هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

معالم الدين :

المطلب الثالث

في العموم والخصوص

وفيه فصول :

الفصل الأوّل

في الكلام على ألفاظ العموم

أصل

الحقّ : أنّ للعموم في لغة العرب صيغة تخصّه. وهو اختيار الشيخ ، والمحقّق ، والعلّامة، وجمهور المحقّقين. وقال السيّد رحمه‌الله وجماعة : إنّه ليس له لفظ موضوع إذا استعمل في غيره كان مجازا ، بل كلّ ما يدّعى من ذلك مشترك بين الخصوص والعموم. ونصّ السيّد على أنّ تلك الصيغ نقلت في عرف الشرع إلى العموم ، كقوله بنقل صيغة الأمر في العرف الشرعيّ إلى الوجوب. وذهب قوم إلى أنّ جميع الصيغ الّتي يدّعى وضعها للعموم حقيقة في الخصوص، وإنّما يستعمل في العموم مجازا.

١٤١

لنا : أنّ السيّد إذا قال لعبده : «لا تضرب أحدا» فهم من اللفظ العموم عرفا ، حتّى لو ضرب واحدا عدّ مخالفا. والتبادر دليل الحقيقة ؛ فيكون كذلك لغة ؛ لأصالة عدم النقل ، كما مرّ مرارا. فالنكرة في سياق النفي للعموم لا غير ، حقيقة ، وهو المطلوب.

وأيضا ، لو كان نحو : «كلّ» و «جميع» من الألفاظ المدّعى عمومها ، مشتركة بين العموم والخصوص ، لكان قول القائل : «رأيت الناس كلّهم أجمعين» مؤكّدا للأشتباه ، وذلك باطل بيان الملازمة : أنّ «كلا» و «أجمعين» مشتركة عند القائل باشتراك الصيغ ، واللفظ الدالّ على شيء يتأكّد بتكريره ؛ فيلزم أن يكون الالتباس متأكّدا عند التكرير. وامّا بطلان اللازم ؛ فلأنّا نعلم ضرورة أنّ مقاصد أهل اللغة في ذلك تكثير الإيضاح وإزالة الاشتباه.

احتجّ القائلون بالاشتراك بوجهين.

الاوّل : أنّ الألفاظ التي يدّعى وضعها للعموم تستعمل فيه تارة وفي الخصوص اخرى. بل استعمالها في الخصوص أكثر ، وظاهر استعمال اللفظ في شيئين أنّه حقيقة فيهما. وقد سبق مثله.

الثاني : أنّها لو كانت للعموم ، لعلم ذلك إمّا بالعقل ، وهو محال ؛ إذ لا مجال للعقل بمجرّده في الوضع ؛ وإمّا بالنقل ، والآحاد منه لا تفيد اليقين. ولو كان متواترا لاستوى الكلّ فيه.

والجواب عن الأوّل : أنّ مطلق الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز ، والعموم هو المتبادر عند الإطلاق. وذلك آية الحقيقة ؛ فيكون في الخصوص مجازا ، إذ هو خير من الاشتراك حيث لا دليل عليه.

وعن الثاني : منع الحصر فيما ذكر من الأوجه ؛ فانّ تبادر المعنى

١٤٢

من اللّفظ عند إطلاقه دليل على كونه موضوعا له ، وقد بيّنا أنّ المتبادر هو العموم.

حجّة من ذهب إلى أنّ جميع الصيغ حقيقة في الخصوص : أنّ الخصوص متيقّن ؛ لأنّها إن كانت له فمراد ، وإن كانت للعموم فداخل في المراد ، وعلى التقديرين ، يلزم ثبوته. بخلاف العموم ، فانّه مشكوك فيه ؛ إذ ربّما يكون للخصوص ؛ فلا يكون العموم مرادا ، ولا داخلا فيه ؛ فجعله حقيقة في الخصوص المتيقّن أولى من جعله للعموم المشكوك فيه.

وأيضا : اشتهر في الألسن حتّى صار مثلا أنّه : «ما من عامّ إلّا وقد خصّ منه» ، وهو وارد على سبيل المبالغة وإلحاق القليل بالعدم. والظاهر يقتضي كونه حقيقة في الأغلب مجازا في الأقلّ ، تقليلا للمجاز.

والجواب : أمّا عن الوجه الأوّل ، فبأنّه إثبات اللّغة بالترجيح ، وهو غير جائز على أنّه معارض بأنّ العموم أحوط ؛ إذ من المحتمل أن يكون هو مقصود المتكلّم ؛ فلو حمل اللّفظ على الخصوص لضاع غيره ممّا يدخل في العموم. وهذا لا يخلو من نظر.

وأمّا عن الأخير ، فبأنّ احتياج خروج البعض عنها إلى التخصيص بمخصّص ظاهر في أنّها للعموم. على أنّ ظهور كونها حقيقة في الأغلب ، إنّما يكون عند عدم الدليل على أنّها حقيقة في الأقلّ ، وقد بيّنا قيام الدليل عليه. هذا ، مع ما في التمسّك بمثل هذه الشهرة ، من الوهن.

١٤٣

قوله : (في العموم والخصوص.)

لمّا كان العموم والخصوص من عوارض الأدلّة وكان متعلّقا بمباحث الألفاظ كما مرّ في بحث الأوامر والنواهي ، عقّبوا البحث فيهما بالبحث عن العامّ والخاصّ ، وهو أيضا من المشتركات بين الكتاب والسنّة إلّا أنّه قد يجري في غيرهما أيضا في الجملة. وكيف كان فالاولى أوّلا تقديم تعريف العامّ والخاصّ ثمّ الشروع في مباحث الباب. وقد اختلفوا في تعريف العامّ وعرّفوه على وجوه شتّى وذكروا له حدودا مختلفة ، وليس ذلك مبنيّا على الاختلاف في المحدود ، بل إنّما هو من جهة المناقشة فيما يرد على الحدود. فاختار كلّ منهم حدّا على حسب ما استجوده :

أحدها : ما حكي عن أبي الحسين البصري واختاره جماعة وإن اختلفوا في زيادة بعض القيود «من أنّه اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له» ويرد عليه امور :

منها : أنّ أخذ المستغرق في الحدّ يوجب الدور ، إذ هو مرادف للعامّ ، نعم لو كان التعريف لفظيّا جاز ذلك لكنّه غير مقصود في المقام ، إذ المراد به كشف الحقيقة. وضعفه ظاهر ، لمنع المرادفة بين العموم والاستغراق ، ومع تسليمه فليس مرادفا للعموم بالمعنى المحدود غاية الأمر أن يكون مرادفا للعموم اللغوي.

ومنها : أنّه إن اريد ممّا يصلح له الجزئيّات الّتي وضع اللفظ لما يعمّها ويصدق عليها ـ كما هو الظاهر من العبارة ـ لم يكن جامعا ، لخروج الجمع المحلّى باللام والمضاف من الحدّ ، فإنّ المنساق منهما على المشهور المنصور هو استغراق كلّ من الآحاد دون المجموع وليس ذلك من جزئيّات الجمع وإنّما هو من أجزائه. وإن اريد به الأجزاء الّتي تصلح اللفظ للإطلاق عليها أجمع لم ينطبق على المحدود ، إذ لا يصدق ذلك على كثير من العمومات ، فإنّ عمومها من جهة استغراقها الجزئيّات دون الأجزاء ، مضافا إلى عدم كونه مانعا ، لشموله لسائر الألفاظ الموضوعة بإزاء المعاني المركّبة ـ كأسماء العدد ـ بل الأعلام الشخصيّة ، بل ويندرج فيه المركّبات نحو ضرب زيد عمرا فإنّ المأخوذ في الحدّ مطلق اللفظ الشامل للمفرد والمركّب مع عدم صدق العامّ على شيء منها.

١٤٤

ومنها : أنّه إن اريد بما يصلح له إطلاق اللفظ عليه سواء كان على سبيل الحقيقة أو المجاز لزم خروج معظم الألفاظ العامّة ، لعدم كونها مستغرقة لمعانيها الحقيقيّة والمجازيّة معا. وإن اريد به ما يصلح إطلاق اللفظ عليه حقيقة خرج عنه نحو رأيت كلّ أسد يرمي ، مع أنّه يندرج في العامّ. ويمكن دفعه بأنّ المراد ما يستغرق جميع ما يصلح له بالنظر إلى المفهوم الّذي اريد منه ، فإن كان ذلك المفهوم حقيقيّا أو مجازيّا كان الاستغراق بالنسبة إليه ملحوظا.

ومنها : أنّه إن كان المراد باستغراقه لجميع ما يصلح له استغراقه له وضعا لزم خروج جملة من العمومات من الحدّ ـ كالنكرة في سياق النفي والجمع المحلّى باللام وغيرهما ـ حسب ما يبيّن الحال فيها إن شاء الله ، بل نقول بجريان الإشكال في غيرهما أيضا ، فإنّ لفظ الرجل في قولك «كلّ رجل عادل» إن عدّ عامّا غير مستغرق لجميع جزئيّاته وضعا ، وإن عدّ لفظة كلّ عامّا ـ كما يستفاد من ظاهر كلماتهم حيث عدّوا لفظ كلّ وجميع ونحوهما من ألفاظ العموم ـ فهي غير مستغرقة لجميع جزئيّاتها ، إذ ليس كلّ من الآحاد من جزئيّات المفهوم الّذي وضعت بإزائه ـ حسب ما مرّت الإشارة إليه ـ في الإيراد السابق. وإن اريد مجرّد استغراقه لها ولو من جهة انضمام سائر الشواهد إليه ـ كدليل الحكمة وملاحظة ترك الاستفصال ونحوهما ـ لزم اندراج المطلقات بل وغيرها أيضا في العموم ، وليس كذلك ولذا اعتبر بعضهم في الحدّ كون الاستغراق من جهة الوضع ، حسب ما يأتي الإشارة إليه.

ومنها : أنّه يندرج فيه التثنية والجمع فإنّهما يستغرقان ما يصلحان له من الفردين أو الأفراد.

ولا يخفى وهنه ، لوضوح أنّ التثنية صالحة لكلّ اثنين وليس مستغرقا لها فغاية الأمر استغراقها لما اندرج فيه من الآحاد دون الجزئيّات.

نعم قد يشكل الحال في تثنية الأعلام بناء على الاكتفاء في بنائها على الاتّفاق في اللفظ.

١٤٥

ويدفعه ـ مع وهنه بفساد المبنى المذكور ـ أنّه ليس الاستغراق هناك بالنظر إلى الوضع الواحد بل بملاحظة الوضع المتعدّد ، فلو بنى على شمول الحدّ لذلك فليس ذلك أيضا مستغرقا لجميع ما وضع له غاية الأمر أن يشتمل معنيين.

نعم لو فرض عدم وضع ذلك العلم إلّا لشخصين أمكن الإيراد بذلك ، على أنّه لا يجري الإيراد بالنسبة إلى الجمع على الوجه الأوّل أيضا إلّا في جمع الأعلام على الوجه الضعيف المذكور.

نعم لو اريد به جميع الآحاد اندرج في الحدّ ، وحينئذ يندرج في العامّ فلا انتقاض من جهته.

وعن قاضي القضاة اعتبار قيد آخر في الحدّ لإخراج التثنية والجمع حيث قال «إنّه اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له في أصل اللغة من غير زيادة» وأراد بقوله من غير زيادة الاحتراز عن ذلك فإنّ الاستغراق الحاصل هناك من جهة زيادة علائم التثنية والجمع. وفيه : ـ مع ضعفه بما عرفت ـ أنّ زيادة القيد المذكور يقتضي خروج جمع المحلّى عن الحدّ ، فإنّ إفادته العموم إنّما هي من جهة ضمّ اللام إليه وكذا الحال في الجمع المضاف.

ومنها : أنّه يندرج فيه المشترك إذا استعمل في جميع معانيه مع عدم اندراجه في ألفاظ العموم ولذا زاد جماعة في الحدّ منهم الرازي والعلّامة في التهذيب والشهيد في الذكرى التقييد بوضع واحد ليخرج عنه ذلك ، وربما يحترز به أيضا عن استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه نظرا إلى كون استعماله فيهما بملاحظة الوضع الحقيقي والترخيصي.

ويدفعه : أنّه إن كان المشترك حينئذ مستغرقا لجميع آحاد معنييه كان مندرجا في العامّ وإلّا فلا يصدق الحدّ عليه.

ثانيها : ما حكي عن الغزالي من «أنّه اللفظ الواحد الدالّ من جهة واحدة على شيئين فصاعدا» فالتقييد بالواحد لإخراج المركّبات ـ كزيد قائم في الدار ـ الدالّ على معاني مفرداتها ، وبالدالّ من جهة واحدة لإخراج المشترك ، فإنّ دلالته على

١٤٦

المعنيين من جهة وضعين فما زاد ، وبقوله على شيئين فصاعدا لإخراج سائر الألفاظ المفردة ما عدا العمومات ويرد عليه أيضا امور :

منها : أنّه يخرج عنه الجمع المضاف والموصول بل الجمع المحلّى باللام أيضا ، إذ ليس شيء منها لفظا واحدا ، وأيضا فقوله من جهة واحدة مغن عن ذلك فإنّ الدلالة هناك من جهة وضعين أو أوضاع متعدّدة فلا حاجة إلى التقييد به.

وقد يذبّ عن الأوّل : بأنّ العامّ في الحقيقة هو المضاف والإضافة شرط في عمومه ، وكذا العامّ هو الموصول والصلة قيد خارج رافع لإبهام الموصول ، واللام في الجمع المحلّى بمنزلة الجزء. وقد يجاب أيضا بأنّ المراد بالواحد ما يقابل الجملة ولا شكّ أنّ الموصول مع صلته ليس بجملة تامّة بل جزء منها. وفيه : ـ مع ما فيه من الوهن ـ أنّه يلزم حينئذ اندراج المركّبات الناقصة في العامّ لاستغراقها لمعاني أجزائها ، فإنّ الملحوظ في التقييد بالواحد على ما ذكر هو إخراج الجمل الدالّة على معاني مفرداتها فيبقى غيرها مندرجة في الحدّ. وعن الثاني : بأنّ إغناء القيد الآخر عن الأوّل غير مستنكر في التعريفات وإنّما المرغوب عنه عكسه.

ومنها : أنّه ينتقض بالمثنّى والمجموع لدلالة الأوّل على شيئين والثاني على أزيد منها مع عدم اندراجها في العامّ.

وقد يذبّ عن الانتقاض بالمثنّى : بأنّ المأخوذ في الحدّ دلالته على شيئين فصاعدا والمثنّى إنّما يدلّ على شيئين فقط. وأنت خبير : بأنّه مع حمل العبارة على ذلك لا وجه للتعبير المذكور بل كان ينبغي التعبير عن دلالته على الكثرة بلفظ واحد كأن يقول ما دلّ على أشياء أو امور ونحوهما.

وعن الانتقاض بالجمع : أنّه يقول بعموم الجمع المنكّر. وفيه : أنّه إنّما يقول بإفادته العموم وأمّا مع عدم إرادة العموم منه فلا ريب في عدم اندراجه في العامّ مع دخوله في الحدّ ، نعم لو التزم عموميّة الجمع حينئذ مع ظهور فساده كما قد يقال بالتزامه عموميّة المثنى اندفع عنه الإيراد.

ومنها : أنّه يندرج فيه أسماء العدد كعشرة ونحوها إلّا أن يلتزم أيضا بعمومها.

١٤٧

ومنها : أنّه يندرج فيه العمومات المخصّصة مع عدم اندراجها في العامّ.

ومنها : أنّه ينتقض بنحو قولك «كلّ مستحيل وكلّ معدوم» فإنّ كلّا منهما عامّ شامل لأفراده ، مع أنّ مدلوله ليس شيئا إذ الشيئيّة تساوق الوجود.

ويدفعه : أنّ المفهوم المتصوّر شيء في الذهن وإن لم يكن شيئا في الخارج ، والمراد بالشيء ما يعمّ الأمرين على أنّ الشيئيّة المفهوميّة يعدّ في العرف شيئا وإن لم يكن موجودا وليس الشيئيّة منحصرة في الوجوديّة.

ومنها : ما ذكره الحاجبي من «أنّه ما دلّ على مسمّيات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة» فبقوله مسمّيات يخرج المفردات الّتي لا عموم فيها بالنظر إلى دلالتها على معناها الإفرادي وكذا المثنّيات بملاحظة دلالتها على التثنية ، وأمّا بالنظر إلى دلالتها على آحاد كلّ منهما فبالقيد الأخير ـ كما سنشير إليه إن شاء الله ـ وبقوله باعتبار أمر اشتركت فيه عشرة ونحوها من أسماء العدد ، فإنّ دلالتها على آحادها ليست باعتبار أمر مشترك بينهما لعدم اشتراك الأجزاء في مسمّى ذلك العدد.

ويشكل بأنّه إمّا أن يريد بالمسمّيات خصوص المسمّيات بتلك اللفظة أو مطلق المسمّيات وإن لم يكن من مسمّيات ذلك اللفظ. فعلى الأوّل يخرج أسماء العدد من التقييد بالمسمّيات إذ ليست الآحاد من مسمّيات تلك اللفظة من غير حاجة الى القيد المذكور إلّا أنّه يشكل الحال حينئذ في صدق الحدّ على ألفاظ العموم ، إذ ليست الجزئيّات المندرجة تحت العامّ من مسمّيات اللفظ الموضوع للعموم ، وقد يدفع ذلك بأنّ المقصود من مسمّيات تلك اللفظة ما يصحّ إطلاق ذلك اللفظ عليه ولو كان من جهة انطباقه لما وضع له اللفظ كما يدلّ عليه قوله باعتبار أمر اشتركت فيه.

وفيه : أنّه إنّما يتمّ في مثل النكرة في سياق النفي وما دخل عليه لفظة كلّ ونحوه إذا عدّ العام خصوص مدخوله وجعل الآخر أداة للعموم ، وأمّا الجمع المعرّف والمضاف ونحو كلّ وجميع فليس الحال فيها على ما ذكر. نعم لو جعل

١٤٨

استغراق الجمع باعتبار الجموع دون الآحاد فربما أمكن فيه ذلك إلّا انّه وجه ضعيف كما سنشير إليه إن شاء الله.

وعلى الثاني فلا يخرج من التقييد بالمسمّيات سوى المفرد الموضوع بإزاء البسيط دون الألفاظ المفردة الموضوعة بإزاء المعاني المركّبة ، فإنّ لأجزائها حينئذ ألفاظا سمّيت بها وكذا الحال في مثنّياتها. ويمكن دفعه : بأنّ التعدّد غير ملحوظ في مفاهيم تلك المفردات أصلا بل لم يلحظ في أوضاعها إلّا معنى واحد وإن انحلّ ذلك إلى امور بخلاف أسماء العدد فإنّ المفهوم منها وإن كان أمرا واحدا في الاعتبار إلّا أنّ التعدّد مأخوذ في معناها وليس اتّحادها إلّا بمجرّد الاعتبار.

وقد يقال بعدم إخراجها لأسماء العدد إذ دلالتها على كلّ من الآحاد لأمر مشترك بينهما أعني الجزئيّة من مفهومها. وقد يجاب عنه بأنّ المراد بالأمر المشترك هو مفهوم ذلك اللفظ ، والجزئيّة ليست من مفهوم أسامي الأعداد.

وفيه : أنّه خروج عن ظاهر الإطلاق فلابدّ من قيد يدلّ عليه ، وخرج بقوله مطلقا المعهود إذا كان متعدّدا ، فإنّه وإن دلّ على مسمّيات باعتبار أمر اشتركت فيه إلّا أنّه ليست دلالته عليها مطلقا بل مقيّدا بالمعهوديّة. وبقوله ضربة ـ يعني دفعة ـ يخرج النكرة فإنّه وإن دلّ على مسمّياته ـ أعني الآحاد الّتي يندرج تحته ـ إلّا أنّ دلالته عليها على سبيل البدليّة لا الدفعة ، وكذا الحال في المثنّى بالنسبة إلى دلالته على آحاد الاثنين ، فإنّ دلالته عليها على سبيل البدليّة دون الجمع. ويرد على الحدّ المذكور ـ مضافا إلى ما عرفت ـ أنّه إن اريد بالأمر المشترك المعتبر في دلالته على المسمّيات هو الكلّي الصادق على جزئيّاته لزم خروج الجمع المحلّى باللام والمضاف عن الحدّ ، لعدم صدقه على الآحاد وكذا لفظة كلّ وجميع ونحوهما.

نعم قد يعدّ العامّ مدخول لفظة كلّ ونظائره ويجعل تلك الألفاظ أداة للعموم ، وحينئذ فلا انتقاض إلّا أنّه مخالف لظاهر ما ذكروه وإن اريد به ما يعمّ ذلك وصدق الكلّ على أجزائه اندرج فيه الجمع المنكّر وأسماء العدد ، مضافا إلى ما في الحدّ المذكور من الخفاء الغير اللائق بالحدود.

١٤٩

رابعها : ما اختاره المحقّق في المعارج من «أنّه اللفظ الدالّ على اثنين فصاعدا من غير حصر» وينتقض بالمثنّى والجمع المنكّر ، إلّا أن يراد به الدلالة على ما يزيد على الإثنين فحينئذ يخرج عنه المثنّى ، لكن يبقى السؤال في اختيار التعبير المذكور مع إمكان التعبير عن الدلالة على الكثرة بلفظ واحد ـ حسب ما مرّ نظيره في بعض الحدود المتقدّمة ـ وينتقض أيضا بلفظ الكثير ونظائره لدلالتها على الكثرة من غير حصر ، وبالعام المخصوص كأكرم العلماء إلّا زيدا.

خامسها : ما ذكره العلّامة في النهاية من «أنّه اللفظ الواحد المتناول بالفعل لما هو صالح له بالقوّة مع تعدّد موارده» واحترز بالواحد عن الجملة ، وبالمتناول بالفعل عن النكرة ، لصلاحيّتها بالقوّة لجميع الآحاد لكنها غير متناول لها فعلا ، وباعتبار التعدّد في موارده عمّا له معنى واحد ـ كالأعلام الشخصيّة ـ وقد عدّ من ذلك الكلّيات المنحصرة في الفرد ـ كالشمس والقمر ـ وفيه تأمّل فإنّ قولك : كلّ شمس وكلّ قمر ولا شمس ولا قمر عامّ قطعا ويندرج في الحدّ. ومجرّد الأفراد الفرضيّة كاف في صدقه وإن لم يتحقّق منها في الخارج إلّا فرد واحدا ولم يوجد أصلا كما في لا شريك له.

وقد يورد على الحدّ المذكور امور :

أحدها : أنّ الفعليّة تقابل القوّة فلا يجتمعان فكيف يقيّد حصول أحدهما بحصول الآخر.

ويدفعه : أنّ عدم اجتماع الأمرين من الامور الظاهرة فهو قرينة واضحة على سبق القوّة فالمراد تناولها حين العموم لما هو صالح له قبل طروّه.

نعم يرد عليه : أنّه إنّما يشمل الألفاظ الّتي يطرؤها العموم بسبب أدواته ، وأمّا ما يفيد العموم وضعا ـ كأسماء الاستفهام والمجازات ـ فلا يندرج فيه ، وكذا لفظ كلّ وجميع ونحوهما مع عدّهما من ألفاظ العموم كما هو المعروف.

ثانيها : أنّه ينتقض بالأطفال ، إذ ليس متناولا بالفعل لما هو صالح له بالقوّة من المشايخ وك ذا الحال في العلماء والسلاطين وفي غيرهما.

١٥٠

ويدفعه : أنّ لفظ الطفل والعالم والسلطان غير صالح قوّة للشيخ والجاهل والرعيّة ، غاية الأمر أن يكون ما يطلق عليه قابلا للخروج عن ذلك العنوان إلى العنوان الآخر ، وأين ذلك من صلاحيّة اللفظة المأخوذة في الحدّ.

ثالثها : أنّه ينتقض بالعشرة ونحوها من أسماء العدد إن اريد مفاهيمها.

ويدفعه : أنّ أسامي الأعداد صالحة لما لا تحصى ولا يراد منها بالفعل إلّا مصداق واحد من مصاديقها إلّا إذا اقترنت بما يفيد عمومها كقولك كلّ عشرة وحينئذ يندرج في العامّ.

رابعها : أنّه إن اريد بموارده الجزئيّات المندرجة تحته انتقض بالجمع المحلّى ، فإنّه إنّما يتناول أجزاءه دون جزئيّاته من مراتب الجموع. وإن اريد ما يعمّ ذلك والأجزاء اندرج فيه أسماء الأعداد ، فإنّها وإن لم يتناول جزئيّاتها إلّا أنّها متناولة فعلا لما يصلح له من أجزائها. ويمكن دفعه بما سيجيء الإشارة إليه.

سادسها : ما اختاره شيخنا البهائي من «أنّه اللفظ الموضوع لاستغراق أجزائه أو جزئيّاته» ويرد عليه تارة : أنّ عدّة من ألفاظ العموم ليست موضوعة لاستغراق أجزائها أو جزئيّاتها وإنّما يفيد العموم ظهورا أو من جهة الالتزام كما هو الحال في الجمع المحلّى باللام والنكرة في سياق النفي ـ حسب ما يأتي الكلام فيها إن شاء الله ـ وتارة : أنّهم عدّوا لفظة كلّ من ألفاظ العموم وليس كلّ من الجزئيّات جزءا من الكلّ الاستغراقي ولا جزئيّا له ، ولو جعل لفظة كلّ أداة للعموم وعدّ مدخوله عامّا فهو خارج عن الحدّ أيضا لعدم وضعه للاستغراق. واخرى : أنّه يندرج فيه العامّ المخصوص والمستعمل في غير العموم من جهة المبالغة وغيرها لصدق الحدّ عليه مع عدم إندراجه إذن في العامّ هذا. ولهم أيضا حدود غير ذلك مذكورة في كلامهم لا طائل في ذكرها وبيان ما يرد عليها. والذي ينبغي أن يقال في المقام أنّ العموم يكون على وجوه :

أحدها : أن يكون استغراقيّا بأن يراد بالعامّ جميع ما اندرج فيه على وجه يكون كلّ واحد منها مناطا للحكم المتعلّق بالعامّ.

١٥١

ثانيها : أن يكون مجموعيّا بأن يراد بالعامّ جميع ما اندرج فيه على وجه يناط الحكم بالمجموع ، وعلى التقديرين فإمّا أن يكون شمول اللفظ ملحوظا بالنظر إلى أجزائه أو جزئيّاته.

ثالثها : أن يكون بدليّا بأن يكون جميع الجزئيّات المندرجة تحت العامّ مرادا من اللفظ في الجملة لكن على وجه يناط الحكم بواحد منها على سبيل البدليّة.

وهذه الوجوه الثلاثة مشتركة في الدلالة على الاستغراق ، وملاحظة الآحاد المندرجة تحت العامّ اندراج الجزئي تحت الكلّي أو الجزء تحت الكلّ إلّا أنّه يلحظ تلك الآحاد تارة على نحو يكون الحكم منوطا بكلّ منها وتارة على نحو يكون منوطا بالمجموع واخرى على نحو يكون منوطا بواحد منها. وحينئذ فنقول إنّ العامّ هو اللفظ المستغرق لما اندرج تحته من الأجزاء أو الجزئيّات فلا يندرج فيه نحو العشرة إذ ليس كلّ من الآحاد ملحوظا فيها وإنّما الملحوظ هناك هو المجموع بما هو مجموع كما هو المفهوم من معنى العشرة ، فالفرق بين العشرة والعامّ المجموعي أنّ كلّا من الآحاد ملحوظ في العامّ المجموعي بالملاحظة الإجماليّة إلّا أنّ الحكم منوط بالمجموع بخلاف أسماء العدد ، فإنّه لا يلاحظ فيها الكلّ بما هو كلّ ، وأمّا الجمع المنكّر فهو وإن لوحظ فيه الوحدة إلّا أنّه ليس بمستغرق لآحادها.

وأمّا المثنّى فهو وإن كان مستغرقا لما اندرج فيه على الوجه المفروض إلّا أنّه ليس ما اندرج فيه مصداقا للجميع ليندرج في الحدّ. وأمّا العموم البدلي المفهوم من الإطلاق ـ كما في أعتق رقبة ـ فليس من مدلول اللفظ إذ ليس مفاد اللفظ هناك سوى فرد ما وهو معنى صادق على كلّ من الآحاد فليس كلّ من الآحاد هناك مدلولا للّفظ أصلا.

واعلم أنّهم اختلفوا في أنّ العموم هل هو من عوارض الألفاظ خاصّة أو المعاني أيضا بعد أن حكي الاتّفاق على كونه من عوارض الألفاظ ـ كما في النهاية والمنية وكشف الرموز ـ على أقوال :

١٥٢

أحدها : أنّه من عوارض الألفاظ ولا يطلق العامّ إلّا عليها وإطلاقها على المعاني مجاز، وحكي عن جماعة من الخاصّة والعامّة كالسيّد وظاهر الفاضلين والشهيد وشيخنا البهائي وأبي الحسين البصري والغزالي والبيضاوي وعزي ذلك إلى الأكثر بل حكي عن البعض المنع من إطلاقه في غير الألفاظ حقيقة ومجازا.

ثانيها : أنّه حقيقة في المعنى الأعمّ من الأمرين وحكي عن جماعة منهم القاضي والعضدي.

ثالثها : أنّه مشترك لفظي بين الأمرين ذهب إليه الشيخ في ظاهر العدّة وحكاه عن قوم من الاصوليّين.

حجّة القول الأوّل وجوه :

الأوّل : أنّه حقيقة في شمول الألفاظ اتّفاقا ، حكاه الجماعة المذكورون فيكون مجازا في غيره دفعا للاشتراك.

الثاني : أنّه المتبادر منه عند الإطلاق ، وهو علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز.

الثالث : أنّه لو كان حقيقة لاطّرد فيقال عمّ الإنسان وعمّ الجدار وعمّ البلد مع أنّه لا يطلق معها ، إلّا أن يقال : إنّه لا بدّ في الإطلاق من حصول معناه على الوجه المذكور المأخوذ في التسمية وهو غير حاصل في تلك الموارد ولذا قيل باختصاصه بالمعاني العرضية وهو مطّرد فيه فيكون علامة على الحقيقة.

حجّة الثاني : الأصل لإطلاقه على الأمرين فيكون حقيقة في القدر المشترك دفعا للاشتراك والمجاز وأنّ العموم لغة الشمول وهو حاصل في المقامين.

وحجّة الثالث : أنّه اشتمل على الوجهين فيكون حقيقة في الأمرين.

قلت : لا يخفى أنّ محلّ النزاع في هذه المسألة غير منقّح في كلامهم بل الخلاف فيه غير متصوّر ، فإنّ العموم قد يطلق على شمول شيء لأشياء في حصوله لها فيكون المشمول مباينا للشامل ـ كما في عموم المطر للأراضي وعموم الخصب للبلاد وعموم الجود للأشخاص وعموم الحاجة للممكنات ـ وقد يطلق على

١٥٣

عمومه في الصدق عليها ـ كما هو الحال في عموم المفاهيم الكلّية كالإنسان والحيوان لمصاديقها ـ وهذا هو العموم الملحوظ عند أهل المعقول ، وقد يدرج ذلك في المعنى الأوّل على أن يراد به شمول شيء لأشياء إمّا صدقا أو حصولا ، وقد يطلق على شمول اللفظ في الدلالة لجميع جزئيّات مدلوله أو أجزائه ـ حسب ما مرّ ـ فإن كان الكلام في تعيين مفاد العموم بحسب اللغة فمن الواضح الّذي لا مجال للريب فيه كونه في اللغة بمعنى الشمول الصادق على الوجه الأوّل على نحو الحقيقة ولذا يصحّ الحكم بالعموم في تلك الموارد بحسب الإطلاقات العرفيّة على سبيل الحقيقة من غير ريبة ، ولا يبعد القول بشموله للمعنى الثاني لشمول تلك المعاني لجزئيّاتها فالملحوظ في تلك المفاهيم والكلّيات عند أهل المعقول نحو من الشمول اللغوي إلّا أنّه على حسب ما اعتبروا من شمول المفهوم لجزئيّاته يعمّ المعاني وهو حينئذ لا يصدق على شمول اللفظ للمعنى قطعا. وقد يورد في المقام : بأنّ شمول المطر للأماكن وشمول الخصب للبلاد وشمول الموت للأشخاص ونحوها ليس من حقيقة الشمول ، فإنّ كلّ فرد منها يختصّ شخصا ومحلّا فليس ذلك من حقيقة الشمول فيكون الإطلاق مجازا. وهو واضح الفساد ، إذ ليس المقصود شمول الخصوصيّات والأفراد بل المدّعى شمول الكلّي والقدر الجامع بينها للجميع وهو حاصل قطعا ، وحينئذ فهذا المعنى غير حاصل بالنسبة إلى الألفاظ إذ لا حصول للألفاظ بالنسبة إلى معانيها.

نعم يتمّ ذلك بالنسبة إلى ملاحظة دلالتها عليها لشمول الدلالة حصولا بالنسبة إلى الكلّ وإن كان الكلام في العموم الاصطلاحي أعني استغراق اللفظ في دلالته على حسب ما مرّ ، فمن الواضح أنّه يخصّ الألفاظ ولا يثبت للمعاني فإنّ استغراق دلالة اللفظ على جزئيّات مدلوله أو أجزائه كما هو المصطلح لا يعقل انفكاكه من اللفظ ولا يمكن إثباته للمعاني قطعا ، وكون الاستغراق في الحقيقة وصفا للدلالة وهي غير اللفظ لا يقضي بكون استغراق دلالة اللفظ وصفا لغير اللفظ وهو ظاهر ، فليس هناك معنى يصحّ وقوع النزاع فيه، فيمكن أن يعود النزاع هنا لفظيّا كما نبّه

١٥٤

عليه بعض الأعلام قائلا «إنّه إن اريد بالعموم استغراق اللفظ لمسمّياته على ما هو مصطلح أهل الاصول فهو من عوارض الألفاظ خاصّة ، وإن اريد شمول أمر لمتعدّد عمّ الألفاظ والمعاني ، وإن اريد شمول مفهوم لأفراد كما هو مصطلح أهل الاستدلال اختصّ بالمعاني» وقد يقال : إنّ شمول اللفظ لمسمّيات معناه نحو من الشمول اللغوي فالنسبة بينه وبين اللغوي من قبيل العموم والخصوص ، وحينئذ فيمكن تقرير النزاع في أنّ الشمول على ما هو مفاد العموم لغة هل يختصّ بمعناه الاصطلاحي فيكون من عوارض الألفاظ خاصّة أو أنّه يعمّ غيره أيضا؟ وحينئذ يبتني الخلاف على أنّ المعاني الذهنيّة هل هي امور موجودة في الأذهان أو لا؟ فعلى الأوّل يتّصف بالعموم قطعا وعلى الثاني لا يعقل العموم في غير الألفاظ على الوجه المذكور ، إذ لا يتصوّر عموم الشيء الخارجي لأشياء متعدّدة ، ألا ترى أنّ المطر والخصب لا عموم في الموجود منهما في الخارج ، إذ الموجود منهما في كلّ مكان غير الموجود في الآخر. فالعموم إنّما يتصوّر للكلّي الجامع بينها وهو مفهوم ذهني لا وجود له عند الجماعة.

قال العضدي : إنّ الإطلاق اللغوي أمره سهل إنّما النزاع في واحد متعلّق بمتعدّد ، وذلك لا يتصوّر في الأعيان الخارجيّة إنّما يتصوّر في المعاني الذهنيّة والاصوليّون ينكرون وجودها. فكأنّه أراد بذلك أنّ العموم والشمول بمعناه اللغوي ممّا لا يتّصف به شيء من المعاني على سبيل الحقيقة إذ المراد بها الأعيان الخارجيّة وهي لا يعقل اتّصافها بشمول ، وإن اريد بها المعاني الذهنيّة فهي غير موجودة عندهم فكيف يتّصف بالشمول فيكون النزاع حينئذ في أمر عقلي لا لفظي. والظاهر أنّه لا يساعده ظاهر أدلّتهم المذكورة على أنّ ما ذكره من امتناع شمول الواحد للمتعدّد في الأعيان الخارجيّة غير متّجه ، لإمكان شمول المكان لمتمكّنات عديدة وكذا شمول الظرف لمظروفات شتّى ، وشمول الخباء لأشخاص كثيرين ، وهكذا ، وليس ذلك خارجا عن معناه الحقيقي له.

قوله : (انّ للعموم في لغة العرب صيغة تخصّه ... الخ.)

قد يقال : إنّ الظاهر أنّ المراد بالعموم هنا هو العموم المصطلح ـ أعني استغراق

١٥٥

اللفظ لجميع ما يصلح له ـ وحينئذ فالقول بأنّ هنا صيغة تدلّ على ذلك غير ظاهر ، فإنّ ما يفيده اللفظ هو عموم المعنى لا عموم اللفظ ، وحمل العموم في المقام على إرادة شمول المعنى بعيد ، إذ مع خروجه عن ظاهر الاصطلاح لا يقول الأكثر باتّصاف المعاني به إلّا على سبيل المجاز ـ كما عرفت ـ وأيضا فالظاهر كون الخلاف في وضع اللفظ بإزاء العموم حسب ما يعطيه ملاحظة أدلّتهم وليست الألفاظ المذكورة موضوعة بإزاء العموم وإنّما العموم كيفية ملحوظة في معانيها.

قلت : لا مانع من أن يراد بالعموم في المقام معناه المصطلح ، فإنّ المراد أنّه هل للعموم بالمعنى المذكور صيغة تدلّ عليه ـ بأن يكون ذلك اللفظ دالّا على استغراقه لما يصلح له ـ فلا منافاة في التعبير المذكور لما هو المقصود ، فإنّه إذا دلّ اللفظ على الاستغراق لما يصلح له صحّ أن يقال باستغراق ذلك اللفظ لما يصلح له ، وانّ ذلك الاستغراق مدلوله بحسب الوضع وإن لم يكن الاستغراق المذكور عين الموضوع له ، فليس المراد بكون الصيغة مختصّة بالعموم أن يكون العموم تمام معناه الموضوع له بل المراد به أن لا يكون مشتركا بينه وبين غيره ولا مختصّا بالغير.

ثمّ لا يخفى أنّ التعبير المذكور يعمّ ما لو كان اللفظ المفروض موضوعا للعموم أو يكون العموم من لوازم معناه ـ كما هو الحال في النكرة في سياق النفي على ما هو المختار ـ فإنّ الاختصاص قابل للوجهين إلّا أنّ الظاهر أنّ مقصودهم بذلك هو الوضع له بخصوصه حسب ما يستفاد من ملاحظة أدلّتهم.

ثمّ اعلم أنّ الألفاظ الدالّة على العموم قد تكون هي بنفسها عامّة فتكون دالّة على معانيها على سبيل العموم والشمول ، وقد يكون اللفظ دالّا على العموم لكن ذلك العموم لم يكن وضعا لمعناه بل لمعنى آخر فيكون العامّ هو اللفظ الدالّ على ذلك المعنى وتكون إرادة العموم من اللفظ الأوّل باعثا على عموم ذلك اللفظ ـ كما في لفظ كلّ ونظائره ـ فإنّ العامّ إنّما هو مدخوله وهو أداة العموميّة وحينئذ فالموضوع للعموم إنّما هو الأداة المذكور دون اللفظ الآخر ، فمحلّ الخلاف في المقام هو ما يعمّ الوجهين ولذا عدّوا لفظة «كلّ» ونظائره من ألفاظ العموم.

* * *

١٥٦

معالم الدين :

أصل

الجمع المعرّف بالأداة يفيد العموم حيث لا عهد. ولا نعرف في ذلك مخالفا من الأصحاب. ومحقّقوا مخالفينا على هذا أيضا. وربّما خالف في ذلك بعض من لا يعتدّ به منهم ، وهو شاذّ ضعيف ، لا التفات إليه.

وأمّا المفرد المعرّف ؛ فذهب جمع من الناس إلى أنّه يفيد العموم. وعزاه المحقّق إلى الشيخ. وقال قوم بعدم إفادته ، واختاره المحقّق والعلّامة ، وهو الأقرب. لنا : عدم تبادر العموم منه إلى الفهم ، وأنّه لو عمّ لجاز الاستثناء منه مطّردا ، وهو منتف قطعا.

احتجّوا بوجهين ، أحدهما : جواز وصفه بالجمع ، فيما حكاه البعض من قولهم : «أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصّفر».

الثاني : صحّة الاستثناء منه ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا).

واجيب عن الأوّل : بالمنع من دلالته على العموم ؛ وذلك لأنّ مدلول العامّ كلّ فرد ، ومدلول الجمع مجموع الأفراد ، وبينهما بون بعيد.

وعن الثاني : بأنّه مجاز ؛ لعدم الاطّراد.

وفي الجواب عن كلا الوجهين نظر :

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه مبنيّ على أنّ عموم الجمع ليس كعموم المفرد ، وهو خلاف التحقيق ، كما قرّر في موضعه.

١٥٧

وأمّا الثاني ، فلأنّ الظاهر : أنّه لا مجال لإنكار إفادة المفرد المعرّف العموم في بعض الموارد حقيقة ؛ كيف ودلالة أداة التعريف على الاستغراق حقيقة وكونه أحد معانيها ، ممّا لا يظهر فيه خلاف بينهم ؛ فالكلام حينئذ إنّما هو في دلالته على العموم مطلقا ، بحيث لو استعمل في غيره كان مجازا ، على حدّ صيغ العموم الّتي هذا شأنها. ومن البيّن : أنّ هذه الحجّة لا تنهض بإثبات ذلك ، بل إنّما تثبت المعنى الأوّل الّذي لا نزاع فيه.

فائدة مهمّة :

حيث علمت أنّ الغرض من نفي دلالة المفرد المعرّف على العموم ، كونه ليس على حدّ الصيغ الموضوعة لذلك ، لا عدم إفادته إيّاه مطلقا ، فاعلم : أنّ القرينة الحاليّة قائمة في الأحكام الشرعيّة غالبا ، على إرادة العموم منه ، حيث لا عهد خارجيّ ، كما في قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) وقوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» ، ونظائره ، ووجه قيام القرينة على ذلك امتناع إرادة الماهيّة والحقيقة ؛ إذ الأحكام الشرعيّة إنّما تجري على الكلّيّات باعتبار وجودها ، كما علم آنفا.

وحينئذ ، فإمّا أن يراد الوجود الحاصل بجميع الأفراد أو ببعض غير معيّن. لكن إرادة البعض ينافي الحكمة ؛ إذ لا معنى لتحليل بيع من البيوع ، وتحريم فرد من الربا ، وعدم تنجيس مقدار الكرّ من بعض الماء ، إلى غير ذلك من موارد استعماله في الكتاب والسنّة ؛ فتعيّن في هذا كلّه إرادة الجميع ، وهو معنى العموم.

ولم أر أحدا تنبّه لذلك من متقدّمي الأصحاب ، سوى المحقّق ـ قدّس الله نفسه ـ فإنّه قال في آخر هذا البحث : «ولو قيل : إذا لم يكن ثمّ معهود ، وصدر من حكيم ، فإنّ ذلك قرينة حاليّة تدلّ على الاستغراق ، لم ينكر ذلك».

١٥٨

قوله : (الجمع المعرّف بالأداة.)

لا خلاف بينهم ـ على ما نصّ عليه غير واحد منهم ـ في إفادة الجمع المحلّى باللام للعموم حيث لا عهد ، ويشهد لذلك بعد اتّفاقهم عليه ملاحظة العرف والإطلاقات. فالمسألة ظاهرة إلّا أنّ هناك تأمّلا في امور :

أحدها : أنّ دلالته على العموم هل هي من جهة وضعه له بخصوصه أو أنّه يفيده من جهة اخرى؟ وعلى الأوّل فالموضوع للعموم هل هو المجموع المركّب أو أنّ اللام هي الموضوعة لإفادته فتكون أداة للعموم.

ثانيها : أنّ تقييدهم إفادته العموم بما إذا لم يكن عهد هل هو من جهة اشتراط الواضع ذلك في وضعه للعموم فيكون له وضعان في حالتين أو من جهة كونه قرينة صارفة عن العموم فاعتبروا عدمه؟ وعلى كلّ من التقديرين فلا يخلو الكلام عن الإشكال ، إذ الأوّل كأنّه عديم النظير في الأوضاع اللغويّة ، وعلى الثاني أيّ وجه لتخصيص القرينة المذكورة من بين القرائن الصارفة؟

ثالثها : أنّ المراد بانتفاء العهد أن لا يكون هناك عهد معلوم أو ما يعمّه والمظنون أو ما يعمّهما والمحتمل ، وسنبيّن لك حقيقة الحال في ذلك كلّه إن شاء الله.

واختلفوا في إفادة المفرد المحلّى باللام لذلك : فعن المحقّق والشهيد الثاني عدم دلالته على العموم وهو المحكيّ عن أبي هاشم وجماعة من المحقّقين وعزي إلى أكثر البيانيّين والاصوليّين وعن الشيخ في العدّة وشيخنا البهائي عدم دلالته على العموم وحكي ذلك عن المبرّد والشافعي وأبي علي الجبائي والحاجبي والبيضاوي وعزاه في التمهيد إلى جماعة من الاصوليّين وجعله المعروف من مذهب البيانيّين. وحكاه الآمدي عن الأكثرين ونقله الرازي عن الفقهاء.

والحقّ أنّه عند التجرّد عن القرائن لا يفيد العموم وإن لم تكن إرادة الاستغراق منه خروجا عن مقتضى وضعه واستعمالا له في غير ما وضع له.

وتحقيق الكلام في المرام يحصل برسم مقامات :

١٥٩

الأوّل

في بيان الجنس واسم الجنس أفراديا وجمعيّا

وعلم الجنس والمعرّف بلام الجنس وغيرها

والنكرة والجمع واسم الجمع

فنقول : أمّا الجنس فهو اسم الماهيّة الكلّية المأخوذة لا بشرط شيء من القيودات الزائدة عليها. والمراد بالماهيّة المأخوذة في الحدّ هو الكلّي الّذي دلّ عليه جوهر الكلمة مع قطع النظر عن لواحقه ، فمفهوم الواحد جنس وإن كانت الوحدة ملحوظة فيه ، إذ ليست قيدا زائدا عليه وإنّما لوحظ المجموع (١) باعتبار واحد ، وفي المثنّى والمجموع لحاظان فبملاحظة المفرد فيهما مع اعتبار التثنية والجمعيّة معه لا يعدّان من الجنس ، وبملاحظة التثنية والجمع بأنفسهما يمكن عدّهما من الجنس ، إذ جنس التثنية والجمع أيضا من الأجناس.

وقد ظهر بما ذكرنا : أنّ أسماء الإشارة ليست من أسماء الأجناس بناء على ما هو التحقيق من وضعها لخصوصيّات الجزئيّات ، وكذا الحال في الجمع بالنسبة إلى معنى الجمعيّة لو قلنا بأنّ لفظ الجمع موضوع لكلّ واحد من مراتب الجمع بالوضع العامّ ليكون وضعه عامّا والموضوع له خاصّا ، ولا ينافي ذلك ملاحظة الجنسيّة بالنسبة إلى كلّ واحد من المراتب فلا ينافي ما قدّمناه فتأمّل.

قال بعض الأفاضل : لا اختصاص لجنسيّته بالمفردات بل قد يحصل للجمع لا بمعنى أنّ المراد من الجمع هو الجنس الموجود في ضمن جماعة بل بمعنى أنّ الجماعة أيضا مفهوم كلّي، فيقال : إنّ لفظة رجال مع قطع النظر عن اللام والتنوين موضوعة لما فوق الاثنين وهو يشمل الثلاثة والأربعة وجميع رجال العالم انتهى ملخّصا.

أقول : ما ذكره من وضع الجمع للمعنى الشامل لمراتبه ليكون الموضوع له فيه

__________________

(١) خ ل : المفهوم.

١٦٠