هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

التخصيص إلى النصف ، فإنّه حجّة على هذا القول فيما يزيد على النصف ، لكن لا يتعيّن به خصوص المخرج والباقي ، ومن ذلك يجيء الإجمال في الكلام.

نعم لو تعيّن الأفراد المخرجة بحيث لا يجوز التخصيص زيادة عليها على حسب ما يختاره القائل في منتهى التخصيص فالظاهر أنّه لا إشكال في كونه حجّة في الباقي ، ولا مجال فيه للنزاع ، وهو أيضا خارج عن محلّ الكلام.

قوله : (بأنّ أقلّ الجمع هو المحقّق ... الخ.)

قد عرفت أنّ ذلك لا يقضي بخروج العام عن الإجمال ، لوضوح دوران المتيقّن من الباقي بين أفراد كثيرة ، وأمّا حجّيته في الحكم ببقاء أقلّ الجمع على وجه الإجمال فهو ممّا لا ريب فيه على هذا القول ، كما أنّه حجّة بالنسبة إلى الواحد على القول بجواز التخصيص إليه ، وكذا بالنسبة إلى الأكثر بناء على القول بعدم جواز التخصيص إلّا بالأقلّ ، فإن كان التفصيل المذكور من الجهة المذكورة فلا اختصاص له بالمذهب المذكور ، بل يجيء التفصيل في هذه المسألة على المختار في الاخرى حسب ما ذكرنا ، والظاهر أنّ ذلك ممّا لا ربط له بهذا الخلاف ، إذ اعتبار بقاء أصل ما يجوز التخصيص إليه غير قابل للنزاع ، فهذا القول في الحقيقة راجع الى ما تقدّمه ، فتأمّل (١).

* * *

__________________

(١) في المعالم بعد ذلك الأصل الّذي تمّ شرحها ، أصل لم يأت في النسخ شرحها ، وهو :

أصل : ذهب العلّامة في التهذيب إلى جواز الاستدلال بالعامّ قبل استقصاء البحث في طلب التخصيص ... الخ.

٣٠١
٣٠٢

معالم الدين :

الفصل الثالث

في ما يتعلّق بالمخصّص

أصل

إذا تعقّب المخصّص متعدّدا ، سواء كان جملا أو غيرها ، وصحّ عوده إلى كلّ واحد ، كان الأخير مخصوصا قطعا. وهل يخصّ معه الباقي ، أو يختصّ هو به؟ أقوال. وقد جرت عادتهم بفرض الخلاف والاحتجاج ، في تعقّب الاستثناء. ثمّ يشيرون في باقي أنواع المخصّصات إلى أنّ الحال فيها كما في الاستثناء. ونحن نجري على منهجهم ، حذرا من فوات بعض الخصوصيّات بالخروج عنه ، لاحتياجه إلى تغيير أوضاع الاحتجاجات.

فنقول : ذهب قوم إلى أنّ الاستثناء المتعقّب للجمل المتعاطفة ، ظاهر في رجوعه إلى الجميع. وفسّره بعضهم بكلّ واحدة. ويحكى هذا القول عن الشيخ رحمه‌الله. وقال آخرون : إنّه ظاهر في العود الى الأخيرة. وقيل : بالوقف ، بمعنى لا ندري أنّه حقيقة في أيّ الأمرين. وقال السيّد المرتضى رضى الله عنه : إنّه مشترك بينهما ، فيتوقّف إلى ظهور القرينة. وهذان القولان موافقان للقول الثاني في الحكم.

٣٠٣

قوله : (إذا تعقّب المخصّص.)

أراد به المتّصل فإنّ المنفصل خارج عن محلّ البحث لاستقلاله بالإفادة ، وإنّما يقضي بتخصيص العامّ من جهة بنائه على الخاصّ على ما هو قضيّة تعارض العامّ والخاصّ المطلقين، وهو إنّما يكون بعد معارضة العامّ والخاصّ ، وحينئذ فلا يرتبط بغير ما حصل التعارض بالنسبة إليه.

نعم لو اتّحد حكم العامّين كما لو قال «أكرم الفقهاء» و «أكرم الادباء» ثمّ قال «لا تكرم زيدا» وهو مندرج في الفقهاء والادباء فالظاهر عدم التأمّل في رجوع التخصيص إلى العامّين ، لقضاء إطلاق النهي عن إكرامه فيه ثمّ تعلّق الإكرام به مطلقا فيتخصّص به العمومات سواء كان جملا أو غيرها أو كان ملفّقا من الأمرين وسواء كان متعاطفا أو غيره ذا حكم واحد أو أحكام مختلفة ، وربما يظهر من العضدي خروج غير المتعاطفين عن محلّ البحث ، حيث عنون البحث في خصوص المتعاطفة فيكون غير المتعاطفة راجعا إلى الأخير على الأقوال ، والمحكيّ عن البعض دعوى الاتّفاق على رجوع المتعقّب للمفردات إلى الجميع، فيكون خارجا عن محلّ النزاع ، وهو غير ظاهر ، وظاهر إطلاقهم يعمّ ما لو كانت الجمل أو العمومات المفروضة متناولة أو غيرها ما لم يكن الفصل الحاصل مانعا من رجوع المخصّص إليه.

قوله : (وصحّ عودة إلى كلّ واحد.)

احترز عمّا لا يصحّ عوده إلى الكلّ لعدم اندراج المستثنى في الجميع ، نحو «أكرم العلماء» و «أحسن إلى الصلحاء إلّا الجهّال» فلابدّ من إخراجه عن الأخير ولو عكس الترتيب اختصّ بالأوّل.

ومنه ما لو كان المستثنى شخصا معيّنا لا يندرج في بعضها نحو «أكرم العلماء» أو «أعن الادباء إلّا زيدا» إذا لم يكن زيد إلّا من أحدهما ، أمّا لو اندرج فيهما فالظاهر اندراجه في محلّ البحث ، لتوارد الحكمين عليه ، فيحتمل تخصيصه بالنسبة إلى الأخيرة وإلى الجميع ، هذا إذا لم يشتمل تخصيصه بالنسبة إلى الأخيرة وإلى الجميع على التدافع ، وإلّا لم يصحّ عوده إلى الجميع ، كما إذا قال «أكرم

٣٠٤

العلماء» و «لا يجب إكرام الفسّاق إلّا زيدا» مع اندراجه في العامّين ، ولا يمكن تخصيصه بالنسبة إليهما ، وإلّا لوجب الحكم عليه بوجوب الإلزام وعدمه.

بقي الكلام هنا في امور :

أحدها : أنّ تقييد محلّ النزاع بذلك لا يخلو عن تأمّل ، فإنّه إن كان النزاع في وضع المخصّص المتعقّب لتلك العمومات ـ كما هو الظاهر من جملة من كلماتهم ـ لم يتّجه ذلك، إذ غاية الأمر أن يقال باستعماله إذن في غير ما وضع له على القول بوضعه للعود إلى الجميع من جهة قيام القرينة الصارفة عليه ، فلا ينافي ذلك ثبوت وضعه للرجوع إلى الجميع حينئذ أيضا ، إلّا أن يقال باختصاص وضعه لذلك بغير الصورة المفروضة ، فيكون حينئذ حقيقة في الرجوع إلى غيره ، وهو بعيد جدّا وإن كان الخلاف في مجرّد الظهور دون الوضع ، فظاهر أنّ ذلك إنّما يكون من جهة انصراف الإطلاق فلا ينافي عدم انصرافه إليه مع قيام القرينة على خلافه ، فلا حاجة أيضا إلى التقييد ، الّا أن يقال : إنّ ذلك بمنزلة أن يقال : إنّ محلّ النزاع فيما ينصرف إليه الإطلاق إذا كان اللفظ قابلا للرجوع إلى الأخيرة والجميع ، وإنّما خصّ ذلك بالذكر دون سائر القرائن ، لكونها قرينة داخليّة قاضية بعدم الرجوع إلى الجميع بخلاف سائر القرائن الخارجيّة ، فكان فرض انتفاء الأوّل من تتمة المقتضي ، وانتفاء الثاني من قبيل انتفاء المانع ، واعتبار عدم الثاني ظاهر لا حاجة إلى التنبيه عليه ، فاعتبر الأوّل في المقام لبيان مورد الاقتضاء.

ثانيها : أنّ ظاهر العبارة «خروج ما لو لم يصحّ عوده إلى الجميع عن محلّ البحث» وهو قد يكون باختصاص عوده إلى الأخيرة أو باحتمال عوده إلى متعدّد سوى الجميع ، كما إذا تقدّمه عمومات ثلاثة لا يحتمل عوده إلى الأوّل فيدور الحال فيه بين عوده إلى الأخيرة وعوده إلى الأمرين ، فظاهر العنوان أنّه حينئذ ذو وجه واحد فيرجع إلى الأخيرة وهو محلّ خفاء ، إذ على القول بظهورها في العود إلى الجميع لا يبعد القول أيضا بظهوره في العود إلى المتعدّد ، وأيضا قد يكون عدم صحّة عوده إلى الجميع من جهة عدم قابليّته للعود إلى الأخيرة فيدور بين كونه

٣٠٥

عائدا إلى جميع ما عداها والى واحد ممّا تقدّمها أو خصوص ما قبل الأخير ممّا يصحّ عوده إليه فذلك أيضا ممّا يقع الكلام فيه.

ويمكن أن يقال : إنّ إخراج المذكورات عن محلّ النزاع لا يقتضي أن يكون الحال فيها ظاهرا ، بل غاية الأمر خروجها عن مورد هذا الخلاف وإن دار الأمر فيها أيضا بين وجهين أو وجوه فتأمّل.

ثالثها : أنّ صلاحيّة المستثنى للعود إلى الجميع تكون على وجوه :

أحدها : أن يكون من المبهمات الصادقة على الجميع ، كما إذا قال : أكرم العلماء وأعن الصلحاء إلّا من أهانك أو إلّا الّذي شتمك.

ثانيها : أن يكون من المشتقات المندرجة في كلّ منهما ، نحو «أهن كلّ من شتمك واضرب كلّ من ضربك إلّا العالم» وكذا لو كان بمنزلة المشتقّ كما لو كان المستثنى إلّا البغدادي في المثال المذكور ، ونحوه ما لو كان من المفاهيم الكلّية المندرجة في الجميع كما لو كان المستثنى هناك إلّا المراد ، ولا فرق في ذلك بين المفرد والجمع ، وعلى كلّ من الوجهين المذكورين فإمّا أن يكون المستثنى مطلقا كما في المثالين المذكورين ، أو عامّا كما إذا دخل على المستثنى أداة العموم ، وعلى كلّ من الوجوه الأربعة فإمّا أن يكون المصداق الّذي يصدق عليه مفهوم المستثنى شيئا واحدا مندرجا في كلّ من تلك العمومات كما إذا قال «أكرم العلماء وأعطهم درهما إلّا من أهانك» ومن ذلك آية القذف ، وإمّا أن يختلف المصداقان كما في الأمثلة المتقدّمة وإن احتمل اتّفاقهما في بعض المصاديق.

ثالثها : أن يكون المستثنى جزئيّا حقيقيّا مندرجا في العمومين نحو «أكرم العلماء وأعن الصلحاء إلّا زيدا» إذا كان من العلماء والصلحاء معا ، فيصحّ إخراجه من الأخير ومن الجميع.

رابعها : أن يكون المستثنى من النكرات ممّا يصحّ اندراجه في كلّ منهما ، كما في أكرم العلماء وأعن الظرفاء إلّا رجلا أو إلّا واحدا.

وقد يشكل الحال فيه بأنّ النكرة حقيقة في فرد واحد دائر بين الأفراد ، وهنا

٣٠٦

على تقدير رجوع الاستثناء إلى الأمرين إنّما يراد بها ما يزيد على الواحد ، فتكون قد اطلقت في المثال المذكور على رجل من العلماء واستثنى منهم ، ورجل من الظرفاء واستثنى منهم ، وهو خروج عن وضعها إن لوحظ الأمران معا في ذلك الاستعمال ، بأن يكون خروج الأوّل من الأوّل والثاني من الثاني فلا تكون صالحة لذلك ، وإن لوحظ إطلاقها على كلّ منها بلحاظ مستقلّ ـ كما هو الظاهر في المقام ـ كان ذلك من إطلاق اللفظ على كلّ من مصداقيه استقلالا ليقوم الاستعمال الواحد مقام استعمالين ، نظير استعمال المشترك في معنييه ، فيدور جوازه مدار جواز ذلك الاستعمال وقد عرفت أنّ التحقيق المنع منه.

ويمكن دفعه بأنّ النكرة في المقام لم تستعمل إلّا في مفهومها ـ أعني فرد مّا ـ لا غير ، ويكون إخراجها من العمومين دليلا على كون فرد مّا ـ الخارج من الأوّل ـ مغايرا للخارج من الثاني ، فيكون مصداقه بالنسبة إلى الأوّل غير مصداقه بالنسبة إلى الثاني ، ولا يستلزم ذلك أن تكون النكرة قد اطلقت على فردين أوّلا ، أو تكون قد اطلقت على مصداق وعلى آخر استقلالا ليقوم مقام استعمالين ، ألا ترى أنّه لو قال «أكرم رجلا من العلماء ومن الظرفاء» لم يرد عليه المحذور المذكور ، مع كون فرد مّا من العلماء مغايرا لفرد مّا من الظرفاء، وكذا إذا قال «أكرم كلّ عالم» فقد اطلق النكرة على كلّ من مصاديقها لكن بضميمة لفظ «كلّ» فلا منافاة بين الوحدة الملحوظة في معنى النكرة وإطلاقها على المتعدّد إذا كان الدالّ عليه أمرا خارجا وكان المراد بالنكرة نفسها هو فرد مّا كما في كلّ من الأمثلة المذكورة.

خامسها : أن يكون المستثنى من المشتركات اللفظيّة ، فيصحّ عوده إلى الأمرين باعتبار معنييه ، وهذا الوجه مبنيّ على جواز استعمال المشترك في معنييه ، وعلى القول بالمنع فلا صلاحيّة لذلك ، ومن ذلك ما لو قال «أكرم العلماء وأحسن إلى الادباء إلّا زيدا» إذا كان هناك زيدان أحدهما من العلماء والآخر من الادباء ، وإذا اريد بزيد في المثال مفهوم المسمّى به كان من الوجه المتقدّم.

سادسها : أن يكون صلوحه للعود إلى الكلّ بتقسيط المستثنى عليها ، كما إذا

٣٠٧

قال «أكرم العلماء وأحسن إلى الظرفاء إلّا الرجلين» فيحتمل إخراجهما من الأخير وإخراج أحدهما من الأوّل والآخر من الثاني ، ولو اريد إخراج رجلين من الأوّلين ورجلين من الثاني كان من قبيل الوجه الرابع ، ومن ذلك ما لو كان المستثنى مشتركا لفظيّا واريد به مجموع المعنيين على أن يكون المخرج من الأوّل أحدهما ومن الثاني الآخر.

وقد يقال : إنّ أداة الاستثناء إنّما وضعت لإخراج المستثنى عن المستثنى منه ، فإن عاد الاستثناء إلى الجميع لزم أن يراد إخراج جميع المستثنى من كلّ من الأمرين ، فإرادة إخراج البعض خارج عمّا يقتضيه وضع الاستثناء ، فإذا اريد من العبارة ذلك فلابدّ أن يلحظ المستثنى منه شيئا منتزعا من العامّين ، فيلحظ إخراج ذلك بالنسبة إليه وهو حينئذ خارج عن محلّ النزاع.

وفيه : أنّه يمكن أن يقال بأنّ أداة الاستثناء موضوعة لمطلق الإخراج لمدخولها من العموم ، سواء اريد إخراج المستثنى من كلّ من العمومين ، أو من أحدهما ، أو إخراج مجموعه من العمومين معا على وجه التقسيط ، فيكون ما استعمل فيه هو إخراج واحد متعلّق بالمجموع عن العمومين معا ، كما أنّ إخراجه عن كلّ منهما إخراج واحد متعلّق بكلّ منهما حسب ما يأتي توضيح القول فيه إن شاء الله ، إلّا أنّ القول بعموم وضع الاستثناء لما ذكر محلّ خفاء.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه من الصلوح لو تمّ فهو خارج عن ظاهر المفروض في كلام القوم ، فإنّ الظاهر ممّا عنونوه للمبحث كون المستثنى بتمامه مخرجا من كلّ من العمومين.

ويمكن أن يقال : إنّ كون المستثنى مخرجا عن كلّ منهما إنّما يتصوّر فيما إذا كان المستثنى بنفسه مندرجا في العامّين ، كما مرّ في المثال المتقدّم فيما يكون المستثنى شخصا معيّنا مندرجا فيهما أو كان مفهومه مطلقا مندرجا فيهما معا ، وأمّا إذا كان بعض مصاديقه مندرجا في الأوّل وبعضها في الآخر فلا محالة يكون رجوع المخصّص إلى العامّين على وجه التقسيط ، فإنّ «من أهانك» في المثال

٣٠٨

المتقدّم ـ يعمّ من أهانه من العلماء والصلحاء ، وقد حصل تخصيص العلماء بمن أهانه من العلماء والصلحاء بمن أهانه من الصلحاء بعد قسط المستثنى على العامّين ، وحصل تخصيص كلّ منهما ببعض مصاديق المستثنى المفروض ، ولو كان المستثنى حينئذ عامّا لغويّا فالأمر أظهر ، لكون المخصّص لكلّ من العمومين بعض جزئيّات ذلك العامّ ، فعلى هذا يكون عمدة ما عدّ صالحا في المقام للرجوع إلى الجميع من قبيل الوجه المذكور ، فكيف يقال بخروجه عن ظاهر كلام القوم.

وفيه أن لا شمول للمستثنى للأمرين على أن يكون ذلك مأخوذا في معناه. كيف! ولو كان كذلك وقلنا برجوعه إلى الأخيرة لزم عدم ارتباط بعض مدلوله بالمستثنى منه ليمكن إخراجه عنه ، بل المستثنى في المقام مفهوم واحد قد لوحظ مخرجا عن كلّ من العمومين بناء على رجوعه إلى الجميع ، غاية الأمر اختلاف مصداقه واقعا بملاحظة الأمرين ، وذلك لا يقضي باختلاف نفس المعنى ومدلوله في المقامين ، فمفهوم المستثنى في المقامين شيء واحد لا اختلاف فيه أصلا قد لوحظ مخرجا عن كلّ من العمومين ، وأين ذلك من بعض مسمّاه مخرجا عن أحدهما وبعضه الآخر عن الآخر.

فإن قلت : إنّه يلزم على ذلك أن يكون قد اطلق ذلك اللفظ تارة على مصداق منطبق على مفهومه وعلى مصداق آخر كذلك ، فيكون الإطلاق المفروض منزّلا منزلة إطلاقين نظير استعمال المشترك في معنييه ، فيكون إرادة ذلك مبنيّة على القول بجواز مثل ذلك.

قلت : ليس الحال كذلك وإنّما استعمال اللفظ في المقامين في مفهومه الوحداني وإنّما يأتي الاختلاف المفروض بملاحظة ضمّه إلى العامّ المخرج منه من غير أن يلحظ ذلك في إطلاق اللفظ واستعماله في معناه فتأمّل.

قوله : (ثمّ يشيرون في باقي أنواع المخصّصات ... الخ) ظاهر كلامه يومئ إلى الاتّفاق على عدم الفرق وهو محلّ تأمّل ، بل قد حكي القول بالفرق في الجملة عن بعضهم، والّذي يقتضيه التأمّل في المقام هو الفرق ، وسيجيء تفصيل الكلام فيه في آخر المسألة إن شاء الله تعالى.

٣٠٩

قوله : (للجمل المتعاطفة.)

لا يخفى أنّ كون الجمل متعاطفة ممّا لم يؤخذ في عنوان المسألة فكأنّ القائل بعوده إلى الجميع نظر إلى اتّصال الجملتين من جهة العطف.

وأنت خبير بأنّ اتّصال الجملتين لا يتوقّف على العطف ، على أنّ اعتباره ذلك في سائر الأقوال أيضا كما هو ظاهر تقريره أيضا ممّا لا وجه له.

كيف والعود إلى الأخيرة مع عدم اتّصال الجملتين أولى ، إلّا أن يقال بخروج ذلك عن محلّ الخلاف ، كما قد يومئ إليه كلام العضدي حسب ما أشرنا إليه ، وهو لا يلائم إطلاقه الأوّل.

ثمّ إنّ تقرير النزاع في الجمل يومئ إلى كون النزاع فيها دون المفردات ، مع أنّ المذكور في العنوان ما يعمّها والمفردات ، وقد يحمل ذلك في كلامه وكلام غيره ممّن عنون البحث في الجمل على المثال ، إلّا أنّك قد عرفت تنصيص بعضهم على خروج المتعقّب للمفردات عن محلّ النزاع.

قوله : (ظاهر في رجوعه إلى الجميع.)

التعبير المذكور هنا وفي القول الآتي أعمّ من دعوى الوضع لخصوص الإخراج عن الجميع أو الأخيرة أو ظهور الإطلاق فيه ولو بالقول بوضعه للأعمّ ، لكن قضيّة المقابلة بين الأقوال المذكورة كون المقصود من الظهور في المقام هو الظهور الوضعي دون الانصرافي ، وعليه فيمكن تصوير النزاع في المقام بوجهين :

أحدهما : أن يكون الخلاف في وضع الأداة حال كونها متعقّبة للجمل المتعدّدة ونحوها ، بأن يقال : حينئذ بوضعها للإخراج عن الجميع أو الأخيرة وإن كان أصل وضعها لمطلق الإخراج ، حيث إنّها لو وقعت عقيب جملة واحدة كانت حقيقة في الإخراج عنها قطعا.

ثانيهما : أن يكون البحث هنا من جهة الهيئة التركيبيّة وذلك بأن يقال بوضع الأداة لإفادة الإخراج المطلق ، أو لجزئيّاته من غير ملاحظة لوروده عقيب المتعدّد أو الواحد ، أو لرجوعها في الفرض الأوّل إلى الآخر أو الجميع ، فيكون

٣١٠

النزاع في وضع الهيئة التركيبيّة الطارئة على الاستثناء الوارد عقيب المتعدّد لإفادة الرجوع إلى الجميع أو الأخيرة أو اشتراكها بين الأمرين ، وكون الأداة موضوعة بإزاء المعنى الحرفيّ الرابطيّ لا يستلزم ملاحظة الخصوصيّة المذكورة في وضعها ، فيكون الإخراج الرابطيّ مستفادا من الأداة ، وخصوصيّة رجوعها إلى الجميع أو الأخيرة من الهيئة المذكورة. وعلى القول بعدم وضع الهيئة لا يكون المستفاد من الأداة سوى الإخراج المطلق من غير إفادة لإحدى الخصوصيّتين على ما هو أحد الأقوال في المقام ، فيكون محصّل البحث أنّ الهيئة التركيبيّة هل وضعت لإفادة تعلّق الإخراج الرابطيّ المدلول عليه بالأداة بالجميع أو بخصوص الأخيرة ، أو لم يوضع لشيء من الأمرين وإنّما الموضوع خصوص الأداة لمطلق الإخراج من غير الدلالة على شيء من الخصوصيّتين.

قوله : (وفسّره بعضهم بكلّ واحدة.)

كان إسناده التفسير المذكور إلى البعض يشير إلى عدم تعيّن الحمل عليه ، إذ قد يقول القائل المذكور بغيره أو الأعمّ منه.

وتوضيح المقام : أنّ رجوع الاستثناء إلى الجميع يتصوّر على وجوه :

أحدها : أن يكون راجعا إلى المجموع بأن يكون المستثنى مخرجا من مجموع المذكورات فيقسط ذلك عليها ، كأن يراد من قوله «لزيد عليّ مائة ولعمرو خسمون ولبكر أربعون إلّا خمسة عشر» إخراج الخمسة عشر من مجموع المذكورات من غير أن يراد به إخراجه عن كلّ واحد منها ، فلا يتعيّن حينئذ خصوص القدر المخرج عن كلّ منها.

ثانيها : أن يراد إخراجه عن كلّ واحد منها من المذكورات ، فيكون المراد بالأداة هو الإخراج المتعلّق بالمتعدّد ، فيكون التعدّد في متعلّق الإخراج ، والمستعمل فيه للأداة هو الإخراج المخصوص المتعلّق بكلّ من المتعدّدات ، فالمستعمل فيه هناك أمر واحد لكنّه ينحلّ في الخارج إلى إخراجات عديدة.

ثالثها : أن يستعمل في مجموع الإخراجات المتعلّق كلّ واحد منها بواحد من

٣١١

العمومات المتقدّمة ، فإنّ مجموع تلك الإخراجات أيضا معنى واحد ، فيكون من قبيل استعمال المشترك في مجموع معانيه.

رابعها : أن يستعمل في كلّ واحد من الإخراجات المفروضة على أن يكون كلّ من إخراجه عن كلّ من المذكورات ممّا استعمل فيه اللفظ بخصوصه ، فيكون اللفظ مستعملا في كلّ منها بإرادة مستقلّة نظير استعمال المشترك في جميع معانيه على ما هو محلّ النزاع كما مرّ الكلام فيه. فالقائل برجوعه إلى الجميع إمّا أن يقول به على أحد الوجوه المذكورة في الجملة من غير تعيين للخصوصيّة ، أو يقول به على الوجه الأعمّ من الكلّ ، فيصحّ عنده الرجوع إلى الجميع على أيّ من الوجوه المذكورة. وقد يكون تأمّل المصنّف في تفسير المذكور لأجل ذلك. لكنّ الأظهر أن يقال بخروج الوجه الأوّل عن ظاهر كلامه ، إذ ظاهر كلامه في المقام وقوع الخلاف في خروج المستثنى بتمامه من الكلّ دون تقسيطه عليه ، كما مرّت الإشارة إليه. والظاهر أيضا خروج الأخير عمّا يريده القائل بالرجوع إلى الكلّ ، بل الظاهر خروج ذلك عن محلّ الخلاف في المقام ، وإن زعم بعض الأفاضل تنزيل كلام القائل برجوعه إلى الجميع إلى ذلك وجعل النزاع في رجوعه إلى الجميع أو الأخيرة منزّلا على ذلك وهو غير متّجه ، حسب ما يأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء الله عند نقل كلامه رحمه‌الله.

بقي الكلام في الوجهين الباقيين ويمكن تنزيل كلامه على كلّ منهما وعلى إرادة الأعمّ منهما ، وظاهر كلام البعض تنزيله على الأوّل منهما. فيمكن أن يكون تأمّل المصنّف في ذلك من جهة احتمال الوجه الثاني ، أو احتمال حمله على الأعم. وكان الأظهر هو ما ذكره البعض ، إذ لا يخلو الوجه الثاني عن التكلّف.

وسيأتي تتمّة الكلام في ذلك إن شاء الله.

قوله : (وهذان القولان موافقان للقول الثاني في الحكم.)

ما ذكره مأخوذ من كلام العضدي ، وقد تبعه جماعة من المتأخّرين. وظاهر هذا الكلام الحكم بموافقة القولين للقول الثاني في الحكم بتخصيص الأخيرة وبقاء غيرها على العموم على ما يقتضيه ظاهر اللفظ.

٣١٢

وقد استدرك ذلك بثبوت فرق بينهما في أمر لفظي أشار إليه بقوله : نعم ... إلى آخره. فهو كالصريح بل صريح في عدم حصول فرق بينهما أظهر من ذلك.

وقد أورد عليه الفاضل المحشّي بأن ما ذكره محلّ تأمّل ، لوضوح أنّه يحكم بالعموم في غير الأخيرة على القول الثاني قطعا. وأمّا على هذين القولين فلا وجه للحكم بعمومه ، إذ بعد ملاحظة الاستثناء المفروض المشترك بين الوجهين أو المتردّد بينهما يتوقّف في حمله على أحدهما فيكون مجملا ، ومع التوقّف فيه يشكل الحكم بالعموم فيها.

إلّا أن يقال : إنّ قضيّة التردّد والاشتراك هو التوقّف بالنظر إلى نفس المخصّص ، ولا ينافي ذلك ترجيح جانب العموم بالنظر إلى ملاحظة وضع العامّ وأصالة عدم التخصيص.

قال : ولا يخفى ما فيه سيّما فيما إذا كان إبقاء العموم مخالفا للأصل.

وقد أورد الفاضل المدقّق على ذلك أوّلا : بأنّه لا إشكال في موافقة القولين الأخيرين للثاني في تمام الحكم ، إذ يجب أن لا يعمل في غير الأخيرة أصحابهما إلّا على العموم ، لثبوت وضعه للعموم خاصّة ولم يتحقّق في الكلام دلالة اخرى تعارضها ، ومجرّد احتمال المعارض لا يكفي في الصرف عنها وإلّا كان ذلك قائما على تقدير عدم الاستثناء المفروض ، فكما أنّ البحث عن انتفاء المخصّص كاف في دفع التخصيص والبناء على العموم فكذا الحال في المقام ، فإنّ ثبوت الاشتراك وعدم العثور على قرينة تقتضي رجوعه إلى الجميع ، وعدم العثور عليه بعد الفحص القاضي بالتوقّف كاف فيه أيضا.

والحاصل : أنّه لابدّ من حمل العامّ على مقتضى وضعه بعد الفحص عن المخصّص فيه حتّى يتبيّن المخرج عنه.

* * *

٣١٣
٣١٤

المطلب الخامس في الإجماع (١)

لمّا فرغ المصنّف عن الكلام في المباحث المتعلّقة بالألفاظ ممّا يشترك فيه الكتاب والسنّة شرع في بيان الأدلة الشرعيّة وأغمض النظر عن مباحث الكتاب فإنّ حجّيّته كان معدودا من الضروريّات ، ولذا لم يعنونوا له بحثا في سائر الكتب المعدّة لذكر الخلافيّات ، فإنّ الظاهر أنّ الخلاف الواقع فيه إنّما وقع من جماعة من ظاهريّة علمائنا ممّن ينتمون إلى الأخبار ويأخذون بظواهر الآثار ولم يكن الخلاف مشتهرا في تلك الأعصار وإنّما هو أمر حدث بين المتأخّرين. وأمّا سائر المباحث المتعلّقة بالكتاب فممّا لا يتفرّع عليه ثمرة مهمّة في الأحكام حتّى يناسب ذكره في أمثال هذه المختصرات.

ثمّ إنّ الأدلّة عندنا منحصرة في الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل ، ولنذكر قبل الشروع في بيانها مطالب :

ـ المطلب الأوّل ـ

في بيان معنى الدليل وتفسيره على حسب ما بيّنوه.

__________________

(١) لا يخفى أنّ المؤلّف قدس‌سره من أوّل الكتاب إلى هنا كان يورد قطعة من متن المعالم قبل الشروع في الشرح ، ونحن تسهيلا للمراجعة رأينا أن نورد قبل كلّ مبحث تمام المتن ، وكان العمل على ذلك إلى هنا ؛ وبعد لاحظنا أنّه قدس‌سره فيما يأتي قلّما ينقل من المعالم كلاما ، فلم نر كثير فائدة في إيراد المتن فأغمضنا عن ذلك.

٣١٥

ـ ثانيها ـ

أنّ الدليل ينقسم إلى ما يكون حجّة في نفسه مطلقا ـ كظاهر الكتاب وخبر الواحد ـ وما يكون حجّة عند عدم قيام حجّة على خلافه فتكون حجّة في نفسه لا مطلقا. فإذا كان تعارض في القسم الأوّل لزم الرجوع إلى حكم الترجيح والتعادل بخلاف ما إذا وقعت المعارضة بينه وبين القسم الثاني من الأدلّة ، فإنّ الدليل على الوجه الثاني غير قابل لمزاحمة شيء من الأدلّة على الوجه الأوّل ، إذ المفروض كونه دليلا حيث لا دليل ، فلو قام هناك دليل من القسم الأوّل ولو من أضعف الأدلّة قدّم عليه ، لعدم اندراجه في الدليل مع وجوده.

فإن قلت : إنّ حجّية القسم الأوّل أيضا ليست مطلقة ، فإنّه إنّما يكون حجّة مع عدم حصول معارض أقوى منه ، وأمّا مع حصوله فلا ريب في سقوطه عن الحجّية.

قلت : المراد بإطلاقه في الحجّية كون حجّيته في نفسه مطلقة غير مقيّدة بشيء كما في القسم الثاني لا وجوب العمل به مطلقا ، إذ من البيّن كون المعمول به أقوى الحجّتين ، ولا ملازمة بين الحجّية على الوجه المذكور ووجوب العمل به بالفعل ، فهناك فرق بين ترك حجّة لوجود حجّة أقوى منها وعدم حجّية شيء من أصله.

وبعبارة اخرى : ثمّ إنّ الأدلّة الشرعيّة تنقسم أيضا إلى أقسام :

أحدها : ما يفيد القطع بالواقع كالإجماع المحصّل ودليل العقل.

ثانيها : ما يفيد الظنّ بالواقع ويكون حجّيته من حيث حصول الظنّ منه ، فالدليل هنا على الحقيقة هو الظنّ الحاصل من تلك الأدلّة ، فلو لا حصول الظنّ منها لم تكن حجّة، وحصول هذا القسم في الأدلّة غير ظاهر عندنا كما سنفضّل القول فيه إن شاء الله.

ثالثها : ما تكون الحجّة خصوص امور ناظرة إلى الواقع كاشفة عنها بحسب دلالتها سواء كانت مفيدة للظنّ بالواقع أو لا ، ومن ذلك كثير من الأدلّة الشرعيّة كظواهر الكتاب والسنّة ، فإنّ حجّيتها غير منوطة بإفادة الظنّ بالحكم الواقعيّ كما مرّت الإشارة إليه غير مرّة في المباحث المتقدّمة.

٣١٦

رابعها : أن لا يكون الدلالة على الواقع ملحوظة فيها أصلا لا من حيث إفادة المظنّة بالواقع ولا من حيث النظر إليه والدلالة عليه ، بل يكون المناط فيه هو بيان حكم المكلّف في ما يرد عليه من التكليف ، ويراد منه في الحال الّتي هو عليها كما هو الحال في أصالة البراءة والاستصحاب ، فإنّ الثابت بهما هو الحكم الظاهري من غير دلالة على بيان الحكم الواقعي ، وإن اتّفق حصول الظنّ منهما بالواقع في بعض الوقائع.

وقد عرفت ممّا قرّرناه وجود القسم الأوّل والأخيرين من الأقسام المذكورة.

وأمّا القسم الثاني فلا يكاد يتحقّق حصوله في الأدلّة الشرعيّة ، بل الظاهر عدمه وإن تسارع إلى كثير من الأوهام كون معظم أدلّة الأحكام من ذلك القبيل ، إلّا أنّ الّذي يظهر بالتأمّل خلافه ، لعدم إناطة الحجّية بحصول الظنّ بالأحكام الواقعيّة في شيء من الأدلّة الشرعيّة كما يتبيّن الحال فيه إن شاء الله.

فإن قلت : إنّ المدار في حجّية أخبار الآحاد على الظنّ دون التعبّد من حيث الإسناد ومن جهة الدلالة كما سيجيء تفصيل القول فيه في محلّه ، ومع إناطة الحجّية بالمظنّة لا يعقل المنع من حصول الظنّ منها مع القول بحجّيتها ، وأيضا الوجوه الواردة في التراجيح عند تعارض الأخبار إنّما يناط الترجيح بها بالأخذ بالأقوى والرجوع إلى ما هو الأحرى فيكون الأمر دائرا مدار الظنّ دون غيره ، إذ لا يعقل الترجيح بين الشكوك لمساواتها في الدرجة.

قلت : هنا أمران ينبغي الفرق بينهما في المقام ليتبيّن به حقيقة المرام :

أحدهما : كون الخبر مفيدا للظنّ بما هو الواقع حتّى يكون الأرجح في نظر المجتهد أنّ ما يفتي به هو المطابق لمتن الواقع.

ثانيهما : كون الخبر محلّا للوثوق والاعتماد من حيث الدلالة والإسناد ، ولو كان له معارض كان الظنّ الحاصل منه أقوى من الحاصل من الآخر.

وتبيّن الفرق بين الأمرين بأنّ الظنّ الحاصل في الصورة الاولى يقابله الوهم ، لوضوح كون ما يقابل الظنّ بالواقع وهما.

٣١٧

وأمّا الحاصل في الصورة الثانية فيمكن أن يقابله كلّ من الظنّ والشكّ والوهم ، إذ ليس متعلّق الظنّ هناك إلّا الصدور والدلالة ، ولا منافاة بين حصول الظنّ بصدور خبر والظنّ بصدور معارضه أيضا أو الشكّ فيه. وكذا الحال في الظنّ بدلالة أحدهما على مضمونه والظنّ بدلالة الآخر أيضا أو الشكّ فيه. فغاية الأمر أن يؤخذ حينئذ بالمظنون منهما ، أو بأقوى الظنّين منهما ، وذلك لا يستدعي الظنّ بما هو الواقع في حكم المسألة حتّى يكون ما يقابله وهما.

إذ من البيّن أنّ مجرّد ظنّ الصدور أو الدلالة لا يقتضي الظنّ بالواقع ، إذ قد يحتمل المكلّف ـ احتمالا مساويا لعدمه ـ وجود ما يعارضه بحسب الواقع ، بل قد يرى ما يعارضه بسند ضعيف مع وضوح عدم قضاء ضعف الخبر بالظنّ بكذبه ، ومع الشكّ فيه لا يمكن تحصيل الظنّ فيه بالواقع من الخبر الآخر وإن كان ذلك حجّة وهذا غير حجّة ، فإنّ مقام الظنّ غير مقام الحجّية ، بل قد يكون ما يعارضه مظنونا أيضا من حيث الإسناد والدلالة ، إذ لا منافاة بين الظنّين.

غاية الأمر حينئذ أن يؤخذ بأقوى الظنّين المفروضين ، وهو أيضا لا يستلزم ظنّا بالواقع، ومجرّد كونه أقوى سندا ودلالة لا يقضي بالظنّ بكذب الآخر أو سقوط دلالته ، ومع عدم حصول الظنّ به لا يعقل حصول الظنّ بالحكم الواقعيّ في المقام.

فإن قلت : كون الخبر مفيدا للظنّ وعدمه إنّما يلحظ بالنظر إلى الواقع ، فإذا كان أحد الخبرين المفروضين مفيدا للظنّ بالنظر إلى الواقع دون الخبر الآخر ، أو كان مفيدا للظنّ الأقوى والآخر للأضعف فلا محالة يكون الحكم الحاصل من أحدهما راجحا على الآخر ، فيكون ذلك مظنونا والآخر موهوما ، وإن كان الأضعف مفيدا للظنّ في نفسه مع قطع النظر عن الأقوى ، فإنّ ملاحظة الأقوى يمنع من حصول الظنّ من الأضعف ، بل يجعله موهوما فكيف لو كان مشكوكا فيه في نفسه؟ فالحاصل للمجتهد هنا أيضا هو الظنّ بالواقع المقابل للوهم كما فرض في الصورة الاولى.

٣١٨

قلت : ليس الأمر على ما ذكر ، وكشف الحال أن يقال : إنّه إن كان الخبران المفروضان على وجه لا يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه وكان أحدهما أقوى من الآخر كان الأمر ـ على ما ذكر ـ لظنّ الكذب حينئذ في طرف المرجوح ، وأمّا لو كان الجمع بينهما ممكنا كالعامّ والخاصّ والحقيقة والمجاز لكن لم يكن الخاصّ أو الخبر المشتمل على قرينة المجاز بالغا إلى حدّ ما يفيد الظنّ بالصدور وكان مشكوكا من تلك الجهة لم يجز العمل به ، ولا يجوز أن يترك الحجّة من أجله ، ومع ذلك لا يعقل حصول الظنّ بإرادة العموم من العامّ المفروض بالنظر إلى الواقع وكذا إرادة المعنى الحقيقي من اللفظ مع الشكّ في ورود التخصيص عليه في الواقع أو قيام قرينة المجاز.

والحاصل أنّه مع استفادة المعنى من اللفظ بحسب فهم العرف لا يصحّ تركه بمجرّد الشكّ الحاصل في تخصيصه أو الخروج عن ظاهره ، بل لابدّ من العمل به إلى أن يثبت المخرج عنه.

وقد عرفت ممّا قرّرناه في المباحث السالفة أنّ مداليل الألفاظ إنّما يبنى حجّيتها على كونها مفهومة منها عند أهل اللسان ، سواء حصل منها الظنّ بالمراد أو لا ، حسب ما فصّلناه. ومن ذلك يعرف الحال في باقي المعارضات مع عدم بلوغ المعارض إلى حدّ الحجّية أو بلوغه إليه وعدم مكافئته له في القوّة ، هذا بالنظر إلى الدلالة.

وأمّا بالنسبة إلى الإسناد فنقول : إنّ ترجيح أحد الخبرين من حيث القوّة بحسب الصدور لا يقضي بالظنّ بكذب الآخر وعدم صدوره إلّا في الصورة المتقدّمة ، ولا يكاد يوجد تلك في الأخبار المعروفة ، وأمّا في غيرها فلا يقضي قوّة الظنّ بصدور أحد الخبرين لوهن صدور الآخر وعدم ثبوته في الواقع ، إذ المفروض إمكان صدور الخبرين وورودهما عن الحجّة ، إلّا أنّه لمّا كان صدور أحدهما مظنونا والآخر مشكوكا فيه كان عليه الأخذ بالمظنون، وكذا لو كان أحدهما مظنونا بالظنّ الأقوى والآخر بالأضعف تعيّن الأخذ بالأقوى، ولا يلزم

٣١٩

من ذلك كون الحكم المدلول عليه بالأقوى مظنونا ليكون خلافه حسب ما يقتضيه الخبر الآخر موهوما ، إذ لا يجامع ذلك الشكّ في صدق الخبر الآخر أو ظنّ صدقه بالظنّ الأضعف ، مع أنّه يحصل الظنّ والشكّ المذكوران في غالب الحال.

فإن قلت : إذا كان أحد الخبرين أقوى من الآخر كان الظنّ الحاصل منه أقوى من الظنّ الحاصل من معارضه وإن تساويا في وجه الدلالة أيضا فضلا عمّا لو كانت الدلالة أقوى أيضا ، فكيف يقال حينئذ بعدم حصول الظنّ من الأقوى؟

قلت : على فرض كون دلالته أيضا أقوى لا يلزم منه كون الحكم مظنونا بالنظر إلى الواقع فكيف لو تساويا فيها؟ وذلك لأنّ غاية ما يقتضيه قوّة الإسناد كون الوثوق بصدور تلك الرواية أكثر من الوثوق بصدور الاخرى ، وما يقتضيه قوّة الدلالة كون إفادته لمضمونه أوضح وأقوى من إفادة الآخر ، ولا يستلزم ذلك الظنّ بكون الحكم المدلول عليه هو المطابق للواقع ، إذ قد يحتمل عنده وجود الصارف عنه احتمالا متساويا كما إذا كان الخبر الآخر مشتملا على مشترك دائر بين معنيين يكون حمله على أحدهما صارفا لهذه الرواية عن معناها ، فإنّه مع تساوي الاحتمالين هناك ولو مع الشكّ في صدوره عن الإمام عليه‌السلام بعد ملاحظة هذه الرواية المعارضة لا يعقل حصول الظنّ من الرواية القويّة ، لوضوح اقتضاء الظنّ بكون الشيء مطابقا للواقع كون ما يقابله موهوما ، وهو لا يجامع الشكّ فيه حسب ما هو الحال في مقتضى الخبر الآخر.

فإن قلت : إذا كان الحكم الحاصل من الخبر المظنون الصدور أو الخبر الأقوى مشكوك المطابقة للواقع كان الحال فيه على نحو غيره من الخبر المشكوك المطابقة كالرواية الضعيفة أو الخبر الّذي دونه في القوة فكيف يؤخذ به ويطرح الآخر مع تساويهما في ذلك؟

قلت : أيّ مانع من ذلك؟ بعد اختيار كون الحجّية غير منوطة بمظنّة إفادة الواقع كما هو المدّعى ، فإذا وجدت شرائط الحجّية في خبر دون خبر اخذ به وإن شارك الآخر في عدم إفادة المظنّة بالواقع في خصوص الواقعة.

٣٢٠