المذكور دليلا على المنع مع اختلاف الحال؟ إذ عدم حجّيته مع قيام الدليل غير عدمها مع عدم قيامه ، وهو ظاهر.

والقول بأنّ الأخذ بالاحتياط موجب للعسر والحرج محلّ منع ، كيف؟ والعمل به متعيّن بالنسبة إلى من لم يتمكّن من الرجوع إلى الطرق المقرّرة للاستنباط ، ولا إلى عالم مستنبط للأحكام عن تلك الأدلّة إذا أمكنه تحصيل الاحتياط في المسألة ، كما فصّل القول فيه في مباحث الاجتهاد والتقليد ، فلو كان ذلك حرجا منفيّا في الشريعة لما وقع التكليف به حينئذ. ومع تسليمه فالقول برفع العسر والحرج مطلقا مبنيّ على العمل بإطلاق ما دلّ عليه من الأدلّة الشرعيّة ، وهو استناد إلى الظنّ.

وقد يقال : إنّ الرجوع إلى الأصل في غير ما يمكن فيه تحصيل القطع ولو بمراعاة الاحتياط رجوع إلى الظنّ أيضا ، فكيف يصحّ الرجوع إليه في التخلّص عن الأخذ بالظنّ؟

ويدفعه : أنّ الأخذ بالأصل ليس من جهة حصول الظنّ به ، إذ قد لا يحصل منه الظنّ في المقام وإنّما الأخذ به من جهة انسداد طريق الوصول إلى التكليف ـ أعني العلم ـ وعدم قيام دليل على الرجوع إلى غيره فيندفع التكليف ، لانتفاء السبيل إليه ، فهو في الحقيقة رفع للتكليف لا إثبات له ، ومع ذلك فهو رجوع إلى العلم نظرا إلى الوجه المذكور دون الظنّ ، وبعد الغضّ عن ذلك فالملحوظ في المقام هو الإيراد على الدليل المذكور ، والمأخوذ فيه إبطال الرجوع إلى الأصل من جهة أنّ فيه خروجا ممّا علم ثبوته في الدين.

وقد قرّرنا أنّه لا يلزم ذلك. والقول بأنّه رجوع الى الظنّ على فرض تسليمه كلام آخر غير مأخوذ في الاحتجاج ، وبما قرّرنا يظهر الجواب عمّا قد يقال : من أنّا إن سلّمنا جريان الاحتياط في أعمال نفسه فلا يمكن جريانه بالنسبة إلى بيان

٤٠١

الحكم لغيره ، إذ من البيّن وجوب ذلك أيضا والاقتصار في ذلك على بيان الاحتياط من غير بيان للحكم مع طلب السائل له ، وظنّه بالحكم من الأدلّة الظنّية مشكل ، على أنّه قد لا يتمكّن من ذلك أيضا ، كما إذا دار مال بين يتيمين أو غائبين أو يتيم وغائب ، ونحو ذلك. والسكوت عن الفتوى حينئذ وترك التعرّض له مشكل أيضا ، إذ قد يكون محرّما باعثا على تلف مال اليتيم أو الغائب ، فإنّ الالتزام بجميع ذلك في خصوص تلك المقامات لا يوجب الخروج عمّا يقطع به من التكليف المتعلّق بنافي الشريعة ممّا دلّت عليه الضرورة ونحوها حسب ما بني عليه تقرير الدليل المذكور.

نعم لو قرّر الاحتجاج بنحو آخر أمكن جريان الكلام المذكور وسنشير إليه إن شاء الله ، هذا.

وقد ذكر أيضا في المقام إيرادا على الدليل المذكور بأنّ تسليم انسداد باب العلم غير مفيد في ثبوت المرام والانتقال إلى الظنّ في تحصيل الأحكام ، لإمكان الاقتصار على المعلوم ممّا دلّ عليه الضرورة والإجماع ، وينفى ما عداه بالأصل لا لإفادته الظنّ ، بل لحكم العقل بأنّه لا يثبت علينا تكليف إلّا بالعلم أو بظنّ قام عليه دليل علمي. وفي ما انتفى الأمران يحكم العقل بفراغ الذمّة قال : ويؤكّد ذلك ما ورد من النهي عن اتّباع الظنّ.

وعلى هذا فإذا لم يحصل العلم به على أحد الوجوه وكان لنا مندوحة عنه كغسل الجمعة فالأمر سهل ، للحكم إذن بجواز تركه ، وإن لم يكن كذلك كالجهر بالتسمية أو الإخفات بها في الصلاة الإخفاتية فإنّه مع وجوب أصل التسمية بالإجماع وقع الخلاف في تعيين إحدى الكيفيتين ، وحينئذ نقول : إنّ قضيّة حكم العقل هو البناء على التخيير ، لعدم ثبوت الخصوصيّة عندنا ، فلا حرج علينا في فعل شيء منهما إلى أن يقوم دليل على التعيين.

قلت : وأنت خبير بأنّه ليس مبنى الاستدلال على الاستناد إلى مجرّد انسداد باب العلم حتّى يورد عليه بأنّ انسداد طريق العلم لا يوجب العمل بالظنّ ، بل

٤٠٢

اعتبر معه قيام الإجماع والضرورة على بقاء الدين والشريعة ، والمفروض في المقدّمة القائلة بانسداد باب العلم [أنّ باب العلم] بالأحكام على نحو يحصل به نظام الشريعة ويرتفع به القطع الحاصل من الإجماع والضرورة المفروضة مسدود قطعا. وحينئذ بعد تسليم الانسداد وعدم التعرّض لدفعه في المقام كيف يقابل ذلك بالاكتفاء بما دلّ عليه الضرورة والإجماع ، والرجوع في ما عداه إلى الأصل ، والمفروض لزوم انهدام الشريعة مع الاقتصار على ذلك كما عرفت.

ويمكن أن يقال : إنّ ذلك إنّما يتمّ إذا قلنا بعدم جريان الأصل المذكور في العبادات المجملة مطلقا ، أو في ما إذا كان أجزاء بعضها منوطا بالبعض مع تعيّن أجزائها وشرائطها على سبيل التفصيل ، إذ لا يصحّ الاقتصار على القدر المتيقّن من الأجزاء ، لعدم العلم بكونه هو المكلّف به ، ولا الحكم بسقوط الكلّ من جهة عدم تعيّن المكلّف به ، لما فيه من الخروج عن ضرورة الدين. وأمّا إن قلنا بجريان الأصل فيها ـ كما هو مختار البعض ـ بناء على أنّ التكليف إنّما يتعلّق بالمكلّف بمقدار علمه ، ولا يتعلّق بنا التكليف بالمجملات إلّا بمقدار ما وصل إلينا من البيان ، فلا يجب علينا إلّا الإتيان بما يفي به الأدلّة القاطعة من الأجزاء والشرائط ، إذ المفروض كون القطع هو الطريق في البيان وعدم ثبوت حصول البيان بغيره ولا قطع لنا بعد الاقتصار على ذلك بوجوب جزء أو شرط آخر ، إذ لم يقم ضرورة ولا إجماع ونحوهما من الأدلّة القاطعة على اعتبار شيء ممّا وقع الخلاف فيه من الأجزاء والشرائط ولو في الجملة.

وما قد يقال من حصول القطع إجمالا بوجوب أجزاء اخر غير ما دلّت عليه الأدلّة القاطعة بيّن السقوط بعد ملاحظة الحال في العبادات من الطهارة والصلاة والصوم والزكاة وغيرها ، ومع الغضّ عن ذلك وتسليم حصول علم إجمالي بذلك فإنّما المعلوم اعتبار جزء أو شرط كذلك بحسب الواقع. وأمّا تعلّق ذلك بنا مع عدم ظهور طريق إليه فممّا لم يقم عليه إجماع ولا غيره ، فأيّ مانع من نفيه بالقاعدة المذكورة وإن علم كون الحكم الواقعي الأوّلي خلافه ، لوضوح جريان أصالة البراءة مع العلم الإجمالي باشتغال الذمّة بحسب الواقع إذا لم يكن هناك طريق إليه.

٤٠٣

وقد يشكل الحال في المقام في القضاء والإفتاء ، سيّما في مسائل المعاملات ، لدوران الأمر حينئذ بين محذورين ، لكن الّذي يقتضيه القاعدة المذكورة هو الحكم بعدم تعلّق وجوب القضاء والإفتاء بنا ، إلّا في ما ثبت وجوبه علينا بالدليل القاطع أخذا بمقتضى القاعدة العقليّة المذكورة ، وليس في الالتزام به خروج عن مقتضى الأدلّة القاطعة القاضية بكوننا مكلّفين فعلا بأحكام الشريعة في الجملة ، فإنّها لا تفيد كوننا مكلّفين بالفعل بجميع التكاليف الواقعيّة وإن كانت معلومة إجمالا حسب ما مرّت الإشارة إليه.

فظهر ممّا قرّرنا اندفاع ما يقال : من أنّ الاقتصار على القدر المتيقّن من التكاليف لا يكتفى به في الخروج عن عهدة التكليف ، للقطع الإجمالي ببقاء تكاليف اخر غير ما يقطع به على جهة التفصيل.

نعم قد يشكل الحال في الطوارئ الواردة كأحكام الشكوك ونحوها ممّا يقطع بتعلّق التكليف هناك على أحد وجهين أو وجوه.

ويمكن دفعه بناء على الوجه المذكور بالتزام التخيير فيها بعد العلم بتعلّق التكليف في الجملة وعدم قيام دليل على التعيين ، حيث إنّ المقطوع به حينئذ هو أحد الوجهين أو الوجوه ، فيقتصر في ثبوت التكليف بذلك المقدار ويتخيّر في أدائه بين ذينك الوجهين أو الوجوه ، وبمثله يقال : إذا دار الواجب من أصله بين أمرين لا قطع بأحدهما مع القطع بتعلّق التكليف بأحدهما كدوران الصلاة يوم الجمعة بين الظهر والجمعة ، لكن البناء على جريان الأصل في مثل ذلك بعيد جدّا ، إذ كون الإتيان بكلّ منهما أداء للمأمور به غير ظاهر بعد دوران التكليف هناك بين الأمرين وكون القدر المعلوم من المكلّف به هو أحدهما ، لا أنّه تعلّق هناك أمر بالقدر الجامع بين الأمرين ليكون الشكّ في الخصوصيّة قاضيا بدفعها بالأصل، فيبقى التكليف بالمطلق هو القدر الثابت من المكلّف به ، فالموافق للقاعدة حينئذ هو البناء على تحصيل اليقين فيجب الإتيان بالفعلين ، ولا مانع من الالتزام بالاحتياط في مثل الصورة المفروضة ، ولا يقع ذلك إلّا في صورة نادرة.

٤٠٤

ثمّ إنّي أقول : إنّه لو قرّر الاستدلال بنحو آخر بأن يكون الاستناد فيه إلى مجرّد انسداد باب العلم بعد ثبوت التكليف في الجملة كان ما أورده من قيام ما ذكر من الاحتمال غير ناهض في هدم الاستدلال ، إذ نقول حينئذ : إنّ قضيّة حكم العقل بعد العلم بحصول التكليف في الجملة ولزوم الإتيان بالواجبات وترك المحرّمات هو التخيير بين متعلّق الوجوب وغيره ومتعلّق المنع والإباحة ليتمكّن من الامتثال بالفعل والترك ، لتوقّف دفع الخوف من الضرر عليه كما أنّه يجب النظر إلى المعجزة بمجرّد ادّعاء النبوّة لاحتمال كونه نبيّا في الواقع ، وترتّب الضرر على مخالفته في الآجل. وحينئذ فكما أنّ ثبوت الحكم يحتاج إلى الدليل القاطع فكذلك نفيه أيضا.

فنقول : إنّ قضيّة انسداد باب العلم في المقام هو الرجوع إلى الظنّ ، إذ هو الأقرب إلى العلم ، فما ذكره من جواز أن يكون المرجع في الإثبات هو العلم ويحكم في ما عدا المعلوم وإن كان مظنونا بالنفي لا وجه له ، إذ هو أخذ بالوهم وتنزّل من العلم إلى ما دونه بدرجات.

نعم إن قام الدليل عليه كذلك صحّ الإيراد المذكور حينئذ ، فإبراز مجرّد الاحتمال كما هو ظاهر كلام المورد غير كاف في المقام.

وإن ادّعي قيام الدليل عليه كذلك كما يومى إليه آخر كلامه فممنوع ، سيّما إذا حصل الظنّ بخلافه ، إذ قضيّة التنزّل من العلم هو الأخذ بما هو أقرب إليه في الإثبات والنفي من غير فرق.

وإن ادّعي الإجماع على أصالة البراءة حتّى يعلم النقل فهو أيضا ممّا لا وجه له ، سيّما في نحو ما ذكره من مسألة الجهر والإخفات بعد العلم بوجوب إحدى الكيفيّتين ، إذ لا يبعد في مثله الحكم حينئذ بوجوب التكرار كما نصّوا عليه في صورة اشتباه الموضوع كالصلاة في الثوبين المشتبهين. ودعوى الإجماع هنا على السقوط وعدم الرجوع إلى الاحتياط مجازفة بيّنة.

ومن غريب الكلام ما صدر في المقام عن بعض الأعلام حيث إنّه أورد

٤٠٥

على المورد المذكور في فرقه بين مسألة غسل الجمعة ، ووجوب الجهر والإخفات في جريان الأصل : بأنّه إن أراد نفي الوجوب مع عدم الحكم بالاستحباب فهو لا يلائم ما ثبت يقينا من الشرع ، وإن أراد إثبات الاستحباب فهو ليس إلّا معنى ترجيح أحاديث الاستحباب على أحاديث الوجوب بالأصل ، وأنّ الرجحان الثابت بالإجماع والضرورة لابدّ أن يكون هو الرجحان الاستحبابي دون الوجوبي ، فهو لا يتمّ إلّا بترجيح أصل البراءة على الاحتياط ، وهو موقوف على حجّية هذا الظنّ.

وبالجملة الجنس لا بقاء له بدون الفصل والثابت من الشرع أحد الأمرين وأصل البراءة لا ينفي إلّا المنع من الترك ، وعلى فرض أن يكون الرجحان الثابت بالإجماع هو الحاصل في ضمن الوجوب فقط في نفس الأمر ، فمع نفي المنع من الترك بأصل البراءة لا يبقى رجحان أصلا ، لانتفاء الجنس بانتفاء فصله. وأصل البراءة من المنع عن الترك لا يوجب كون الثابت بالإجماع في نفس الأمر هو الاستحباب ، فكيف يحكم بالاستحباب؟ فلم يصحّ ترجيح الحديث الدالّ على الاستحباب على الحديث الدالّ على الوجوب بسبب اعتضاده بأصل البراءة ، وهذا ليس مراده ، وإنّما المناسب لما رامه من المثال هو أن يقال في نجاسة عرق الجنب بالحرام مثلا : إنّ خبر الواحد في ذلك أو الإجماع المنقول الدالّ على ذلك لا حجّية فيه ، والأصل براءة الذمّة عن وجوب الاجتناب.

وحينئذ فالجواب عن ذلك يظهر ممّا قدّمنا من منع حصول الجزم أو الظنّ بأصل البراءة مع ورود الخبر الصحيح. وممّا ذكرنا ظهر أنّ حكم غسل الجمعة نظير الجهر بالتسمية والإخفات على ما فهمه.

والحاصل : أنّ الكلام في ما كان الخبر الواحد الظنّي في مقابل أصل البراءة وفي غسل الجمعة الحكم بمطلق الرجحان القطعي الحاصل من الإجماع والنوعين من الأخبار الواردة فيه في مقابل أصل البراءة. انتهى.

وأنت خبير بما فيه : أمّا أوّلا فبأنّ إثبات الاستحباب حينئذ بضميمة الأصل

٤٠٦

ممّا لا غبار عليه ، فإنّ مطلق الرجحان ـ أعني القدر المشترك بين الوجوب والندب ـ معلوم بالإجماع والمنع من الترك منفيّ بأصل البراءة فيلزم من الأمرين ثبوت الاستحباب في ظاهر الشرع ، وليس ذلك من ترجيح أحاديث الاستحباب بوجه ، لوضوح جريانه بعينه مع فرض انتفاء الحديث من الجانبين ، أو من جهة الاستحباب خاصّة ، مع عدم نهوض ما دلّ على الوجوب حجّة في المقام ، كما هو المفروض.

والحاصل : أنّه مع اليقين بثبوت الرجحان والحكم بعدم المنع من الترك من جهة أصالة البراءة لا يبقى مجال لإنكار الاستحباب. ودعوى كونه مبنيّا على ترجيح أصل البراءة على الاحتياط وهو موقوف على حجّية هذا الظنّ غير واضحة.

كيف؟ وقد نصّ المستدلّ أوّلا بكون البناء على أصل البراءة ليس من جهة الظنّ ، بل من جهة قطع العقل بأنّه لا تكليف إلّا بعد البيان وقيام طريق للمكلّف إلى الوصول إلى التكليف ، ومنع ذلك كلام آخر أشار إليه المورد أيضا. وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله.

وما يتخيّل من : أنّ الجنس لا بقاء له بدون الفصل فقد يكون الرجحان في ضمن الوجوب بحسب الواقع فلا يعقل بقاؤه بعد انتفاء فصله مدفوع بالفرق البيّن بين رفع الفصل في الواقع وفسخ الحكم كما في نسخ الوجوب والحكم بعدمه في الظاهر ، لعدم قيام دليل عليه كما في المقام ، لوضوح قضاء الأوّل برفع الجنس الثابت به بخلاف الثاني ضرورة عدم الحكم هنا برفع حكم ثابت ، وإنّما المقصود عدم حصول المنع من الترك من أوّل الأمر الّذي هو فصل للنوع الآخر أعني الاستحباب ، فبعد ثبوت الجنس بالإجماع والفصل المذكور بالأصل ثبت خصوص الاستحباب في الظاهر ، وليس رفع الفصل بالأصل في الظاهر قاضيا بانتفاء الجنس الثابت بالدليل ، بل أقصاه ما ذكرناه من الحكم بقيام الجنس في الظاهر بالفصل الآخر ، فيكون المستفاد منها حصول النوع الآخر في الظاهر.

٤٠٧

نعم لو لم يكن هناك دليل على حصول الجنس أمكن القول بنفيه أيضا من جهة الأصل أوّلا ، لا لقضاء انتفاء الفصل المفروض بنفيه ظاهرا ، والمفروض في المقام خلاف ذلك ، لقيام الدليل القاطع على ثبوت الجنس. فقوله : أصل البراءة عن المنع من الترك لا يوجب كون الثابت بالإجماع ... إلى آخره غير متّجه ، إذ ليس ذلك ممّا ادّعاه المورد أصلا ، بل مراده إثبات الاستحباب في الظاهر ، وبيان كون الرجحان الثابت بالإجماع حاصلا مع عدم المنع من الترك بحسب تكليفنا ، فالرجحان معلوم والمنع من الترك في الظاهر منفيّ بحكم الأصل فيثبت بذلك الاستحباب في الظاهر ، وكيف يعقل القول بقضاء أصل البراءة بكون الرجحان الثابت بالإجماع حاصلا في الواقع مع عدم المنع عن الترك ، ومن المعلوم عدم ارتباط أصل البراءة بالدلالة على الواقع ، وقد نصّ عليه المورد في كلامه.

فإن قلت : إنّ مقصود المورد هو العمل بالعلم وترك الأخذ بالظنّ ، والوجه المذكور لا يفيد ظنّا بثبوت الاستحباب فضلا عن العلم به ، فكيف يصحّ الحكم بثبوته؟!

قلت : ليس مراد المورد إلّا البناء على العلم في إثبات الحكم ورفع غير المقطوع به بالأصل ، لانتفاء الطريق إليه ، ولمّا كان الرجحان مقطوعا به في المقام حكم به ، ورفع الزائد بالأصل ، لعدم قيام دليل عليه. فيكون الثابت على المكلّف في الظاهر الاستحباب قطعا وإن لم يظنّ بحصوله واقعا ، فإنّ رفع الحكم في الظاهر لانتفاء الطريق إليه لا يفيد نفي الحكم بحسب الواقع ، وإذا كانت إحدى المقدّمات مفيدة لثبوت الحكم في الظاهر كان الحكم الثابت من الجميع ظاهريّا.

ومع الغضّ عمّا ذكرنا ، فلو سلّم كون نفي الفصل في الظاهر بمنزلة رفعه بحسب الواقع تمّ المقصود أيضا ، فإنّه مع ارتفاعه كذلك وقيام الدليل على حصول الجنس بحسب الواقع ـ كما هو الواقع في المقام ـ لا مجال للتأمّل في تحقّق النوع المتقوّم (١) بعدم ذلك الفصل كما في نسخ الوجوب إذا قام دليل على تحقّق

__________________

(١) في «ف» : المنعدم.

٤٠٨

الرجحان إذ لا إشكال بل لا خلاف في الحكم بالاستحباب ، فغاية الأمر أن يكون المقام من قبيل ذلك.

والحاصل : أنّ أصل البراءة بالنسبة إلى الظاهر حجّة نافية للحكم فحاله حال الخبر النافي للحكم إذا قام الدليل على حجّيته ووجوب العمل به في الظاهر ، فكما أنّا إذا علمنا بالإجماع ونحوه رجحان الفعل ودلّت الرواية المفروضة على عدم المنع من الترك حكمنا بحصول الاستحباب فكذا في المقام من غير فرق في ما نحن فيه بصدده من ثبوت الحكم بالنسبة إلى الظاهر ، وليس ذلك إثباتا للحكم بالأصل ، إذ ليس قضيّة الأصل هنا سوى عدم المنع من الترك وبملاحظته مع الرجحان المعلوم الثبوت من الخارج يثبت الاستحباب ، ولا يعدّ ذلك من قبيل الاصول المثبتة قطعا ، كما لا يخفى.

ومن ذلك ظهر ما في قوله : أنّ حكم غسل الجمعة نظير الجهر والإخفات في التسمية ، إذ بعد صحّة جريان الأصل في غسل الجمعة حسب ما قرّرنا وعدم صحّة جريانه بالنسبة إلى الجهر والإخفات للعلم بثبوت أحد التكليفين ومخالفة كلّ منهما للأصل من غير تفاوت بينهما في ذلك يتّضح الفرق بينهما كمال الوضوح. ومع الغضّ عمّا ذكرنا وتسليم دوران الأمر هناك أيضا بين حكمين وجوديّين فجعلهما من قبيل واحد غير متّجه ، مع كون أحد الحكمين في مسألة الغسل أقلّ مخالفة للأصل ، والآخر أكثر على خلاف مسألة الجهر والإخفات ، إذ لا فرق بينهما في مخالفة الأصل بوجه من الوجوه.

وأمّا ثانيا فبأنّ ما ذكره : من أنّ المثال المناسب لما رامه نجاسة عرق الجنب من الحرام محلّ مناقشة ، إذ رفع وجوب الاجتناب في المقام بالأصل حسب ما ذكره قاض بارتفاع جواز الاجتناب الحاصل في ضمنه على ما قرّره من ارتفاع الجنس بارتفاع فصله. وأصل البراءة من المنع من ترك الاجتناب لا يقضي بكون جواز الاجتناب الثابت بالإجماع حاصلا في نفس الأمر في ضمن الكراهة أو الإباحة ، فإن اريد بالأصل المذكور رفع المنع من ترك الاجتناب مع عدم الحكم

٤٠٩

بجواز الاجتناب فهو مخالف لما دلّ الإجماع عليه ، وإن اريد معه الحكم بجواز الاجتناب (١) أيضا فأيّ دليل قضى ببقائه على نحو ما ذكره في مسألة غسل الجمعة ، غاية الأمر دوران الاحتمال هناك بين الحكمين وهناك بين أحكام ثلاثة.

وأمّا ثالثا فبأنّ ما ذكره : من أنّ الحكم بالرجحان القطعي ... إلى آخره غير مستقيم ، إذ لا وجه لاعتبار الحكم القطعي في مقابلة أصالة البراءة ، وليس في كلام المورد ما يوهم ذلك أصلا ، وكيف يعقل مقابلة الأصل بما وقع الإجماع على ثبوته والحكم برجحانه عليه ورفعه له؟! وإنّما المقصود رفعه المنع من الترك. وإن قام عليه دليل ظنّي فيكون أصل البراءة في مقابلة ذلك الدليل الظنّي ، كيف؟ وعبارة المورد صريحة في رفع أصالة البراءة للمنع من الترك. والظاهر أنّ ما ذكره مبنيّ على ما زعمه من كون رفع المنع من الترك بالأصل قاضيا برفع رجحان الفعل فيؤول الأمر إلى مزاحمة أصالة البراءة للرجحان المقطوع به.

وقد عرفت ضعفه ، ولو صحّ ما ذكره لجرى ذلك بعينه في المثال الّذي أورده أيضا.

غاية الأمر أنّ الجنس الحاصل في المقام رجحان الفعل ، والحاصل هناك جوازه ، فيكون رفع المنع من الترك هناك في معنى رفع الجواز المعلوم الثبوت أيضا ، ويكون ما دلّ على الجواز من الدليل القطعي مقابلا بأصالة البراءة دون الدليل الظنّي القاضي بوجوب الاجتناب ، وهو كلام ساقط جدّا ، ولو تمّ لقضى بعدم جريان أصالة البراءة في شيء من المقامات.

ثمّ إنّ للفاضل المذكور إيرادات اخر على هذا الإيراد أحببنا إيراد جملة منها في المقام ، ونشير إلى ما يرد عليها من الكلام حتّى يتّضح به حقيقة المرام.

منها : منع جواز الاستناد في رفع التكليف إلى أصل البراءة وقوله : «إنّ العقل يحكم بأنّه لا يثبت تكليف ... الى آخره» إن أراد به الحكم القطعي فهو أوّل الكلام كما يعرف من ملاحظة أدلّة أصالة البراءة ، سيّما بعد ورود الشريعة والعلم

__________________

(١) في «ف» باضافة : فهو مخالف.

٤١٠

الإجمالي بثبوت الأحكام الشرعيّة خصوصا بعد ورود مثل الخبر الصحيح في خلافه ، وإن أراد الحكم الظنّي كما يشعر به كلامه سواء كان بذاته مفيدا للظنّ أو من جهة استصحاب الحالة السابقة فهو ظنّ مستفاد من ظواهر الأخبار والآيات الّتي لم يثبت حجّيتها بالخصوص، مع أنّه ممنوع بعد ورود الشرع ثمّ بعد ورود خبر الواحد إذا حصل منه ظنّ أقوى.

ومنها : أنّ قوله : «ويؤكّد ذلك ... إلى آخره» فيه أنّها عمومات لا تفيد إلّا الظنّ، بل هي ظاهرة في غير الفروع ، وشمول عموم ما دلّ على حجّية ظواهر القرآن لما نحن فيه ممنوع ، لأنّه إن كان هو الإجماع ففيما نحن فيه أوّل الكلام ، وإن كان غيرها فليس إلّا الظنون الحاصلة من الأخبار ، وقد مرّ الكلام في الاستدلال بها.

ومنها : أنّ قوله : «وأمّا في ما لم يكن مندوحة عنه ... إلى آخره» إن أراد به أنّ التخيير المفروض هو مفاد أصل البراءة فيقدّم على الدليل الظنّي فهو فاسد ، إذ بعد تعارض دليلي القولين لا شيء في مقابلة أصل البراءة حتّى يقال : إنّه ظنّ لا يعمل به ، بل يرجع الكلام إلى جريان أصل البراءة في ما لا نصّ فيه ، ومقابله حينئذ أدلّة التوقّف والاحتياط ، والمورد أيضا لا يقول بذلك ، فإنّه لا يقول ببراءة الذمّة عن مقتضى القولين جمعا لعدّه ذلك ممّا لا مندوحة عنه ، والمستدلّ أيضا لا يقول به لذهابه إلى ترجيح الظنّ ، وإن أراد أنّ هذا التخيير إنّما هو في العمل بما اختاره من القولين ، ومع اختيار أيّ منهما يكون العمل به واجبا عليه ، فذلك ممّا لا ربط له بأصل البراءة. انتهى ملخّصا.

ويتوجّه عليها ، أمّا على الأوّل : فأوّلا بأنّ منظور المورد هو المنع من قضاء انسداد باب العلم بالرجوع إلى الظنّ ووجوب الأخذ به باحتمال الرجوع إلى أصل البراءة وترك العمل بالظنّ نظرا إلى حكم العقل ... إلى آخره. وصحّة المنع لا يتوقّف على قطع العقل بانتفاء التكليف مع انتفاء العلم بالواقع.

كيف؟ ولو أراد ذلك لما أبدى الإيراد المذكور بصورة المنع ولو ادّعى العلم بذلك ، فإن ادّعى كونه ضروريّا عند العقل لزم أن يكون القول بحجّية الظنّ عنده مصادما للضرورة ، وهو واضح الفساد.

٤١١

وإن ادّعى كونه نظريّا كان الدليل الموصل إليه معارضا للدليل المذكور ، وهو خلاف ما يعطيه كلام المورد ، إذ ليس بصدد المعارضة ولو أراد ذلك لكان اللازم عليه حينئذ بيان ذلك حتّى يتمّ المعارضة ، مع أنّه لم يشر إليه في الإيراد.

وثانيا : نختار أنّ المراد بحكم العقل قطعه بانتفاء التكليف مع انتفاء العلم ، لكن لا يريد به خصوص العلم بالواقع ، بل ما يعمّه والعلم به من الطريق المقرّر للوصول إلى الحكم وإن لم يكن مفيدا للعلم بالواقع بل ولا الظنّ به أيضا. وقطع العقل حينئذ بانتفاء التكليف ظاهر ، لوضوح قبح التكليف مع انتفاء طريق موصل إليه مع العلم ، وما يقوم مقامه من الطرق المقرّرة. ومحصّل الإيراد حينئذ المنع من قضاء انسداد باب العلم بالرجوع إلى الظنّ ، لاحتمال الحكم بسقوط التكليف نظرا إلى قطع العقل بانتفاء التكليف مع انتفاء السبيل الموصل إليه ، فكما أنّ انسداد سبيل العلم بالواقع الّذي هو الطريق المقرّر أوّلا للوصول إليه قد يكون قاضيا بانفتاح سبيل آخر إلى الواقع ـ كما هو مقصود المستدلّ ، وذلك فيما إذا علم بقاء التكليف بعد حصول الانسداد ـ كذا قد يكون قاضيا بسقوط التكليف مع عدم العلم ببقائه ، نظرا إلى انسداد الطريق إليه وقطع العقل بانتفاء التكليف مع انتفاء طريق إليه.

فظهر بما قرّرنا أنّ قطع العقل بانتفاء التكليف مع انتفاء الطريق إليه إنّما قد يقتضي (١) قطع العقل في المقام بانتفاء التكليف ، إذ كون الظنّ حينئذ طريقا إلى الواقع هو المبحوث عنه في المقام ، فما ذكره من أنّ حكم العقل ببقاء التكليف حينئذ أوّل الكلام مشيرا به إلى أنّ ذلك نفي لعين (٢) المدّعى كما ترى ، والظاهر أنّ ما ذكر غير قابل للمنع فإنّه من الواضحات حسب ما مرّ الكلام فيه.

كيف؟ ولو لا ذلك لم يتمّ ما ذكره القائل بحجّية الظنون من الدليل المذكور وغيره ممّا احتجّوا به على ذلك لمن قال بحجّية الظنّ ، فمنع ذلك في المقام ليس في محلّه. وكذا لا فرق في ذلك مطلقا بعد ورود الشرع وقبله ، فإنّ عدم ثبوت

__________________

(١) في «ق» : لا يقضي.

(٢) في «ف» و «ق» : بعين.

٤١٢

التكليف من غير طريق للمكلّف إلى الوصول إليه أمر عقلي لا يختلف الحال فيه قبل ورود الشرع وبعده.

وثالثا : أنّ تسليم كون نفي التكليف حينئذ مظنونا كاف في مقام رفع الحجّية ، وليس من قبيل الاستدلال بالظنّ على الظنّ ليدور بل رفع الظنّ بالظنّ ، وهو ممّا لا مانع منه ، فإنّه لو كان حجّة لم يكن حجّة ، وما يستلزم وجوده عدمه فهو باطل ، وقد مرّ الكلام فيه.

وأمّا على الثاني فبأنّ كونها عمومات لا تفيد إلّا الظنّ على فرض تسليمه كاف في ما هو مقصود المعترض من رفع حجّية الظنّ ، لما عرفت من جواز رفع الظنّ بالظنّ وأيضا لم يستند إليها المورد في مقام الاستدلال حتّى يورد عليه بذلك ، وإنّما ذكره في مقام التأييد والاستشهاد ليتبيّن اعتضاد ما ادّعاه من حكم العقل بالشواهد الشرعيّة.

ومن الواضح كفاية الدلالة الظنّية في ذلك ، فلا وجه للإيراد عليه بكونه ظنّيا. ودعوى كونها ظاهرة في غير الفروع ممّا لا وجه لها كما مرّت الإشارة إليه. وما ذكره من منع شمول عموم ما دلّ على حجّية القرآن لمحلّ الكلام غير متّجه أيضا ، وكأنّه أراد به منع شمول ما دلّ على حجّية الكتاب بالنسبة إلى هذه الأعصار حسب ما أشار إليه في محلّ آخر وهو مدفوع بما قرّر في محلّه ، حتّى أنّ الإجماع القائم على حجّيته شامل لذلك أيضا كما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله. ولو أراد بذلك المنع من الحجّية بالنسبة إلى خصوص محلّ الكلام نظرا إلى حصول الخلاف المانع من قيام الإجماع على حجّيته بحيث يشمل المقام فهو موهون جدّا ، لوضوح أنّ الإجماع القائم على حجّية الكتاب لا ينافي الخلاف الواقع في المسائل الّتي دلّ بها الكتاب على حكمها ، فلا وجه للقول بكون شمول الإجماع لما نحن فيه أوّل الكلام.

وأمّا على الثالث فبأنّ القول بكون التخيير المذكور مفاد أصالة البراءة إنّما يصحّ بدفع خصوص كلّ من الوجهين بالأصل ، حيث لم يقم عليه دليل قاطع ،

٤١٣

ولمّا لم يكن هناك مندوحة من الأخذ بأحدهما لقيام الدليل القاطع على وجوب أحدهما نظرا إلى اتّفاق الفريقين عليه لزم البناء على التخيير ، وحينئذ فليس التخيير المذكور مفاد أصل البراءة خاصّة ، بل إنّما يجيء من جهة العلم بوجوب أحدهما مع عدم ثبوت كلّ من الخصوصيّتين لعدم قيام دليل قاطع عليه ، فأصالة البراءة هنا دافعة لكلّ من الدليلين الظنّيين، سواء كانا متعادلين أو كان أحدهما راجحا على الآخر. وانتفاء المندوحة إنّما يجيء من جهة قيام الدليل القاطع على وجوب أحدهما ، فلا مناص عن الأخذ بأحدهما ، هذا على أحد الوجهين في بيان مراده كما مرّت الإشارة إليه.

والوجه الآخر أن يراد به رفع وجوب كلّ من الجهر والإخفات بالأصل ، وإن لم يمكن تركهما معا لعدم المندوحة عن فعل أحدهما فلا يحكم إذن بوجوب شيء منهما ، والعلم الإجمالي بوجوب أحدهما غير مفيد ، لسقوطه عن المكلّف بعد انتفاء التعيين ، فيكون مختارا في أداء أيّ من الكيفيّتين ، ولا يرتبط ما أورده في المقام بالإيراد المذكور على شيء من التفسيرين ، وقد بنى ايراده على أنّ مراد المورد بيان الحال في خصوص ما إذا تعارض دليلا القولين وتعادلا من غير ظهور مرجّح في البين ، حيث جعل ذلك ممّا لا مندوحة عنه ، ولو كان دليل أحدهما راجحا على الآخر لكان هو المظنون واللائق بمقابلة أصالة البراءة دون الآخر ، وإن كان هناك مندوحة عنه فإنّه يرجع إلى أصل البراءة عمّا دلّ عليه الدليل الراجح فأورد عليه بما ذكرنا.

وأنت خبير بأنّ حمل العبارة المذكورة على ذلك بعيد جدّا ، بل لا إشارة فيها بذلك أصلا ، إذ لا إشعار في كلامه بفرض المسألة في خصوص صورة المعارضة بين الدليلين فضلا عن اعتبار المكافئة بينهما ، وإنّما ذكر في كلامه المعارضة بين القولين وعدم إمكان ترك مقتضى الاحتمالين ، حيث إنّه لا مندوحة للمكلّف عن اختيار أحد الوجهين ، كيف؟ وقد بنى المورد كلامه على نفي حجّية الظنّ ، وحينئذ فلا تفاوت بين حصول المعادلة بينهما في القوّة والضعف وعدمها ، فإنّه إنّما يفرّق

٤١٤

بين الأمرين في الأدلّة المعتبرة في الجملة دون ما لا عبرة بها مع الانفراد فضلا عن المعارضة.

ثمّ إنّه لو سلّم فرض المسألة في صورة المعادلة بين دليلي القولين وعدم حصول مرجّح لأحد الجانبين لم يقض ذلك بانتفاء المندوحة في المقام بوجه من الوجوه ، إذ المفروض عدم حجّية شيء من الظنّين وكون وجودهما كعدمهما ، فكيف ترتفع المندوحة من جهتهما؟ وما ذكره من أنّه : «لو كان أحدهما راجحا ... إلى آخره» غير متّجه ، إذ مع كون الأصل رافعا للمظنون يكون رافعا لغيره بالأولى فكيف يجعل المرفوع بالأصل حينئذ خصوص المظنون؟ وحتّى يكون المندوحة في المقام بأخذ مقابله وإن كان هو أيضا مخالفا للأصل كما هو المفروض في المثال.

وبالجملة أنّ بناء المورد على الأخذ بمقتضى الأصل في غير ما حصل اليقين به سواء كان ما يقابله مظنونا أو لا ، وإنّما فرض في المقام كونه رافعا للأدلّة الظنّية حيث إنّ الكلام وقع في ذلك ، فلا يعقل أن يكون قوّة أحد الظنّين في المقام وضعف الآخر قاضيا بحصول المندوحة في الصورة المفروضة حتّى يكون المرفوع بالأصل خصوص المظنون دون الآخر.

وأمّا الرابعة فبوجوه (١) :

أحدها : أنّه يمكن ترجيح البعض لكونه المتعيّن بعد فرض حجّية الظنّ في الجملة ، ودوران الأمر بينه وبين الأخذ بمطلق الظنّ.

وتوضيح ذلك أنّه بعد ما ثبت بالمقدّمات الثلاث المذكورة حجّية الظنّ في الجملة لم يلزم من ذلك إلّا حجّية بعض الظنون ممّا يكتفى به في معرفة الأحكام بالقدر المذكور ، لأنّ المهملة في قوّة الجزئيّة ، فإن كانت الظنون متساوية في نظر العقل من جميع الجهات لزم القول بحجّية الجميع ، لامتناع الحكم بحجّية بعض معيّن منها من دون مرجّح باعث على التعيين أو الحكم بحجّية بعض غير معيّن منها ، إذ لا يعقل الرجوع إليه في ما هو الواجب من استنباط الأحكام.

__________________

(١) أي : الإيراد على المقدمة الرابعة من مقدمات الانسداد ، راجع ص ٣٩١.

٤١٥

وأمّا إذا كان البعض من تلك الظنون مقطوعا بحجّيته على فرض حجّية الظنّ في الجملة دون البعض الآخر تعيّن ذلك البعض للحكم بالحجّية دون الباقي ، فإنّه هو القدر اللازم من المقدّمات المذكورة دون ما عداه ، إذ حكم العقل بحجّية الكلّ على ما ذكر ليس من جهة انتفاء المرجّح بينها بحسب الواقع حتّى يجب الحكم بحجّية الجميع كذلك بل إنّما هو من جهة عدم علمه بالمرجّح ، فلا يصحّ له تعيين البعض للحجّية دون البعض من غير ظهور مرجّح عنده ، فيتعيّن عليه الحكم بحجّية الكلّ بعد القطع بعدم المناص عن الرجوع إليه في الجملة ، فعموم الحكم المذكور إنّما يجيء من جهة جهل العقل بالواقع.

وأنت خبير بأنّ قضيّة الجهل المذكور هي ترجيح الأخصّ في المقام عند دوران الأمر حينئذ بينه وبين الأعمّ ، لثبوت حجّيته على التقديرين ، فبعد ثبوت حجّية الظنّ في الجملة لا كلام في حجّية ظنون خاصّة لدوران الأمر حينئذ بين الأخذ بها وبغيرها ، فكيف يسوغ حينئذ للعقل تجويز الرجوع إلى غير الظنون الخاصّة مع كون تلك الظنون كافية في استنباط الأحكام.

فان قلت : إنّ القائل بحجّية كلّ الظنون إنّما يقول بحجّية الظنون الخاصّة من حيث إنّها ظنّ لا لأجل خصوصيّتها ، وتلك الحيثيّة جارية في جميع الظنون ، والقائل بحجّية خصوص تلك الظنون الخاصّة من حيث إنّها ظنّ لم يقم على ذلك حجّة قاطعة ، فلم يثبت إذن خصوصيّة في تلك الظنون حتّى يقال بترجيحها على غيرها.

قلت : ليس المقصود في المقام الاستناد في مقام الترجيح إلى الدليل الدالّ على حجّية الظنون الخاصّة حتّى يقال بعدم ثبوت مرجّح قطعي قاض بحجّيتها بخصوصها وعدم اتّفاق الأقوال عليها كذلك ، بل المراد أنّه لمّا دار الأمر في نظر العقل بعد العلم بحجّية الظنّ على جهة الإهمال بمقتضى المقدّمات الثلاث المذكورة ، حيث إنّه لا يحتمل هناك وجها ثالثا ، وكان حجّية الظنون الخاصّة ثابتة على كلّ من الوجهين المذكورين ، فحكم العقل بحجّيتها ليس من أجل قيام الحجّة

٤١٦

على حجّيتها ابتداء حتّى يقابل ذلك بعدم نهوض دليل عليها كذلك ، بل من جهة جهله بعموم الحجّية واختصاصها بالبعض بعد علمه بحجّية الظنّ في الجملة ، فإنّ قضيّة ذلك عدم ثبوت حجّية ما يزيد على ذلك ، فليس له الحكم إلّا بالقدر الثابت على التقديرين أخذا باليقين ، وإن احتمل أن يكون حجّية ذلك البعض واقعا من جهة كونه ظنّا مطلقا لتعمّ الجميع أو بملاحظة الخصوصيّة ، إذ مجرّد الاحتمال لا يثمر شيئا في المقام ، ولا يجوز تعدّي العقل في الحكم عن المقدار المذكور.

والحاصل : أنّ جهله بالترجيح في المقام قاض بحكمه بترجيح ذلك البعض عند الدوران بينه وبين الكلّ دون حكمه بحجّية الكلّ من جهة الترجيح بلا مرجّح كما هو المدّعى.

فظهر بما قرّرنا أنّ الحكم بترجيح البعض المذكور ليس من جهة الاتّفاق عليه بخصوصه حتّى يقابل ذلك بمنع حصول الاتّفاق على خصوص ظنّ خاصّ وأنّه لو سلّم ذلك فالقدر المتّفق عليه لا يكفي في استعلام الأحكام كما هو الحال في العلم ، فالإيراد في المقام بأحد الوجهين المذكورين بيّن الاندفاع.

فإن قلت : إنّ الظنون الخاصّة لا معيار لها حتّى يؤخذ منها حينئذ على مقتضى اليقين لحصول الاختلاف في خصوصيّاتها أيضا.

قلت : يؤخذ حينئذ بأخصّ وجوهها ممّا اتّفق عليه القائلون بالظنون الخاصّة بأن لا يحتمل الاقتصار على ما دونها بناء على ذلك ، فإن اكتفى به في دفع الضرورة فلا كلام ، والأخذ بالأخصّ بعده أخذا بمقتضى المقدّمات المذكورة إلى أن يدفع به الضرورة ويترك الباقي بعد ذلك ، ولو فرض دوران الأمر بين ظنّين أو ظنون في مرتبة واحدة حكم بحجّية الكلّ ، لانتفاء الترجيح ، ولا يقضي ذلك بحجّية ما بعده من المراتب.

فإن قلت : إنّه لو تمّ ما ذكر فإنّما يتمّ مع عدم معارضة الظنّ الخاصّ لغيره من الظنّون ، وأمّا مع المعارضة ورجحان الظنّ الآخر عليه أو مساواته له فلا يتمّ لدوران الأمر حينئذ بين الظنّين ، فيتوقّف الرجحان على ثبوت المرجّح بالدليل ،

٤١٧

ولا يجري فيه الوجه المذكور ، بل يقضي الدليل المذكور حينئذ بحجّية الجميع ، لانتفاء الترجيح حينئذ حسب ما قرّر في الاحتجاج فيعمل حينئذ بما يقتضيه قاعدة التعارض.

قلت : لمّا لم يكن تلك الظنون حجّة مع الخلوّ عن المعارض على ما قرّرنا ، فمع وجود المعارض لا تكون حجّة بطريق أولى ، فلا يعقل معارضتها لما هو حجّة عندنا.

وأنت خبير بأنّه يمكن أن يقلب ذلك ويقال : إنّه مع التساوي أو الترجيح يحكم بحجّية الكلّ نظرا إلى بطلان الترجيح بلا مرجّح حسب ما قرّر في الدليل ، فيلزم القول بحجّيته مع انتفاء المعارض بالأولى ، بل يتعيّن الأخذ بالوجه المذكور دون عكسه فإنّ قضيّة الدليل المذكور ثبوت الحجّية في الصورة المفروضة بخلاف رفع (١) الحجّية في الصورة الاخرى ، فإنّه إنّما يقال به من جهة الأصل وانتفاء الدليل على الحجّية ، فيكون الثبوت هنا حاكما على النفي هناك ، فينتفي القول بحجّية الكلّ كما هو مقصود المستدلّ ، فتأمّل.

ثانيها : أنّ عدم قيام الدليل القاطع على حجّية بعض الظنون لا يمنع من حصول الترجيح للاكتفاء فيه بالأدلّة الظنّية من غير أن يكون ذلك استنادا إلى الظنّ في إثبات الظنّ كما قد يتوهّم.

توضيح ذلك : أنّه بعد قطع العقل بحجّية الظنّ في الجملة ودوران الحجّة بين بعض الظنون وكلّها إن تساوى الكلّ بحسب الحجّية في نظر العقل أمكن الحكم بحجّية الجميع ، لما عرفت من امتناع الحكم بعدم حجّية شيء منها وانتفاء الفائدة في الحكم بحجّية بعض غير معيّن منها ، وحكمه بحجّية بعض معيّن منها ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن الحكم بحجّية الجميع.

وأمّا لو اختلفت الظنون بحسب القرب من الحجّية والبعد عنها في نظر العقل ودار الأمر بين حكمه بحجّية القريب أو البعيد أو هما معا ، فلا ريب أنّ الّذي يقطع

__________________

(١) في «ف» و «ق» : دفع.

٤١٨

به العقل حينئذ هو الحكم بالأوّل وإبقاء الباقي على ما يقتضيه حكم العقل قبل ذلك ، فهو في الحقيقة استناد إلى القطع دون الظنّ.

والحاصل أنّ الّذي يحكم العقل بحجّيته هو القدر المذكور ويبقى الباقي على مقتضى حكم الأصل (١).

ثالثها : أنّ مقتضى الدليل المذكور حجّية كلّ ظنّ عدا ما قام دليل قطعي أو منته إلى القطع على عدم جواز الرجوع إليه.

وبالجملة ما قام دليل معتبر شرعا على عدم جواز الأخذ به. وحينئذ نقول : إنّه إذا قام دليل ظنّي على تعيّن الرجوع إلى ظنون مخصوصة وعدم جواز الرجوع إلى غيرها تعيّن الأخذ بها ولم يجز الرجوع إلى ما عداها ، إذ مع قيام الظنّ مقام العلم يكون الدليل الظنّي القائم على ذلك منزّلا منزلة العلم بعدم جواز الرجوع إلى سائر الظنون.

فمقتضى ما أفاده الدليل المذكور ـ من حجّية كلّ ظنّ عدا ما دلّ الدليل المعتبر شرعا على عدم جواز الرجوع إليه ـ عدم جواز الرجوع حينئذ إلى سائر الظنون ممّا عدا الظنون الخاصّة ، وليس ذلك حينئذ من قبيل إثبات الظنّ بالظنّ فلا يعتدّ به ، بل إنّما يكون كلّ من الإثبات والنفي بالعلم ، إذ المفروض العلم بقيام الظنّ مقام العلم عدا ما قام الدليل على خلافه.

فإن قلت : إنّه يقع التعارض حينئذ بين الظنّ المتعلّق بالحكم والظنّ المتعلّق بعدم حجّية ذلك لقضاء الأوّل بصحّة الرجوع إليه ودفع الثاني له ، فلابدّ حينئذ من الرجوع إلى أقوى الظنّين المذكورين لا القول بسقوط الأوّل رأسا.

قلت : من البيّن أنّه لا مصادمة بين الظنّين المفروضين ، لاختلاف متعلّقيهما ، لما هو ظاهر من صحّة تعلّق الظنّ بالحكم ، والظنّ بكونه مكلّفا بعدم الاعتداد بذلك الظنّ والأخذ به في إثبات الحكم ، فلا يعقل المعارضة بينهما ليحتاج إلى الترجيح.

__________________

(١) في «ق» : العقل.

٤١٩

نعم قد يقال : بوقوع التعارض بين الدليل الدالّ على حجّية الظنّ والظنّ القاضي بعدم حجّية الظنّ المفروض.

ويدفعه : أنّ قضيّة الدليل الدالّ على حجّية الظنّ هو حجّية كلّ ظنّ لم يقم على عدم جواز الأخذ به دليل شرعي ، فإذا قام عليه دليل شرعي كما هو المفروض لم يعارضه الدليل المذكور أصلا.

فإن قلت : إن قام هناك دليل علمي على عدم حجّية بعض الظنون كان الحال على ما ذكرت ، وأمّا مع قيام الدليل الظنّي فإنّما يصحّ جعله مخرجا عن مقتضى القاعدة المذكورة إذا كانت حجّيته معلومة ، وهو إنّما يبتني على القاعدة المذكورة وهي غير صالحة لتخصيص نفسها ، إذ نسبتها إلى الظنّين على نحو سواء ، فكما يكون الظنّ بعدم حجّية ذلك الظنّ قاضيا بعدم جواز الأخذ به كذا يكون الظنّ المتعلّق بثبوت الحكم في الواقع أيضا قاضيا بوجوب العمل بمؤدّاه ، ومقتضى القاعدة المذكورة حجّية الظنّين معا ، ولمّا كانا متعارضين لم يمكن الجمع بينهما كان اللازم مراعاة أقواهما والأخذ به في المقام على ما هو شأن الأدلّة المتعارضة من غير أن يكون ترك أحد الظنّيين مستندا إلى القاعدة المذكورة ـ كما زعمه المجيب ـ إذ لا يتصوّر تخصيصها لنفسها.

والحاصل : أنّ المخرج عن حكم تلك القاعدة في الحقيقة هو الدليل الدالّ على حجّية الظنّ المفروض ، إذ الظنّ بنفسه لا ينهض حجّة قاضية بتخصيص القاعدة الثابتة ، والمفروض أنّ الدليل عليه هو القاعدة المفروضة فلا يصحّ جعلها مخصّصة لنفسها ، أقصى الأمر مراعاة أقوى الظنّين المفروضين في المقام.

قلت : الحجّة عندنا حينئذ كلّ واحد من الظنون الحاصلة وإن كان المستند في حجّيتها شيئا واحدا ، وحينئذ فالحكم بحجّية كلّ واحد منها مقيّد بعدم قيام دليل على خلافه.

ومن البيّن حينئذ كون الظنّ المتعلّق بعدم حجّية الظنّ المفروض دليلا قائما على عدم حجّية ذلك الظنّ فلابدّ من تركه.

٤٢٠