مفاهيم القرآن - ج ٤

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٤

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٣
ISBN: 964-357-221-8
الصفحات: ٤٠٧

أَيَّامٍ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (١). (٢) ومع ذلك لم تؤمن به جمهرة قومه.

وهذا موسى الكليم إذ دعا فرعون وملأه إلى عبادة الله سبحانه ، فلم يؤمن به إلاّ قليل من السحرة ، وبقي الباقون على كفرهم وعنادهم حتى أدركهم الغرق وهم كافرون.

وقد أتى السيد المسيح إلى بني إسرائيل بالبيّنات والآيات ، فلم يؤمن به إلاّ تلاميذه.

فعند ذلك يظهر بطلان قول الكاتب بأنّ خرق العادة لا ينفك عن إيمان من رآه وسمعه.

٣. ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (٣).

الآية تفيد بأنّه كان للمشركين مع النبي موقفان ، موقف في بدء الدعوة ، وموقف بعدها وبعد الاقتراح ، فالآية تخبر النبي بأنّ موقفهم بعد الاقتراح حتى ولو رأوا الآيات هو موقفهم الأوّل ، وإليه يشير قوله : ( كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ).

وأمّا المراد من قوله : ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ) فهو بمنزلة التعليل لتساوي الموقفين ، فانّ الله تعالى قد قلب أفئدتهم وأبصارهم فلا يدركون الحقيقة ولا يرون الحق ، وقد فعل ذلك سبحانه لهم لا خصومة معهم ، بل هذا التقليب نتيجة عملهم وأثر أفعالهم ومواقفهم كما سيوافيك شرحه فيما بعد.

__________________

(١) هود : ٦٤ ـ ٦٥.

(٢) وقريب منه ما ورد في سورة الأعراف لاحظ الآيات : ٧٥ ـ ٧٨.

(٣) الأنعام : ١١٠.

١٤١

٤. ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ) (١). وهذه الآية تخبر عن عنادهم وشدة لجاجهم حتى ولو رأوا أكبر الآيات وأعظمها.

٥. ( إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) (٢). وهذه المشيئة مشيئة تكوينية لو تعلّقت بهداية الناس لم تنفك عن إيمانهم الاضطراري ولكنها لا تتعلّق أبداً ، وإن شئت مزيد توضيح فاقرأ ما يلي :

لقد مرّ في البحث عن الآية الرابعة أنّ مشيئته التشريعية تعلّقت بهداية وإيمان جميع الناس بلا استثناء ، وهذه الإرادة لا تستلزم جبراً ولا قسراً ، بل تترك الإنسان وما يختار. نعم لم تتعلق إرادته التكوينية بهداية الناس إلاّ من جعل نفسه في مسير رحمته ، وأناب إلى ربّه ، ولو تعلّقت إرادته التكوينية بهداية كل الناس هداية جبرية اضطرارية لم يكن لهذا الإيمان قيمة ولا وزن ، وإلى هذه الخصوصية أشار سبحانه في الآية الثانية من آيات مورد البحث بقوله : ( وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا ) أي لو شاءَ أن يتركوا الشرك قهراً وإجباراً لاضطرّهم إلى ذلك ، إلاّ أنّه لم يلجئهم إليه بما ينافي أمر التكليف ليستحقوا الثواب والمدح.

إلى هنا تبين مفاد الآيات وأنّ المقترحين لم يكونوا مستعدين للإذعان والإيمان حتى ولو رأوا أكبر الآيات ، وعند ذلك يكون الشرط المصحح لخرق العادة غير موجود.

ويزيد توضيحاً لذلك ما رواه المفسرون في شأن نزول الآيات حيث قالوا : إنّ قريشاً قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجعل لنا الصفا ذهبا ، وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل ؟! وأرنا الملائكة يشهدون لك أو ائتنا بالله

__________________

(١) الأنعام : ١١١.

(٢) الأنعام : ١١١.

١٤٢

والملائكة قبيلاً (١).

والرواية على فرض صحتها تصرّح بأنّهم لم يكونوا بصدد فهم الحقيقة وكشف الواقع ، لأنّ كثيراً من طلباتهم كانت من الأمور المستحيلة عقلاً ، كالإتيان بالله والملائكة قبيلاً ، مضافاً إلى أنّ جعل الصفا ذهباً لا يخرج عن صورتين :

الأولى : أن يجعله ذهباً ويبقيه كذلك لحظات ثم يعود بالجبل إلى حالته الأولى.

الثانية : أن يجعله ذهباً ويتركه في متناول أيدي الناس ليستفيدوا منه.

أمّا الأولى : فلا شك أنّهم ينسبون عمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السحر والشعوذة ، كما نسبوه إلى ذلك في غير موضع.

وأمّا الثانية : فهي تخالف سنن الخلقة والقوانين الحاكمة على الكون ، فإنّ الله تعالى خلق ذلك العنصر في مكامن الأرض وبواطنها ، وجعل طريق الحصول عليه هو السعي والاستخراج.

أضف إلى ذلك أنّ قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الطلب يوجب أن تتوجه إليه طلبات كثيرة مماثلة ، وهذا يستلزم أن يترك النبي مهمته الرسالية ويشتغل بإجابة مقترحات الناس الناشئة من أهوائهم ، ومشتهياتهم.

حصيلة البحث

وحصيلة البحث من أوّله إلى هنا حتى يتبين سبب عدم قيام النبي بالمعاجز المقترحة هو أنّ القوم حسب ما يرشد شأن النزول وما يفيده قوله سبحانه في الآية الأخيرة : ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ

__________________

(١) مجمع البيان : ٢ / ٣٤٩ ، وراجع الدر المنثور.

١٤٣

قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) (١) لم يكونوا يريدون كشف الحقيقة بل كانوا ـ لشدة عنادهم ـ يشكون في المشاهدات التي لا يشك فيها أحد ، فهم بلغوا في الشك والعناد بمنزلة يصفهم الله سبحانه بقوله : ( وَإِن يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ * فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ) (٢).

فإذا بلغ القوم إلى هذه الدرجة من العناد ، فأيّة معجزة يمكن أن تجلب إيمانهم ؟! ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ).

والخطاب للمؤمنين و ( مَا ) في ( وَمَا يُشْعِرُكُمْ ) للاستفهام ، أي وما يدريكم أنّ الآية التي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون ، يعني : أنا أعلم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون وأنتم لا تدرون بذلك ، ويقول في الآية التالية : ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (٣). فهذه الآية تفيد بأنّهم كما لم يؤمنوا قبل رؤية الآيات المقترحة ، فهكذا لن يؤمنوا أيضاً بعد رؤيتها.

فقد بلغ عنادهم ولجاجهم إلى مرتبة صار سبباً لقلب أفئدتهم وأبصارهم في إدراك الحقائق ، فهم بسبب اتباع الهوى والإعراض عن سليم العقل ، صارت عقولهم وأفئدتهم لا تدرك الحقيقة ، فهم كما وصفهم الله سبحانه في آيات كثيرة حيث يقول : ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ ) (٤).

__________________

(١) المائدة : ١١١.

(٢) الطور : ٤٤ ـ ٤٥.

(٣) الأنعام : ١٠٩.

(٤) النحل : ١٠٧ ـ ١٠٨.

١٤٤

ويصفهم أيضاً بقوله : ( فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) (١).

ويقول أيضاً : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ ) (٢).

نعم انّ قلب الأفئدة والأبصار والطبع عليها ليس أمراً اعتباطياً بل هو نتيجة ما ترتكبه الطغاة من الأعمال ، وقد صرح بذلك القرآن في غير واحدة من الآيات قال سبحانه : ( كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ). (٣) وقال سبحانه : ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ) (٤).

* الآية السادسة

قوله سبحانه : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ) (٥).

وهذه الآية تفيد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مجهزاً بآية معجزة غير القرآن ، ولذلك يقول : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ) بصورة التنكير ، ولو كان المراد هو الآية القرآنية لناسب تعريف الآية وتبديل ( جَاءَتْ ) ب‍ « أنزلت ».

وقد استعملت الآية في القرآن في نفس المعجزة قال سبحانه : ( وَيَقُولُونَ

__________________

(١) الأحقاف : ٢٦.

(٢) محمد : ٢٢ ـ ٢٣.

(٣) غافر : ٣٥.

(٤) المنافقون : ٣.

(٥) الأنعام : ١٢٣ ـ ١٢٤.

١٤٥

لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ) فإنّ المراد منها هو غير القرآن إذ لو كان المراد هو القرآن لما صح أن يقال : ( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ) نافياً نزول القرآن ، إذ لا شك أنّ القرآن كان ينزل عليه آية بعد آية طوال سنين.

ثم إنّ القائل هم أكابر القوم بقرينة قوله : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ) وكانوا يترقبون أن يوهبوا نفس ما وهب رسل الله من المقام والنبوة كما يفيده قوله سبحانه : ( حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) فأُجيبوا بقوله : ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) وهو لا يصطفي للنبوة إلاّ من علم أنّه يصلح لها وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم ولو لم يكن مطلوبهم ما ذكرناه لما صح هذا الجواب ، ولما ناسب هذا الرد ، وقد ذكر مطلوبهم هذا في بعض الآيات ، قال سبحانه ـ حاكياً عنهم ذلك الطلب ـ : ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَٰذَا القُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (١) وقد أُجيبوا هناك أيضاً بنفس ما أُجيبوا به هنا قال سبحانه : ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (٢).

ويؤيد ذلك ما ذكره المفسرون في شأن نزول الآية إذ قالوا : نزلت في الوليد بن المغيرة قال : والله لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك ، لأنّي أكبر منك سناً ، وأكثر مالاً. وقيل : نزلت في أبي جهل بن هشام ، قال : زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منّا نبي يوحى إليه ، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه (٣).

__________________

(١) الزخرف : ٣١.

(٢) الزخرف : ٣٢.

(٣) الكشاف : ١ / ٥٢٦ ، مجمع البيان : ٢ / ٣٦١.

١٤٦

الآية السابعة

قوله سبحانه : ( وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ) (١).

وهذه الآية تشعر بأنّ القوم طلبوا من النبي آية معجزة غير القرآن ، ولكن النبي أجابهم مكان الإتيان بها بقوله : ( فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ).

غير أنّ الآية على خلاف مقصود المستدل أدل ، فإنّ النبي لم يرد طلبتهم ، بل إنّما أمرهم بالصبر والانتظار ، وقد جاءت في الآية السادسة والأربعين من نفس السورة أنّه سبحانه وعد نبيّه بأنّه سوف يريه بعض ما يعدهم من المعجزات قال سبحانه : ( وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ ).

وعلى ذلك فلم يرد النبي طلبهم إنّما أمرهم بالصبر ، ووجه ذلك : أنّهم إنّما طلبوا معجزة أُخرى غير القرآن تحقيراً لشأنه واستخفافاً به لعدم عدّه آية إلهية ، ولأجل ذلك أمر نبيَّه بأن يقول لهم : ( فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ ) وإنّ الآيات المعجزة بيد الله سبحانه وليست بيدي ( فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ).

وهذه الآية تفيد أنّ النبي كان ينتظر آية معجزة فاصلة بين الحق والباطل غير القرآن قاضية بينه وبين أُمّته ، وأنّه سبحانه وعده بأنّه ربّما يريه بعض ما يعده كما مرت الآية.

قال في الكشاف : أرادوا آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات دقيقة

__________________

(١) يونس : ٢٠.

١٤٧

المسلك من بين المعجزات وجعلوا نزولها كلا نزول ، وكأنّه لم ينزل عليه آية قط ، حتى قالوا : ( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ) وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرد وانهماكهم في الغي (١).

فإذا كان الطلب سبباً لتحقير أكبر معجزة من معاجز النبي وازدراءً له لم يصح للنبي أن يقوم بطلبهم بالإعجاز ، لأنّ في تلك الإجابة في ظرف الطلب ضرباً من الموافقة على تحقيرهم للقرآن ، وقرينة المقال تدل على أنّ النبي كان آيساً من هدايتهم ، فلم يكن هناك أيُّ موجب في منطق العقل أن يقوم النبي بالإعجاز أو يمكّنه الله من القيام بمطلوبهم.

وقد جاء في القرآن تصريحات عن القوم بأنّهم كانوا يحقرون أمر القرآن قال سبحانه : ( وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (٢) وقال أيضاً : ( وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ العَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٣).

ومثل هذه العصابة التي تقابل القرآن الكريم بمثل هذا الموقف المتعنت الجاهل ، وتواجه تلك المعجزة الكبرى والآية الباهرة بمثل هذا التحقير والازدراء. لا تستحق جواباً أحسن من قوله سبحانه : ( فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ ).

__________________

(١) الكشاف : ١ / ٧٠.

(٢) يونس : ١٥.

(٣) يونس : ٣٧ ـ ٣٨.

١٤٨

الآية الثامنة

قوله سبحانه : ( وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَبِّي هَٰذَا بَصَائِرُ مِن رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (١).

المراد من الآية هو الآية القرآنية لا الآية المعجزة غير القرآن التي هي محور البحث ، والمقصود من الاجتباء هو الجمع ، وعلى ذلك فالآية خارجة عمّا نحن بصدده.

غير أنّ مفاد الآية هو الرد على كلامهم الجاري مجرى التهكّم والسخرية ، حيث إنّهم قالوا في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عندما كان الوحي يتأخر عليه لمصالح ـ : ( لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا ) أي لولا اجتبيت ما تسمّيه آية من هنا وهناك فأتيت بها ، فأجابهم القرآن بأن يقول النبي لهم : ( إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَبِّي هَٰذَا بَصَائِرُ مِن رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ).

ترى ماذا يفعل النبي بقوم إذا أتاهم بآية قرآنية قالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، وإذا أبطأ عليه الوحي لمصالح قالوا : ( لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا ) فكل ذلك يدل على أنّ موقف القوم لم يكن موقف الاهتداء وتحري الحقيقة.

الآية التاسعة

قوله سبحانه : ( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لا إِلَٰهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُسْلِمُونَ ) (٢).

__________________

(١) الأعراف : ٢٠٣.

(٢) هود : ١٢ ـ ١٤.

١٤٩

ربّما ينقدح في ذهن القارئ الكريم سؤالان حول الآية الأولى من هذه الآيات :

الأوّل : لماذا تنسب الآية إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احتمال ترك بعض ما يوحى إليه ، أو ليس هذا مخالفاً لعصمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

الثاني : لماذا لم يجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سؤال قومه من إنزال الكنز ، والمجيئ بالملك ، بل أجابهم بأنّه ليس إلاّ نذير ، والله على كل شيء وكيل ؟

أمّا الجواب عن السؤال الأوّل ـ وإن كان خارجاً عن موضوع البحث ـ فحاصله : إنّ الله تعالى يخاطب في قرآنه نبيه بكلام يناسب مقتضى الطبيعة البشرية ويلقي إليه خطابه مع قطع النظر عن الخصوصيات الموجودة في المخاطب والمخاطب ( بالفتح ).

ويدل على ذلك أنّ الله سبحانه مع أنّه عالم بكل شيء ( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ ) (١) يستعمل لفظة « لعلَّ » الموضوعة للترجي الذي لا ينفك عن وجود الشك والترديد في المتكلم وليس ذلك إلاّ لأنّ الخصوصيات الموجودة في المتكلم ، أعني : علمه الواسع المحيط بكل شيء ، غير ملحوظة في المقام.

ومثله مخاطبة النبي ، فالنبي بما أنّه رسول معصوم لا يترك شيئاً من رسالته لا يخاطبه سبحانه في هذه الآية بل يخاطبه بما أنّه بشر ألقي إليه كلام ثقيل ورسالة شاقة ، وحيث إنّ طبيعة مثل هذه الرسالة الثقيلة تلازم احتمال أن يترك حاملها بعض ما وضع على عاتقه ، يعود المتكلم لأجل تقوية عزمه يخاطبه بقوله : ( ولعلك تارك بعض ما يوحى إليك ) وليس الهدف الاخبار عن وقوع مثل هذا الخلل أو ذم مخاطبه وتوبيخه وإنّما يريد تقوية عزمه ، وشدَّ أزره.

__________________

(١) سبأ : ٣.

١٥٠

وإن شئت قلت : إنّ الرسالة الإلهية لما كانت ملازمة مع المتاعب والمشاق ، وكان في مثل هذا الموقف أرضية أن يترك المخاطب بعض ما أُمر به ، صح للمتكلم أن يخاطبه بتلك العبارة مستلهماً ذلك من طبيعة العمل وصعوبته ، وما يكتنفه من المتاعب.

وفي الحقيقة ليس الموجب لهذا الخطاب إلاّ ملاحظة طبيعة العمل ذاته ، لا المخاطب بما يتمتع به من الخصوصيات والمؤهلات.

وهذه القاعدة جارية في كل ما يخاطب به الله نبيه بما لا يناسبه وعصمته وعلو همته ، وهذا واضح لمن عرف القرآن وامتزج به روحه وعقله ، وإليك نموذجاً من ذلك.

أنا نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيه بلحن يلازم احتمال الشك والترديد في ذهن النبي بالنسبة إلى رسالته ويقول : ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (١).

نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيه بجمل تشعر بوجود الشك والريب في نفس النبي بالنسبة إلى رسالته ، ولكن هذا الاحتمال سرعان ما يزول إذا علمنا أنّ الخطاب من هذا النوع يكون مع قطع النظر عن الخصوصيات الموجودة في المخاطب ( بالفتح ) من العلم القاطع بنبوته ورسالته ، والعصمة عن أيّ شك أو تكذيب.

أضف إلى ذلك أنّ الخطابات القرآنية تجري مجرى « إيّاك أعني واسمعي يا جارة » الذي يجري عليه فصحاء العرب وبلغاؤهم ، بل هو أصل رصين في المسائل التربوية حيث إنّ المربي الحكيم إنّما يتحاشى توجيه النقد إلى الغرباء مباشرة بل

__________________

(١) يونس : ٩٤ ـ ٩٥.

١٥١

يوجه النقد إلى نفسه وولده وأقربائه حتى ينبه بذلك أذهان الغرباء بأنّه يجري على هذا النمط مع غيرهم أيضاً ، فإذا هو تعامل مع نفسه وولده وأقربائه بما جاء في كلامه فغيرهم أولى بذلك.

ويؤيد هذا الأمر ما في الآية الماضية أنّه سبحانه وجّه خطابه إلى غير النبي بمثل المضمون الوارد في الآية المتقدمة ، قال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (١).

فالهدف من خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسؤال علماء الكتاب إنّما هو ترغيب غيره في سؤال علمائهم ، مشعراً بذلك بأنّ إحدى الطرق للتعرّف على صحة نبوة المدّعي هو تصريح النبي السابق على نبوّة النبي اللاحق باسمه ووصفه وعلائمه وسائر خصوصياته ، وقد جاءت خصوصيات النبي بما لا يدع للمراجع للعهدين أي شك وريب ، وكان علماء أهل الكتاب يعرفون تلك الخصوصيات ومواضعها فيهما ويعرفون النبي الخاتم كما يعرفون أبناءهم قال سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٢).

ونظير قوله سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (٣).

فليست في هذه الخطابات أيّة دلالة على شك النبي وتردّده في رسالته ، وليست في أُختها أيّة دلالة على ذم النبي وتوبيخه ، وإنّما يعرف ذلك من عرف كيفية خطابات الله سبحانه في كلامه.

__________________

(١) النحل : ٤٣.

(٢) البقرة : ١٤٦.

(٣) الأنعام : ٢٠.

١٥٢

هذا كله حول السؤال الأوّل وإليك الجواب عن السؤال الثاني.

إنّ الإجابة عن اقتراحهم بقوله : ( إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) لأجل أُمور نشير إليها :

أوّلاً : أنّ الظاهر من نفس الآيات أنَّ المقترحين لم يكونوا بصدد كشف الحقيقة وتحرّي الواقع ، بل ما زالوا يعاندون النبي ويعادون دعوته ، إذ لو لم يكونوا بهذا الصدد لما عدلوا عن المعجزة الكبرى إلى طلب الكنز ، ومجيئ الملك معه ، وإلى هذا الجواب يشير سبحانه بقوله : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لا إِلَٰهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُسْلِمُونَ ) (١).

فأيّ معجزة أكبر من القرآن الكريم الذي كلّت عن فهمه الأذهان ، وعجز عن مباراته البلغاء.

ثانياً : أنّ القيام بمقترح القوم ( أعني : نزول الكنز ) يتصور على نوعين :

فأمّا أن يكون مطلوبهم نزول الكنز وبقاءه لحظة أو لحظات ، وهذا لا يكفيهم ولا يسكتهم بل سرعان ما يتهم القوم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمبقولهم : ( إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) (٢) كما اتّهموه في غير هذا المورد ، وسيوافيك بيانه في المستقبل.

وإن كان مطلوبهم بقاء الكنز معه أبداً طيلة عمره ، وانتفاعه وانتفاع قومه من هذا الكنز وصيرورة النبي ذا ثروة طائلة فهذا نوع اعتراف بمنطقهم حيث قالوا : ( لَوْلا نُزِّلَ هَٰذَا القُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (٣).

__________________

(١) هود : ١٣ ـ ١٤.

(٢) الحجر : ١٥.

(٣) الزخرف : ٣١.

١٥٣

كما أنّ مجيئ الملك مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتصور على صورتين :

إمّا بصورة الإنسان.

وإمّا بصورته الواقعية.

والصورة الأولى على فرض تحقّقها ـ لا تؤدي إلى إيمانهم وإذعانهم ـ بل سيتصورون الملك إنساناً عادياً مع النبي.

والصورة الثانية غير ممكنة لأنّ رؤية الملك تتوقف على شرائط غير موجودة فيهم. ولا يمكن للإنسان العادي رؤيته بشكله الواقعي.

أضف إليه أنّ نزول الملك مع النبي مع تكذيب القوم له يوجب نزول العذاب ، وقد جرت عليه سنة الله سبحانه في الأمم الماضية ، وسيوافيك التصريح به في الأبحاث الآتية.

ثالثاً : أنّ قوله : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ) غير ناف للإتيان بالإعجاز ، أو عدم مقدرته عليه ، وإنّما يشير إلى أنّ إعجاز النبي يتوقف على إذن منه سبحانه ، فلولا إذنه لما جاز للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقوم به. قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ ) (١).

ولذلك ختم كلامه في الآية المبحوث عنها بقوله : ( وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ).

الآية العاشرة ، والحادية عشرة

قال سبحانه : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (٢).

__________________

(١) الرعد : ٣٨.

(٢) الرعد : ٧.

١٥٤

وقال سبحانه : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ) (١).

وطريق الاستدلال بهاتين الآيتين على أنّ النبي لم يكن مزوّداً بمعجزة غير القرآن هو ما تقدم في الآيات السابقة ، غير أنّ الآيتين تهدفان إلى حقيقة ناصعة قد أوضحناها عند البحث عن مسوغات الإتيان بالمعجزة وهي :

إنّ المقام لم يكن مقام الإتيان بالإعجاز حتى يقوم به النبي إذ للقيام به شرائط وهي غير موجودة.

أمّا أوّلاً : فلأنّ القوم قد بلغوا في العناد واللجاج مقاماً يصورهم الله سبحانه بقوله : ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَىٰ بَل لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) (٢).

فإذا بلغ عناد القوم إلى درجة لا يوجب قلع الجبال من أساسها إيماناً ولا يوجب إحياء الموتى وتكليمهم أو تقطيع الأرض قطعاً ، إذعاناً لهم ، فكيف يفيدهم غير هذه الأمور ؟

وثانياً : أنّ الآيتين تهدفان إلى ما تكرّر منّا في الأبحاث الماضية من أنّ أمر الإعجاز بيد الله سبحانه ، ولا يقدر النبي على شيء إلاّ بإذنه سبحانه ، كما قال تعالى في نفس السورة : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ ) فعلى ذلك فقوله : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) يرشد إلى أنّ الوظيفة الأساسية للنبي هو الإنذار ، وأمّا الإتيان بالمعجزة فليس من شأنه القيام به في كل يوم وساعة وعند كل طلب واقتراح.

ونفي الإعجاز بهذا المعنى لا يستلزم نفي صدور المعجزة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتاتاً عند اجتماع الشرائط.

__________________

(١) الرعد : ٢٧.

(٢) الرعد : ٣١.

١٥٥

الآية الثانية عشرة

قال سبحانه : ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إِلا بِالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنظَرِينَ ) (١).

وطريق الاستدلال مثل ما مر في الآيات السابقة ، غير أنّ هذه الآيات لا تهدف إلى ما رامه المستدل.

أمّا أوّلاً : فلأنّ عدم قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإعجاز والإتيان بمقترحات القوم لأجل أنّ القوم لم يكونوا بصدد كشف الحقيقة ، وتحرّي الواقع إذ يقول فيهم سبحانه في نفس تلك السورة : ( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) (٢) فإذا بلغ عناد القوم إلى هذه الدرجة حيث زعموا أنّ عروجه إلى السماء ليس إلاّ سَكَراً أو سحراً ، فما ظنّك بغيره ! فلو قام النبي بأيّ مقترح للقوم لقالوا فيه ما قالوه بل أعظم منها.

وثانياً : انّ القوم اقترحوا على النبي أن يأتيهم بالملائكة والإتيان بهم كما مر يتحقّق على صورتين :

الأولى : الإتيان بهم بصورة الإنسان وهو لا يؤدي إلى إيمانهم لأنّهم يتصورونه بشراً عادياً.

الثانية : الإتيان بهم في صورهم الواقعية وهم غير مؤهلين لرؤيتهم.

أضف إلى ذلك أنّه يستفاد من الآيات أنّه جرت سيرة الله سبحانه في الأمم الماضية على أنّ نزول الملائكة وتكذيبهم يوجب نزول العذاب ، ولأجل ذلك قال

__________________

(١) الحجر : ٦ ـ ٨.

(٢) الحجر : ١٤ ـ ١٥.

١٥٦

سبحانه في نفس الآيات : (مَا نُنَزِّلُ المَلائِكَةَ إِلا بِالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنظَرِينَ ) (١). ويقول سبحانه : ( يَوْمَ يَرَوْنَ المَلائِكَةَ لا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) (٢) وهذه الآية ، وإن كانت واردة في شأن يوم القيامة إلاّ أنّها تشير إلى أنّ رؤية الملائكة لا يعد أمراً مباركاً للمجرمين بل يكون سبباً لعذابهم.

ثالثاً : انّ القوم طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتي إليهم مع الملائكة ، مع أنّه سبحانه قد بعث رسلاً قبله ولم يكونوا إلاّ بشراً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، ولم يكن معهم ملك ، وإلى ذلك يشير سبحانه بقوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ) (٣).

على أنّه يستفاد من بعض الآيات أنّ مطلوب القوم كان نزول الملائكة عليهم كما يحكيه عنهم بقوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ) (٤).

وعلى ذلك فقد كان مطلوب القوم نزول الملائكة عليهم والاتصال بالمبدأ الأعلى ولا يمكن للنبي القيام بمطلوبهم.

الآية الثالثة عشرة

قال سبحانه : ( وَمَا مَنَعَنَا أَن نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا

__________________

(١) الحجر : ٨.

(٢) الفرقان : ٢٢.

(٣) الفرقان : ٢٠.

(٤) الفرقان : ٢١.

١٥٧

ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً ) (١).

استدل بعض الكتاب بهذه الآية بنفس ما تقدم في نظائرها.

والمراد بالآيات هو المقترحات الستة الواردة في تلك السورة في الآيات ٩٠ إلى ٩٣ ، وسوف يوافيك البحث عن تلكم الآيات المقترحة في البحث الآتي. وأمّا توضيح هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها.

فنقول : يمكن تفسيرها بوجهين :

أحدهما : ملاحظة نفس الآية بما فيها من الكلمات.

الثاني : دراستها بملاحظة الآيات الأخر التي وردت في هذا المضمار.

أمّا الأوّل : فالتدبّر في كلمة ( إِلا أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ) يعطي أن الامتناع من نزول الآيات إنّما هو لأجل أنّ المقترحين كانوا يشابهون الأمم السابقة في الخلق والعناد ، فلهم ما لأوّليهم من الحكم حيث كانوا يقولون : ( مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ ) (٢) وكانوا يقولون : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُقْتَدُونَ ) (٣).

وعلى ذلك فلا فائدة في إرسال تلك الآيات لأنّهم لا يؤمنون بها ، فيكون إنزالها عبثاً لا فائدة فيها ، كما أنّ من قبلهم لم يؤمنوا عند إنزال الآيات (٤).

وقد عرفت في مفتتح البحث أنّ القيام بالإعجاز ليس أمراً اعتباطياً بل يتوقف على وجود شرائط في المقترح التي منها الاستعداد والتهيؤ للإيمان

__________________

(١) الإسراء : ٥٩.

(٢) المؤمنون : ٢٤.

(٣) الزخرف : ٢٣.

(٤) مجمع البيان : ٣ / ٤٢٣.

١٥٨

والتصديق ، وإذا كان القوم يشبه آخرهم أوّلهم في العناد واللجاج فلا جدوى في الإعجاز.

ويؤيد ذلك المعنى ما قاله سبحانه في ذيل الآية : ( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ) مشيراً بذلك إلى أنّ القوم إخوان من سبقهم من ثمود ، حيث رأوا آية مبصرة بيّنة فظلموا أنفسهم بالتكذيب بتلك البينة الواضحة.

وينبئ عن هذا المعنى ذيل الآية : ( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً ) أيْ لا نرسل الآيات التي نظهرها على الأنبياء إلاّ عظة للناس وزجراً وتخويفاً لهم من مخالفة الله إن لم يؤمنوا ، غير أنّ هذا الشرط مفقود في هذه الزمرة فلا فائدة في القيام بالإعجاز.

وعلى ذلك فالمقاطع الثلاثة في الآية تشهد على أنّ الامتناع من القيام هو اليأس من حصول الإيمان وتأثير الإعجاز في قلوبهم ، وإليك هذه المقاطع الدالة على ما ذكرنا :

١. ( أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ) : والتعبير عن الأمم الهالكة بالأوّلين يشير إلى كون الآخرين امتداداً لهم ولفكرتهم وطريقتهم ، وفي كل وادٍ أثر من ثعلبة.

٢. ( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ) مشيراً إلى أنّ القوم يشبهون قوم ثمود في تكذيب الآيات والظلم بها وبأنفسهم.

٣. ( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً ) مشيراً إلى أنّ الهدف من القيام بالآيات عظة الناس وزجرهم ودفعهم إلى الإذعان والإيمان.

وأمّا الثاني : أعني تفسير الآية بملاحظة بعض الآيات الواردة في هذا المضمار فإنّ القرآن يحكي بأنّ القوم ربّما كانوا يطلبون العذاب من النبي ، قال سبحانه : ( وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ

١٥٩

أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (١).

ولا ريب أنّ الهدف من نزول الآية هو دفع القوم إلى الإيمان لا أبادتهم وإهلاكهم ، فمثل هذه إلآية تضاد هدف الإعجاز وغايته ، فليس من البعيد أن يكون الامتناع من المجيئ ببعض الآيات هو لأجل أنّ مقترحهم كان إهلاكهم وإبادتهم ، ولعلّه إلى ذلك يشير قوله : ( وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً ) أي عظة للناس وزجراً لا إهلاكاً وإبادة.

على أنّه يمكن أن يكون مقترحهم بعض الآيات التي يوجب تكذيبها نزول العذاب ، فإنّ القرآن يحكي لنا عن وجود تلك السنّة في بعض المعاجز ( لا كلّها ) قال سبحانه : ( كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) (٢).

ولعله إلى هذا الجانب من هدف الآية يشير قوله : ( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ) حيث إنّ من المعلوم أنّ قوم ثمود عمَّهم العذاب لما قاموا بتكذيب الآية (٣).

هذا هو مفاد الآية بملاحظة نفسها ، وبملاحظة أخواتها ، فمن أين يستدل بها الكاتب على أنّ النبي الأكرم كان غير مزود بمعجزة غير القرآن ؟!

الآية الرابعة عشرة

قال سبحانه : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ

__________________

(١) الأنفال : ٣٢.

(٢) الزمر : ٢٥.

(٣) وقد روى صاحب البرهان في تفسيره عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أنّه قال : « وكنّا إذا أرسلنا إلى قريش آية فلم يؤمنوا أهلكناهم ، فلذلك أخّرنا عن قومك الآيات ». ( البرهان : ٢ / ٢٢٤ ).

١٦٠