هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

نعم لو انضمّ إليه قرينة المقام كما في قوله وقوله (١) أفاد ذلك ولا كلام فيه. وفرّعوا عليه ما إذا قال الموصي : إن ولدت ذكرا فله الألف ، وإن ولدت انثى فلها مائة. فولدت ذكرين أو انثيين فيشترك الذكران في الألف والانثيان في المائة ، لأنّه ليس أحدهما أولى من الآخر فيكون عامّا ، وقيل : إنّه على العموم تعطى كلّ واحد من الذكرين ألفا ومن الانثيين مائة ، إذ المعنى حينئذ كلّ من ولدته فله كذا ، وبدونه تشتركان في العين ولا يخصّ أحدهما ، لانتفاء الأولويّة. ويحتمل حينئذ القول بثبوته للواحد يستخرج بالقرعة ، أو يقال بتخيير الوصي حينئذ في الدفع إلى أيّ منهما. ويحتمل أيضا سقوط الوصيّة فلا يعطى شيء ، لتعلّق الوصيّة بولادتها ذكرا واحدا أو انثى واحدة لظهور اللفظ في الوحدة ، فمع انتفائها ينتفي الوصيّة. وكيف كان فالمختار عندنا عدم إفادتها العموم وضعا قطعا ولا لزوما ، إذ مجرّد التعليق لا يدلّ عليه.

نعم يشير تعليق الحكم على النكرة إلى كون مناط الحكم مجرّد ثبوت مفاد النكرة فيثبت الحكم المعلّق عليه بمجرّد ثبوته ، فإن كان الحكم المعلّق عليه مطلق الفعل كما في قولك «إن جاءك رجل فأكرم عمرا» أفاد ثبوت وجوب إكرام عمر وبمجرّد مجيء أيّ رجل كان ، فيشير إلى العموم البدلي ، وإن كان ممّا يثبت لمصاديق المعلّق عليه أو على ما يتعلّق به نحو «إن جاءك رجل فأكرمه». وقوله تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...) الخ (٢) أفاد ثبوت الحكم لجميع مصاديق المعلّق عليه ، فيشير الى العموم الاستغراقي.

خامسها : أنّ النكرة إذا وقعت في سياق الأمر أفادت العموم ، كما في «أعتق رقبة» فإنّه يفيد الاجتزاء بعتق أيّ رقبة كان ، فيستفاد منه وجوب عتق رقبة مّا ، والتخيير بين مصاديقه من الرقاب ، وليس استفادة العموم هنا من جهة وضعه له قطعا ، وإنّما هو من جهة صدق فرد مّا على كلّ من مصاديق الرقبة وقضاء الأمر بالاجتزاء ، فيرجع إلى العموم الاستغراقي في ثبوت الوجوب لكلّ منها على سبيل

__________________

(١) كذا في النسخ.

(٢) الحجرات : ٦.

٢٤١

التخيير ، لكن يكون استغراقه بالنسبة إلى الأفراد الشائعة ، إذ لا يزيد ذلك له على الإطلاق، وإنّما يرجع الإطلاق إلى العموم بملاحظة ما ذكرناه. فيكون ذلك مدلولا التزاميّا ، ويكون عمومه على حسب ما ينصرف الإطلاق إليه من القدر الجامع بين الأفراد الشائعة حسب ما مرّت الإشارة إليه.

فما ذكره الرازي من : أنّ النكرة إن وقعت في الخبر نحو «جائني رجل» فلا تعمّ ، وإن وقعت في الأمر ك «أعتق رقبة» عمّت عند الأكثرين ، بدليل الخروج عن العهدة بإعتاق ما شاء. فإن أراد به ما ذكرناه فلا كلام ، وإن أراد عمومه على حسب اللغة فلا وجه له. وما احتجّ به عليه من الخروج عن العهدة بإعتاق ما شاء لا يدلّ عليه ، وأقصى الأمر فيه ما ذكرناه ، وفي معنى الأمر ما يفيد مفاده» ولو كان بصورة الإخبار ، كما يجب في الظهار عتق رقبة ، ولا حاجة في إرجاعه حينئذ إلى العموم إلى ضمّ أصالة البراءة عن اعتبار قيد زائد إلى ذلك ليكون الإطلاق والأصل المذكور معا قاضيين بالاجتزاء بأيّ فرد من ذلك ، بل مجرّد الإطلاق كاف في الدلالة عليه ، حسب ما عرفت من التقرير المذكور كما هو الحال في سائر الإطلاقات.

والحاصل : أنّ مدلول اللفظ كاف في إفادة ذلك ، وأصالة البراءة من الزائد أمر آخر، وأمّا أصالة عدم التقييد فهو عين مفاد الأخذ بظاهر الإطلاق وليس أمرا ينضمّ إليه الظاهر.

فما ذكره بعض الأفاضل ـ من أنّه لو كانت مدخولة للأمر نحو «أعتق رقبة» فيفيد العموم على البدل لا الشمول ، وهذا العموم مستفاد من انضمام أصالة البراءة عن اعتبار قيد زائد من الايمان وغيره ، فالإطلاق مع أصل البراءة يقتضيان كفاية ما صدق عليه الرقبة أيّ فرد يكون منه ـ ليس على ما ينبغي.

ثمّ إنّ ما ذكرناه إنّما يجري فيما إذا اريد بالنكرة النكرة المطلقة كما هو الظاهر منها ، وأمّا إذا اريد بها المعيّنة في الواقع المبهمة عند المخاطب ـ كما في الآية الشريفة على حسب ظاهر فهم اليهود ـ فلا يرجع إلى العموم أصلا ويكون مجملا ، إلّا أنّه خلاف الظاهر من إطلاق النكرة ، فهي إمّا مجاز فيه أو انّه خلاف ما ينصرف

٢٤٢

الإطلاق إليه. وقد أشرنا إلى مثل ذلك في النكرة الواقعة في سياق النفي ونحوه ، وقد مرّ الكلام فيه عند بيان معنى النكرة.

سادسها : أنّ النكرة في مقام الإثبات إن كانت في مقام بيان وقوع فعل منه أو عليه في الماضي أو المستقبل نحو «جاء رجل» أو «يجيء رجل» أو «ضربته بعصا» أو «أكرمته يوما» فلا عموم فيه مطلقا ، وإنّما يفيد ثبوت الحكم لفرد مّا من غير الدلالة على الخصوصيّة المعيّنة أصلا لا ابتداءا ولا إلزاما. وإن كان في مقام إثبات حكم له فإن لم يكن المقام مقام البيان فلم يحكم بعمومه ، وإنّما يفيد ثبوت الحكم لفرد مّا على وجه الإجمال ، كما إذا قال «أوجبت عليكم اليوم شيئا ، أو كلّفتكم بتكليف» ونحو ذلك. وإن ورد في مقام البيان وكان بيان ثبوت الحكم لفرد مّا غير مفيد بحسب المقام والمفروض أنّه لا إشارة إلى تعيين الفرد انصرف إلى العموم ، من جهة قضاء الحكمة به على ما مرّت الإشارة إليه في المفرد المعرّف.

وقد يكون المراد بالنكرة حينئذ هو مطلق الطبيعة المرسلة ويكون التنوين فيه لمحض التمكن على نحو «أسد عليّ» ويعمّ ثبوت الحكم للطبيعة لأفراده المتّحدة بها كما في قولك: رجل ... (١) تبعا ، وحمل النكرة على ذلك وإن كان خلاف ما هو الظاهر منها ، إلّا أنّ قرينة المقام حسب ما ذكرنا قاضية بالحمل عليه ، ومن ذلك ما إذا وردت في مقام الامتنان ولم يحصل بإثبات الحكم لفرد مّا منه على ما هو الظاهر من النكرة ولا للطبيعة بالنسبة إلى بعض أفرادها ـ كما في الآية الشريفة ـ فيعمّ الظهور لجميع أفراد الماء النازل من السماء ، وهذا هو المراد من قولهم : إنّ النكرة الواقعة في مقام الامتنان تفيد العموم. وأمّا إذا حصل الامتنان بثبوت فرد مّا له ـ كما في قولك «قد أعطاك سمعا وبصرا ، وآتاك قوّة ، ومنحك علما وفضلا» ونحو ذلك ـ فلا دلالة فيه على العموم قطعا. وكذا لو حصل ذلك بالحكم على الطبيعة في ضمن بعض الأفراد ـ كما في قوله تعالى (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)(٢) ـ فإنّه لا يدلّ على وجود أفراد الفواكه والنخل والرّمان في الجنّة ،

__________________

(١) قد سقط من هنا شيء.

(٢) الرحمن : ٦٨.

٢٤٣

بل إنّما يفيد وجود هذه الأجناس فيه ، فالتنوين فيها بحسب ظاهر المقام للتمكّن ، لكن لا يفيد ثبوت الحكم لجميع أفراده ، لحصول الامتنان بثبوت تلك الأجناس فيها ، فما ذكره في الوافية كما ترى ، وكذا الحال في قوله (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً)(١) فإنّه لا يفيد إلّا ثبوت المطهّريّة لما نزّله عليهم من غير أن يفيد نزول جميع المياه عليهم أصلا ، وهو ظاهر ، فما ذكره فيها من الآية كما ترى.

سابعها : أنّ ما ذكرناه في النكرة المنفيّة أو المنهيّ عنها هل يجري في الفعل المنفيّ نحو «ما ضربت» أو المنهيّ عنها نحو «لا تضرب» فتكون المادّة المنفيّة أو المنهيّ عنها كالنكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي؟ وجهان ، فالمحكيّ عن ظاهر العضدي أنّه كذلك فيفيد العموم.

وقد يحتجّ عليه بوجوه :

أحدها : أنّ المتبادر منها ذلك ـ حسب ما ادّعي من التبادر في النكرة المصرّحة ـ من غير فرق ، ونحن نقول : إنّ التبادر المدّعى متّجه ، إلّا أنّه من مقتضيات الإطلاق ، وليس دليلا على الوضع ، نظير ما مرّ في النكرة المصرّحة فإن اريد بذلك قضاء الإطلاق به فمتّجه ، وإن اريد بذلك إثبات الوضع فلا. وقد مرّ تفصيل القول في ذلك في مبحث النهي، ويجري ما ذكرناه في الفعل المنفيّ من غير فرق.

ثانيها : أنّ الفعل نكرة باتّفاق النحاة فيجري فيه حكمها وأنّه يوصف به النكرة دون المعرفة.

واورد على الأوّل : بأنّ نجم الأئمّة منع من كون الأفعال نكرات ، محتجّا بأنّ التنكير كالتعريف من خواصّ الأسماء ومن عوارض الذات. وفيه : أنّه إن اريد بذلك عدم اتّصاف الأفعال بملاحظة تمام معناها بالتعريف والتنكير فهو كذلك ، لظهور كون معنى الفعل مركّبا من المعنى الاسمي والحرفي ، ولا يوصف بهما الحروف فلا يصحّ اتّصاف الملفّق منه ومن غيره بهما ، وإن اريد عدم اتّصافها

__________________

(١) سورة الفرقان : ٤٨.

٢٤٤

بملاحظة معناه التامّ بذلك فغير متّجه ، إذ لا يمكن خلوّ المعنى التامّ عن أحد الوجهين ، أقصى الأمر عدم اندراج الأفعال في النكرة المصطلحة حيث إنّه اصطلح المعرفة والنكرة في الألفاظ بملاحظة معناها المطابقي دون التضمّني ، والتنكير الحاصل في معناها التامّ من قبيل تنكير المصادر الغير المنوّنة وليس كتنكير الفرد المنكّر ليكون المراد بها فردا ما ـ حسب ما مرّت الإشارة إليه ـ وقد عرفت أنّ النكرة على وجهيها يفيد العموم عند الوقوع في سياق النفي أو النهي.

وعلى الثاني : بأنّ ذلك لمناسبتها لها من حيث إنّه يصحّ تأويلها بها كما تقول في «قام رجل ذهب أبوه ذاهب أبوه» كذا حكي عن نجم الأئمّة. وفيه : أنّه إن اريد بذلك عدم اندراجها في النكرة المصطلحة فمسلّم ، ولا يجدي في المقام. وإن اريد عدم إفادتها مفاد النكرة فغير متّجه ، إذ لو لا ذلك لما قامت النكرة مقامها.

ثالثها : أنّ مفاد الفعل حكم ، والأحكام من النكرات ، لأنّ الحكم بشيء على آخر يجب أن يكون مجهولا عند السامع ، وإلّا لغى الكلام وخرج عن الإفادة ، كبيان الواضحات نحو «السماء فوقنا» وهذا الوجه ضعيف جدّا ، فإنّ النكرة في اصطلاحهم ليست عبارة عن كون الشيء مجهولا عند السامع ، بل كون الذات غير مشاربها إلى متعيّن في الذهن أو الخارج ، وأيضا سلّمنا كون الشيء مجهولا نكرة لكن لا يلزم من ذلك أن يكون نفس الخبر والصيغة نكرة ، إذ المجهول انتساب ما تضمّنه الخبر والصيغة إلى المحكوم عليه ، فإنّ المجهول من مجيء زيد انتساب المجيء إلى زيد لا مفهوم المجيء المحمول عليه ، كيف ولو لزم تنكير المحكوم لم يجز أن يقول : «زيد القائم وأنا زيد» وكان التعريف في المقام قاضيا بمعرفة النسبة، فكان كقولك «السماء فوقنا» وليس كذلك ضرورة. وذلك محصّل ما حكي عن نجم الأئمّة وهو متّجه.

وكيف كان فالمختار عندنا إفادته العموم على مقتضى الإطلاق من غير أن يكون تقييده ببعض الصور قاضيا بالتجوّز فيه ، فالعموم من لوازم الإطلاق ومقتضياته من غير أن يكون اللفظ موضوعا بإزائه حسب ما مرّ تفصيل القول فيه في مبحث النهي.

٢٤٥

ويجري الكلام المقدّم في النكرة الواقعة في سياق فعل الشرط نحو إن أكلت فأنت حرّ أو أنت طالق ، وظاهر اللفظ دوران الجزاء مدار مطلق حصول ماهيّة الشرط فيرجع أيضا إلى العموم البدلي ، وظاهر التعليق على الطبيعة دوران الحكم على مجرّد ذلك من دون اعتبار شيء من الخصوصيّات فيه ، إلّا أنّه كغيره ينصرف إلى الشائع.

ثامنها : الجمع المنكّر الواقع في سياق النفي يفيد العموم على نحو المفرد الواقع في سياقه ، كما هو ظاهر من ملاحظة الاستعمالات. وقد ذكر بعضهم أنّ الحكم بالنصوصيّة والظهوريّة لا يختلف في المقامين ف «لا رجال في الدار» و «ما من رجال» نصّ في العموم ، و «ليس في الدار رجال» و «ما في البيت رجال» ظاهر فيه ، وعندي في ذلك كلام ، لعدم ظهور فرق بين تلك العبارة في فهم العرف ، إلّا أنّ ما زيد فيه «من» أبلغ في العموم من الخالي عنه.

نعم ، هنا كلام في إفادته النفي من الآحاد كالمفرد أو أنّه يفيد النفي عن أفراد الجموع، وقد نصّ بعضهم بأنّ «لا رجال» نصّ في عموم أفراد الجموع وإن قلنا بكونه ظاهرا في عموم الأفراد أيضا كالجمع المحلّى يسلخ معنى الجمعيّة. قلت : دعوى ظهوره في نظر الوجدان لا يخلو من خفاء كيف! ولو كان الأغلبيّة لكان قوله «ليس لي على زيد دراهم» إقرار بعدم اشتغال ذمّته بدرهم ودرهمين ، وليس كذلك قطعا ، وكذا لو نذر أن لا يستقرض من زيد دراهم لم يحنث باستقراض درهم أو درهمين.

وبالجملة : أنّ الجمع اسم للوحدات الثلاث وما فوقها ، والنفي الوارد عليه يمكن أن يرد على تلك الوحدات وعلى المجموع ، فعلى الأوّل يعمّ الآحاد ، وعلى الثاني لا يفيد إلّا نفي مراتب الجمع ، ونفي الأوّل يستلزم نفي الثاني بخلاف العكس ، فالقدر المتحقّق من الأوّل هو الثاني ، ويتوقّف إرادة الآخر به على قيام القرينة عليه. ودعوى ظهوره فيه مع الإطلاق غير متّجهة ، ولذا يصحّ أن يقال «لا رجال في الدار بل رجل أو رجلان» مع أنّه لا يصحّ أن يقال : لا رجل في الدار بل رجلان أو رجال. وكذا الحال في أسماء العدد الواقعة في سياق النفي ، إذ يمكن

٢٤٦

ورود النفي على الوحدات المندرجة فيها وعلى المجموع فلا ينافي ثبوته لبعضه ـ ويجري ما ذكرناه في الواقع في سياق النهي ، نحو «لا تشتر عبيدا» و «لا تأكل أرغفة» والحقّ أنّها لا تفيد المنع عن شراء الواحد أو الاثنين ـ إلّا أن يقوم قرينة في المقام على تسلّط النفي على الوحدات.

ولو وقع الجمع المعرّف في سياق النفي فالظاهر منه عموم السلب ، كما في قولك «ما جائني العلماء» و «ما أكرمت الفسّاق» و «ما أهنت العلماء» فإنّه ظاهر في عدم مجيء أحد من العلماء إليه ، وعدم إكرامه أحدا من الفسّاق ، وعدم إهانته أحدا من العلماء.

فإن قلت : إنّ الجمع المعرّف يفيد العموم ، فالنفي الوارد عليه يكون سلبا للعموم ، كما في قولك «ما جائني كلّ عالم» فكيف يكون ظاهرا في عموم السلب.

قلت : إنّما يتمّ ما ذكر لو كان مدخول النفي ما يدلّ على مفهوم الشمول كما في المثال ، فيرجع النفي إليه ويكون سلبا للعموم ، وليس من ذلك العموم في الجمع ، حسب ما مرّ بيانه ، بل الجمع المعرّف إشارة إلى جميع الوحدات المندرجة فيه ، ويكون الحكم متعلّقا بجميع تلك الوحدات ، فهو شامل لجميع الوحدات المندرجة من غير أن يكون مفهوم الشمول مأخوذا فيه ، فيتعلّق الحكم بكلّ من تلك الآحاد إيجابيّا كان أو سلبيّا ، فيرجع في الإيجاب إلى موجبة كلّية وفي السلب إلى سالبة كلّية ، فلو حلف أن لا يتزوّج الثيّبات حنث بتزويج ثيّبة واحدة ، هذا كلّه على المختار من كونه حقيقة في استغراق الآحاد. أمّا لو قلنا بدلالته على استغراق المجموع لم يحنث بتزويج واحدة أو اثنتين. وكذا الحال إذا وقع الجمع المعرّف في سياق النهي من غير فرق. هذا إذا اريد بالجمع المعرّف ما هو الظاهر منه أعني الاستغراق. وأمّا إذا اريد به الجنس ففيه وجهان : من إرادة الجنس المطلق فيفيد عموم النفي والنهي بالنسبة إلى الآحاد ، ومن إرادة جنس الجمع فلا يفيد إلّا عمومه بالنسبة إلى المجموع فلا يفيد نفي الحكم عن الواحد والاثنين ، وكذا النهي عنه وقد مرّ الكلام فيه حينئذ ، ولا فرق في ذلك بين وروده في سياق الإيجاب أو السلب. ولو وقع في سياق الشرط تعلّق الجزاء بحصول الجميع ، فلا يثبت إلّا مع حصول

٢٤٧

الكلّ كما إذا قال : إن جاءك العلماء فأكرم زيدا. هذا إذا لم يكن حكم الجزاء متعلّقا بهم ، وأمّا إذا كان متعلّقا بهم فهو ظاهر في إفادة إناطة الحكم في كلّ منها بحصول الشرط المذكور بالنسبة إليه ، كما إذا قال : إن جاءك العلماء فأكرمهم. ويحتمل أن يكون المقصود إناطة إكرام الكلّ على مجيء الكلّ ، إلّا أنّه خلاف ظاهر الإطلاق حسب ما هو المفهوم منه في العرف.

ولو وقع الجمع المنكّر في سياق الأمر أو الإيجاب ففي إفادته العموم خلاف ، أشار إليه المصنّف بقوله : أكثر العلماء على أنّ الجمع المنكّر لا يفيد العموم ، هذا هو المعروف من الاصوليّين بل لا يبعد حصول الاتّفاق عليه بعد الخلاف المذكور ، إذ لم ينقل فيه خلاف بعد من نسب الخلاف إليه من القدماء ، والظاهر أنّه لا خلاف فيه أيضا من جهة وضعه لخصوص العموم ، بل لا يبعد قضاء ضرورة اللغة بخلافه ، وإنّما الخلاف المذكور في انصرافه إلى العموم من جهة اقتضاء الحكمة به ، كما عزي إلى الشيخ أو غيره ممّا عزي إلى أبي علي الجبائي ، وهو أيضا خلاف ضعيف. ولا يبعد تنزيل كلام الشيخ على ما سنقرّره إن شاء الله.

وكيف كان ، فالمختار عدم انصرافه إلى العموم أيضا إلّا في بعض مواضع نادرة تقضي الحكمة به بحسب المقام كما سنقرّره ، ويدلّ عليه أنّ المتبادر من الجمع المنكّر في الاستعمالات بعد الرجوع إلى العرف ليس إلّا الوحدات المتعدّدة ما فوق الاثنين كما هو المفهوم من الجمع ، وليس مفاد التنوين فيه إلّا التمكّن ، ولا دلالة فيه على الوحدة كما هو الحال في المفرد ، ولا يفيد إطلاقه على عدد خاصّ ولا مرتبة مخصوصة من الجمع ، فالمعنى المستفاد منه صادق على جميع مراتب الجمع من غير ترجيح لخصوص المرتبة العليا منه بوجه من الوجوه ، والقدر المتيقّن منه هو الأوّل ، فلا دلالة في لفظه على خصوص المرتبة العليا ولا قرينة ، فإنّه يفيد إطلاقه عليها ، وإلّا لانساق ذلك منه إلى الفهم عند الإطلاق ومن المعلوم عدمه ، ودعوى قضاء الحكمة به ممنوعة إلّا في بعض موارد خاصّة ، ولا ربط له بمحلّ البحث في المسألة.

وتوضيح القول في ذلك أنّ الجمع المنكّر إمّا أن يقع في مورد الأخبار ،

٢٤٨

وحينئذ فإمّا أن يتعلّق به حكم من الأحكام كأكل [اللحوم] وأرباح متاجر ونحو ذلك ، أو غيرها من سائر الأخبار كجائني رجال ، أو يقع متعلّقا للأمر ، أو يقع للشرط المتعلّق عليه حكم من الأحكام الشرعيّة أو غيرها.

فهاهنا صور :

أحدها : أن يقع متعلّقا للأخبار سواء كان ركنا في الإسناد نحو «جائني رجال» أو كان من متعلّقات المخبر به ك «دفعت إليه دراهم» وحينئذ فالقدر المستفاد منه وقوع أقلّ الجمع ، ولا دلالة فيه على ما يزيد على ذلك ، إذ العامّ لا دلالة فيه على الخاصّ ، وإنّما أفاد الأقلّ لاشتراكه بين جميع المراتب ، ولا دلالة فيه على تعيين المصداق على نحو ما ذكرناه في المفرد المنكّر ، إلّا أنّ ذلك يفيد وحدة المخبر به ، وهذا يفيد تعدّده بما يزيد على الاثنين.

فالإبهام الحاصل في المفرد من جهة واحدة وهو عدم تعيّن الفرد الّذي تعلّق الإخبار به ، وهنا من جهتين : أحدهما : دوران الجمع بين الثلاثة وما فوقها إلى أن يستغرق الجميع ليكون الجمع موضوعا لإفادة القدر المشترك بينها ، فلا يتعيّن شيء من مراتبه ، وحيث كان أقلّها الثلاثة دلّ على حصوله قطعا ، ويكون إطلاقه على ما يزيد عليها في مقام الاحتمال ، وليس ذلك من جهة إجمال اللفظ ودورانه بين امور ، كما هو الحال في المشترك بين المعاني وإن كانت تلك المعاني متداخلة ، فإنّ نفس المعنى غير متعيّن هناك ، بل من جهة كون معناه صادقا على الجميع وحاصلا بكلّ منها فمعنى اللفظ ومفاده متعيّن في المقام أعني ما فوق الاثنين ، إلّا أنّ ذلك المعنى غير متعيّن الصدق على مرتبة معيّنة ، بل يصدق على مراتب غير متناهية ، فلا دلالة في اللفظ إلّا على القدر المشترك من غير أن يدلّ على شيء من تلك. إلى هنا جفّ القلم (١).

* * *

__________________

(١) لا يخفى أنّ في المعالم قبل مباحث التخصيص أصلين :

١ ـ أصل : أكثر العلماء على أنّ الجمع المنكّر لا يفيد العموم ... الخ.

٢ ـ أصل : ما وضع لخطاب المشافهة ... الخ.

لم يأت في النسخ شرحهما.

٢٤٩
٢٥٠

معالم الدين :

الفصل الثاني

في

جملة من مباحث التخصيص

أصل

اختلف القوم في منتهى التخصيص إلى كم هو ، فذهب بعضهم إلى جوازه حتّى يبقى واحد. وهو اختيار المرتضى ، والشيخ ، وأبي المكارم ابن زهرة. وقيل : حتّى يبقى ثلاثة. وقيل : اثنان. وذهب الأكثر ومنهم المحقّق إلى أنّه لابدّ من بقاء جمع يقرب من مدلول العامّ ، إلّا أن يستعمل في حقّ الواحد على سبيل التعظيم. وهو الأقرب.

لنا : القطع بقبح قول القائل : «أكلت كلّ رمّانة في البستان» ، وفيه آلاف وقد أكل واحدة أو ثلاثة. وقوله : «أخذت كلّ ما في الصندوق من الذهب» وفيه ألف ، وقد أخذ دينارا إلى ثلاثة. وكذا قوله : «كلّ من دخل دارى فهو حرّ» ، أو «كلّ من جاءك ، فأكرمه» ، وفسّره بواحد أو ثلاثة ، فقال : «أردت زيدا أو هو مع عمرو وبكر». ولا كذلك لو اريد من اللفظ في جميعها كثرة قريبة من مدلوله.

٢٥١

احتجّ مجوّزوه إلى الواحد بوجوه :

الأوّل : أنّ استعمال العامّ في غير الاستغراق يكون بطريق المجاز ، على ما هو التحقيق ، وليس بعض الأفراد أولى من البعض ؛ فوجب جواز استعماله في جميع الأقسام إلى أن ينتهى إلى الواحد.

الثاني : أنّه لو امتنع ذلك ، لكان لتخصيصه وإخراج اللفظ عن موضوعه إلى غيره. وهذا يقتضي امتناع كل تخصيص.

الثالث : قوله تعالى : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ، والمراد هو الله تعالى وحده.

الرابع : قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) ، والمراد نعيم بن مسعود ، باتّفاق المفسّرين. ولم يعدّه أهل اللسان مستهجنا ؛ لوجود القرينة ؛ فوجب جواز التخصيص إلى الواحد ، مهما وجدت القرينة. وهو المدّعى.

الخامس : أنّه علم بالضرورة من اللغة صحّة قولنا : «أكلت الخبز وشربت الماء» ، ويراد به أقلّ القليل ممّا يتناوله الماء والخبز.

والجواب عن الأوّل : المنع من عدم الأولويّة ؛ فانّ الأكثر أقرب إلى الجميع من الأقلّ. هكذا أجاب العلّامة رحمه‌الله في النهاية.

وفيه نظر ، لأنّ أقربيّة الأكثر إلى الجميع يقتضى أرجحيّة إرادته على إرادة الأقلّ ، لا امتناع إرادة الأقلّ ، كما هو المدّعى.

فالتحقيق في الجواب أن يقال : لمّا كان مبنى الدليل على أنّ استعمال العامّ في الخصوص مجاز ، كما هو الحقّ ، وستسمعه ، ولا بدّ في جواز مثله من وجود العلاقة المصحّحة للتجوّز ، لا جرم كان الحكم مختصّا باستعماله في الأكثر ، لانتفاء العلاقة في غيره.

فان قلت : كلّ واحد من الأفراد بعض مدلول العامّ ، فهو جزؤه.

٢٥٢

وعلاقة الكلّ والجزء حيث يكون استعمال اللفظ الموضوع للكلّ في الجزء غير مشترط بشيء، كما نصّ عليه المحقّقون. وإنّما الشرط في عكسه ، أعني : استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، على ما مرّ تحقيقه. وحينئذ فما وجه تخصيص وجود العلاقة بالأكثر؟

قلت : لا ريب في أنّ كلّ واحد من أفراد العامّ بعض مدلوله ، لكنّها ليست أجزاء له، كيف؟ وقد عرفت أنّ مدلول العامّ كامّ فرد ، لا مجموع الأفراد. وإنّما يتصوّر في مدلوله تحقّق الجزء ، والكلّ ، لو كان بالمعنى الثاني. وليس كذلك. فظهر أنّه ليس المصحّح المتجوّز علاقة الكلّ والجزء ، كما توهّم. وإنّما هو علاقة المشابهة ، أعني : الاشتراك في صفة ، وهي ههنا الكثرة ؛ فلابدّ في استعمال لفظ العامّ في الخصوص من تحقّق كثرة تقرب من مدلول العامّ ، لتحقّق المشابهة المعتبرة لتصحيح الاستعمال. وذلك هو المعنيّ بقولهم : «لابدّ من بقاء جمع يقرب ، الخ».

وعن الثاني : بالمنع من كون الامتناع للتخصيص مطلقا ، بل لتخصيص خاصّ ، وهو ما يعدّ في اللغة لغوا ، وينكر عرفا.

وعن الثالث : أنّه غير محلّ النزاع ، فانّه للتعظيم ، وليس من التعميم والتخصيص في شيء وذلك لما جرت العادة به ، من أنّ العظماء يتكلّمون عنهم وعن أتباعهم ، فيغلّبون المتكلّم ؛ فصار ذلك استعارة عن العظمة ولم يبق معنى العموم ملحوظا فيه أصلا.

وعن الرابع : أنّه ، على تقدير ثبوته ، كالثالث في خروجه عن محلّ النزاع ، لأنّ البحث في تخصيص العامّ ، و «الناس» ، على هذا التقدير ليس بعامّ بل للمعهود ، والمعهود غير عامّ. وقد يتوقّف في هذا ، لعدم ثبوت صحّة إطلاق «الناس» المعهود على واحد. والأمر عندنا سهل.

وعن الخامس : أنّه غير محلّ النزاع أيضا ؛ فإنّ كلّ واحد من الماء

٢٥٣

والخبز في المثالين ليس بعامّ ، بل هو للبعض الخارجيّ المطابق للمعهود الذهنيّ ، أعني : الخبز والماء المقرّر في الذهن أنّه يؤكل ويشرب ، وهو مقدار مّا معلوم.

وحاصل الأمر أنّه اطلق المعرّف بلام العهد الذهنيّ ـ الذي هو قسم من تعريف الجنس ـ على موجود معيّن ، يحتمله وغيره اللفظ واريد بخصوصه من بين تلك المحتملات بدلالة القرينة. وهذا مثل إطلاق المعرّف بلام العهد الخارجيّ على موجود معيّن من بين معهودات خارجيّة ، كقولك لمخاطبك : «أدخل السوق» مريدا به واحدا من أسواق معهودة بينك وبينه عهدا خارجيّا معيّنا له من بينها بالقرينة ، ولو بالعادة ؛ فكما أنّ ذلك ليس من تخصيص العموم في شيء ، فكذا هذا.

حجّة مجوّزية إلى الثلاثة والاثنين : ما قيل في الجمع ، وأنّ أقلّه ثلاثة أو اثنان ، كأنّهم جعلوه فرعا لكون الجمع حقيقة في الثلاثة أو في الاثنين.

والجواب : أنّ الكلام في أقلّ مرتبة يخصّص إليها العامّ ، لا في أقلّ مرتبة يطلق عليها الجمع ، فانّ الجمع من حيث هو ليس بعامّ ، ولم يقم دليل على تلازم حكميهما ؛ فلا تعلّق لأحدهما بالآخر ؛ فلا يكون المثبت لأحدهما مثبتا للآخر.

٢٥٤

قوله : (في جملة مباحث التخصيص.)

التخصيص قصر الحكم المتعلّق بالعامّ على بعض مدلوله ، فلو تعلّق الحكم من أوّل الأمر على بعض مدلوله لم يكن تخصيصا ، كما في قولك «أكرم بعض العلماء» وكذا يخرج عنه التخصيص المتعلّق بغير العامّ في نحو قولك «له عليّ عشرة إلّا ثلاثة» و «أكلت الخبز إلّا نصفه» ويخرج عنه أيضا التخصيص المتعلّق ببعض أحوال العامّ ، كما في قولك «أكرم العلماء إلى يوم الجمعة» أو «في يوم الجمعة» إذ لا عموم بالنسبة إلى الأحوال حتّى يكون إخراج الحال المذكور تخصيصا له ، وإنّما العموم الحاصل فيه بالنسبة إلى الأفراد وهو حاصل في المثال المفروض ، فهو يفيد بحسب الظاهر الإطلاق القاضي بالاكتفاء بالإكرام الحاصل في أيّ وقت كان ، ويخرج عنه أيضا إطلاق العامّ على بعض أفراده لا على وجه التخصيص، كما إذا قلت : رأيت كلّ الرجل ، وقد رأيت زيدا تنزيلا له منزلة الجميع ، ويندرج فيه ما إذا كان التخصيص قرينة على إطلاق العامّ على بعض مدلوله ، وما إذا كان مخرجا لبعض الأفراد عن الحكم المتعلّق به ، وإذا استعمل العامّ فيما وضع له من العموم في وجه ، وقد يطلق التخصيص على ما يعمّ قصر الحكم المتعلّق بغير العامّ على بعض مدلوله ، ويعرّف حينئذ بأنّه إخراج بعض ما يتناوله الخطاب ، وذلك كالتخصيص المتعلّق بأسماء العدد وإخراج بعض الأجزاء عن الكلّ ، كما في «أكلت السمكة إلّا رأسها» ثمّ إنّ المخصّص قد يكون متّصلا وقد يكون منفصلا ، والصلة وإن كانت في معنى الصفة إلّا أنّها ليست مخصّصة للموصول ، وذلك لعدم تماميّة الموصول إلّا بها ، فعمومه إنّما هو على حسب صلته بخلاف الموصوف ، وأمّا القيود المتعلّقة بالصلة فهل يعدّ تخصيصا؟ وجهان : من تماميّة الموصول بنفس الصلة فيكون ذلك مخصّصا له ببعض الأفراد ، ومن كونه بمنزلة جزء الصلة فيكون عموم الموصول على حسبه.

والمخصّص المتّصل امور خمسة : الاستثناء ، والشرط ، والصفة ، والغاية ، وبدل البعض من الكلّ ، ويندرج في الصفة سائر القيود المنضمّة إلى اللفظ ممّا يوجب

٢٥٥

تقييد الحكم به. والمراد بالمتّصل ما لا يستقلّ بنفسه ، وبالمنفصل ما يكون مستقلّا في إفادة الحكم وإن اتّصل بالعامّ لفظا ، والتخصيص المنفصل قد يكون عقليّا وقد يكون نقليّا نصّا أو إجماعا.

قوله : (اختلفوا في منتهى التخصيص إلى كم هو.)

ظاهر إطلاقهم في المقام يعمّ التخصيص الواقع على كلّ من الوجوه المتقدّمة ، والظاهر أنّ المراد بالتخصيص هو الإطلاق الأوّل ، أعني ما يرد على العامّ المصطلح دون ما يرد على الكلّ من جهة شموله لأجزائه ، كما في أسماء العدد ونحوها ، وإن لم يبعد اتّحاد المناط في المقامين.

ثمّ إنّ التخصيص الوارد على العامّ إمّا أن يكون بالنسبة إلى خصوص الأفراد المندرجة تحته ، أو الأنواع المندرجة فيه ، وحصول تخصيص الأكثر على كلّ من الوجهين إمّا أن يستلزم له كذلك على الوجه الآخر أو لا.

ثمّ إنّه إمّا أن يلحظ الأكثر بالنسبة إلى ما هو الموجود من أفراد العامّ وإن كان غير الموجود أضعافه ، أو يلحظ بالنسبة إلى الأفراد أو الأنواع مطلقا مع بقاء أغلب الأفراد أو الانواع الموجودة وعدمه.

ثمّ إنّ التخصيص إمّا أن يكون مع إرادة العموم من اللفظ فيخرج المخرج من الحكم ، وقد يكون باستعمال اللفظ في خصوص الباقي حسب ما أشرنا إليه.

ثمّ إنّ لهم في المسألة أقوالا عديدة أشار المصنّف رحمه‌الله إلى جملة منها :

ومنها : أن يعتبر فيه بقاء جمع غير محصور سواء كان المخرج أقلّ أو أكثر.

ومنها : التفصيل بين الجمع وغيره فيعتبر بقاء أقلّ الجمع في الأوّل ، ويجوز إلى الواحد في الثاني.

ومنها : ما ذهب إليه الحاجبي ففصّل بين المخصّص المتّصل والمنفصل ، ثمّ فصّل في المتّصل بين ما يكون باستثناء أو بدل بعض فجوّزه إلى الواحد ، وما يكون بغيرهما من الشرط والصفة والغاية فاعتبر فيه بقاء الاثنين ، وفي المنفصل بين ما يكون العامّ منحصرا في محصور قليل نحو «قتلت كلّ زيدين» وهم ثلاثة

٢٥٦

أو أربعة مثلا فيجوز التخصيص حينئذ إلى الاثنين ، وما لا ينحصر أفراده فاعتبر بقاء جمع يقرب من مدلول العامّ.

والأظهر عندي دوران الأمر في الجواز والمنع مدار الاستنكار والاستقباح العرفي ، فكلّما لم يكن مستقبحا بحسب العرف يجوز التخصيص على حسبه ، ومع الاستقباح يمنع منه ، وذلك ممّا يختلف جدّا بحسب اختلاف المقامات.

لنا على الجواز مع عدم الاستقباح : إنّه إن كان التخصيص على وجه الحقيقة من دون لزوم تجوّز في المقام فظاهر ، وإن كان على وجه التجوّز فلما عرفت سابقا من دوران الأمر في المجاز مدار عدم الاستقباح ، وعدم إباء العرف عن الاستعمال ، من غير لزوم مراعاة شيء من خصوصيات العلائق المعروفة ، ولو سلّم اعتبار تلك الخصوصيّات فعلاقة العامّ والخاصّ من جملة تلك العلائق ، وهو الحاصل في العمومات المخصوصة. والقول بكون المراد به العامّ والخاصّ المنطقي دون الاصولي موهون بما سيجيء بيانه إن شاء الله ، مضافا إلى أنّه يمكن حصول علاقة المشابهة في المقام أيضا وإن كان الباقي أقلّ إذا كان مقاربا للكلّ في الثمرة ، كما في قولك «أخذت كلّ ما في الصندوق» وفيه آلاف من الأشياء وقد أخذت واحدا منها يعادل في القيمة جميع الباقي ويزيد عليه ، وقولك «أكلت كلّ رمّانة في المحرز إلّا ما كان فاسدا» ولم يكن الصحيح منه إلّا أقلّه ، وقد يكون ذلك من جهة إفادة المبالغة في دعوى المشابهة وكون الباقي كالعدم ، كقول الضيف للمضيف «أكلت كلّ ما في الخوان» وإنّما أكل قليلا منه ، إلى غير ذلك من الأمثلة.

وعلى المنع منه مع الاستقباح : أنّ التخصيص إمّا تجوّز في لفظ العامّ ، أو تصرّف في مدلوله على وجه يقضي بالتصرّف في اللفظ ، وكلا الأمرين يتوقّف على ترخيص الواضع وهو غير حاصل مع استقباحه في العرف ، ولو قيل بعدم توقّفه عليه في الوجه الأخير فلا ريب في قضاء منعه منه بعدم الجواز ، والقبح العرفي كاشف من حصول المنع.

فإن قلت : إنّ الاستقباح الحاصل في المقام ليس من جهة قبح نفس

٢٥٧

الاستعمال الكاشف عن منع الواضع ، بل من جهة سوء التعبير وركاكة البيان ، على نحو قولك «أكلت رمّانة ورمّانة ورمّانة» وهكذا أن تكمله عشرا أو عشرين ، فإنّه ينبغي أن يعبّر عنه بقوله «أكلت عشر رمّانات أو عشرين» وكذا إذا أراد التعبير عن أكل رمّانتين أو ثلاث ينبغي أن يعبّر عنه بلفظه ، لا أن يقول : أكلت كلّ رمّانة ، ثمّ يستثنى عنه إلى أن يبقى واحد أو اثنان أو ثلاثة ، وممّا يشير إلى ذلك أنّه لو كان المنع من جهة اللغة لاطّرد الاستقباح المذكور وليس كذلك ، لوضوح استحسانه في بعض المقامات ، حسب ما أشرنا إليه ، فذلك شاهد على كون الاستقباح من جهة ركاكة التعبير وخلوّ العدول إليه من النكتة اللائقة ، فلذا يستحسن مع وجودها في المقام ، ولو كان ذلك من أجل المنع اللغوي لم يحسنه مراعاة المقام.

قلت : الظاهر أنّ القبح الحاصل في المقام إنّما هو في إطلاق لفظ العامّ على الوجه المذكور ، وليس ذلك من قبيل سوء التعبير الحاصل بملاحظة التراكيب ، بل من جهة نفس إطلاقه الأفرادي ، وذلك قاض بكون الاستعمال غلطا ، خارجا عن قانون اللغة ، كما هو الحال في نظائره من الأغلاط ، إذ ليس القاضي بالمنع من الاستعمال بالنسبة إليها سوى الاستقباح المذكور ، وعدم تجويز العرف للاستقباح كما في هذا المقام. وما ذكر من أنّه لو كان مستندا إلى الوضع لجرى في جميع الاستعمالات وإن لم يختلف الحال فيه بحسب المقامات غير متّجه ، لوضوح اختلاف المعاني المجازيّة صحّة وفسادا بحسب اختلاف المقامات ، لاختلاف الخصوصيّات الملحوظة في كلّ مقام ، وليس مجرّد صحّة التجوّز في مقام قاضيا باطّراده في سائر المقامات ، ولذا قالوا بعدم لزوم الاطّراد في المجازات.

ألا ترى أنّه يصحّ إطلاق «اليد» على الإنسان في مقام الأخذ والإعطاء ونحوهما ولا يصحّ إطلاقها عليه في غير ذلك المقام ، وكذا إطلاق «الرقبة» في مقام يرتبط بالرقبة ونحوها دن غيره ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه في محلّه ، وهذا أمر واضح بالنسبة إلى المجازات ، بل يمكن القول به في الحقائق أيضا إذا اشتمل على تصرّف زائد على مجرّد استعماله فيما وضع له ، كما هو المفروض في

٢٥٨

المقام لو قلنا باستعماله فيه ، فإذا صحّ بحسب المقام تخصيص العامّ بالأكثر بملاحظة خصوصيّة مجوّزة له جاز استعمال العامّ على الوجه المذكور ، كما إذا نزّل الباقي منزلة المعظم أو الكلّ واطلق لفظ العامّ عليه تنزيلا له بتلك المنزلة ، فيصحّ الاستعمال ولو كان المخرج أضعاف ما اطلق اللفظ عليه ، أو نزّل القليل الحاصل منه منزلة الكثير إمّا لدعوى استجماعه لصفات الكلّ أو الجلّ ، أو لاكتفائه بذلك عن الكلّ على حدّ قولك : «حصل لي اليوم كلّ الربح» إذا حصّلت منه قدرا كافيا لا تتوقّع الزيادة عليه ، فيدور الأمر جوازا ومنعا مدار ذلك ، وليس ذلك كاشفا عن جواز الاستعمال كذلك مطلقا وإن كان في بعض المقامات مستحسنا موافقا للبلاغة واردا على وفق مقتضى الحال وفي بعض المقامات خلافه ، بل الحال على خلاف ذلك ، وإنّما يدور الجواز والمنع مدار ذلك ، من جهة حصول المصحّح في بعض تلك المقامات دون غيره حسب ما بيّنا.

نعم لو كان الأمر الملحوظ في كلّ من تلك المقامات شيئا واحدا من غير اختلاف في اعتباراته والجهات الملحوظة معه ، فحسن في مقام وقبح في آخر ، كان ذلك شاهدا على عدم استناد التحسين والتقبيح إلى الوضع ، وإلّا لم يختلف الحال فيه كذلك وليس الحال على ذلك.

فظهر بما قرّرنا أنّ تخصيص العامّ إلى أن يبقى واحد أو اثنان أو ثلاثة ونحوها من مراتب تخصيص الأكثر ممّا لا يجوز ، مع قطع النظر عن ضمّ أمر آخر وملاحظة جهة اخرى معه ، ولا يختلف الحال فيه من تلك الجهة بحسب المقامات ، وإنّما يختلف الحال فيه بحسب اختلاف سائر الامور المنضمّة إليه ، ومن ذلك ما إذا كان المخرج صنفا والباقي صنفا آخر مع انحصار الباقي بحسب المصداق في الواحد أو الاثنين أو الثلاثة أو نحوها ، وهو في التوصيف والشرط ونحوهما ممّا لا ينبغي الريب فيه ، بل لا يبعد القول بكون الاستعمال على وجه الحقيقة ، كما في قولك «أكرم كلّ عالم عادل» و «أكلت كلّ رمّانة صحيحة في البستان» و «أهن كلّ فاسق إن أمنت شرّه» إذ لا يبعد القول بانتفاء التجوّز فيه وإن كان الباقي أقلّ. وسيجيء

٢٥٩

تفصيل القول في المسألة الآتية إن شاء الله تعالى ، وهو اختيار المرتضى رحمه‌الله وقد عزاه الشريف الاستاد إلى أكثر أصحابنا قال : وبه قال ابن ادريس وحكى الخلاف في ذلك عن ابن الجنيد ، وهو قول العلّامة ، وظاهره انتفاء الخلاف في ذلك بين الأصحاب ، حيث نسب الخلاف في ذلك الى العامّة.

قوله رحمه‌الله : لنا القطع بقبح قول القائل ... الخ.

هذا أحد الوجوه الّتي يحتجّ بها على القول المذكور.

وأنت خبير : بأنّ ما ذكر لا يفيد الحكم بالمنع على سبيل الإطلاق كما هو المدّعى ، غاية الأمر ثبوت المنع مع حصول الاستقباح كما في الأمثلة المذكورة ، سيّما مع ثبوت القول بالتفصيل بين المخصّص المتّصل والمنفصل ، فحصول الاستقباح مع انفصال المخصّص لا يستلزم المنع من اتّصاله وعدم ظهور استقباحه ، كما في قولك «أكلت كلّ رمانة حامضة في البستان» وفيه آلاف من الرمّان ولا حامض فيها إلّا ثلاثة ، وكذا قولك «كلّ من دخل داري من أصدقائي فأكرمه» ولم يكن الداخلون من أصدقائك سوى ثلاثة مثلا ، وهكذا ، مضافا إلى ما عرفت من عدم دلالته على المنع بالنسبة إلى المخصّص المنفصل على سبيل الإطلاق أيضا.

غاية الأمر أن يفيد المنع مع عدم ضمّ جهة خارجيّة مسوّغة للتعبير المذكور يرتفع به القبح ، وأمّا مع انضمامها كما عرفت تفصيل الكلام فيه ممّا قرّرنا فلا قبح ولا منع ، وقد يمنع في المقام من دلالة التقبيح المذكور على المنع كما مرّت الإشارة إليه وقد عرفت الجواب عنه فلا نعيده.

ثانيها : أنّ معاني الألفاظ حقائقها ومجازاتها توقيفيّة ، لابدّ من ثبوتها بتوقيف الواضع على سبيل الخصوص أو العموم المستفاد من نقل النقلة أو الرجوع الى الاستعمالات المجازيّة ، فيقتصر فيها على القدر الثابت ، والثابت من ملاحظة الأدلّة هو الإذن في التخصيص مع بقاء الأكثر ، فيبقى جواز الاستعمال بالنسبة إلى غيره خاليا عن الدليل ، فلا يجوز التخطّي إليه مع عدم قيام دليل عليه.

وأنت خبير بأنّ غاية ما يقتضيه الوجه المذكور عدم جواز استعمالنا على

٢٦٠