هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

حاصل بما ذكرناه ، فتبيّن بما بيّناه أنّ الاستناد إلى الوجوه المتقدّمة في وضعه للمعنى المذكور ليس في محلّه ، لما عرفت من عدم استناد التبادر إلى نفس اللفظ وأنّ الوجه فيه ما قرّرناه ، وكذا الحال فيما ذكره أئمّة الفنّ من إفادته عموم الأفراد وجواز استثناء الواحد منه على ما مرّ.

ثانيها : أنّ الجمع المعرّف هل هو حقيقة في خصوص العموم الأفرادي أو يعمّه والعموم المجموعي؟ وجهان ، وقد نصّ بعض المتأخّرين على كونه حقيقة في خصوص العموم الأفرادي مجازا في غيره. ونصّ المحقّق الشريف بأنّ الأوّل أكثر تداولا عن الثاني لكن لم يصرّح بكونه حقيقة فيه بخصوصه. ولم أر في كلماتهم تنصيصا على كونه حقيقة في خصوص الأوّل سوى من أشرنا إليه من متأخّري المتأخّرين ومن يحذو حذوه. وظاهر ما حكاه المحقّق الشريف عنهم ـ من الحكم بأنّ قول القائل للرجال : «عندي درهم» إقرار بدرهم واحد للكلّ بخلاف قوله لكلّ واحد من الرجال : «عندي درهم» فإنّه إقرار لكلّ رجل بدرهم ـ يعطي تكافؤ الاحتمالين المذكورين عندهم حيث لم يحكموا باشتغال ذمّته بما يزيد على درهم ، ولو كان المفهوم منه عندهم خصوص العموم الأفرادي لنزّلوه منزلة كلّ كما في المثال الثاني ، وربما يتراءى انصراف القول بكونه حقيقة في العموم إلى العموم الاستغراقي وهو ضعيف ، لما عرفت من كونه أعمّ من الوجهين ، وما ذكر عنهم في مسألة الإقرار أقوى شاهد عليه. وكيف كان فالتحقيق كما عرفت كون إفادته العموم من الجهة الّتي ذكرناه ، لا لوضعه لخصوص العموم حسب ما توهّمه الجماعة من المتأخّرين ، وذلك أعمّ من كونه على وجه العموم الأفرادي ليكون الحكم منوطا بكلّ واحد من الآحاد المندرجة فيه أو مجموعيّا يتعلّق الحكم بالمجموع ، فكلّ من اللام ومدخوله حقيقة على كلّ من الوجهين فإن ظهر من المقام أو من الحكم المتعلّق به أحد الوجهين بني عليه من دون تجوّز ، وإن احتمل الأمران من غير ظهور وترجيح لأحد الوجهين من شواهد المقام لزم التوقّف في مقام الاجتهاد ، والرجوع إلى الاصول الفقهيّة في مقام العمل. ومنه ما ذكر من مثال

٢٠١

الإقرار ، لقضاء الأصل ببراءة ذمّته من الزائد ، ودعوى أغلبيّة الأوّل بحيث يوجب ظنّا بإرادته غير ظاهرة.

نعم قد يتخيّل كون إرادة العموم المجموعي أقرب إلى ظاهر اللفظ حيث اطلق الجمع على الدرجة العليا واشير باللام إليها فظاهر ذلك تعلّق الحكم بمجموع الأفراد ، فإنّ ملاحظة كلّ منها على وجه يستقلّ في تعلّق الحكم به اعتبار زائد يتوقّف على قيام الشاهد عليه وإن لم يكن فيه خروج عن موضوع اللفظ ، لكن يمكن أن يقال : إنّ شيوع استعمال الجموع المعرفة على الوجه الثاني يكافؤ ذلك إن لم نقل بزيادته عليه ، وكيف كان فالظاهر أنّه لا شاهد يعوّل عليه في المقام على ترجيح أحد الوجهين مع عدم قيام شاهد هناك على التعيين.

ثالثها : أنّه مع إرادة الجنس من الجمع المعرّف هل يكون الحال فيه كالمفرد المعرّف إذا اريد به الجنس فيعمّ الواحد والاثنين والثلاثة وما فوقها لانسلاخه حينئذ عن الجمعيّة أو أنّه يعتبر فيه كون الجنس هنا في ضمن الجماعة فلو قال «لله عليّ أن أتزوّج الأبكار ، أو أركب الأفراس ، أو أن أشتري الجواري» حصل البرء بالإتيان بما دون الثلاث على الأوّل بخلاف الثاني ، إذ لا يحصل الوفاء حينئذ إلّا بالإتيان بما فوق الاثنين وجهان. وذكر بعض الأفاضل وجهين في إرادة الجنس من الجمع المعرّف.

أحدهما : أن يراد به جنس الجماعة لتكون الجنسيّة ملحوظة بالنسبة إلى مفهوم الجماعة فإنّه أيضا من جملة الأجناس.

ثانيهما : أن يراد به مطلق الجنس فيسقط عنه اعتبار الجمعيّة ويبقى إرادة الجنس ، فحينئذ يجوز إرادة الواحد منه أيضا ، قال : لكنه مجاز لأنّ انسلاخ معنى الجمعيّة لا يوجب كون اللفظ حقيقة في المفرد ، على أنّ انسلاخ الجمعيّة لا يوجب انسلاخ العموم ، فعلى القول بكونه حقيقة في العموم كما هو المشهور يكون حينئذ مجازا.

نعم يمكن أن يقال : إنّه بعد هذا التجوّز بإرادة الجنس لا يكون إرادة الواحد مجازا بالنسبة إلى هذا المعنى المجازي.

٢٠٢

وأنت قد عرفت وهن الوجه الأوّل وكذا الثاني ، فإنّه الوجه الثالث من الوجوه المتقدّمة لتصوير إرادة الجنس في المقام وهو في غاية البعد ، فإنّ إسقاط معنى الجمعيّة وإرادة نفس الطبيعة من اللفظ مع كونه مجازا كما اعترف به بعيد عن ظاهر الاستعمالات.

وقد عرفت أنّ الظاهر في حمله على الجنس هو ما مرّت الإشارة إليه وحينئذ فيكون التعدّد ملحوظا في معناه على ما هو مقتضى الجمعيّة.

غاية الأمر أن يكون تعريف الأفراد الملحوظة فيه من حيث اتّحادها مع الطبيعة ـ حسب ما مرّ بيانه ـ فلا تجوّز في المقام ولا يحصل الامتثال حينئذ إلّا بالإتيان به كذلك ، ولذا لو أوصى شيئا للفقراء أو السادات وغيرهم من غير المحصور حيث لا يمكن إرادة العموم منها ويتعيّن حملها على الجنس لم يجز الدفع إلى ما دون الثلاثة كما نصّوا عليه ، وكذا الحال في النذور والأيمان وغيرها.

نعم لو قامت القرينة على قطع النظر عن ملاحظة الجمعيّة وإنّما اريد حصول الفعل من ذلك الجنس وإنّما لوحظ فيه خصوص الجنسيّة دون غيرها اكتفي بالواحد ، وحينئذ فإمّا أن يكون ذلك بتخصيص الجمع بمطلق الجنس أو بإسناد الفعل المتعلّق بالبعض إلى الجماعة على نحو «بنو فلان قتلوا فلانا» وكلا الوجهين مجاز بعيد غالبا عن ظاهر الاستعمالات كما لا يخفى.

رابعها : أنّ ظاهر ما يتراءى من دلالة الجمع المعرّف على العموم أن يكون متعلّقا للنفي أو النهي قاضيا بإفادة سلب العموم ـ أي دفعا للإيجاب الكلّي الحاصل بالسلب الجزئي على حدّ النفي الوارد على سائر العمومات نحو قوله : ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه ، وما كلّ برق لاح لي تستفزّني ، إلى غير ذلك ـ لكن لا يساعده في المقام كثير من الإطلاقات ، فإنّ الظاهر هو السلب الكلّي. ويمكن توجيهه بأنّ النفي أو النهي قد يرد على كلّ من جزئيّات الجمع ليكون كلّ منها مناطا للنفي أو النهي وقد يرد ذلك على العموم المستفاد منه كان العموم الملحوظ فيه مجموعيّا أو أفراديّا.

٢٠٣

وتوضيح المقام : أنّ العموم الملحوظ في الجمع إمّا أن يكون مجموعيّا أو أفراديّا ، فعلى الأوّل يكون مفاده في المقام سلب الكلّي الحاصل برفع بعضه ، وعلى الثاني فإمّا أن يكون السلب واردا على العموم أو على كلّ واحد من جزئيّات العامّ ، فعلى الأوّل يكون مفاده رفع السلب الكلّي أيضا على نحو قولك «ما تزوّجت بكلّ بكر في هذه البلدة ، وما زرت كلّ واحد من علمائنا» وعلى الثاني يكون مفاده سلبا كلّيا ، والظاهر من هذين الوجهين في المقام هو الثاني وإن كان الظاهر من ورود النفي على لفظة «كلّ» وما بمعناه هو الأوّل.

بيان ذلك أنّه ليس في المقام ما يفيد المفهوم من لفظة «كلّ» وما بمعناه ، وإنّما مفاد الجمع هو خصوص الجزئيّات المندرجة تحته فالاستغراق من أحواله وصفاته من غير أن يكون هناك ما يفيد خصوص معنى الشمول ليرد النفي عليه كما هو الحال في النفي الوارد على «كلّ» وما يفيد مفاده ، فإذا تعلّق حكم بالجمع على الوجه المفروض فقد تعلّق بكلّ واحد من جزئيّاته سواء كان ذلك الحكم نفيا أو إثباتا ، فكما يكون تعلّق الحكم المثبت به حكما على كلّ من تلك الجزئيّات فكذا الحال في النفي.

نعم لو لوحظ شموله للجمع نظرا إلى اندراج جميع الآحاد في مدلوله وعلّق النفي عليه صحّ ما ذكر من دلالته على سلب العموم إلّا أنّه اعتبار زائد لا يساعد عليه ظاهر الإطلاق ليتوقّف على قيام شاهد عليه ، وحينئذ فإن كان في المقام ما يستظهر منه كون المقصود من الجمع عموم الآحاد تعيّن كون المراد منه عموم السلب إلّا أن يقوم دليل على خلافه ، وإن ظهر كون المراد منه العموم المجموعي دلّ على سلب العموم ، وإن دار الأمر بين الوجهين من غير ظهور ترجيح لأحد الجانبين تعيّن الرجوع إلى اصول الفقاهة حسب ما بيّناه في وقوعه في سياق الإثبات ، والقدر المفهوم من اللفظ حينئذ هو السلب الجزئي ، وما يزيد عليه فغير مفهوم من اللفظ بل يتوقّف على قيام شاهد عليه.

٢٠٤

المقام الرابع

في بيان الحال في المفرد المعرّف

وقد عرفت وقوع الخلاف في إفادته العموم وظاهر ما يتراءى من كلماتهم وصريح المصنّف فيما يأتي كون الخلاف في وضعه لخصوص العموم على أن يكون استعماله في غيره مجازا فلا يكون موضوعا لما عدا العموم ولا مشتركا بين العموم وغيره.

وأنت خبير بوهن ذلك جدّا ، كيف واستعماله في العهد ممّا لا مجال لإنكار كونه على وجه الحقيقة ، بل هو أظهر من إرادة الجنس والعموم قطعا ولذا ينصرف إليه عند وجود المعهود ، وقد قيّدوا إفادة الجمع المحلّى للعموم بما إذا لم يكن هناك عهد فيكون الحال كذلك في المفرد بطريق أولى. والّذي يخطر بالبال في المقام أنّ الخلاف هنا نظير الخلاف في الجمع المحلّى في تقديم تعريفه للأفراد على تعريف الجنس بعد انسداد طريق العهد ، فالمراد أنّه إذا لم يكن هناك عهد هل ينصرف المفرد المحلّى باللام مع الإطلاق إلى تعريف الأفراد ليفيد العموم ـ كما في الجمع المعرّف ـ أو إنّما ينصرف حينئذ إلى تعريف الجنس فلا يفيد العموم. والقول بوضعه لخصوص العموم ـ على أن يكون هناك وضع متعلّق بالهيئة التركيبيّة مغايرة لوضع اللام ومدخوله ـ قاض بإفادته الاستغراق أو القول بكون اللام سورا بمنزلة «كلّ» ليفيد الاستغراق من أبعد الأوهام. وحمل الخلاف الواقع بينهم على إرادة ذلك مع وضوح فساده من دون قيام شاهد في كلماتهم على إرادته في المقام بعيد جدّا.

وغاية ما يستفاد من كلام القائل بكونه للعموم استفادة العموم منه عند الإطلاق وانتفاء العهد وهو لا يأبى الحمل على ما قرّرناه ، غاية الأمر أن يلحظ الخلاف على الوجه الأعمّ فلا حاجة إلى حمله على ذلك الوجه الفاسد ، وكيف كان فلهم في المسألة أقوال عديدة :

أحدها : ما ذهب إليه غير واحد من المتأخّرين من كونه حقيقة في تعريف الجنس في مقابلة العهد والاستغراق مجازا في غيره.

٢٠٥

ثانيها : أنّه حقيقة في العموم مجاز في غيره ، حكي ذلك قولا حسب ما نصّ عليه المصنّف فإنّه حمل كلام القائل بإفادته العموم على كونه موضوعا لخصوص العموم مجازا في غيره على حدّ سائر الصيغ المختصّة.

ثالثها : القول بالاشتراك اللفظي بين العموم وغيره ، وهو الّذي يلوح من المصنّف بل قضيّة كلامه كما سيجيء حكاية الاتّفاق عليه ممّن لا يقول بوضعه للعموم خاصّة.

رابعها : التفصيل بين ما يتميّز الواحد منه بالتاء وما لا يتميّز به ، فيفيد العموم في الأوّل دون الثاني ، وحكي القول به عن إمام الحرمين.

خامسها : التفصيل المذكور بعينه إلّا أنّه ألحق بما يتميّز الواحد منه بالتاء ما يصحّ توصيفه بالوحدة ـ كالدينار والدرهم ـ فإنّه يصحّ أن يقال : دينار واحد ودرهم واحد ، بخلاف نحو الذهب والفضّة ، إذ لا يقال : ذهب واحد وفضّة واحدة وحكي القول به عن الغزالي.

والمختار عندنا أنّه عند انتفاء القرائن وعدم حصول عهد في المقام إنّما يفيد تعريف الجنس وينصرف إليه ، وذلك لما عرفت من كون اللام موضوعة للإشارة إلى مدخولها وإفادة تعريفه ، وقد مرّ أيضا أنّ أسامي الأجناس إنّما وضعت للطبائع المطلقة المأخوذة لا بشرط شيء ، وإنّما يجيء إفادة الخصوصيّات بملاحظة ما يطرؤها من الطوارئ واللواحق ، والمفروض أنّ الطارئ الحاصل في المقام ـ أعني اللام ـ لا يفيد سوى التعريف والإشارة ، فيكون مفاد اللفظين بملاحظة الوضعين هو تعريف الطبيعة نفسها حيث لم يلحظ أمر آخر معها ، فيكون مفادها تعريف الطبيعة من حيث هي أي مع قطع النظر عن كونها متّحدة مع فرد خاصّ منها ـ كما في تعريف العهد ـ أو مع جميع الأفراد كما في الاستغراق.

والحاصل : أنّ ما وضع له اسم الجنس هو الطبيعة لا بشرط شيء فيعمّ الوجوه الثلاثة المذكورة حيث إنّ اللابشرط يجامع ألف شرط ، فيتمّ تعريفه على كلّ من تلك الوجوه من غير لزوم تجوّز ، إلّا أنّ كلّا من الوجهين الأخيرين يتوقّف على

٢٠٦

انضمام أمر آخر ليكون اللفظ بتلك الواسطة دالّا عليه ويكون التعريف والإشارة منصرفا إليه، وأمّا إرادة الجنس فلا يتوقّف على انضمام أمر إليه إذ مجرّد اللفظ كاف في الدلالة عليه، ويكفي في عدم إرادة تلك الخصوصيّات انتفاء ما يدلّ عليها ، فيكون مفاد اللفظ حينئذ بملاحظة وضع اللام واسم الجنس منضمّا إلى ما ذكرنا هو الطبيعة من حيث هي على الوجه الّذي بيّنا ، فليس مجرّد وضع اللام للتعريف والإشارة ووضع مدخولها لمطلق الجنس قاضيا بكونه حقيقة في الجنس بالمعنى المذكور مجازا في غيره ، لما عرفت من كون الجنس الّذي وضع أسامي الأجناس بإزائه هو الطبيعة المطلقة الحاصلة في صورة العهد والاستغراق أيضا ، أمّا الجنس المقابل لهما فهو مأخوذ على وجه اللابشرط حاصل في صورة إرادة العهد عند إطلاقه على خصوص المعهود ، وكذا في صورة إرادة الاستغراق فإنّ اللابشرط لا ينافي وجود الشرط.

غاية الأمر أن تكون الخصوصيّة مدلولة عليها بأمر خارجي لوضوح أنّ ما يدلّ على اللابشرط لا يفيد خصوصيّة الشرط.

والحاصل : أنّ ملاحظة الوضعين المذكورين لا يقضي بكونه حقيقة في خصوص تعريف الجنس المقابل للعهد والاستغراق ، بل مقتضاه كونه حقيقة في الأعمّ من الوجوه الثلاثة.

غاية الأمر أنّه لمّا كان إطلاق اللفظ على خصوص المعهود أو على جميع الأفراد متوقّفا على ضمّ خصوصيّة إليه ـ ولم يكن نفس اللفظ دالّا على تلك الخصوصيّة ، لوضعه للقدر المشترك ـ توقّف الدلالة على كلّ منهما على قيام قرينة دالّة عليه بخلاف الحمل على الجنس المقابل لهما ، فإنّ عدم قيام الدليل على إطلاق اللفظ على إحدى الخصوصيّتين المذكورتين كاف في إفادته. فتبيّن بما قرّرنا أنّ المفرد المعرّف حقيقة في القدر المشترك بين الوجوه الثلاثة إلّا أنّه ينصرف عند الإطلاق إلى الجنس. والظاهر أنّ ما اخترناه من كونه حقيقة في الأعمّ مختار جماعة من الأعلام كما يستفاد من كلماتهم. قال بعض الأفاضل : إنّ

٢٠٧

طريقة تقسيمهم الجنس المعرّف باللام إلى أقسامه يقتضي القول بكونه حقيقة في الجميع ، لكن لا على سبيل الاشتراك ، بل من باب استعمال الكلّي في الأفراد انتهى.

وكيف كان فحمل اللام على الجنس في المفرد المعرّف متقدّم على حمله على العهد والاستغراق وإن كان الحمل على العهد متقدّما عليه مع وجود المعهود ، إذ هو أظهر من غيره كما مرّ في الجمع المعرّف إلّا أنّ صحّة الحمل عليه موقوف على وجود المعهود ولا يعقل الحمل عليه من دونه ، فهو في الحقيقة مصحّح للحمل على العهد لا قرينة على الحمل عليه ، كما مرّت الإشارة إليه وسيجيء أيضا إن شاء الله.

هذا والقول بكونه للعموم يتوقّف على القول بتعلّق وضع خاصّ باللام الداخلة على المفرد يفيد الاستغراق من جهته أو القول بحصول وضع للهيئة التركيبيّة حسب ما مرّ نظيرهللقول بوضع الجمع المعرّف لخصوص العموم وهو ـ مع بعده عن الظاهر ـ مدفوع بالأصل ، مضافا إلى قضاء التبادر بخلافه ، إذ لا يتبادر من المفرد المحلّى مع الإطلاق إلّا الطبيعة المطلقة المعرفة بواسطة الإشارة ، ويشير إليه أيضا عدم صحّة الاستثناء منه مطّردا ، ولو كان موضوعا للعموم ظاهرا فيه لاطّرد جواز الاستثناء منه.

حجّة القول بوضعه لتعريف الجنس خاصّة وكونه مجازا في إرادة العهد والاستغراق وجوه :

أحدها : ما أشار إليه بعض المتأخّرين على نحو ما أشرنا إليه من أنّ ذلك قضيّة وضع اللام للإشارة والتعريف ووضع أسامي الأجناس للطبائع المطلقة ـ حسب ما مرّ الكلام فيها ـ فيكون مفاد اللفظ المذكور بملاحظة الوضعين المفروضين هو تعريف الجنس. ودعوى طروّ وضع آخر متعلّق بالهيئة التركيبيّة يفيد الاستغراق من جهته خلاف الأصل فلا يصار إليه إلّا بدليل.

واورد عليه أنّه لا ريب في حصول وضع متعلّق بالهيئة التركيبيّة يصحّ التركيب بين اللفظين من جهته ، ولا ريب أيضا في حصول الرخصة في الجملة في

٢٠٨

استعمالها على كلّ من الوجوه الثلاثة المذكورة من الجنس والعهد والاستغراق ، واحتمال إرادة التكلّم بالنسبة إلى الكلّ متساوية ، فلا يجري أصل العدم بالنسبة إلى شيء منها والقول بأنّ مدخول اللام حقيقة في الطبيعة اللا بشرط فأصل الحقيقة لا يثبت الحقيقة بالنسبة إلى الهيئة التركيبيّة.

وأنت خبير بوهن الإيراد فإنّ تركيب اللام مع مدخوله ليس إلّا كسائر التراكيب والوضع المتعلّق به كلّي نوعي يندرج فيه هذا التركيب أيضا ، ولا داعي إلى التزام وضع شخصي يتعلّق بهذا التركيب الخاصّ حتّى يحتمل أن يكون خصوصيّة الدلالة على الاستغراق أو غيره حاصلة من جهته ، وليس مفاد الوضع العامّ المتعلّق بالتراكيب سوى الترخيص المتعلّق بتراكيب الألفاظ بعضها مع بعض وضمّ بعضها مع آخر لحصول المعاني المركّبة من ذلك.

نعم قد لوحظ في بعض الهيئات معنى آخر يضمّ إلى معاني المفردات ـ كالنسبة الإضافيّة الملحوظة في وضع الإضافة والنسبة التوصيفيّة في التوصيف ونحو ذلك ـ وهو غير متحقّق الحصول في المقام ، وقضيّة الأصل عدمه ، ومقتضى الترخيص المطلق في التركيب ليس إلّا ضمّ معنى التعريف إلى معنى الجنس. فما ذكره من أنّ أصل الحقيقة لا يثبت الحقيقة بالنسبة إلى الهيئة التركيبيّة كما ترى ، إذ ليس المقصود إثبات مفاد الهيئة التركيبيّة من جهة ذلك الأصل ، بل المقصود أنّ قضيّة الأصل حمل اللفظين على معناهما الموضوع له ، وقضيّة التركيب المرخّص فيه صحّة ضمّ أحدهما إلى الآخر ، وجواز إرادة المعنى المركّب كما هو قضيّة الترخيص الحاصل في سائر التراكيب وتعلّق وضع خاصّ بتلك الهيئة غير معلوم ، فالأصل عدمه ، ولم يتحقّق هناك وضع خاصّ متعلّق ليشكّ فيما تعلّق به لئلّا يصحّ إجراء الأصل بالنسبة إليه. ومن الغريب أنّ المورد المذكور لا زال يتمسك في دفع المعاني الزائدة بالأصل بالنسبة إلى الهيئات بعد تعلّق الوضع بها كما نصّ في دفع اعتبار الفوريّة فيما وضع له هيئة الأمر إلى غير ذلك من سائر الأبواب ، فكيف! لم يعوّل عليه في المقام.

٢٠٩

الثاني : تبادر تعريف الجنس من المفرد المعرّف عند الإطلاق من دون أن يتردّد الذهن بينه وبين العهد أو الاستغراق ، وذلك دليل على كونه حقيقة فيه مجازا في غيره.

الثالث : عدم صحّة الاستثناء منه مطّردا ، لقبح «جاءني الرجل إلّا البصري ، وأكرم الرجل إلّا الفساق» إلى غير ذلك.

ولا يذهب عليك أنّ شيئا من الوجوه المذكورة لا ينافي ما اخترناه من كونه حقيقة في تعريف الجنس بمعناه المطلق الشامل لإطلاقه على المعهود والاستغراق والجنس المأخوذ في مقابلتهما ، فإنّا نقول به بانصرافه عند استعماله في الجنس المأخوذ على الوجه الأوّل إلى خصوص الأخير حسب ما قرّرناه وهو الوجه في تبادره منه فلا يفيد وضعه له بالخصوص. وغاية ما يقتضيه عدم اطّراد الاستثناء عدم وضعه للعموم ونحن نقول به أيضا. وما ذكر في الوجه الأوّل من الرجوع إلى الأصل فهو في الحقيقة دليل على المختار ـ حسب ما مرّ بيانه ـ والاحتجاج به على القول المذكور مبنيّ على الخلط بين مفادي الجنس على الوجهين المذكورين.

هذا ، وقد يتخيّل في المقام أنّه لا تجوّز هنا بالنسبة إلى اللام في شيء من الإطلاقات المذكورة لكونها موضوعة لتعريف مدخولها والإشارة إليه وهو حاصل في كلّ من الوجوه المذكورة ، وإنّما التجوّز في المقام عند استعمال المفرد المعرّف في العهد أو الاستغراق أو العهد الذهني في مدخول اللام ، لكونه حقيقة في مطلق الجنس حسب ما تقرّر من وضع أسامي الأجناس لنفس الأجناس والطبائع المطلقة ، فاستعمالها في الفرد المعيّن أو في جميع الأفراد أو الفرد المنتشر مجاز ، لضمّ الخصوصيّة المذكورة إلى مفاد نفس الكلمة ، ولأنّ إرادة أيّ من المعاني المذكورة منها متوقّفة على قيام القرينة سوى إرادة الجنس ، وذلك شاهد على المجازيّة ، وحيث لا تجوّز بالنسبة إلى الأداة حسب ما قرّرناه فالتجوّز في مدخولها.

٢١٠

وضعفه ظاهر ممّا قرّرناه فإنّ ما وضع له أسامي الأجناس هو الطبائع المطلقة المأخوذة لا بشرط شيء ، ومن المقرّر أنّ الماهيّة اللا بشرط يجامع ألف شرط فإطلاقه على الماهيّة المطلقة المقيّدة لا يقضي بخروج اللفظ عن موضوعه إذا كانت الخصوصيّة مرادة من الخارج لا من نفس اللفظ حسب ما قرّرناه في إطلاق الكلّي على الفرد كما هو الحال في معظم استعمالات الكلّيات ، فإنّها في الغالب إنّما تطلق على المفاهيم المقيّدة مع أنّه لا تجوّز فيها كما هو ظاهر من ملاحظة استعمالاتها.

وقد مرّ تفصيل القول فيه ومن ذلك موضع الكلام في المقام فإنّ من تأمّل في استعمالاته العرفيّة في المخاطبات الجارية يكاد يقطع بكون استعماله على وجه الحقيقة حين إطلاقه على المعهود كما في قولك «يا أيّها الرجل أو أكرم هذا الرجل وائتني بذلك الرجل ونحوها» من الاستعمالات الشائعة المتكثّرة وكذا الحال في إطلاقه على جميع الأفراد والفرد المنتشر عند التأمّل في المقام ، فالحيثيّة الملحوظة في وضع المادّة أعمّ من الجنس الملحوظ في المقام ، فإنّ المراد بالجنس هناك يعمّ ما إذا اريد به العهد أو الاستغراق أو العهد الذهني أيضا بخلاف ما يراد من الجنس هنا ، فإنّه يقابلها فالجنسيّة على الوجه الثاني ملحوظة بشرط لا ، لعدم اجتماع إرادتها مع إرادة أحد المعاني المذكورة بخلاف الجنس الملحوظ في الوجه الأوّل ، فإنّه مأخوذ على وجه اللا بشرط فيعمّ كلّا من الوجوه المذكورة. وما ذكر من توقّف فهم تلك المعاني على ضمّ القرينة فيكون شاهدا على مجازيّته فيها أوهن شيء ، وذلك لأنّ ضمّ أحد القيود المذكورة إلى الطبيعة المطلقة وكون الطبيعة اللا بشرط حاصلة مع أحد الشروط المعيّنة لا بدّ له من دليل يدلّ عليه ، فإنّ مجرّد اللفظ الموضوع للطبيعة المطلقة لا يدلّ عليه ، فلابدّ من قرينة تدلّ على كون تلك الطبيعة المطلقة مقترنة بواحد منها حاصلة معها ـ كما هو الحال في إطلاق الكلّي على الفرد في سائر المقامات ـ فإنّه لو لم يقم دليل على إطلاق الكلّي على الفرد لم يحمل اللفظ إلّا على الطبيعة المطلقة إذ لا يزيد مدخول اللفظ على ذلك.

٢١١

فإن قلت : إذا كان نفس مدلول اللفظ لا يزيد إلّا على ذلك ولا يفيد سوى إرادة الطبيعة المطلقة كان إرادة ما سوى ذلك منه خروجا عن مقتضى وضعه فيكون مجازا ، فإذا كان الألفاظ الخالية عن اللام والتنوين موضوعة لنفس الأجناس كان مفادها بعد ضمّ لام التعريف هو الجنس المعرّف لا غيره من العهد أو الاستغراق أو غيرها فلا محالة يكون إطلاقه مجازا.

قلت : إنّما يتمّ ذلك لو ادرجت تلك الخصوصيّات في المراد من اللفظ وليس كذلك ، بل انّما تراد تلك من القرائن المنضمّة ولا يراد من اللفظ إلّا نفس الطبيعة ، فمراد المتكلّم هو الطبيعة المقيّدة وقد اطلق اللفظ عليها لكن نفس الطبيعة مدلولة لنفس اللفظ والقيد مستفاد من القرائن المنضمّة إليه ـ حسب ما فصّل الكلام فيه في بيان إطلاق الكلّي على الفرد ـ وبيّنا أنّ الاستعمال المفروض على وجه الحقيقة وإن اطلق اللفظ على خصوص الفرد إذا كان ذلك من حيث اتّحاده مع الطبيعة وانطباقها عليه مع كون الخصوصيّة مفهومة من الخارج.

حجّة القول بكونه للعموم وجوه تأتي الإشارة إلى وجهين منها في كلام المصنّف.

قوله : (لنا عدم تبادر العموم منه.)

لا يخفى أنّه لو تمّ الاستدلال المذكور لأفاد كونه مجازا في العموم ، فإنّ عدم التبادر من أمارات المجاز وحينئذ ينافي ذلك ما سيصرّح به من كونه حقيقة في العموم قطعا ، وإنّما الكلام في كونه حقيقة فيه خاصّة أو أنّه حقيقة فيه وفي غيره أيضا ، ويمكن توجيهه بأنّ المقصود عدم تبادر العموم منه على وجه يعلم أنّه المراد وهو يفيد عدم كونه حقيقة فيه بخصوصه سواء كان مجازا فيه أو مشتركا بينه وبين غيره.

قوله : (لو عمّ لجاز الاستثناء منه مطّردا.)

أراد بذلك الدلالة على عدم وضعه خاصّة سواء كان مجازا فيه أو مشتركا بينه وبين غيره حيث لا يجري اطّراد الاستثناء حينئذ بالنسبة إلى معناه الآخر ، فلا ينافي ذلك أيضا ما سيجيء من اعترافه بوضعه للعموم في الجملة.

٢١٢

ويمكن الإيراد عليه بأنّ عدم اطّراد الاستثناء إن كان مع الخلوّ عن القرائن أفاد عدم وضعه للعموم أصلا ، إذ لو كان موضوعا للعموم لجاز إرادة العموم منه في كلّ موضع خال عن القرينة فيصحّ الاستثناء ويكون ذلك قرينة معيّنة لاستعماله في العموم. وإن كان مع وجود القرينة لم يكن فيه دلالة على وضعه للعموم أصلا ، ضرورة عدم صحّة الاستثناء بعد قيام القرينة على عدم إرادة العموم ولو كان اللفظ موضوعا للعموم.

نعم قد يتّضح الاستدلال بذلك على ما هو المختار من كونه موضوعا للأعمّ إذ ليس معناه الموضوع له خصوص العموم فلا يطّرد صحّة الاستثناء بالنسبة إليه وإنّما يتبع ذلك خصوص المقامات.

هذا وقد يستدل على القول المذكور بوجوه اخر موهونة :

منها : أنّه لو كان للعموم لما صحّ أن يقال «أكلت الخبز وشربت الماء» وقد أكل خبزا واحدا وشرب شربة من الماء ، فإنّه مع انتفاء الوضع يتوقّف صحّة الاستعمال على وجود العلاقة بينهما وحيث لا علاقة بينهما ـ كما هو الحال في سائر العمومات إذا اريد بها الواحد حسب ما فصّل في محلّه ـ يتعيّن كونه غلطا. وهو ما ذكرناه من الملازمة والتالي باطل قطعا فكذا المقدّم.

واورد عليه بأنّ غاية ما يلزم من ذلك عدم صحّة ذلك حقيقة وأمّا جوازه مجازا فلا مانع منه ، والقرينة عليه حاصلة في المقام ، لوضوح عدم تمكّن أحد من أكل كلّ خبز وشرب جميع الماء.

وأورد عليه بعض الأفاضل بأنّ المقام محلّ تأمّل ، لوضوح أنّ صحّة التخصيص المذكور محلّ تشاجر بين الاصوليّين. ومحقّقوهم ذهبوا إلى المنع منه واشتراط بقاء جمع يقرب من مدلول العامّ كما سيجيء بيانه إن شاء الله.

واستندوا في المنع إلى استهجان العرف وعدم وجود العلاقة المعتبرة ، فلو كان المفرد المعرّف عامّا كان ما ذكر مندرجا تحت ذلك وكان مستهجنا في العرف خاليا عن العلاقة المعتبرة على ما ذكروه ، بل لو قلنا بجواز التخصيص المذكور

٢١٣

فلا أقلّ من كون ذلك محلّا للخلاف ، موردا للالتباس ، ممنوعا عند الجماعة ، مع جواز الاستعمال المذكور عند الكلّ ، بل قضاء ضرورة اللغة به ، حيث لا مجال لاحتمال المنع منه، فكيف! يبنى صحّته على الوجه المذكور المختلف فيه بل الممنوع منه عند المحقّقين ، فالاتّفاق على صحّة التعبير المذكور مع ظهور الخلاف في صحّة التخصيص إلى الحدّ المذكور دليل على عدم استناد جوازه إلى ذلك ، فيكون شاهدا على عدم وضعه للعموم. ويوضّح ذلك أنّ العبارة المذكورة بناء على كون المفرد المعرّف للعموم بمنزلة قولك : أكلت كلّ خبز وشربت جميع المياه ، ومن الواضح استهجان الثاني في العرف وعدم جريانه في الاستعمالات والمنع منه عند الجماعة بخلاف الأوّل ، لجريانه في الاستعمال وعدم استهجانه أصلا ، وعدم توهّم أحد حصول المنع منه فهو أقوى دليل على الفرق ، وليس إلّا من جهة إفادة الثاني للعموم دون الأوّل كما هو المدّعى.

ويدفعه : أنّه إنّما يتمّ ذلك لو انحصر طريق التجوّز فيه في التخصيص كما في المثال المذكور ، أمّا لو أمكن التجوّز فيه بغيره كإرادة الجنس أو العهد فلا مجال للإيراد المذكور أصلا ، ولا خلاف لأحد في جواز استعمال المفرد المعرّف في كلّ من المعنيين وإن اختلفوا في اختصاصه وضعا بالعموم على ما يتراءى من ظاهر كلماتهم.

وهذا هو الوجه في الاتّفاق على جواز الاستعمال المذكور مع وضوح الخلاف في جواز التخصيص بالأكثر ، فالاحتجاج المذكور ضعيف جدّا على أنّه ـ مع الغضّ عمّا ذكرنا والقول بصحّة البيان المذكور ـ فهو لا يقضي بنفي كونه حقيقة في العموم مطلقا أقصى الأمر أن يفيد عدم وضعه لخصوص العموم ، فلا ينافي ما اخترناه من وضعه للقدر المشترك. فإن كان المقصود بالاحتجاج بيان ذلك فلا كلام. وإن اريد نفي كون إطلاقه مع إرادة العموم حقيقة مطلقا فهو موهون جدّا ، على أنّه يمكن الإيراد عليه بأنّه لا مانع من القول بكونه موضوعا للعموم بكون الاستعمال المذكور مجازا ، وما ذكر من منع إطلاق العامّ على الواحد على فرض

٢١٤

تسليمه إنّما يتمّ إذا كان على سبيل التخصيص ، ولا مانع من القول بكون اللام بحسب وضعه للاستغراق ويستعمل في الجنس على سبيل المجاز لعلاقة له ، حيث إنّ كلّا منهما إنّما يراد به تعريف مدخوله ، كيف! وجواز إرادة الجنس من الفرد المعرّف حقيقة أو مجازا ممّا لا خلاف فيه وإن اختلفوا في اختصاصه وضعا بالعموم على ما يتراءى من ظاهر كلامهم.

ومنها : أنّه لو كان للعموم لجاز وصفه بالجمع المعرّف وتأكيده به وهو غير جائز ، إذ لا يقال : رأيت الرجل العدول ، أو ذهب الفقيه كلّهم.

وفيه : أنّه قد يكون من جهة مراعاة المشاكلة اللفظية.

قوله : (جواز وصفه بالجمع ... الخ) توضيح الاستدلال : أنّه قد وقع توصيف المفرد المحلّى بالجمع المعرّف في كلام من يعتدّ بشأنه من العرب ـ حسب ما حكاه الأخفش من العبارتين المذكورتين ـ فيفيد ذلك جواز توصيفه به وحيث إنّ الجمع المحلّى يفيد العموم كما مرّ فكذا المفرد وإلّا لم يحصل المطابقة بين الموصوف والصفة.

قوله : (صحّة الاستثناء منه.)

يمكن أن يريد به جواز الاستثناء منه مطّردا فإنّه دليل الوضع للعموم ، وقد يراد به صحّة الاستثناء منه في الجملة بدعوى كون ذلك أيضا دليلا على الوضع للعموم ، أو يجعل ذلك دليلا على استعماله هناك في العموم ، ويتمسّك حينئذ في كونه حقيقة بأنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة.

قوله : (بالمنع من دلالته على العموم) كأنّه يريد بذلك أنّ العموم الحاصل في المفرد على القول به إنّما يكون بدلالته على كلّ فرد ، وعموم الجمع إنّما هو بدلالته على مجموع الأفراد ولا تطابق بينهما ، ولو قلنا بعموم المفرد فلابدّ من التوجيه في تطبيق الوصف على الموصوف على كلّ حال ، ومعه لا يبقى فيه دلالة على المدّعى لعدم انحصار الوجه في التوجيه.

وقد يتراءى من ظاهر تعبيره أنّ المراد بما ذكره في سند المنع أنّ بناء العموم

٢١٥

هو الدلالة على كلّ فرد ، إذ العامّ هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له ، ومدلول الجمع هو مجموع الأفراد حيث اطلق الجمع في المقام على أعلى مراتبه ودلالته على خصوصيّات الأفراد المندرجة تحته من قبيل دلالة الكلّ على أجزائه ، وليس ذلك من قبيل دلالة العامّ ، فلا دلالة في توصيفه به على عموم المفرد ، إذ لا عموم فيه كذلك حتّى يفيد العموم في موصوفه. ويضعّفه حينئذ ما عرفت من دلالة الجمع المحلّى على العموم وأنّ مبنى العموم يعمّ الوجهين ، ولذا ذهب المعظم إلى عموم الجمع من غير خلاف يعتدّ به كما مرّ.

قوله : (بأنّه مجاز لعدم الاطّراد.)

أراد بذلك أنّ مجرّد صحّة الاستثناء في بعض الفروض لا يفيد الوضع للعموم بل عدم اطّراده كما في المقام يفيد خلافه ، إذ لو كان موضوعا له لاطّرد ذلك وجاز الاستثناء في سائر الموارد لصحّة الاستثناء من العامّ في كلّ مقام.

قوله : (فلأنّه مبنيّ على أنّ عموم الجمع ليس كعموم المفرد.)

يريد أنّ التحقيق أنّ عموم الجمع على نحو عموم المفرد ، فمفاد الجمع المحلّى هو كلّ واحد من أفراد مفرده ـ كما أنّ عموم المفرد هو كلّ واحد منه ـ ولذا اختار بعضهم ثبوت وضع جديد للهيئة التركيبيّة في الجمع المحلّى مفيد لذلك كما مرّت الإشارة إليه.

وقد يورد عليه بأنّ القول بحصول وضع جديد للجمع المحلّى يفيد بسببه العموم الأفرادي بعيد جدّا ، بل فاسد ظاهرا ـ حسب ما مرّ بيانه ـ وإنّما يفيد العموم الأفرادي من جهة تعلّق الحكم بكلّ واحد من الجزئيّات المندرجة تحت الجميع اندراج الجزء تحت الكلّ ، حيث اطلق الجمع على مرتبته العليا ، فتعلّق الحكم بكلّ واحد من الآحاد المندرجة فيها ، وحينئذ فالمراد بالجمع هو مجموع الأفراد الّتي هي المرتبة العليا من الجمع ، وعموم الحكم إنّما هو بالنسبة إلى جزئيّات مفرده المندرجة فيها حيث تعلّق الحكم بكلّ واحد منها ، فشمول الحكم لكلّ واحد من الآحاد لا ينافي استعمال الجمع بنفسه في المجموع. والتوصيف في المقام إنّما

٢١٦

يلاحظ بالنسبة إلى معناه الأفرادي ولا يراد به سوى مجموع تلك الآحاد ، والعموم الأفرادي إنّما يجيء من ملاحظة التركيب وتعلّق الحكم به ولا ربط له بالتوصيف حتّى يجعل ذلك مصحّحا لتوصيفه بالجمع. وفيه نظر المذكور في الأصل بعد الإيراد. ويدفعه من غير ذكر وجه.

قوله : (لا مجال لإنكار إفادة.)

هذا الكلام ظاهر في ذهابه ـ بعد إنكاره كون المفرد المعرّف من ألفاظ العموم ـ إلى اشتراكه لفظا بين الاستغراق والعهد والجنس ، وقد عرفت وهنه.

نعم كون الاستعمال الواقع على كلّ من الوجوه الثلاثة على سبيل الحقيقة هو الظاهر ، لكن لا من جهة الاشتراك اللفظي ، بل من جهة الاشتراك المعنوي وحصول ما وضع له اللفظان أعني اللام ومدخوله كما مرّ تفصيل القول فيه.

قوله : (وكونه أحد معانيها ممّا لا يظهر فيه خلاف.)

هذه العبارة واضحة الدلالة على كون الاستغراق مدلول اللام عنده وأنّها موضوعة بإزائه ، وقد عرفت أنّه لا وجه له وأنّ الاستغراق حاصل بمعونة المقام ، وأنّ نفس الاستغراق ممّا لا يستعمل فيه اللفظ قطعا ، كما هو الحال فيما يراد منه الجنس والعهد.

نعم يتحصّل من ضمّ اللام إلى مدخوله معنى يكون مستغرقا للآحاد المندرجة فيه. هذا بالنسبة إلى الجمع وأمّا المفرد فعلى أحد الوجوه فيه.

وتوضيح المقام : أنّ إرادة الاستغراق من المفرد المعرّف يتصوّر على وجوه :

أحدها : أن يكون الهيئة التركيبيّة أو المجموع المركّب من اللفظين موضوعة لإفادة الاستغراق على ما مرّ نظيره في الجمع.

ثانيها : أن يكون اللام الداخلة عليه بمعنى كلّ ويكون قولك «العالم» بمنزلة كلّ عالم، وحينئذ فيكون التعريف فيه لفظيّا ـ حسب ما مرّت الإشارة إليه في كلام نجم الأئمّة ـ أو يقال حينئذ بكون مفاده مفاد كلّ من حيث حضور الكلّ في الذهن والإشارة إليه ليكون ذلك سببا مفيدا للتعريف ، وقد مرّ نظير ذلك في الجمع أيضا.

٢١٧

ثالثها : أن يكون المراد من مدخول اللام هو الطبيعة المطلقة من حيث كونها مرآتا للآحاد المندرجة تحتها نظرا إلى القرينة الدالّة عليه ويكون اللام الداخلة عليها إشارة إلى الطبيعة المفروضة تعريفا لها من تلك الحيثيّة ، فيكون مفاده هو تعريف الآحاد ، إذ مفاد الطبيعة الملحوظة على الوجه المفروض عين مفاد الفرد.

رابعها : أن يطلق الجنس المدخول للّام على جميع الآحاد كما أنّه يطلق في المعهود على خصوص فرد أو أفراد معهودة ، فيكون اللام حينئذ للإشارة إلى خصوص تلك الأفراد وتعريفها ، كما هو الحال في تعريف العهد من غير لزوم مجاز في اللام ولا في مدخوله.

خامسها : أن يكون المراد من مدخوله نفس الجنس والطبيعة المطلقة المأخوذة لا بشرط شيء ولكن قامت القرينة على إطلاق تلك الطبيعة على جميع الآحاد المندرجة تحتها ، فيكون اللام تعريفا للطبيعة بالذات ولتلك الآحاد بالعرض بملاحظة إطلاقها عليها.

سادسها : أن يكون اللام لتعريف نفس الطبيعة كغيرها من المقامات لكن تقوم هناك قرينة خارجيّة على الاستغراق وحصول تلك الطبيعة في ضمن جميع الآحاد من غير أن يراد من لفظ الجنس المذكور بوجه من الوجوه ، فلا يكون الاستغراق حينئذ من مدلول المفرد أصلا ، وإنّما هو مدلول خارجي حاصل من القرينة من غير أن تفيد القرينة استعمال اللفظ فيه ولا إطلاقه عليه.

قوله : (إنّ القرينة الحاليّة قائمة ... الخ.)

الظاهر العبارة المذكورة ـ سيّما بملاحظة ما تقدّم ـ يعطي كون مراده كون العموم المحمول عليه هنا من جهة حمل اللام على الاستغراق حملا للمشترك على أحد معانيه ، فيكون عموم المفرد حينئذ استغراقيّا وضعيّا كسائر ألفاظ العموم ، إلّا أنّ الفرق اشتراكه هنا بين العموم وغيره ، وتعيين الأوّل من جهة القرينة بخلاف غيره من ألفاظ العموم ، فلا يندرج إذن في المطلقات لينصرف إلى الأفراد الشائعة ـ حسب ما سيجيء الكلام فيه ـ وهو ضعيف وما يذكره في بيانه غير متّجه ـ كما سيجيء الإشارة إليه ـ.

٢١٨

وفي قوله «غالبا» إشارة إلى عدم إفادته العموم في بعض المواضع ممّا يقع متعلّقا للأمر أو يقع في سياقه للاكتفاء بإيقاعه في ضمن فرد مّا ، ولذا فصّل بعض الأفاضل في المقام فقال : إنّ المفرد المعرّف إذا وقع متعلّقا للأمر كان مفاده الطبيعة في ضمن فرد مّا ، لشهادة العرف بحصول الامتثال به ، وإذا وقع متعلّقا للنهي أفاد العموم ، لعدم حصول ترك الطبيعة إلّا بتركها في ضمن جميع الأفراد مضافا إلى شهادة فهم العرف بإرادة ذلك وتوقّف حصول الامتثال عندهم على ذلك ، وإذا وقع متعلّقا لسائر الأحكام ـ كالحلّية والطهارة وعدم الانفعال بالنجاسة ونحوها ـ أفاد العموم بالنظر إلى دليل الحكمة ـ حسب ما أشار إليه ـ ويمكن أن يقال باستفادة العموم منه في مقام الأمر أيضا ، إذ ليس المقصود حينئذ إيجاد الطبيعة في ضمن فرد معيّن إذ لا تعيين ، ولا في ضمن فرد مّا على سبيل الإبهام والإجمال لخروج الكلام منه عن الإفادة ، بل المقصود أداؤها في ضمن أيّ فرد كان.

غاية الأمر أن يكون العموم فيه بدليّا فاستفادة العموم حاصلة في المقامين غير أنّ العموم هنا بدلي وفي غيره استغراقي ، والظاهر أنّ المفصّل المذكور قائل بذلك أيضا ، والمصنّف أيضا يقول به ، فلا خلاف في المعنى إنّما الكلام في التسمية.

والحقّ أن يقال : إنّ متعلّق الأحكام الشرعيّة إنّما هي الطبائع من حيث اتّحادها مع أفرادها ، وكونها عنوانات لمصاديقها من غير أن يكون الأفراد بنفسها متعلّقا للأحكام ، بل من حيث اتّحادها مع الطبيعة ، حيث إنّ الأمر قد تعلّق بالطبيعة من الحيثيّة المذكورة ـ حسب ما أشرنا إليه ـ وحينئذ فإمّا أن يتعلّق الأمر بها من حيث اتّحادها مع فرد مخصوص أو مع فرد مّا أو جميع الأفراد ، وحيث لا سبيل إلى الأوّل لانتفاء العهديّة والجهة المعيّنة وعدم حصول فائدة في الثاني يتعيّن الثالث ، وليس ذلك قاضيا باستعمال اللفظ في العموم ، بل إنّما يفيد كون المراد من تعليق الحكم على الطبيعة هو الطبيعة الحاصلة في ضمن كلّ فرد من أفرادها ، فيكون اعتبار الحكم المذكور مكمّلا للمراد دالّا على العموم من دون أن يكون ذلك مرادا من اللفظ ، ويحتمل القول بكون الحكمة المذكورة قرينة على إرادة ذلك

٢١٩

من اللفظ بأن يفيد كون المراد من اللفظ الدالّ على الطبيعة هو الطبيعة من حيث اتّحادها مع كلّ من الآحاد ولا مجاز أيضا ـ كما عرفت الحال فيه ممّا مرّ ـ فإنّ ذلك أيضا من إطلاق الكلّي على الفرد مع كون المفهم له أمرا خارجيّا وهذا هو الأظهر ، وكيف كان فالعموم المستفاد على الوجه المذكور لا يتعدّى إلى الأفراد الشائعة ، بل إنّما ينصرف إليها دون النادرة ، بل ينصرف إلى ما يقتضيه خصوص المقام ـ كما إذا وكّله في شراء العبد ـ فإنّ ظاهر التوكيل في الشراء ينصرف إلى إرادة العبد السليم الخالي من العيب مع أنّ لفظ العبد في نفسه يعمّ ذلك وغيره. وهذا في الحقيقة خارج عمّا نحن بصدده ، لرجوعه إذن إلى فهم الخصوصيّة من خصوص المقام لا بانصراف اللفظ إليه في نفسه ـ كما هو الملحوظ من انصراف المطلق إلى الأفراد الشائعة ـ.

ولنتبع الكلام في المقام بذكر امور :

أحدها : أنّه يجري في الجمع المضاف والمفرد المضاف ما ذكرناه في الجمع المعرّف والمفرد المعرّف ، فكما أنّ الجمع المعرّف يفيد العموم فكذا الجمع المضاف ، والتبادر الحاصل هناك قائم هنا أيضا ، إلّا أنّ العموم في الجمع المعرّف بالنسبة إلى أفراد الجمع وهنا إلى أفراده المقيّدة بالمضاف إليه.

والتحقيق فيه نظير ما ذكرنا في الجمع المعرّف فإنّ التعريف كما يحصل بالألف واللام كذا يحصل بالإضافة ، وكما أنّ التعريف قد يكون بتعريف الجنس قد يكون بتعريف العهد وقد يكون بالاستغراق ، فلمّا كان الجمع اسما للوحدات ـ حسب ما عرفت ـ وكان المرتبة المتيقّنة من الجمع هي الدرجة العليا منه ـ حسب ما مرّ ـ لزم انصراف التعريف إليه إلى آخر ما ذكر. وأمّا على القول المذكور في الجمع فينبغي القول بوضع الهيئة التركيبيّة هنا للعموم ، فينبغي القول بتعلّق وضع خاصّ لإضافة الجمع نظرا الى زيادة ذلك في معناه بخلاف غيره من الإضافات ، وهو أيضا يوهن الدعوى المذكورة ، إذ ثبوت وضع خاصّ للإضافة المفروضة خلاف الأصل والظاهر.

٢٢٠