هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

ومنها : أنّ مفاد هذه الآيات عدم حجّية الظنّ من حيث هو ، وأمّا إذا قام الدليل القاطع على حجّيته فليس الاتّكال على الظنّ ، بل على القاطع الّذي دلّ على الأخذ بمقتضاه ، فمفاد هذه الآيات هو ما دلّ عليه العقل من عدم جواز الاتّكال على مجرّد الظنّ على حسب ما بيّناه سابقا ، وحينئذ فلا ترتبط بالمدّعى فإنّ من يقول بحجّية مطلق الظنّ إنّما يقول به من جهة قيام الدليل عليه كذلك ، فمفاد هذه الآيات ممّا اتّفق عليه القائلون بالظنون الخاصّة والقائل بحجّية مطلق الظنّ ، إلّا أنّ القائل بحجّية مطلق الظنّ إنّما يقول به بعد إقامة الدليل عليه كذلك كالقائل بحجّية الظنون الخاصّة ، فلا دلالة في هذه الآيات على إبطال شيء من الأمرين.

ومنها : أنّ هذه الآيات عمومات وما دلّ على حجّية ظنّ المجتهد ظنّ خاصّ قد قام الدليل القاطع على حجّيته ، فلابدّ من تخصيص تلك العمومات.

وفي هذين الوجهين ما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.

وهناك إيرادات اخر على خصوص بعض تلك الآيات :

منها : ما اورد على الآية الاولى من أنّ المراد بالحقّ الثابت المعلوم ، فالمقصود أنّ المعلوم الثابت لا يترك بالمظنون ، إذ الظنّ لا يغني عنه حتّى يترك لأجله ، وهو حينئذ ممّا لا كلام فيه ولا يفيد عدم جواز التمسّك بالظنّ مطلقا.

وفيه : أنّه خلاف ما يستفاد من ظاهر الآية فإنّ الظاهر أنّ المراد بالحقّ هو الأمر الثابت في الواقع والمراد بعدم إغناء الظنّ عنه عدم كونه طريقا موصلا إليه كافيا في الحكم به.

وقد فسّره بذلك الرازي في تفسيره أو أنّه يراد به العلم أيّ أنّ الظنّ لا يغني من العلم شيئا ولا يقوم مقامه ، وقد فسّره الطبرسي به في المجمع ، وعلى كلّ من الوجهين يفيد المقصود.

ومنها : ما قد يورد على الآية الثانية من أنّ الذمّ هناك بمقتضى ظاهر الآية على حصرهم الأمر في اتّباع الظنّ. فغاية الأمر أن تدلّ الآية على لزوم تحصيل العلم في بعض المسائل ، وعدم جواز الاقتصار على الظنّ في الجميع ، ولا كلام لأحد فيه.

٣٤١

وفيه : أنّ ظاهر سياق الآية هو الذمّ على اتّباع الظنّ مطلقا ، وحملها على إرادة الحصر الحقيقي لا يخلو عن بعد ، بل قد يقطع بفساده. وعلى فرض حملها عليه فليس الذمّ واردا على خصوص الانحصار فيه ، بل ظاهر السياق كون أصل الذمّ على اتّباع الظنّ ، وإن كان حصر الأمر فيه أشنع كما تقول في مقام الذمّ لا يشتغل فلان إلّا بالعصيان ، فإنّه يفيد شناعة أصل العصيان ، كما لا يخفى.

ومنها : ما قد يورد على الآية الثالثة من أنّه لا عموم فيها حتّى يشمل جميع الظنون ، غاية الأمر دلالتها على عدم حجّية بعض الظنون أو عدم حجّية الظنّ مطلقا في بعض الأشياء ، ولا كلام فيه ، وأيضا أقصى ما يستفاد من الآية عدم جواز إسناد الحكم إليه تعالى على سبيل الجزم مع حصول الظنّ به ، وأمّا إذا ابرز الحكم على سبيل الظنّ كما هو الواقع فلا دلالة فيها على المنع ، وكذا لا دلالة فيها على المنع من العمل به.

ويدفع الأوّل أنّ في الإطلاق كفاية في المقام سيّما مع إشعاره بالعلّية ، بل ودلالته فيها.

والثاني أنّه لو جاز الإفتاء على سبيل الظنّ جاز الحكم على وجه البتّ أيضا من غير تأمّل لأحد فيه ، فإذا دلّت الآية على المنع منه دلّت على المنع من الإفتاء رأسا ، ومع المنع من الإفتاء مطلقا لا يجوز العمل به ، إذ لا قائل بالفرق.

ومنها : ما يورد على الآية الأخيرة وهو من وجوه :

أحدها : أنّها خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يعمّ غيره. ومن البيّن أنّه مكلّف بالعمل بالوحي ولا يجوز له الأخذ بالظنّ ، نعم فيها دلالة على بطلان قول من يجوز عليه الاجتهاد.

وقد يجاب عنها تارة : بأنّ ما دلّ على وجوب التأسّي قاض بجريان الحكم بالنسبة إلى امّته أيضا كيف؟ والأصل الاشتراك في التكاليف إلّا أن يعلم اختصاصه به ، ولذا حصرت خواصّه في امور معيّنة. واخرى : بأنّه لا تأمّل لأحد في شمول الحكم المذكور للامّة إمّا لأنّ الخطاب إليه خطاب لامّته في الحقيقة حسب ما هو

٣٤٢

المتداول في اختصاص الخطاب بالرئيس مع كون المطلوب حقيقة فعل الأتباع ، أو للاتّفاق عليه نظرا إلى انحصار خواصّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في امور لم يذكر ذلك في جملتها.

ويمكن دفع الوجهين بأنّا نسلّم الاشتراك ، لكن مع الاتّفاق في ما يحتمل إناطة الحكم به ، وليس الحال كذلك في المقام ، لوضوح الاختلاف حيث إنّه متمكّن من العلم ، وليس ذلك حاصلا لنا ، إذ المفروض انسداد سبيل العلم بالنسبة إلينا ، فأقصى الأمر أن يجري ذلك بالنسبة إلى المتمكّنين من العلم من امّته ، ولا كلام فيه.

ثانيها : أنّه لا عموم في الآية لتفيد المنع من جميع الظنون والنهي عن بعضها ممّا لا كلام فيه ، وقد فسّرها جماعة من المفسّرين بامور مخصوصة فقيل : معناه لا تقل سمعت ولم تسمع ولا رأيت ولم تر ولا علمت ولم تعلم ، وقيل : معناه لا تقل في قفا غيرك شيئا ، وقيل: هو شهادة الزور ، وقيل : معناه لا ترم أحدا بما ليس لك به علم. وعلى كلّ من هذه التفاسير لا ترتبط بالمدّعى.

ثالثها : أنّه على فرض كونه للعموم إنّما يفيد رفع الإيجاب الكلّي دون السلب الكلّي، فهي إنّما تدلّ على النهي عن العموم لا عموم النهي كما هو المدّعى.

والجواب عنها : أنّ الإطلاق هنا كاف في إفادة العموم لرجوع المطلق في المقام إلى العامّ ، نظرا إلى دليل الحكمة ، مضافا إلى وقوعه في سياق النهي الّذي هو بمنزلة النفي في اقتضائه عموم ما يقع في سياقه كما تقول : لا تهن العالم ، وعلى كلّ من الوجهين فهو يفيد عموم النهي لا النهي عن العموم كما ظنّ.

وما ذكر من كلام المفسّرين مبنيّ على إرادة المثال ومع الغضّ عنه فلا حجّة فيه مع مخالفته لظاهر الإطلاق.

وممّا قرّرناه يظهر الإيراد على الأخبار المذكورة أيضا ، فإنّه قد يناقش في إسنادها ودلالتها بأنّ أقصى ما تفيده الظنّ وحجّيته أوّل الكلام ، بل نقول : إنّ مفادها عدم جواز الاتّكال على الظنون ، فلو صحّ مفادها لما جاز الاعتماد عليها.

٣٤٣

ويمكن الجواب عنها بنحو ما مرّ. ويرد عليها أيضا أنّ ما تفيده تلك الروايات عدم الاتّكال على الظنّ من حيث هو حسب ما ذكر في مفاد الآيات ، وهو خارج عن محلّ الكلام.

وقد توافقت عن المنع منه الأفهام فلا تدلّ على المدّعى ، وأيضا أقصى ما تفيده عموم المنع عن الأخذ بالظنّ ، وقد خرج ظنّ المجتهد ، للأدلّة القاطعة الدالّة على حجّيته ، فأقصى ذلك تخصيص العامّ أو تقييد المطلق ، لقيام الدليل عليه.

ويمكن دفع الوجهين بأنّ ذلك لا ينافي ما هو المقصود من الاحتجاج بتلك الظواهر ، حيث إنّ المقصود من ذلك بيان أنّ مقتضى الأدلّة القائمة من الكتاب والسنّة عدم حجّية شيء من الظنون إلى أن يقوم دليل على حجّيته ، فإن تمّ الدليل على حجّية خصوص ظنّ المجتهد مطلقا فلا كلام ولم يزاحمه شيء من تلك الظواهر ، وإلّا كان مقتضى الدليل المذكور المنع من الأخذ به كذلك ، وهو ظاهر ، وسيأتي إن شاء الله توضيح القول فيه.

ـ الثاني ـ

الإجماع ، ويقرّر بوجوه :

أحدها : الإجماع على عدم حجّية الظنّ وأنّ الحجّة إنّما هي العلم وأنّ على كلّ من الأحكام الشرعيّة دليلا قطعيّا يصل إليه الطالب ، فلا فرق بينهما في ذلك ، ولا وجه للرجوع إلى الظنّ في الفروع كما هو الحال في الاصول. يظهر ذلك من السيّد في ما حكي عنه قائلا : «إنّ الخلاف في فروع الدين يجري مجرى الخلاف في اصوله. وهذا المخالف في الأمرين على حكم واحد ، لأنّ فروع الدين عندنا كاصوله في أنّ على كلّ واحد منها أدلّة قاطعة واضحة لا محالة ، وأنّ التوصّل إلى العلم بكلّ من الأمرين يعني الاصول والفروع ممكن صحيح ، لأنّ الظنّ لا مجال له في شيء من ذلك ولا الاجتهاد المفضي إلى الظنّ دون العلم، والشيعة الإماميّة مطبقة على أنّ مخالفها في الفروع كمخالفها في الاصول في الأحكام» انتهى.

والإجماع المذكور وإن قضى ببطلان القول بحجّية مطلق الظنّ إلّا أنّه مخالف

٣٤٤

للقول بحجّية الظنون الخاصّة أيضا ، نظرا إلى قضائه بعدم حجّية الظنّ مطلقا ـ كما ذهب إليه الأخباريّة ـ فلا يصحّ التمسّك به في المقام ، بل لابدّ من القطع بفساده ، لقيام الضرورة على حجّية الظنّ في الفروع في الجملة.

وقد يقال : إنّ ما ذكره السيّد رحمه‌الله إنّما كان بالنظر إلى زمانه الّذي لم ينسدّ فيه باب العلم وكان أخذ الأحكام من الأدلّة القطعيّة ممكنا حسب ما ذكره السيّد في مقام آخر أيضا.

ومن البيّن أنّه مع عدم انسداد باب العلم لا داعي إلى القول بحجّية الظنّ بخلاف هذه الأزمنة وما ضاهاها فلا يرتبط الإجماع المدّعى بالمقام ، لكنّا نقول : إنّ الظاهر أنّ انفتاح السبيل كذلك لم يكن حاصلا في عصره ، بل وما تقدّم على عصره أيضا ، كيف!ولو كانت الأدلّة القطعيّة قائمة واضحة لما وقع هذه الاختلافات بين القدماء لبعد تفرّع الخلاف كذلك على الأدلّة القطعيّة النقليّة ، وعلى فرض حصوله فإنّما يقع على سبيل الندرة ، مع أنّ الخلاف الواقع بين القدماء لا يقصر عن الخلاف الحاصل بين المتأخّرين ، ويشهد له أيضا ملاحظة طرق استدلالهم ووجوه احتجاجهم على المسائل ، فإنّهم يتمسّكون غالبا بوجوه لا تفيد العلم بالواقع قطعا. فالدعوى المذكورة من السيد رحمه‌الله بعيدة جدّا ، بل يكاد يقطع بخلافه. ويومئ إليه ما ذكره من قطع الإماميّة بأنّ مخالفها في الفروع كمخالفها في الاصول ، فإنّه لا يعنى منه أنّ كلّا منهم يقطع بأنّ مخالفه في المسألة الفرعيّة ولو كان من الإماميّة كمخالفه في الاصول ، للقطع بخلافه ، كيف! والاختلافات الواقعة بينهم معروفة واضحة ، ولم يقطع أحد منهم بضلالة مخالفه ولا قطع موادّته ، بل ولم يتحقّق منه جزمه لذلك ولا الظنّ فيه (١) كما هو الحال في مخالفة الاصول ، وهو من الامور الواضحة ، بل الضروريّة بعد ملاحظة طريقتهم ، والظاهر أنّ مقصوده بذلك قطعهم بكون مخالفهم في الفروع من سائر المذاهب الآخذين فروعهم من غير الطرق المقرّرة في الشريعة عند الشيعة كمخالفهم في الاصول وإن كان المخالف

__________________

(١) في «ق» : الطعن فيه.

٣٤٥

في الفروع على الوجه المذكور هو المخالف في الاصول ، إلّا أنّ الحيثيّة مختلفة والجهة متعدّد ، والظاهر أنّه قدس‌سره عنى بقيام الدليل القاطع على كلّ مسألة من الفروع ما يعمّ القطع بالواقع والقطع (١) بوجوب العمل ، لاشتراكهما في القطع بالتكليف. فلابدّ أن يكون الدليل مفيدا للقطع بالواقع أو (٢) القطع بالتكليف بقيام القاطع على حجّيته حسب ما نصّ عليه في مقام آخر فلا يكتفى بمجرّد ما يفيد الظنّ بالواقع كما هو الحال في الاجتهاد المتداول بين العامّة ، ولذا حكم بالمنع من الاجتهاد المفضي إلى الظنّ دون العلم.

والحاصل : أنّ القطع بالطريق الموصل كالقطع بالواقع في قطع عذر المكلّف ووضوح التكليف عنده وبلوغ الحجّة بالنسبة إليه.

فإن قلت : إنّ مطلق الظنّ عند من يعمل به ويقول بحجّيته بتلك المثابة أيضا ، فليس بناء العامّة على العمل بالظنّ إلّا مع القطع بحجّيته ، ولذا قالوا : إنّ ظنّية الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم.

قلت : مقصود السيّد من الإجماع المذكور هو دفع ذلك والردّ عليه ، وأنّ الظنّ مطلقا ممّا لا دليل على حجّيته ، بل لابدّ من الأخذ بالعلم أو طريق قام الدليل العلمي على حجّيته، فما ادّعاه من الإجماع إنّما هو على أصالة عدم حجّية الظنّ وأنّ الحجّة إنّما هي الطرق الخاصّة الّتي دلّت عليه الأدلّة القاطعة ، فمن أخذ الفروع من غير تلك الطرق العلميّة يحكمون بضلالته كالمخالف في اصول الدين والمذهب ، وعلى هذا فيرجع ما ذكره من الإجماع إلى :

الوجه الثاني في تقرير الإجماع ، وهو أن يدّعى الإجماع على أنّ الأصل الثابت بعد انسداد سبيل العلم هو عدم حجّية الظنّ مطلقا وإنّما الحجّة كلّ واحد من الطرق الخاصّة الّتي قامت عليها الأدلّة القاطعة في الشريعة.

وسيظهر دعوى الإجماع عليه كذلك من الشريف الاستاذ قدس‌سره حيث ذكر في بعض تحقيقاته في دفع حجّية الشهرة أنّ اعتبارها مبنيّ على حجّية الظنّ مطلقا ،

__________________

(١) في «ف» و «ق» : أو القطع.

(٢) في «ف» وبدل أو.

٣٤٦

وليس ذلك من مذهبنا وإن أوهمه بعض العبارات ، والحجّة عندنا ليس إلّا اليقين أو الظنّ المعتبر شرعا وهو المنتهي إلى اليقين ـ كظواهر الكتاب ـ وهو المطابق لما ادّعاه السيّد رحمه‌الله حسب ما عرفت فيتأيّد به الدعوى المذكورة ، مضافا إلى ملاحظة طريقة العلماء خلفا عن سلف ، فإنّه لا زال علماؤنا يستدلّون على حجّية الأدلّة الظنّية والطرق الخاصّة بالأدلّة القائمة عليها من الكتاب والسنّة وغيرهما ، ولم نجدهم يستندون إلى مجرّد كونه مفيدا للظنّ ، وأيضا لا زالوا يتمسّكون في غير القطعيّات بالظنون الحاصلة من الكتاب والسنّة أو القواعد المأخوذة عنهما دون غيرهما ، وعلى ذلك جرت طريقتهم من لدن أعصار الأئمّة عليهم‌السلام إلى يومنا هذا ، كما يظهر ذلك من ملاحظة الكتب الاستدلاليّة ومناظراتهم المحكيّة كيف! ولو كان مطلق الظنّ حجّة عندهم لأقاموا الدليل على ذلك واستراحوا عن مؤنة الأدلّة الخاصّة على الظنون المخصوصة ، بل الّذي يظهر أنّ ذلك من طريقة العامّة حيث إنّهم يركنون إلى سائر ما يفيد الظنّ كما يشعر به كلام الشريف الاستاذ ، وربّما يشير إليه عبارة السيّد رحمه‌الله ، وعليه مبنى الاجتهاد عندهم حيث إنّهم يطلبون به الظنّ بالحكم الشرعي ، ولذا ورد ذمّ الاجتهاد في الأخبار ، وأنكره علماؤنا يعنون به ذلك دون مطلق الاجتهاد ، فإنّه مطلوب عندنا أيضا وإنّما يراد به بذل الوسع في تحصيل مفاد الأدلّة الّتي يقطع بحجّيتها والعمل بمؤدّاها ، وتحصيل ما هو الأقوى منها عند تعارضها ، وأين ذلك من الاجتهاد المطلوب عند العامّة؟ فمطلق الظنّ عندنا إنّما يعتبر في التراجيح الحاصلة بين ما يقطع بحجّيتها دون نفس الأدلّة.

والحاصل : أنّ الحكم بانعقاد الإجماع على ما ذكرنا غير بعيد من ملاحظة طريقتهم والتأمّل في مطاوي كلماتهم حسب ما قرّرناه ، وقد ادّعاه السيّدان الأفضلان حسب ما عرفت. وربّما يدّعى الإجماع على عكس ذلك لبعض ما قد يوهم ذلك من كلماتهم ، وهو توهّم فاسد كما سيجيء الإشارة إليه.

ثالثها : أن يدّعى الإجماع على أنّ الظنّ ليس بحجّة إلّا ما قام الدليل القطعي أو المنتهي إلى القطع على اعتباره ، فإن قام ذلك فلا كلام وإلّا بني على عدم

٣٤٧

حجّيته. والظاهر أنّه لا مجال لأحد في إنكاره حسب ما عرفت ، بل هو ممّا اجتمعت عليه العقلاء كافّة ، وإن فرض خلاف شاذّ فيه فهو من قبيل الخلاف في الضروريّات على نحو ما يقع من السوفسطائيّة ، وحكاية إجماع المسلمين عليه مذكورة في كلام غير واحد من الأفاضل.

واورد عليه : أنّ غاية ما يستفاد ممّا ذكر أنّ الظنّ ليس بحجّة من أوّل الأمر ، والأصل الأوّلي فيه عدم الحجّية على عكس العلم فلا يجوز التمسّك بشيء من الظنون إلّا ما قام الدليل على حجّيته من مطلق الظنّ أو الظنون الخاصّة ، وهذا كما عرفت خارج عن محلّ الكلام إنّما البحث في أنّ الأصل المذكور هل انقلب بعد انسداد باب العلم فصار الأصل الثانوي حجّية الظنّ حينئذ إلّا ما قام الدليل على خلافه ، أو الأصل فيه أيضا عدم الحجّية وإنّما قام الدليل على حجّية ظنون مخصوصة؟ ولا ربط للإجماع المذكور بإثبات ذلك ونفيه ، وانقلاب الاصول إلى اصول اخر بخلافها شائع في الفقه كحجّية شهادة العدلين وإخبار ذي اليد ودلالة يد المسلم على الطهارة بعد العلم بنجاسته ، مع أنّ الأصل الأوّلي في الجميع على خلاف ذلك ، والكلام هنا في إثبات هذا الأصل ، ولا يثبت بالإجماع المدّعى على ثبوت الأصل في التقدير الآخر.

قلت : المقصود من التمسّك بالإجماع المذكور بيان هذا الأصل المسلّم وأنّ قضيّة الأصل عدم حجّية شيء من الظنون إلّا ما قام الدليل عليه ، فالقائل بحجّية مطلق الظنّ حينئذ لا بدّ له من إقامة دليل علمي عليه ، فإن تمّ له ذلك فلا كلام وإلّا لم يكن له بدّ من القول بنفي حجّية الظنّ بمقتضى الإجماع المذكور إلّا ما قام الدليل القاطع على حجّيته بالخصوص من الظنون فالإجماع القائم على الأصل الأوّلي كان حجّة على ثبوت الأصل في المقام الثاني بعد المناقشة في الدليل القائم على خلافه ، فإذا لم ينهض دليل القائل بأصالة حجّية مطلق الظنّ بالأصل الثانوي حجّة في المقام انحصر الدليل بمقتضى الإجماع المذكور في الظنون الخاصّة من غير حاجة في إثبات هذا الأصل إلى إقامة دليل آخر ، وهذا هو

٣٤٨

المقصود من الاحتجاج المذكور ، فمرجع هذا الدليل إلى الوجه السابق إلّا أنّ التفاوت بينهما أنّ ذلك الأصل قد يستدلّ عليه بعمومات الكتاب والسنّة ، وقد يستدلّ عليه بالعقل حسب ما مرّت الإشارة إليه ، فالأدلّة الأربعة مطابقة على إثبات الأصل المذكور ، وهو قاض بعدم حجّية مطلق الظنّ وعدم جواز الاتّكال عليه إلّا ما قام دليل على حجّيته. فإذا نوقش في ما يستنهض دليلا على ذلك ولم نجد دليلا آخر سواه تمّ الاحتجاج المذكور ، فيمكن أن يقرّر ذلك بالملاحظة المذكورة دليلا واحدا على المقصود ، ويمكن أن يقرّر أدلّة أربعة نظرا إلى تعدّد الأدلّة القاضية به ولا مشاحّة فيه.

ـ الثالث ـ

أنّه لو كان مطلق الظنّ حجّة في الشريعة وكانت العبرة في استنباط الأحكام بعد انسداد باب العلم بالواقع بمطلق المظنّة لورد ذلك في الأخبار المأثورة ونصّ عليه صاحب الشريعة ، بل تواترت فيه الروايات الواردة ، إذ هو من المطالب المهمّة وينوط به بقاء الشريعة وبه يتّسق تكاليف الامّة فكيف يقع من صاحب الشريعة إهمال البيان؟! مع أنّا لا نجد في الكتاب والسنّة دلالة على ذلك ولا بيانا من صاحب الشريعة ، بل ولا إشارة إليه في الروايات المأثورة ، بل نجد الأمر بعكس ذلك حيث ورد في الأخبار ذمّ الآخذ بالظنّ والمنع من التعويل عليه ، فعدم قيام الدليل من الشرع على حجّيته مع كون المسألة ممّا يعمّ به البليّة أقوى دليل على عدم ثبوت الحكم ، بل قد ورد عنه طريق آخر لاستنباط الأحكام غير مطلق الظنّ قد وقع التنصيص عليه في أخبار كثيرة وهو الأخذ بالكتاب والسنّة والأخبار المأثورة عن أهل بيت العصمة عليهم‌السلام.

وقد ورد الحثّ الأكيد على الرجوع إلى ذلك ، ففيه أقوى دلالة على عدم الرجوع إلى مطلق الظنّ مع التمكّن من الرجوع إلى ذلك. نعم الرجوع إلى ما ذكر إنّما يكون غالبا على سبيل الظنّ ، إلّا أنّه ظنّ خاصّ لا مدخل له بمطلق الظنّ ، ومن الغريب ما اورد في المقام أنّه قد ورد الأمر بالعمل بالظنّ في الأخبار ،

٣٤٩

فلا وجه لما يدّعى من عدم وروده في الأخبار مشيرا بذلك إلى الأخبار الدالّة على الأمر بالأخذ بالكتاب والسنّة ، نظرا إلى أنّ الأخذ بهما غالبا إنّما يكون على سبيل الظنّ ، إذ من الواضح أنّ ذلك أمر بالأخذ بالظنّ الخاص دون المطلق ، فهو يؤيّد مقصود المستدلّ ويعاضد ما ادّعاه حسب ما ذكرنا لا أنّه ينافيه.

وقد يورد على الاحتجاج المذكور : بأنّه لم يكن سبيل العلم منسدّا في أزمنة المعصومينعليهم‌السلام وإنّما حصل الانسداد بعد ذلك ، ولو كان ذلك حاصلا في أزمنتهم صحّ ما ذكر في الاحتجاج ، وأمّا إذا حصل بعد تلك الأزمنة فلا دلالة في خلوّ الأخبار عنه على عدم كونه طريقا ، وعموم البلوى بها بعد ذلك لا يقضي بذكرها في الأخبار حال عدم الاحتياج إليها ، وهذا هو الوجه في خلوّ الأخبار عن بيانه.

ويدفعه أنّه لو سلّم جواز إهمال الشارع لحال التكليف في زمن الغيبة مع اشتداد الحاجة إليه نقول : إنّ انسداد باب العلم كان حاصلا بالنسبة إلى كثير ممّن كان في أعصارهمعليهم‌السلام سيّما من كان منهم في البلدان البعيدة والأقطار النائية مع شدّة التقيّة ، وفي ملاحظة أحوال الرجال وما يرى من اختلافهم في الفتاوى أقوى دلالة عليه ، فمنع حصول الانسداد في تلك الأزمنة وإنكار شدّة الحاجة إلى حكمه ضعيف ، فكيف يصحّ القول حينئذ بإهمالهم في بيان حكم المسألة وركونهم إلى مجرّد حكم العقل مع ما يشاهد من إختلاف العقول في الإدراكات؟

ـ الرابع ـ

أنّ الظنون ممّا يختلف الحال فيها بحسب اختلاف السلائق والأفهام فكيف (١) يصلح أن يجعل مطلق الظنّ مناطا لاستنباط الأحكام؟ وإلّا لزم الهرج والمرج في الشريعة وعدم انضباط الأحكام الشرعيّة. نعم ما كان من الطرق الظنّية مضبوطة بعيدة عن الاضطراب ـ كظنون الكتاب والسنّة ـ لم يكن مانع من حجّيتها والاتّكال عليها.

وفيه : أنّ ذلك إن تمّ فإنّما يتمّ بالنسبة إلى الظنون الّتي لا معيار لها كالأهواء والآراء والاستحسانات العقليّة والوجوه التخريجيّة ، ولا كلام عندنا في عدم صحة

__________________

(١) في «ف» و «ق» بدل «فكيف» : فلا.

٣٥٠

الاستناد إليها وقضاء الإجماع ، بل الضرورة بعدم الاعتماد عليها ، وأمّا ما سوى ذلك من الظنون فلا يجري فيها الوجه المذكور.

ويمكن دفعه : بأنّ ذلك خلاف ما اختاروه ، فإنّهم إنّما (١) يقولون بقضاء العقل بحجّية الظنّ مطلقا ، وإنّما قالوا بعدم جواز الاستناد إلى الظنون المذكورة لوجود المانع عنه ، وإلّا فالمقتضي لجواز الاتّكال عليها موجود عندهم حسب ما قرّروه ، والوجه المذكور يدفعه.

نعم يمكن أن يقال : إنّه ليس الكلام في بناء الشريعة على الظنون إلّا حين انسداد سبيل العلم وحصول الضرورة الملجئة إليها ، واختلافها في الانضباط وعدمه إنّما يقضي بقوّة المنضبط وضعف غيره ، وذلك إنّما يقضي بعدم جواز الأخذ بالضعيف مع التمكّن من الأقوى ، ولا كلام فيه لتعيّن الرجوع إلى الأقوى حينئذ. وأمّا مع عدم حصول الأقوى فلا ريب أنّ الأخذ بالضعيف أولى من الأخذ بخلافه وأقرب إلى إصابة الواقع ، فهو في حال الضرورة بالترجيح أحرى ، والمفسدة اللازمة في الأخذ بخلافه أقوى.

هذا وربّما استدلّ بعضهم في المقام بأنّه لا دليل في الشرع على حجّية مطلق الظنّ حين انسداد باب العلم ، وإنّما الدليل عليه عند القائل به هو العقل وهو لا يفيد وجوب الأخذ به شرعا كما هو المقصود ، إذ الوجوب الشرعي لا يثبت إلّا بحكم الشرع دون العقل، وهذا الوجه موهون جدّا ، لأنّه مبنيّ على أصل فاسد مقطوع بفساده ، أعني نفي الملازمة بين العقل والشرع وإنكار كون العقل القاطع من أدلّة الشرع ، وقد قرّر وهنه في محلّه مستقصى.

ثمّ إنّ لنا طرقا اخرى في المقام ووجوها شتّى في تصحيح هذا المرام نوضح القول في بيانها ، ونشير إلى ما يرد عليها وما به يمكن دفعه عنها.

أحدها :

أنّه لا ريب في كوننا مكلّفين بأحكام الشريعة وأنّه لم يسقط عنّا التكاليف

__________________

(١) كذا ، والظاهر : لا.

٣٥١

والأحكام الشرعيّة في الجملة وأنّ الواجب علينا أوّلا هو تحصيل العلم بتفريع الذمّة في حكم المكلّف بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به وسقوط التكليف عنّا سواء حصل منه العلم بأداء الواقع أو لا ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه.

وحينئذ نقول : إن صحّ (١) لنا تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم الشارع فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به ، وإن انسدّ علينا سبيل العلم به كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبراءة في حكمه ، إذ هو الأقرب إلى العلم به فيتعيّن الأخذ به عند التنزّل من العلم في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف دون ما يحصل معه الظنّ بأداء الواقع كما يدّعيه القائل بأصالة حجّية الظنّ ، وبينهما بون بعيد ، إذ المعتبر في الوجه الأوّل هو الأخذ بما يظنّ كونه حجّة لقيام دليل ظنّي على حجّيته سواء حصل منه الظنّ بالواقع أو لا ، وفي الوجه الثاني لا يلزم حصول الظنّ بالبراءة في حكم المكلّف ، إذ لا يستلزم مجرّد الظنّ بالواقع ظنّا باكتفاء المكلّف بذلك الظنّ في العمل سيّما بعد ما ورد من النهي عن العمل بالظنّ والأخذ به ، فإذا تعيّن تحصيل ذلك بمقتضى حكم العقل حسب ما عرفت لزم اعتبار أمر آخر يظنّ معه برضاء المكلّف بالعمل به ، وليس ذلك إلّا الدليل الظنّي الدالّ على حجّيته ، فكلّ طريق قام دليل ظنّي على حجّيته واعتباره في نظر الشرع يكون حجّة دون ما لم يقم عليه ذلك.

فإن قلت : إن قام أوّلا طريق مقرّر من الشرع في الوصول إلى الحكم والحكم معه بتفريغ الذمّة عن التكليف فلا كلام ، وإن لم يقم فالواجب أوّلا تحصيل العلم بالواقع ، فمع تعذّره ينوب منابه الظنّ بالواقع ، أو يقال : إنّه إن لم يقم طريق مقرّر من الشارع للوصول إلى الواقع كان العلم هو الطريق الواقع ، وإن قام اكتفى بما جعله طريقا ، فإن لم يثبت عندنا ذلك أو ثبت وانسدّ سبيل العلم به كان المرجع هو العلم بالواقع ، إذ القدر المسلّم من التكليف بالرجوع إلى الطريق إنّما هو مع العلم به ، وبعد انسداد سبيل العلم به يرجع إلى الظنّ بالواقع حسب ما قرّروه.

__________________

(١) في «ق» : إن أمكن.

٣٥٢

قلت : لا ترتيب بين تحصيل العلم بالواقع بالطريق المقرّر من الشرع ، وليس تعيّن الرجوع إلى العلم مع عدم الطريق المقرّر أو عدم العلم به قاضيا بترتّب العلم بالواقع عليه ولا تعيّن الرجوع إلى العلم بالواقع إلى أن يقوم دليل على الاكتفاء بغيره من الطريق الذي قرّره دليلا على ترتّب الآخر عليه ، بل الجميع في مرتبة واحدة ، وإنّما يتعيّن الرجوع إلى العلم مع انتفاء الطريق المقرّر أو عدم العلم به ، لانحصار العلم بالخروج عن عهدة التكليف في ذلك ، ولذا يجوز الرجوع إلى العلم مع وجود الطريق المقرّر أيضا ويتخيّر المكلّف في الرجوع إلى أيّهما شاء.

والحاصل : أنّ القدر اللازم أداء الفعل وحصول البراءة بحسب حكم الشارع ، وهو حاصل بكلّ من الوجهين. وتعيّن تحصيل العلم بالواقع مع فرض انتفاء العلم بالطريق المقرّر أو انتفائه واقعا ليس لكونه متعيّنا في نفسه ، بل لحصول البراءة به على النحو الّذي ذكرناه ، وفرق بيّن بين كون الشيء مطلوبا بذاته وكون المطلوب حاصلا به ، فهو إذن أحد الوجهين في تحصيل تفريغ الذمّة ، فإذا انسدّ باب العلم بتفريغ الذمّة على الوجه المفروض بكلّ من الوجهين المذكورين بأن لم يحصل هناك طريق قطعي من الشارع يحكم معه بتفريغ الذمّة وانسدّ سبيل العلم بالواقع القاضي بالقطع بتفريغ الذمّة كذلك يرجع (١) الأمر بعد القطع ببقاء التكليف إلى الظنّ بتفريغ الذمّة في حكم الشارع حسب ما عرفت ، وهو يحصل بقيام الأدلّة الظنّية على حجّية الطرق المخصوصة حسب ما يقام الدليل عليها في محالّها من غير أن يكتفى في إفادة حجّيتها بمجرّد كونها مفيدة للظنّ بالواقع كما هو قضيّة الوجه الآخر.

فإن قلت : إنّ الظنّ بأداء الواقع يستلزم الظنّ بتفريغ الذمّة على الوجه المذكور لو لا قيام الدليل على خلافه كما في القياس ونحوه ، إذ أداء المكلّف به واقعا يستلزم تفريغ الذمّة بحسب الواقع قطعا لقضاء الأمر بالإجزاء على الوجه المذكور ، والظنّ بالملزوم قاض بالظنّ باللازم ، فكلّ ما يفيد الظنّ بالواقع يفيد الظنّ

__________________

(١) في المطبوع : رجع.

٣٥٣

بتفريغ الذمّة في حكم الشرع لو لا قيام الدليل على خلافه ، إذ ليس مقصود الشارع حقيقة إلّا الواقع ، وإذا قام الدليل على خلافه فإن كان قطعيّا فلا إشكال في عدم جواز الرجوع إليه، لعدم مقاومة الظنّ المفروض للقطع ، وإن كان ظنّيا وقعت المعارضة بين الظنّين المفروضين ، حيث إنّ الظنّ بالواقع يستلزم الظنّ بتفريغ الذمّة على الوجه المذكور حسب ما عرفت ، والدليل القاضي بعدم حجّية ذلك الظنّ قاض بالظنّ بعدم تفريغ الذمّة كذلك ، فيراعى حينئذ أقوى الظنّين كما هو الشأن في سائر المتعارضين ، بل القويّ حينئذ هو الظنّ والآخر وهم في مقابله ، ولا يتحاشى عنه القائل بأصالة حجّية الظنّ ، بل ذلك مصرّح به في كلام جماعة منهم.

نعم غاية ما يلزم من التقرير المذكور أن يقال بحجّية ما لا يفيد ظنّا بالواقع كالاستصحاب في بعض الموارد إذا قام دليل ظنّي على كونه طريقا شرعيّا إلى الواقع ، لحصول الظنّ منه حينئذ بتفريغ الذمّة في حكم الشرع وإن لم يحصل منه الظنّ بأداء الواقع ، والظاهر أنّه لا يأبى عنه القائل بحجّية مطلق الظنّ ، فغاية الأمر أن يقول : حينئذ بحجّية كلّ ظنّ بالواقع ويضيف إليه حجّية ما يظنّ كونه طريقا إلى الواقع شرعا وإن لم يفد ظنّا بالواقع.

والحاصل : أنّ القول بحجّية ذلك لا ينافي مقصود القائل بحجّية مطلق الظنّ ، سواء التزم به في المقام أو لم يلتزم به لبعض الشبهات.

قلت : قد عرفت ممّا مرّ أنّ الظنّ بما هو ظنّ ليس طريقا إلى الحكم بتفريغ الذمّة ، فمجرّد الظنّ بالواقع ليس قاضيا بالظنّ بتفريغ الذمّة في حكم الشرع مع قطع النظر عن قيام دليل على حجّية ذلك الظنّ ، لوضوح عدم حصول التفريغ به كذلك ، وإنّما يحتمل حصوله به من جهة قيام الدليل على حجّيته.

ومن البيّن تساوي احتمالي قيام الدليل المذكور وعدمه في نظر العقل ، فتساوي نسبة الحجّية وعدمها إليه. فدعوى الاستلزام المذكور فاسدة جدّا ، كيف؟ ومن الواضح عدم استلزام الظنّ بالواقع الظنّ بحجّية ذلك الظنّ ، ولا اقتضائه له ، فكيف يعقل حصول الظنّ به من جهته؟!

٣٥٤

نعم إنّما يستلزم الظنّ بالواقع الظنّ بتفريغ الذمّة بالنظر إلى الواقع لا في حكم المكلّف الّذي هو مناط الحجّية ، والمقصود في المقام هو حصول الظنّ به في حكمه ، إذ قضيّة الدليل المذكور حجّية ما يظنّ من جهته بتفريغ الذمّة في حكم الشارع بعد انسداد سبيل العلم به ، وهو إنّما يتبع الدليل الظنّي القائم على حجّية الطرق الخاصّة ، ولا يحصل من مجرّد تحصيل موضوع الظنّ بالواقع ، لما عرفت من وضوح كون الظنّ بالواقع شيئا والظنّ بحجّية ذلك الظنّ شيئا آخر ، ولا ربط له بنفس ذلك الظنّ.

وقد عرفت أنّ ما يتراءى من استلزام الظنّ بالواقع الظنّ بتفريغ الذمّة ، نظرا إلى أنّ المكلّف به هو الواقع إنّما يصحّ بالنسبة إلى الواقع ، حيث إنّه يساوق الظنّ بالواقع الظنّ بتفريغ الذمّة بالنسبة إليه عند أدائه كذلك ، وذلك غير الظنّ بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف كيف؟ والظنّ المفروض حاصل في القياس أيضا بعد قيام الدليل على عدم حجّيته ، فإنّه إذا حصل منه الظنّ بالواقع فقد حصل منه الظنّ بفراغ الذمّة بالنظر إلى الواقع عند أداء الفعل كذلك ، إلّا أنّ الظنّ المفروض كالظنّ المتعلّق بنفس الحكم ممّا لا اعتبار له بنفسه ، وقد قام الدليل الشرعي هناك أيضا على عدم اعتباره فقضى بالقطع بعدم حصول التفريغ به في حكم الشرع.

فظهر بما قرّرناه أنّ الإيراد المذكور إنّما جاء من جهة الخلط بين الوجهين وعدم التميّز بين الاعتبارين. وممّا يوضح ما قلناه أنّ الظنّ بالملزوم لا يمكن أن يفارق الظنّ باللازم ، فبعد دعوى الملازمة بين الأمرين كيف يعقل استثناء ما لو قام الدليل على خلافه ، والقول بأنّه بعد قيام الدليل القطعي يعلم الانفكاك ومع قيام الدليل الظنّي يظنّ ذلك؟ وهل ذلك إلّا تفكيك بين اللازم والملزوم؟

فظهر بما قرّرناه أنّ اللازم أوّلا في حكم العقل هو تحصيل العلم بالتفريغ في حكم الشارع وبعد انسداد سبيله يتنزّل إلى الظنّ بالتفريغ في حكمه لا مجرّد الظنّ بالواقع ، وقد عرفت عدم الملازمة بين الأمرين وحصول الانفكاك من الجانبين.

نعم لو كان الحاصل بعد انسداد سبيل العلم بحصول التفريغ في حكمه امور

٣٥٥

مفيدة للظنّ بالواقع من غير أن يكون هناك دليل قطعي أو ظنّي على حجّية شيء منها وتساوت تلك الظنون في ذلك كان الجميع حينئذ حجّة في حكم العقل وإن لم يحصل من شيء منها ظنّ بالتفريغ أوّلا ، وذلك لعدم إمكان تحصيل الظنّ بالتفريغ من شيء منها على ما هو المفروض ، فينتقل الحال إلى مجرّد تحصيل الظنّ بالواقع ، ويحكم العقل ـ من جهة الجهل المذكور وتساوي الظنون في نظره بالنسبة إلى الحجّية وعدمها حيث لم يقم دليل على ترجيح بعضها على بعض ـ بحجّية الجميع والأخذ بأقواها عند التعارض من غير فرق بينها ، فصار المحصّل أنّ اللازم تحصيل العلم بالتفريغ في حكم الشارع كما مرّ القول فيه.

وبعد انسداد سبيله يتعيّن تحصيل الظنّ بالتفريغ في حكمه تنزّلا من العلم به إلى الظنّ ، فينزّل الظنّ به منزلة العلم. وإذا انسدّ سبيله أيضا تعيّن الأخذ بمطلق ما يظنّ معه بأداء الواقع حسب ما ذكر في المقام ، فهناك مراتب متدرّجة ودرجات مترتّبة ، ولا يتدرّج إلى الوجه الثالث إلّا بعد انسداد سبيل الأوّلين ، والمختار عندنا حصول الدرجة الاولى وعدم انسداد سبيل العلم بالتفريغ من أوّل الأمر كما سيأتي الإشارة إليه في الوجه الأخير.

لكنّا نقول : إنّه بعد تسليم انسداد سبيله إنّما يتنزّل إلى الوجه الثاني دون الثالث ، وإنّما يتنزّل إليه بعد انسداد سبيل الثاني أيضا وتساوي الظنون من كلّ وجه ، وأنّى لهم بإثبات ذلك؟ بل من البيّن خلافه ، إذ لا أقلّ من قيام الأدلّة الظنّية على حجّية ظنون مخصوصة كافية في استنباط الأحكام الشرعيّة ، وهي كافية في وجوب الأخذ بها وعدم جواز الاتّكال على غيرها ، نظرا إلى قيام الدليل القطعي المذكور ، فليس ذلك من الاتّكال على الظنّ في إثبات الظنّ ليدور كما ظنّ.

فإن قلت : إنّ معرفة الطريق المقرّر من الشرع للوصول إلى الأحكام ـ أعني ظنّ المجتهد مطلقا سوى ما استثني ، أو خصوص الظنون المخصوصة والطرق الخاصّة ـ ليس من مسائل الفروع وإنّما هو من مسائل الكلام ، فيتعيّن الأخذ فيها بالعلم ، ولا يمكن القول بانسداد سبيل العلم بالنسبة إليها ، وعلى فرض عدم

٣٥٦

اندراجها في مسائل الكلام فليس سبيل العلم منسدّا بالنسبة إليها ، كيف! والقائل بحجّية مطلق الظنّ يتمسّك فيها بالبرهان القاطع العقلي ، فلا وجه للقول بانسداد سبيل العلم فيها ليرجع بعده إلى الظنّ بها.

قلت : كون المسألة من مسائل الكلام من أوهن الكلام ، إذ لا ربط لها به كما هو ظاهر من ملاحظة حدّه ، بل هي من مسائل اصول الفقه لكونها بحثا عن الدليل وبيانا لما يناط به حجّية الدليل ، وبملاحظة حدّ الاصول يتّضح كونها من أوضح المسائل المندرجة فيه.

نعم لو صحّ اعتبار القطع في اصول الفقه صحّ القول باعتبار القطع فيها ، إلّا أنّ ذلك فاسد جدّا إن اريد به اعتبار تحصيل القطع بها أوّلا ، وإن اريد به ما يعمّ الانتهاء إلى القطع فهو ممّا لا اختصاص له بالاصول ولا ربط له بالمقام ، لوضوح حصول الانتهاء إليه هنا أيضا ، وما ذكر من قيام البرهان القاطع على حجّية الظنّ عند القائل به ، فكيف يسلّم انسداد باب العلم فيها أوهن شيء! فإنّ الدليل العقلي المذكور على فرض صحّته إنّما يقرّر على فرض انسداد باب العلم بالواقع وبالطريق المقرّر من الشرع ، كيف! ولو كان عنده طريق خاصّ قطعي مقرّر من الشارع لاستفادة الأحكام لما تمّ دليله المذكور قطعا لابتنائه على انتفائه حيث اخذ ذلك من جملة مقدّماته كما سيجيء بيانه إن شاء الله.

ولا يدّعى أيضا قيام الدليل القطعي أوّلا على حجّية كلّ ظنّ ، وإلّا لما احتاج إلى الدليل المذكور ، بل إنّما يقول بانسداد سبيل العلم بالواقع وبالطريق المقرّر من الشرع أوّلا للوصول إلى الواقع ، ويريد بيان أنّ قضيّة العقل بعد الانسداد المذكور هو الرجوع إلى مطلق الظنّ ، فالبرهان الّذي يدّعيه إنّما هو بعد فرض الجهل فيستكشف به حال الجاهل ، وأنّ قضيّة جهله مع علمه ببقاء التكليف ماذا ، ونحن نقول : إنّ قضيّة ذلك هو الانتقال إلى الظنّ على الوجه الّذي قرّرناه دون ما ادّعوه ، فالكلام المذكور ساقط جدّا.

٣٥٧

الثاني :

إنّه كما قرّر الشارع أحكاما واقعيّة كذا قرّر طريقا للوصول إليها إمّا العلم بالواقع أو مطلق الظنّ أو غيرهما قبل انسداد باب العلم وبعده ، وحينئذ فإن كان سبيل العلم بذلك الطريق مفتوحا فالواجب الأخذ به والجري على مقتضاه ، ولا يجوز الأخذ بغيره ممّا لا يقطع معه بالوصول إلى الواقع من غير خلاف فيه بين الفريقين ، وإن انسدّ سبيل العلم به تعيّن الرجوع إلى الظنّ به ، فيكون ما ظنّ أنّه طريق مقرّر من الشارع طريقا قطعيّا حينئذ إلى الواقع نظرا إلى القطع ببقاء التكليف بالرجوع إلى الطريق وقطع العقل بقيام الظنّ حينئذ مقام العلم حسب ما عرفت ويأتي.

فالحجّة إذا ما يظنّ كونه حجّة وطريقا إلى الوصول إلى الأحكام وذلك إنّما يكون لقيام الأدلّة الظنّية على كونه كذلك ، وليس ذلك إثباتا للظنّ بالظنّ حسب ما قد يتوهّم ، بل تنزّلا من العلم بما جعله الشارع طريقا إلى ما يظنّ كونه كذلك بمقتضى حكم العقل حسب ما مرّت الإشارة إلى نظيره في الوجه المتقدّم.

وقد يورد عليه بوجوه سخيفة نشير إلى جملة منها :

أحدها : ما أشرنا إلى نظيره سابقا من أنّ هذه المسألة من المسائل الكلاميّة ، وانسداد سبيل العلم فيها معلوم البطلان ، وقد عرفت وهنه.

ثانيها : أنّ سبيل العلم بهذه المسألة مفتوح فإنّ كلّ من سلك مسلكا في المقام يدّعي العلم به من البناء على مطلق الظنّ أو الظنّ الخاصّ ، وقد أشرنا سابقا إلى وضوح فساده.

ثالثها : أنّ الانتقال إلى الظنّ بما جعله طريقا إنّما يكون مع العلم ببقاء التكليف بالأخذ بالطريق المقرّر بعد انسداد باب العلم به ، وهو ممنوع ، إذ لا ضرورة قاضية ببقاء التكليف في تلك الخصوصيّة لو سلّم انسداد باب العلم بها ، بخلاف الأحكام الواقعيّة فإنّ بعد انسداد باب العلم بها قد قامت الضرورة ببقاء التكليف ، وإلّا لزم الخروج عن الدين. وهو أيضا في الوهن نظير سابقيه ، إذ من الواضح أنّ للشارع

٣٥٨

حكما في شأن من انسدّ عليه سبيل العلم من وجوب عمله بمطلق الظنّ أو الظنّ الخاصّ ، ولا نعني نحن بالطريق المقرّر إلّا ذلك. وحينئذ كيف يمكن منعه؟ مع أنّ الضرورة القاضية به بعد القطع ببقاء التكليف أوضح من الضرورة القاضية ببقاء التكاليف ، إذ مع البناء عليه لا مجال لأن يستريب ذو مسكة فيه مع قطع النظر عن ضرورة الدين القاضية ببقاء الأحكام ، فإذا علم ثبوت طريق للشارع في شأنه حينئذ من الأخذ بمطلق الظنّ أو غيره تعيّن تحصيل العلم به أوّلا فإن قام عليه دليل قطعي من قبله كما يدّعيه القائل بالظنون الخاصّة فلا كلام ، وإلّا تعيّن الأخذ بما يظنّ كونه طريقا. ولا يصحّ القول بالرجوع إلى مطلق الظنّ بالواقع من جهة الجهل المفروض ، بل قضيّة علمه بتعيّن طريق عند الشارع في شأنه وجهله من جهة انسداد سبيل العلم به هو الرجوع إلى الظنّ به ، أعني الأخذ بمقتضى الدليل الظنّي الدالّ عليه حتّى يحصل له القطع من ذلك بكونه الحجّة عليه بضميمة الدليل المذكور ، وذلك حاصل في جهة الظنون الخاصّة دون مطلق الظنّ

نعم لو لم يكن هناك طريق خاصّ يظنّ حجّيته ممّا يكتفى به في استنباط القدر اللازم من الأحكام وتساوت الظنون بالنسبة إلى ذلك مع القطع بوجوب الرجوع إلى الظنّ في الجملة كان الجميع حجّة حسب ما مرّ ، ونحن نسلّمه إلّا أنّه ليس الحال كذلك في المقام.

رابعها : أنّه إن اريد بذلك حصول العلم الإجمالي بأنّ الشارع قد قرّر طريقا لإدراك الأحكام الواقعيّة والوصول إليها فكلّفنا في كلّ واقعة بالبناء على شيء كما هو مقتضى الإجماع والضرورة فمسلّم ، ولكن نقول : هو ظنّ المجتهد مطلقا من أيّ سبب كان من الأسباب الّتي لم يعلم عدم الاعتداد بها.

وإن كان المراد القطع بأنّ الشارع قد وضع طريقا تعبّديّا كالبيّنة للوصول إلى الأحكام فممنوع ، وأين القطع به؟ بل خلافه من المسلّمات ، لقيام الإجماع والضرورة على توقّف التكليف على الإدراك والفهم ، وأقلّه الظنّ بالواقع ، وهذا أوضح فسادا من الوجوه المتقدّمة.

٣٥٩

أمّا أوّلا : فلأنّ ما سلّمه من تعيين طريق من الشارع للوصول إلى الأحكام مدّعيا قضاء الضرورة به هو عين ما أنكره أوّلا. وحينئذ فقوله : إنّا نقول : «إنّ ذلك الطريق هو مطلق الظنّ» بيّن الفساد ، فإنّه إن كان ذلك من جهة اقتضاء انسداد سبيل العلم وبقاء التكليف له فهو خلاف الواقع ، فإنّ مقتضاه بعد التأمّل في ما قرّرناه هو ما ذكرناه دون ما توهّموه ، وإن كان لقيام دليل آخر عليه فلا كلام ، لكن أنّى له بذلك؟

وأمّا ثانيا : فبأنّه لا مانع من تقرير الشارع طرقا تعبّديّة للوصول إلى الأحكام كما قرّر طرقا بالنسبة إلى الموضوعات ، بل نقول : إنّ أدلّة الفقاهة كلّها من هذا القبيل ، بل وكذا كثير من أدلّة الاجتهاد حسب ما فصّلنا القول فيها في محلّ آخر.

وأمّا ثالثا : فبأنّ ما ذكره من الترديد ممّا لا وجه له أصلا ، فإنّ المقصود من المقدّمة المذكورة تعيّن طريق إلى ذلك عند الشارع في الجملة من غير حاجة إلى بيان الخصوصيّة ، فما ذكره من الترديد خارج عن قانون المناظرة ، ويمكن الإيراد في المقام بأنّه كما انسدّ سبيل العلم بالطريق المقرّر كذا انسدّ سبيل العلم بالأحكام المقرّرة في الشريعة ، وكما ننتقل من العلم بالطريق المقرّر بعد انسداد سبيله إلى الظنّ به فكذا ننتقل من العلم بالأحكام الشرعيّة إلى ظنّها تنزّلا من العلم إلى الظنّ في المقامين ، لكون العلم طريقا قطعيّا إلى الأمرين ، فبعد انسداد طريقه يؤخذ بالظنّ بها (١). فغاية ما يستفاد إذا من الوجه المذكور كون الظنّ بالطريق أيضا حجّة كالظن بالواقع ، ولا يستفاد منه حجّية خصوص الظنون الخاصّة دون مطلق الظنّ ، بل قضيّة ما ذكر حجّية الأمرين ، ولا يأبى عنه القائل بحجّية مطلق الظنّ فيثبت ذلك مقصوده من حجّية مطلق الظنّ وإن اضيف إليه شيء آخر أيضا.

ويدفعه : أنّه لمّا كان المطلوب أداء ما هو الواقع لكن من الطريق الّذي قرّره الشارع فإن حصل العلم بذلك الطريق وأدّاه كذلك فلا كلام ، وكذا إن أدّاه على وجه يقطع معه بأداء الواقع ، فإنّ العلم طريق إليه قطعا ، سواء اعتبره الشارع بخصوصه

__________________

(١) في «ق» : بهما.

٣٦٠