هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

الواجب مع الحرام نظرا إلى تضادّ الأحكام كذا لا يجوز اتّحاده مع المكروه على الوجه المذكور، فلابدّ من القول ببطلان العبادة حينئذ أو الحكم بارتفاع الكراهة وكلّ من الوجهين في غاية البعد ، بل لا يظنّ أنّ أحدا يلتزمه فالظاهر أنّه لا مجال للتأمّل في صحّة العبادة وكراهة ذلك الأمر المتّحد معها ، وإذا كان الحال هناك على الوجه المذكور لا جرم صحّ القول به في المقام لاشتراك العلّة ، والمجوّز له هناك قاض بجوازه هنا أيضا لاتّحاد المناط.

ويمكن دفع ذلك تارة : بأنّ مرجوحية الكون في موضع التهمة ممّا لا كلام فيها ، ولا نقول بانتفاء تلك المرجوحيّة إلّا أنّا نقول بمعارضتها برجحان الصلاة الواقعة في ذلك المكان ، وبعد حصول الجهتين نقول برجحان الصلاة فحصول جهة المرجوحيّة لا يستلزم ثبوت المرجوحيّة والكراهة واقعا بالنسبة إلى الفعل الّذي حصل فيه تلك المرجوحيّة وما يعارضها من الجهة المرجّحة ، بل لابدّ من موازنة الجهتين ، فلا يتمّ الإيراد إلّا بعد ثبوت رجحان جهة الكراهة حتّى يكون الكون المذكور ممّا يطلب تركه ولو مع اتّحاده بالصلاة فيكون تركه راجحا على إيجاده مطلقا وهو في محلّ المنع ، إذ يمكن أن يقال برجحان الفعل على الترك بعد ملاحظة الجهتين وإن كان فيه منقصة من جهة حصول المرجوحيّة.

نعم لو ثبت مرجوحيّة الكون المذكور مع ملاحظة كونه جزءا من الصلاة أمكن الإيراد المذكور وأنّى له بإثباته.

وتارة : بالتزام مرجوحيّة الكون في ذلك المكان ورجحان تركه مطلقا إلّا أنّه لا يستدعي بطلان الصلاة ومرجوحيّتها ، إذ مرجوحيّة الجزء وكراهته لا يستلزم مرجوحيّة الكلّ ، فالكراهة إنّما تتعلّق بالكون المذكور ، والاستحباب أو الوجوب إنّما يقوم بالكلّ ولا اتّحاد في متعلّقيهما حتّى يلزم اجتماع الضدّين ، فغاية ما يلزم حينئذ أن يتّصف ذلك الجزء بالرجحان الغيري من جهة توقّف حصول الكلّ عليه والمرجوحيّة الذاتيّة ـ حسب ما فرض ـ ولا تضادّ بينهما ويأتي بيانه إن شاء الله ، ولذا يمكن أن يتّصف مقدّمة الواجب بالكراهة الحقيقيّة مع أنّا نقول بوجوبها

١٠١

الغيري ، ولا يجري ذلك بالنسبة إلى تحريم الجزء فإنّ وجوب الكلّ واستحبابه يستلزم جواز الجزء قطعا ، ولا يجامع تحريمه وجوب الكلّ وجوازه حسب ما ظهر من البيان المتقدّم.

وينبغي التنبيه لامور :

أحدها : أنّه هل يجوز اجتماع الوجوب الغيري والحرمة النفسيّة أم لا؟ والّذي يظهر من المصنّف هو القول بجواز الاجتماع فيه ، وظاهر كلامه وإن كان مطلق حيث قال : إنّه ليس على حدّ غيره من الواجبات فيجوز أن يجتمع مع الحرام إلّا أنّ الظاهر أنّه إنّما يقول بجواز الاجتماع إذا كان وجوبه الغيري تخييريّا ، وأمّا الوجوب العيني الغيري مع الحرام العيني فاجتماعهما قاض بالتكليف بالمحال كما لا يخفى.

وكيف كان فحجّته على الجواز أنّ الغرض من الوجوب الغيري هو التوصّل إلى الغير لا حصول الامتثال والانقياد به حتّى لا يمكن حصوله بالمحرّم ، وهو ممّا يحصل بالحرام أيضا كما في الوصول إلى الحجّ بالدابّة المغصوبة. وفيه : أنّ غاية ما يلزم من البيان المذكور حصول التوصّل بالحرام وأداء الغرض به ، وذلك لا يستدعي تعلّق التكليف به ، فإنّه إنّما يقتضي ذلك تعلّق التكليف به وإذا لم يكن هناك مانع من تعلّقه به لتعلّق الوجوب نظرا إلى حصول العلّة الموجبة ، لكن المفروض حصول المانع من جهة تعلّق الحرمة به ، فغاية الأمر ترتّب تلك الثمرة الموجبة للفعل عليه من غير تحقّق الوجوب بالنسبة إليه لما عرفت.

والحاصل : أنّ حصول الغرض مقتض لوجوبه عليه وهو إنّما يتفرّع عليه الوجوب مع انتفاء المانع وهو موجود في المقام ، كيف ولو جاز تعلّق الأمر به لحصل الامتثال والانقياد بفعله ، فأيّ فرق بين ما يراد به الامتثال والانقياد أو ما يكون المقصود منه أداء الفعل؟ إذ لو جاز تعلّق الأمر به حصل به الامتثال والانقياد أيضا ، فإن كان تعلّق النهي به مانعا من تعلّق الأمر جرى في المقامين.

غاية الأمر تفرّع الثمرة القاضية بالوجوب على الحرام أيضا من غير أن يكون

١٠٢

سببا لإيجابه نظرا إلى حصول المانع منه ، على أنّه لو تمّ ذلك لما اختصّ بالواجبات التوصّليّة بل جرى في غير العبادات من الواجبات ، إذ المقصود فيها حصول الفعل وهو حاصل بالحرام كما يحصل بغيره من غير فرق بينها وبين الواجبات التوصّليّة ، فالقول بجواز الاجتماع فيه ضعيف جدّا. وكان مقصود المصنّف هو حصول الثمرة المطلوبة من الواجب من الحرام ، فيسقط التكليف بأداء الحرام كما يسقط بأداء الواجب بخلاف ما يكون المقصود منه الامتثال دون مجرّد حصول الفعل.

ثانيها : أنّه هل يجوز اجتماع الوجوب النفسي والحرمة الغيريّة أم لا؟ والّذي يتقوّى في النظر جوازه نظرا إلى أنّ الوجوب النفسي إنّما يقتضي رجحان الفعل على الترك رجحانا مانعا من النقيض ، والحرمة الغيريّة إنّما يقتضي مرجوحيّته بالنسبة إلى الفعل الآخر الّذي هو أهمّ منه مرجوحيّة قاضية بتعيّن الإتيان بالآخر ولا تدافع بين الوصفين ، إذ لا مانع من رجحان الفعل على تركه ومرجوحيّته بالنسبة إلى فعل آخر سواء لم يكن الراجحيّة والمرجوحيّة مانعة من النقيض كما في المندوبات المتعارضة أو كانت مانعة منه كما في الواجبات المتعارضة أو كانت الراجحيّة غير مانعة والمرجوحيّة مانعة كما في المندوب والمعارض للواجب.

ويرد عليه : أنّه إن اخذت الراجحيّة والمرجوحيّة في المقام بالنسبة إلى كلّ من الجهتين المفروضتين فلا مانع من اجتماعهما قطعا إلّا أنّ ثبوت الراجحيّة والمرجوحيّة حينئذ إنّما يكون على نحو القضيّة الطبيعيّة من غير أن يكون الصفتان حاصلة له في الخارج على نحو ما يلحظ في القضيّة المحصورة ، ومفاد ذلك اجتماع الجهتين لا اجتماع الحكمين ، وقد عرفت أنّه لا مانع منه قطعا بل هو حاصل في محلّ النزاع أيضا من غير أن يكون هناك تأمّل في جوازه ، وإن لوحظ ثبوت الراجحيّة والمرجوحيّة المفروضتان (١) له بحسب الواقع فيريد الشارع في الواقع بعد ملاحظة جميع جهات الفعل الحاصلة له بحسب ذاته وبحسب الخارج

__________________

(١) كذا في الأصل والصواب المفروضتين.

١٠٣

إيجاد الفعل ويريد أيضا عدم إيجاده فيكون ملزما لفعله وملزما لتركه معا فهو محال ـ حسب ما قرّرناه في محلّ النزاع ـ من غير فرق ، كيف ولا أقلّ من كونه تكليفا بالمحال لكونه إلزاما للمكلّف بالضدّين ، والمفروض في المقام كون التكليف بالأهمّ مقدّما فيسقط التكليف بالآخر.

ويدفعه أنّه إنّما يلزم ذلك لو كان التكليفان حاصلين في مرتبة واحدة ، وأمّا لو كانا مترتّبين فلا مانع منه فيكون مطلوب الآمر أوّلا هو الإتيان بالأهمّ ولا يكون طالبا في هذه المرتبة لضدّه ، بل يكون الضدّ مطلوب الترك من حيث الأداء إلى الأهمّ ويكون مطلوبه ثانيا هو الإتيان بالثاني على تقدير عدم الإتيان بالأهمّ ، ولا مانع من تعلّق التكليفين كذلك بالمكلّف ، إذ لا مدافعة بينهما من حيث التكليف والإلزام لملاحظة الترتيب ولا من حيث اجتماع الحسن والقبح ، لما عرفت من عدم المدافعة بين الحسن والقبح المفروضين وجواز اجتماعهما في محلّ واحد ، وإنّما يجيء التكليف على الترتيب المفروض من ملاحظة الجهتين والأخذ بمقتضاهما فإنّ جهة المنع من فعله بملاحظة أهمّية ضدّه إنّما تنافي إلزامه بالفعل على تقدير الإتيان بالأهمّ لا مطلقا ، وليست تلك الجهة كالجهة المقبّحة للفعل بملاحظة نفسه ، فإنّه لا يمكن الجمع بينهما ـ حسب ما مرّ ـ وأمّا الجهة المفروضة الملزمة للترك من جهة لزوم الإتيان بالأهمّ إنّما تنافي الإلزام بغير الأهمّ مع الإطلاق دون الإلزام به على تقدير ترك الأهمّ ـ حسب ما قرّرنا ـ فظهر بما ذكرنا أنّ الأهمّ يتعلّق به الأمر من غير أن يتعلّق به النهي اللازم من الأمر بغير الأهمّ ، إذ ليس غير الأهمّ متعلّقا للأمر في مرتبة الأهمّ حتى يكون إيجابه نهيا عن ضدّه الّذي هو الأهمّ ليلزم اجتماع الأمر والنهي بالنسبة إليه.

فإن قلت : إنّ غير الأهمّ وإن لم يكن مطلوبا في مرتبة الأهمّ إلّا أنّ الأهمّ مطلوب في مرتبة غير الأهمّ ولذا يعاقب على ترك الأهمّ عند إتيانه بغير الأهمّ من غير عكس فيلزم أيضا أن يتعلّق به النهي اللازم من الأمر بغير الأهمّ لو جاز القول به.

١٠٤

قلت : إنّما يلزم ذلك في المقام لو كان وجوب غير الأهمّ مطلقا ، وأمّا لو كان مقيّدا بصورة ترك الأهمّ ـ كما هو قضيّة ما ذكرناه حيث إنّ المفروض ترتّب الأمرين ـ فلا يلزم ذلك ، لأنّ وجوب غير الأهمّ حينئذ مشروط بترك الأهمّ فيكون ترك الأهمّ مقدّمة لوجوب غير الأهمّ. ومن المقرّر عدم وجوب مقدّمة الواجب المشروط فلا يكون ترك الأهمّ واجبا للأداء إلى غير الأهمّ حتّى يلزم اجتماع الأمر والنهي في الأهمّ ، بل ترك الأهمّ حرام محض يترتّب عليه وجوب غير الأهمّ وفعله حسب ما قرّرنا.

فإن قلت : إنّ ترك الأهمّ إن كان شرطا في وجوب غير الأهمّ كان وجوبه متوقّفا عليه ، فلابدّ من حصوله أوّلا حتّى يتفرّع عليه وجوب غير الأهمّ ، فينبغي أن لا يتحقّق التكليف بغير الأهمّ إلّا عند مضيّ زمان الأهمّ أو مضيّ ما يتمكّن من أداء الأهمّ فيه ليصدق معه ترك الأهمّ وليس كذلك في المقام ، إذ المفروض أداء غير الأهمّ في الزمان الّذي يجب فيه أداء الأهمّ مع التمكّن من ترك غير الأهمّ والإتيان بالأهمّ مقامه ، فليس هناك إلّا البناء على ترك الأهمّ ولا يمكن أن يكون وجوب غير الأهمّ مشروطا بالبناء المذكور ، إذ هو غير الترك المفروض ولا يندفع بالتزام اشتراط الوجوب به ما ذكر من الإيراد بالنسبة إلى الأهمّ لوجوب الإتيان بالأهمّ عند البناء على تركه ضرورة أنّ البناء على عصيان الأمر لا يسقطه ووجوب تركه أيضا نظرا إلى كونه مقدّمة لفعل غير الأهمّ المفروض وجوبه على تقدير البناء على العصيان المفروض وهو عين المفسدة المذكورة.

قلت : إنّا لا نقول بكون وجوب غير الأهمّ مشروطا بالبناء على ترك الأهمّ وإنّما نقول باشتراطه بترك الأهمّ ، لكن لا نقول بالتزام كون الشرط متقدّما على المشروط ، بل يمكن تأخّره عنه وتقارنه لجميع المشروط فلا يكون بتمامه حاصلا حين الشروع في المشروط ، بل نقول بأنّ وجود ذلك الشرط بحسب الواقع كاف في وجود المشروط به وإن كان تحقّقه بعد حصول المشروط به كما في الإجازة اللاحقة للعقد الفضولي بناءا على القول بكون الإجازة كاشفة كما هو الأظهر ، فكذا

١٠٥

الحال في المقام ، والعلم العادي بعد وقوع الأهمّ منه كما هو حاصل في كثير من الاحيان كاشف عن عدمه فيتعلّق الوجوب حينئذ بغير الأهمّ ويصحّ الإتيان به.

فإن قلت : إنّه يرد حينئذ لزوم المفسدة المذكورة بالنسبة إلى فعل غير الأهمّ من جهة إلزام المكلّف حينئذ بفعله وإلزامه بتركه أيضا ، لكونه مانعا من فعل الأهمّ الواجب عليه حينئذ أيضا ، ضرورة عدم سقوط التكليف به بالبناء على عصيانه وعلم المكلّف بعدم إتيانه به وهو عين المفسدة المترتبة على اجتماع الأمر والنهي ـ حسب ما مرّ ـ فلا فائدة فيما ذكر من ترتّب التكليفين في تصحيح ذلك.

قلت : إنّه قد يدفع ذلك بأنّ ترك غير الأهمّ إنّما يجب من حيث كونه مقدّمة لفعل الأهمّ ، وقضيّة ذلك وجوب خصوص الترك الموصل إلى فعل الأهمّ دون غيره ـ حسب ما مرّ في بحث المقدّمة من الإشارة إلى ما قد يتراءى من أنّ الواجب منها خصوص المقدّمة الموصلة دون غيرها ـ والواجب بمقتضى التكليف الثانوي ـ على حسب ما فرض ـ هو الفعل الغير الموصل تركه إلى الأهمّ حيث كان وجوبه مبنيّا على ترك الأهمّ فلا يكون فعل شيء واحد وتركه واجبين معا ليلزم المحذور ، بل الترك الواجب هو ما يوصل إلى فعل الأهمّ والترك الحرام هو ما لا يوصل إليه ، وهما شيئان مختلفان لا اتّحاد بينهما حتّى يلزم من ذلك التدافع بين الطلبين المذكورين ، فالواجب فعل والمحرّم فعل آخر. وقد مرّت الإشارة إلى ذلك في بحث اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه.

وفيه : ما عرفت في ذيل بحث مقدّمة الواجب من أنّ تنويع الفعل إلى النوعين وكون المقدّمة الواجبة هو خصوص الفعل الموصل دون غيره غير متّجه ، بل المقدّمة الواجبة ما يتوقّف عليه فعل الواجب سواء تحقّق به الإيصال أو لم يتحقّق.

غاية الأمر : أنّه مع عدم حصول الإيصال به قد ترك نفس الواجب دون المقدّمة المفروضة فلا يكون ترك المقدّمة المفروضة مع بنائه على ترك الواجب جائزا غير ممنوع منه عند الآمر ليمكن تعلّق الأمر به منه ، لوضوح كون ذي المقدّمة حين البناء المذكور ممنوعا من تركه إذ لا يقضي البناء على العصيان

١٠٦

بسقوط الواجب ومع حصول المنع من تركه فلا ريب في حصول المنع من ترك مقدّمته أيضا ، غير أنّ منعه من تركه ليس مطلقا ليكون مطلوبا في نفسه واجبا في حدّ ذاته ، بل إنّما يجب بملاحظة إيصاله إلى الفعل الآخر سواء تحقّق به الإيصال أو لا وبون بعيد بين ما ذكر وما ذكرناه ـ حسب ما مرّ القول فيه في بحث المقدّمة ـ فاللازم حينئذ كون ذلك الترك واجبا بخصوصه بملاحظة إيصاله إلى الأهمّ ومحرّما أيضا بملاحظة تعلّق الأمر بذلك الفعل في ذاته فيثبت له الحرمة والوجوب من جهتين ، والمفروض عدم إجداء تعدّد الحيثيّة مع اتّحاد الفعل ـ حسب ما مرّ القول فيه ـ فالمحذور على حاله سيّما مع تضيق الواجبين ، إذ القائلون بالاكتفاء بتعدّد الجهة لا يقولون به أيضا ـ حسب ما مرّ ـ.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ متعلّق الأمر والنهي هنا على تقدير الحكم بصحّة الصلاة شيء واحد كما هو ظاهر في المقام ، فإنّ ما يوقعه من الصلاة عند مزاحمته لإزالة النجاسة قد ألزمه الشارع بتركها وإيصال ذلك الترك إلى فعل الإزالة ، والمفروض تعلّق الأمر بها أيضا بملاحظة ذاتها وإنّما يصحّح ذلك ويجوّزه أنّ الأمر والنهي المتعلّقين به مترتّبان لا مطلقان ، فإنّ المفروض أنّ ترك ذلك الفعل المطلوب في المقام إنّما هو من حيث إيصاله إلى الأهمّ ، وفعله إنّما يطلب من حيث ذاته على تقدير عدم حصول ذلك الترك الموصل ، إذ لو حصل منه الترك الموصل لم يرد منه إيجاد ذلك الفعل أصلا ، لما عرفت من كون مطلوبيّة الثاني إنّما هو على تقدير خلوّ ذلك الزمان عن ضدّه المفروض فمع الإتيان به وإيصال ترك الثاني إلى فعله لا تكليف بالثاني أصلا ، وإنّما الواجب هو ذلك الأهمّ خاصّة ، فالفعل الثاني إنّما يراد على تقدير عدم حصول ذلك الترك ولا محذور فيه.

فإن قلت : إنّ إيجاب الفعل على الوجه المذكور يكون إيجابا مشروطا بعدم تركه وهو ممتنع إذ محصّله أن يكون وجوبه مشروطا بعدم تركه وهو محال ، إذ لا يعقل ملاحظة الترتيب بين وجوب شيء وعدم حصول تركه حسب ما فرض.

قلت : لو كان ملاحظة الفعل والترك مطلقين كان الحال على ما ذكر ، إذ لا يعقل

١٠٧

إيجاب الشيء على تقدير عدم تركه ، وأمّا لو كان الترك ملحوظا على جهة خاصة فلا مانع منه أصلا.

وتوضيح الحال : أنّ الترتّب المفروض في المقام إنّما يلحظ ابتداءا بين التكليف بغير الأهمّ والتكليف بالأهمّ ـ حسب ما قرّرناه ـ وهو إنّما يأمره بالثاني على تقدير تركه للأهمّ ، لكنه لمّا كان التكليف بذي المقدّمة مستتبعا للتكليف بالمقدّمة وكان الأمر بالمقدّمة من لوازم الأمر بذي المقدّمة لزم من ذلك حصول الترتيب بين ذلك التكليف والتكليف المتعلّق بمقدّمة الآخر أيضا اللازم من التكليف به ، فيكون التكليف المتعلّق بذلك الفعل مترتّبا على عصيان التكليف المتعلّق بتركه لكن ليس التكليف المتعلّق بتركه مطلقا ليلزم المحذور المذكور ، بل إنّما يتعلّق به من حيث إيصاله إلى الأهمّ ، وكما يتحقّق عصيانه بإيجاد الفعل المذكور كذا يتحقّق بتركه مع عدم إيصال الترك إلى فعل الأهمّ لعدم إتيانه بالترك من حيث الإيصال في الصورتين ، وحينئذ فليس ما ترتّب عليه التكليف بالفعل مجرّد عدم الترك ليتفرّع عليه كون وجوب الفعل مشروطا بوجوده ، بل إنّما يكون مشروطا بعدم تركه على الوجه الخاصّ وهو أعمّ من فعله ومن تركه لا على ذلك الوجه.

فالمحصّل : أنّ اللازم ممّا ذكر كون تكليفه بالفعل مترتّبا على عدم حصول الترك من حيث إيصاله إلى الأهمّ ، وهو أعمّ من عدم تركه مطلقا لحصول ذلك على الوجهين المذكورين.

ومن البيّن : أنّه لا مانع من ترتّب وجوب الأخصّ على البناء على إيجاد الأعمّ ولا مفسدة فيه أصلا.

فإن قلت : إنّ ذلك عين الجواب المتقدّم فإنّ انتفاء الترك الموصل إنّما يكون بالوجهين المذكورين إذ انتفاء المقيّد قد يكون بانتفاء القيدين وقد يكون بانتفاء أحدهما ، فيكون الواجب من المقدّمة حينئذ هو خصوص الترك الموصل ويكون التكليف الثانوي مترتّبا على عدم حصول ذلك الترك الموصل لا ترك ذلك الفعل

١٠٨

مطلقا ليلزم المحذور ، فيختلف الفعل المتوقّف وجوبه مع ما يتوقّف الوجوب على تركه وهو عين ما مرّ.

قلت : ليس الحال على ما ذكر ، إذ الملحوظ في الوجه الأوّل اختلاف متعلّق التكليفين وتعدّدهما في الخارج ، فإنّ المأمور به هو الترك الموصل إلى الأهمّ والممنوع منه هو الترك الغير الموصل إليه ، ولمّا كان الجمع بين ذينك التكليفين ممتنعا قيل بكون التكليف الثاني على فرض عصيان الأوّل على الوجه الّذي مرّ ، وعلى هذا فلا اجتماع بين الأمر والنهي أصلا ولا يتمّ ما قرّرناه من جواز اجتماع الوجوب النفسي والحرمة الغيريّة ـ حسب ما ذكرناه في ذيل ذلك الجواب ـ والملحوظ في الوجه الثاني اتّحاد متعلّق التكليفين ـ كما هو الواقع في ذلك الفرض ـ فإنّ فعل غير الأهمّ مطلوب في ذاته وتركه بخصوصه مطلوب من حيث ايصاله إلى الأهمّ ـ حسب ما أشرنا إليه ـ فقد تعلّق الطلبان بشيء واحد إلّا أنّهما من جهتين مختلفتين ، وإنّما قرّرنا تسويغ ذلك بما عرفت من عدم لزوم اجتماع الضدّين في نفس الفعل ، لعدم المدافعة بين حسن الفعل في ذاته وقبحه بالنظر إلى ما هو أحسن منه ، وعدم التدافع بين نفس التكليفين لما عرفت من اعتبار الترتيب بين الأمرين فإنّ امتناع التكليف بالضدّين إنّما يجيء من جهة استحالة الجمع بينهما ، وإلّا فلا استحالة في ذلك التكليف من جهة اخرى ، ومع كون التكليف بالثاني على تقدير إخلاء ذلك الزمان عن الضدّ الآخر فلا مانع منه بوجه ، فالتكليف بفعله من حيث ذاته مترتّب على ترك ما تعلّق من التكليف بتركه من جهة إيصاله ، ولا محذور في الترتيب المذكور حسب ما قرّرناه.

ثالثها : أنّه قد ظهر ممّا قرّرناه عدم جواز اجتماع الوجوب والاستحباب واجتماع الكراهة والتحريم ، لما قرّرناه من اضمحلال جهة الاستحباب والكراهة في جنب جهة الوجوب والتحريم ، وأنّ الحكم في ذلك يتبع جهة الوجوب والتحريم لبلوغ تلك الجهة إلى الحدّ المنع من الترك وعدم وصول الجهة الاخرى إليها فالرجحان مشترك بينهما ، وجهة المنع من الترك غالبة على جهة عدم المنع

١٠٩

من الترك إن سلّم المدافعة بينهما ، وإلّا فالظاهر عدم المدافعة ، حيث إنّ جهة الاستحباب إنّما يقتضي عدم المنع من الترك لعدم اقتضائه من الرجحان ما يزيد على تلك الدرجة فلا ينافي حصول ذلك الاقتضاء من جهة اخرى ، وحينئذ فيتعيّن حكمه بالوجوب أو التحريم ، ولا تدافع بين الجهتين وحصول الاقتضائين لكون أحدهما وجوديّا والآخر عدميّا ، وإنّما التدافع في المقام بين الحكمين المذكورين لتقوّم الوجوب والتحريم بالمنع من الخلاف القاضي بزوال الاستحباب والكراهة المتقوّمين بعدمه ، ولا يمكن القول حينئذ بقيام الاستحباب والكراهة بالجهة المفروضة وقيام الوجوب أو التحريم بالجهة الاخرى ، لما عرفت من كون ثبوت الأحكام لموضوعاتها على سبيل القضيّة المحصورة دون الطبيعة.

ومن البيّن : أنّه مع اتّصاف الفرد بالوجوب أو التحريم نظرا إلى الجهة المفروضة لا يمكن اتّصافه فعلا بالاستحباب أو الكراهة ، فيكون ثبوت الاستحباب أو الكراهة إنّما هو للجهة من دون ثبوته واقعا للفرد المطابق لها وهو عين مفاد القضيّة الطبيعيّة ـ حسب ما عرفت ـ ومن ذلك يتبيّن عدم جواز اجتماع الوجوب والكراهة ـ حسب ما مرّ تفصيل الكلام فيه ـ وكذا اجتماع الحرمة والاستحباب ، بل الحال فيه أظهر ، وأمّا اجتماع الكراهة والاستحباب فالّذي يقتضيه ظاهر النظر المنع منه أيضا ، نظرا إلى تضادّ الأحكام فكما لا يجوز اجتماع الوجوب والتحريم ـ حسب ما قرّرنا ـ فلا يجوز اجتماع الندب والكراهة للاشتراك في العلّة المانعة ، كيف! وقضيّة الندب رجحان الفعل على الترك بحسب الواقع ، وقضيّة الكراهة رجحان الترك على الفعل كذلك ، والتدافع بينهما واضح ، فكيف يعقل اجتماعهما. وقد يقال : إنّ رجحان الفعل على الترك واقعا من جهة لا ينافي رجحان الترك على الفعل واقعا من جهة اخرى ، نعم الممتنع حصولهما من جهة واحدة فأيّ مانع من القول باجتماعهما من جهتين.

فإن قلت : إنّ اختلاف الجهتين حاصل في الحرام والواجب ، وكذا في الواجب والمندوب ، والحرام والمكروه ، فكيف لا يقولون به.

١١٠

قلت : لا ريب أنّ المنع من الترك والفعل متضادّان لا يمكن اجتماعهما في فعل واحد وإن كان من جهتين إلّا على طريق الشأنيّة ـ بمعنى اجتماع جهتي الحكمين ـ وحصول تينك الجهتين قاض بترجيح أحدهما فيثبت الحكم التابع لها دون الآخر ، أو التخيير بينهما فيرتفعان معا ، ويتخيّر المكلّف في العمل ، وظاهر أنّه لا يمكن حصول المنع من ترك فعل والمنع من فعله معا بحسب الواقع ، كيف وهو تكليف بالمحال لا يمكن القول به عند العدليّة ، وكذا الحال في رجحان الفعل على الترك مع المنع من النقيض ورجحان الترك على الفعل مع عدم المنع من الفعل وكذا عكسه ، إذ مع حصول المنع من الفعل أو الترك يتعيّن الحكم بالوجوب أو التحريم ، فلا يعقل الحكم الندبي والكراهة ، إذ لا يجامع المنع من الفعل أو الترك بحسب الواقع عدم حصوله ، للزوم الجمع بين النقيضين وهو واضح.

فغاية الأمر هناك أيضا جواز اجتماع الجهتين دون الحكمين ـ حسب ما مرّ ـ وأمّا رجحان الفعل على الترك من دون حصول المنع من الترك ورجحان الترك على الفعل كذلك بحسب الواقع من جهتين فلا مانع منه ، إذ لا مانع من القول برجحان فعل على تركه واقعا من جهة ورجحان تركه على فعله كذلك من جهة اخرى ، وإنّما يستحيل حصول الأمرين من جهة واحدة.

فإن قلت : إن لوحظ ثبوت الحكمين على نحو القضيّة الطبيعيّة بأن يثبت الحكمان للجهتين ويكون حصولهما للفرد بملاحظة الجهة من دون ثبوتها للفرد بحسب الواقع فذلك ممّا لا مانع منه في المقام وغيره من الصور المتقدّمة ، لما عرفت من جواز اجتماع جهتي الوجوب والتحريم وغيرهما وذلك غير اجتماع الحكمين. وإن لوحظ ثبوتهما بحسب الواقع على نحو القضيّة المحصورة فمن الظاهر امتناعه ، فكما لا يمكن اتّصاف الفرد واقعا بالوجوب والتحريم، كذا لا يمكن اتّصافه بالاستحباب والكراهة واقعا ، إذ كما يثبت التضادّ بين المنع من الترك والمنع من الفعل ، فكذا يثبت بين رجحان الفعل على الترك ومرجوحيته بالنسبة إليه وإن خليا عن المنع من الخلاف.

١١١

فغاية الأمر أنّ المضادّة في الواجب والحرام من جهتين ـ أعني جهة الرجحانيّة والمرجوحيّة وجهة الإلزام بالفعل والإلزام بالترك ـ وهنا إنّما يكون المضادّة من الجهة الاولى خاصّة.

قلت : لا ريب أنّ رجحان الفعل والترك في الواجب والحرام متقوّم بالمنع من النقيض كما أنّه متقوّم في المندوب والمكروه بعدمه ، فالمدافعة الحاصلة بين الرجحان والمرجوحيّة فيها حاصلة بحصول المنع من النقيض ، وحاصلة في المندوب والمكروه لعدم المنع منه ، إلّا أنّه بعد بلوغ رجحان الفعل أو الترك إلى حدّ المنع من النقيض لا يمكن تعلّق الرجحان بالنقيض إلّا على نحو الشأنيّة والقضيّة الطبيعيّة ، بل لا يمكن تعلّق إذن الشارع به فضلا عن رجحانه وطلبه من المكلّف ، لوضوح عدم جواز اجتماع المنع من شيء والاذن فيه ولو من جهتين إلّا أن يكون الجهتان مميّزتين لأحدهما عن الآخر في الخارج ـ كضرب اليتيم على وجه التأديب أو على جهة الظلم ـ وهو خارج عن محلّ الكلام. وأمّا مع عدم بلوغ الرجحان إلى حدّ المنع من النقيض فالإذن في النقيض حاصل بملاحظة رجحانه من الجهة المفروضة ، ولا ينافي الرجحان المفروض رجحان الخلاف أيضا من جهة اخرى ، فيجتمع الرجحانان في فعل واحد من جهتين.

والحاصل : أنّ المنع من الترك أو الفعل بحسب الواقع إنّما يكون بعد ملاحظة جميع جهات الفعل ، وبحسب الواقع بأن يكون الفعل بعد ملاحظة جميع جهاته على الوجه المفروض ممنوعا من تركه أو فعله ، سواء كان الباعث على الحكم المذكور جهة واحدة منها أو جهات متعددة إلّا أنّه لابدّ من عدم مزاحمة غير تلك الجهة أو الجهات لحصول المنع المفروض وإلّا لم يتحقّق المنع واقعا.

غاية الأمر أن يكون ثبوت المنع من الترك لنفس الطبيعة من حيث هي أو حيثية اخرى على النحو القضيّة الطبيعيّة من غير أن تسري الحكم إلى الفرد وهو خارج عن محلّ الكلام كما عرفت. وأمّا مع عدم تحقّق المنع من الترك والفعل فيمكن رجحان كلّ من الجانبين من جهته بحسب الواقع ، ولا يلزم في الحكم بذلك

١١٢

الرجحان من ملاحظة جميع جهات الفعل ، بل لو كان راجحا حينئذ بملاحظة بعض الجهات صحّ الحكم برجحانه وإن كان مرجوحا من جهة اخرى فلا مانع من تحقّق الرجحان من الجانبين بملاحظة الجهتين التقييديّتين لثبوت الرجحان في الواقع حينئذ لكلّ من الجهتين ، ويكون المصداق الواحد متّصفا بكلّ منهما بحسب الواقع بملاحظة انطباقه بكلّ من الجهتين، فيكون كلّ من الفعل والترك مطلوبا كذلك من جهته.

غاية الأمر أن يكون الفعل والترك المفروضان نظير الفعلين إذا لم يمكن التفريق بينهما وكان أحدهما مندوبا والآخر مكروها فإنّه إن أتى بالمندوب فقد أتى بالمكروه وإن ترك المكروه فقد ترك المندوب أيضا ، فحينئذ إن تعادلا في الرجحان والمرجوحيّة تخيّر المكلّف بين الوجهين من غير ترجيح لأحد الجانبين على الآخر ، وإلّا كان الأولى ترجيح الأرجح لكن ليس اختيار المرجوح في المقام إذا كان هو الفعل مكروها مطلقا ، إذ المفروض رجحانه على الترك بملاحظة عنوانه المفروض وإنّما يكون مرجوحا بالنسبة إلى العنوان الآخر فيكون قد اختار الإتيان بالمندوب من جهة والمكروه من اخرى وإن كانت جهة الكراهة أقوى ، وكذا الحال لو تعادلا فيكون المكلّف في كلّ من صورتي الفعل والترك آتيا براجح ومرجوح.

فإن قلت : إنّه مع تساوي الفعل والترك في الرجحان والمرجوحيّة عند تعادل الجهتين يكون الفعل متّصفا بالإباحة من غير أن يكون هناك مندوب ومكروه ، ومع ترجيح إحدى الجهتين يكون الحكم تابعا للراجح فليس هناك اجتماع الحكمين.

قلت : تساوي الفعل والترك على الوجه المفروض لا يقضي باندراجه في المباح ، فالظاهر من المباح ما لا يكون مصلحة في فعله وتركه ، ولو فرض وجود المصلحة في فعله على وجه يساوي مصلحة الترك فربما أمكن إدراجه في المباح أيضا ، لتساوي الفعل والترك في المصلحة ـ على حسب ما فرض ـ أمّا لو تحقّق

١١٣

المصلحة الغير المانعة من النقيض في عنوان والمفسدة كذلك في عنوان آخر وتساويا واتّفق اجتماعهما في مصداق واحد فإدراج ذلك في المباح غير ظاهر ، بل قضيّة ظاهر الخطابين هو الأخذ بمقتضى التكليفين وثبوت الحكم على حسبهما ، فيكون ذلك المصداق مندوبا من جهة ومكروها من اخرى ولا معارضة بين الأمرين حتّى يلحظ التعادل والترجيح بينهما ، بل يثبت له الحكمان بملاحظة العنوانين ، فمع تعادل الوجهين كما في هذه الصورة يتخيّر المكلّف في الإقدام على أيّ منهما ، ومع رجحان أحد الوجهين كما في الصورة الاخرى ينبغي ترجيح الراجح وذلك تخيير في الأخذ بمقتضى التكليفين والحكمين من دون ترجيح لأحد الجانبين أو معه وهو غير ثبوت حكم واحد في المقام من الإباحة أو الاستحباب أو الكراهة كما لا يخفى.

إلى هنا جفّ قلمه الشريف ويا ليت امتدّ قلمه ومن هو مثله من أوّل الدهر إلى آخره.

* * *

١١٤

معالم الدين :

أصل

اختلفوا في دلالة النهي على فساد المنهيّ عنه ، على أقوال. ثالثها : يدلّ في العبادات، لا في المعاملات. وهو مختار جماعة ، منهم المحقّق والعلّامة.

واختلف القائلون بالدلالة ، فقال جمع منهم المرتضى : إنّ ذلك بالشرع ، لا باللّغة. وقال آخرون : بدلالة اللغة عليه أيضا ، والأقوى عندي : أنّه يدلّ في العبادات بحسب اللغة والشرع دون غيرها مطلقا. فهنا دعويان.

لنا على اوليهما : أنّ النهي يقتضي كون ما تعلّق به مفسدة ، غير مراد للمكلّف. والأمر يقتضي كونه مصلحة مرادا. وهما متضادّان ؛ فالآتي بالمنهيّ عنه لا يكون آتيا بالمأمور به. ولازم ذلك عدم حصول الامتثال والخروج عن العهدة. ولا نعني بالفساد إلّا هذا.

ولنا على الثانية : أنّه لو دلّ ، لكانت احدى الثلاث ، وكلّها منتفية. أمّا الأولى والثانية فظاهر. وأمّا الالتزام ، فلأنّها مشروطة باللزوم العقليّ ، أو العرفيّ ، كما هو معلوم ، وكلاهما مفقودان. يدلّ على ذلك : أنّه يجوز عند العقل وفي العرف أن يصرّح بالنهي عنها ، وأنّها لا تفسد

١١٥

بالمخالفة ، من دون حصول تناف بين الكلامين. وذلك دليل على عدم اللزوم بيّن.

حجّة القائلين بالدلالة مطلقا بحسب الشرع لا اللغة : أنّ علماء الأمصار في جميع الأعصار ، لم يزالوا يستدلّون على الفساد بالنهي في أبوابه ، كالأنكحة والبيوع وغيرها. وأيضا لو لم يفسد ، لزم من نفيه حكمة يدلّ عليها النهي ، ومن ثبوته حكمة تدلّ عليها الصحّة واللازم باطل ؛ لأنّ الحكمتين ، إن كانتا متساويتين تعارضتا وتساقطتا ، وكان الفعل وعدمه متساويين ، فيمتنع النهي عنه ؛ لخلوّه عن الحكمة. وإن كانت حكمة النهي مرجوحة فهو أولى بالامتناع ؛ لأنّه مفوّت للزائد من مصلحة الصحّة ، وهو مصلحة خالصة ؛ إذ لا معارض لها من جانب الفساد ، كما هو المفروض. وإن كانت راجحة فالصحّة ممتنعة ؛ لخلوّها عن المصلحة ، بل لفوات قدر الرجحان من مصلحة النهي ، وهو مصلحة خالصة لا يعارضها شيء من مصلحة الصحّة.

وأمّا انتفاء الدلالة لغة ، فلأنّ فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه. وليس في لفظ «النهي» ما يدلّ عليه لغة قطعا.

والجواب عن الأوّل : أنّه لا حجّة في قول العلماء بمجرّده ، ما لم يبلغ حدّ الإجماع. ومعلوم انتفاؤه في محلّ النزاع ؛ إذ الخلاف والتشاجر فيه ظاهر جليّ.

وعن الثاني : بالمنع من دلالة الصحّة ، بمعنى ترتّب الأثر على وجود الحكمة في الثبوت ؛ إذ من الجائز عقلا انتفاء الحكمة في إيقاع عقد البيع وقت النداء مثلا مع ترتّب أثره ـ أعني انتقال الملك ـ عليه. نعم ، هذا في العبادات معقول ؛ فإنّ الصحّة فيها باعتبار كونها عبارة عن حصول الامتثال ، تدلّ على وجود الحكمة المطلوبة ؛ وإلّا لم يحصل.

١١٦

وبما قدّمناه في الاحتجاج على دلالة النهي على الفساد في العبادات يظهر جواب الاستدلال على انتفاء الدلالة لغة ؛ فانّه على عمومه ممنوع. نعم هو في غير العبادات متوجّه.

واحتجّ مثبتوها كذلك لغة أيضا ، بوجهين :

أحدهما : ما استدلّ به على دلالته شرعا ، من أنّه لم يزل العلماء يستدلّون بالنهي على الفساد.

وأجاب عنه اولئك : بأنّه إنّما يقتضي دلالته على الفساد ، وأمّا أنّ تلك الدلالة بحسب اللّغة ، فلا. بل الظاهر أنّ استدلالهم به على الفساد إنّما هو لفهمهم دلالته عليه شرعا ؛ لما ذكر من الدليل على عدم دلالته لغة.

والحقّ ما قدّمناه : من عدم الحجّيّة في ذلك. وهم وإن أصابوا في القول بدلالته في العبادات لغة ، لكنّهم مخطئون في هذا الدليل. والتحقيق ما استدللنا به سابقا.

الوجه الثاني لهم : أنّ الأمر يقتضي الصحّة ، لما هو الحقّ من دلالته على الأجزاء بكلا تفسيريه. والنهي نقيضه ، والنقيضان مقتضاهما نقيضان. فيكون النهي مقتضيا لنقيض الصحّة ، وهو الفساد.

وأجاب الأوّلون : بأنّ الأمر يقتضي الصحّة شرعا ، لا لغة ، ونقول بمثله في النهي. وأنتم تدّعون دلالته لغة. ومثله ممنوع في الأمر.

والحقّ أن يقال : لا نسلّم وجوب اختلاف أحكام المتقابلات ، لجواز اشتراكها في لازم واحد ، فضلا عن تناقض أحكامها. سلّمنا ، لكن نقيض قولنا : «يقتضي الصحّة» : أنّه «لا يقتضي الصحّة» ، ولا يلزم منه أن «يقتضي الفساد». فمن أين يلزم في النهي أن يقتضي الفساد؟ نعم يلزم أن لا يقتضي الصحّة. ونحن نقول به.

١١٧

حجّة النافين للدلالة مطلقا ، لغة وشرعا : أنّه لو دلّ لكان مناقضا للتصريح بصحّة المنهي عنه. واللازم منتف ، لأنّه يصحّ أن يقول : «نهيتك عن البيع الفلانيّ بعينه مثلا. ولو فعلت لعاقبتك. لكنّه يحصل به الملك».

واجيب : بمنع الملازمة ، فانّ قيام الدليل الظاهر على معنى لا يمنع التصريح بخلافه ، وأنّ الظاهر غير مراد. ويكون التصريح قرينة صارفة عمّا يجب الحمل عليه عند التجرّد عنها.

وفيه نظر ، فانّ التصريح بالنقيض يدفع ذلك الظاهر وينافيه قطعا. وليس بين قوله في المثال : «ولو فعلت لعاقبتك الخ» ، وبين قوله : «نهيتك عنه» مناقضة ولا منافاة. يشهد بذلك الذوق السليم.

فالحقّ : أنّ الكلام متّجه في غير العبادات وهو الذي مثّل به. وأمّا فيها ، فالحكم بانتفاء اللازم غلط بيّن ؛ إذ المناقضة بين قوله : «لا تصلّ في المكان المغصوب» و «لو فعلت لكانت صحيحة مقبولة» في غاية الظهور ، لا ينكرها إلّا مكابر.

١١٨

قوله : (اختلفوا في دلالة النهي.)

ينبغي قبل الشروع في المرام توضيح المقام برسم امور :

أحدها : أنّ الظاهر أنّ دلالة النهي على الفساد في العبادات أو مطلقا على القول بها ليس من جهة وضعه لذلك ، بل لاستلزام مدلوله ذلك أو لفهمه من المقام ـ حسب ما يأتي القول فيه إن شاء الله ـ كيف! وليس مدلول النهي إلّا مطلق الطلب أو خصوص التحريم وذلك معنى غير الفساد ، ولو قيل بكون الفساد جزء من معناه لزم التجوّز في كثير من النواهي الشرعيّة ممّا لا يتصوّر فيه الفساد ـ كالنهي عن الزنا وأكل الميتة وشرب الخمر ونحوها ـ بل معظم النواهي الجارية في العرف كذلك.

نعم ربما يتوهّم من كلام القائل بدلالة النهي على الفساد شرعا ـ حسب ما ذكر في أقوال المسألة وذهب إليه السيّد من علمائنا ـ أنّه موضوع للفساد في الشريعة.

وحينئذ إمّا أن يقال : بنقله في الشريعة من الطلب أو التحريم إلى الفساد إمّا مطلقا ، أو فيما إذا تعلّق بالامور القابلة للفساد. وهو واضح الفساد لا مجال لأن يتوهّمه أحد في المقام سيّما الأخير ، لمخالفته لما هو المعهود في الأوضاع ، والظاهر أنّه ممّا لا قائل به.

أو يقال : بضمّ معنى الفساد في الشريعة إلى الطلب أو التحريم ، فيكون منقولا من معناه الأوّلي ـ الّذي هو مجرّد طلب الترك أو التحريم ـ إلى الطلب أو التحريم مع الفساد ، فيكون مدلوله الأوّلي جزء من معناه الثانوي. وهو أيضا فاسد ، إذ لو ثبت النقل على الوجه الأوّل لزم التجوّز في كثير من النواهي الشرعيّة ـ كالنهي عن المحرّمات الغير القابلة للفساد ـ وهو ظاهر الفساد. وإن قيل به على الوجه الثاني. ففيه : ما عرفت من عدم معهوديّة مثله في الأوضاع اللفظيّة ، فلو ثبت الوضع له ثبت مطلقا ولزمه المفسدة المذكورة. والأظهر أن يقال: إنّ مقصودهم من دلالته شرعا على الفساد انفهام ذلك من ملاحظة المقام في الاستعمالات الشرعيّة ـ حسب ما نقرّره إن شاء الله ـ والحقّ فيه ما سنفصّله إن شاء الله وإن كان كلام القائل المذكور مطلقا.

١١٩

أو يقال بكون الفساد مستفادا من غلبة استعمال الشارع النواهي الشرعيّة في مقام إرادة الفساد فيظنّ من ملاحظة تلك الغلبة كون النهي الوارد من الشارع واردا في مقام إرادة الفساد فيما إذا كان قابلا له من دون أن يكون الفساد ممّا استعمل فيه اللفظ ، بل لمّا جرى طريقته على النهي عن العبادات أو العقود والإيقاعات ونحوها من الامور القابلة للفساد ـ إذا كانت فاسدة ـ فهم منه الفساد بملاحظة تلك الغلبة ، وهو كاف في استفادته من اللفظ فيكون لازما له من جهة الغلبة.

ثانيها : أنّ ما يتعلّق به النواهي قد تكون قابلة للصحّة والفساد ـ كالعبادات والعقود والإيقاعات وغيرها من الأفعال الموضوعة لترتّب آثار معيّنة كغسل الثياب ونحوها والتذكية ـ وقد لا تكون قابلة لذلك ـ كالنهي عن الزنا والسرقة ونحوهما ممّا أشرنا إليه ـ والثاني ممّا لا كلام فيه ولا كلام أيضا في عدم خروجه عن حقيقة النهي ، ومحلّ الخلاف هو الأوّل سواء قام هناك دليل عامّ على الصحّة أولا.

ومن المقرّر أنّ الأصل الأصيل في الجميع هو الفساد ، لوضوح توقّف العبادة على تعلّق الأمر بها وهو خلاف الأصل ، كما أنّ ترتّب الآثار على المعاملات على خلافه ، لأصالة بقاء الشيء على ما هو عليه ، وحينئذ فالحكم بصحّتها يتبع الدليل الدالّ عليها من عموم أو خصوص ، وحينئذ فإن قام دليل على صحّة العبادة أو المعاملة وتعلّق النهي به كان ذلك دليلا على فسادها وخصّ به الدليل الدالّ على الصحّة بناءا على القول بإفادته الفساد. وإن لم يقم دليل على الصحّة كان عدم الدليل كافيا في الحكم بالفساد من جهة الأصل ، والنهي أيضا دليل لفظيّ دالّ على فساده ، والفرق بين الدليلين ظاهر ولا أقلّ من كونه مؤكّدا. فتخصيص النزاع بالصورة الاولى كما نصّ عليه بعض الأفاضل ممّا لا وجه له.

ثالثها : أنّ المراد بالعبادة ما يتوقّف صحته على نيّة القربة أي : يكون المطلوب إيقاعه على جهة الامتثال والطاعة لا أن يكون المقصود منه حصول نفس الفعل ، فلابدّ فيها من أمر ومن كون المأمور به إيقاع الفعل على تلك الجهة ، فيقابله ما لا

١٢٠