مفاهيم القرآن - ج ٥

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6243-75-4
الصفحات: ٥٣٩

١
٢

٣
٤

كلمة قدسية

تفضّل بها سماحة العلاّمة الأُستاذ المحقّق آية الله الشيخ لطف الله الصافي

صاحب المؤلفات الإسلامية القيّمة ، والمواقف الجهادية المشكورة

دام ظله الوارف

بسم الله الرحمن الرحيم

العصر الحاضر والمفاهيم الدينية

يشهد عصرنا الحاضر المسمّى بعصر الذرة والفضاء ، صورة جديدة من رفض النصوص الشرعية ، يتمثل في موقف خاص من قضايا الدين ، وهو تفسير الحوادث الخارقة للعادة والحقائق الغيبية وما يتحقّق في مستقبل الزمان من الآيات والملاحم الثابتة كلّها في الدين ، والّتي أخبرت بها نصوص الكتاب والسنّة ، وتحقّقت أو تتحقّق ـ بإرادة الله تعالى وإذنه ـ بالتفسير والتعليل المادي الّذي ينكر تأثير عالم الغيب في عالم الشهادة.

وهو موقف نابع وناشئ من انبهار طائفة كبيرة من المثقفين ببريق النهضة المادية الحديثة ، ومن الإفتتان بالتقدم الصناعي الراهن ، الأمر الّذي آل إلى ظهور الاتجاهات العلمانية الّتي تعتقد بفصل الدين عن الدنيا ، والدنيا عن الدين حيناً ، وبإخضاع المفاهيم الدينية الغيبية لمقاييس العلوم المادية الحديثة حيناً آخر.

٥

وممّا يزيد الطين بلّة ، والداء تفاقماً ، أنَّ هذا الفريق يظهرون الإسلام ويتظاهرون بالنصيحة له وللمسلمين ، ويدّعون أنّه لابد من تفسير الدين بنحو يقبله المفكر الغربي ، ولا يستنكره الملحد الشرقي ، وبالتالي : لا بد من تأويل اصطلاحاته وقضاياه بنحو يوافق المذاهب المادية ، والقوانين الطبيعية ، بينما يسعى فريق آخر إلى التوفيق بين الدين ونظاماته في الإدارة والحكم وغيرهما ، وبين الأنظمة الديمقراطية ، كما يريد بعضهم التوفيق بين الدين ـ وهو دين إلهي ـ مع الأنظمة الماركسية الملحدة.

فالثقافة عند هؤلاء هو الترديد والتشكيك في الحقائق المقبولة في الدين ، والّتي دلّت عليها نصوص الكتاب والسنّة ، ممّا لا يمكن أن يعلل بالعلل ، وبالتالي إخضاع الدين لمعطيات الحضارة المادية الحديثة ، ومقاييسها ، فإذن نحن في عصر يزداد فيه التخوّف من تعريض المفاهيم الدينية لخطر التحريف والتأويل ، وإخضاع الدين للأهواء والأمزجة والأذواق الشخصية ، على أيدي الجهّال والانهزاميين.

فما أحوجنا ـ في هذا العصر ـ إلى تبيين مفاهيم الكتاب والسنّة ، وتثبيت ما أتى به الإسلام ، على حقيقته ، وإرجاع الناس إلى النصوص ودلالاتها ، ورد المتشابهات إلى المحكمات ، في ضوء الكتاب العزيز والسنّة المطهرة الشاملة لما ورد عن العترة الطاهرة.

ولقد نهض بهذه المهمة منذ أقدم العصور ـ ولله الحمد ـ رجال من روّاد مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وأصحابهم ممن دفعتهم غيرتهم الدينية إلى الدفاع عن حياض الشريعة المقدسة ، مع الاحتفاظ بنصوص الكتاب والسنّة ، فأبقوا على مفاهيم الإسلام غضّة طرية ، ناصعة ، ساطعة ، فشكر الله مساعيهم الجميلة

٦

وجزاهم عن الإسلام خير الجزاء.

وممّا يثلج الصدر أن تستمر هذه الجهود الخالصة المخلصة في سبيل الحفاظ على مفاهيم الدين ، حيث قام في عصرنا هذا جماعة من الأعلام بنفس هذا العمل العظيم ، ونخص بالذكر صديقنا العلاّمة الفقيه والبحّاثة المحقّق الأُستاذ الشيخ جعفر السبحاني في ما كتب في سلسلة « مفاهيم القرآن الكريم » هذه المجموعة الّتي صدرت منها إلى الآن أربعة أجزاء ، والّتي سدّت فراغاً واسعاً في هذا المجال حيث أوضحت ـ في غاية القوة والإحاطة والإتقان والتحقيق ـ كثيراً من المفاهيم القرآنية الإسلامية وسدّت الطريق في وجه المبتدعين والمحرّفين ، والمأوّلين والمشكّكين ، وأجابت باسلوب برهاني مقنع على أسئلة طالما شغلت أذهان الشباب ، وأصحاب المدارس الحديثة.

وقد جاء الجزء الرابع ردّاً على الاتجاه المذكور وهو تفسير الجوانب الغيبية بالتعليلات المادية.

فللّه درّ مؤلفه الفقيه المحقّق العلاّمة وحفظه الله ذخراً للحوزة والأُمّة ، ونفع المسلمين جميعاً بعلومه ومؤلّفاته. انّه سميع مجيب.

لطف الله الصافي

٢٣ ـ ربيع الثاني ـ ١٤٠٦ ه‍

٧

كتاب كريم

تفضّل به العلاّمة الحجّة الأُستاذ المحقّق آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

ـ دام ظله ـ ننشره تقديراً لجهوده العلمية الكبرى مشفوعاً

بالشكر والتكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) (١)

إنّ الواصف المطري مهما جدّ واجتهد ، ومهما بلغ شأواً عظيماً في القدرة على التحديد والتوصيف ، لا يتمكن من أن يصف كلامه سبحانه ويحدّده بما هو لائق به ، كيف ؟ وهو كلام من لا يتناهى كمالاً وجمالاً ، كما لا يتناهى علماً وقدرة.

فلو كانت هناك صلة بين الأثر والمؤثر وكان الأثر ظلاً له ، فكلامه سبحانه لا يتناهى في الروعة والجمال ، لكونه أثراً للكمال المطلق والجمال غير المتناهيين ، وعند ذلك لا يجد الباحث معرفاً محدداً لكلامه أحسن ممّا ورد في الذكر الحكيم في هذا المضمار ، قال سبحانه : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ).

وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) (٢).

__________________

(١) المائدة : ١٥.

(٢) النساء : ١٧٤.

٨

وقال تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (١) إلى غير ذلك من الآيات الّتي تعدُّ الذكر الحكيم نوراً منزّلاً من الله سبحانه إلى البشر كلّه في جميع العصور والقرون ، ولجميع الأجيال والمجتمعات ، فيجب علينا أن نقف على السر الّذي أصبح به القرآن نوراً وضياء.

أقول : إنَّ علماء الطبيعة كشفوا عن أسرار النور وخواصه ، فلاحظوا :

أوّلاً : أنّ سرعة النور لا تضاهيها سرعة أيّ شيء آخر.

ثانياً : أنّ حياة النبات والحيوان رهن للنور ، فلولاه لما استقرت الحياة وما اخضرّ لها عود.

ثالثاً : أنّ النور يكافح العوامل الهدّامة للحياة فيقتل بعض الجراثيم والميكروبات المضرة ، ويبقي الذرات النافعة للحياة ، إلى غير ذلك من الآثار المكشوفة الثابتة للنور في مجال علم الطبيعة.

مضافاً إلى أنّ النور يكشف الحجب في المجتمع فلا يرى إجرام المجرم في وضح النهار ، وإذا طرأت الظلمة خرج المجرمون من أوكارهم ابتغاءً للفساد ، ونشراً للرذيلة.

هذا هو حال النور الحسّي الّذي يمشي به الإنسان في حياته المادية ، وإذا كان هذا حال النور الحسّي فالنور المعنوي الّذي به حياة الإنسان الروحية ، أَولى أن يكون كذلك.

ومن حسن الحظ أن نجد النور المعنوي ( القرآن والسنّة ) حاملاً لهذه

__________________

(١) الشورى : ٥٢.

٩

الأوصاف والآثار على الوجه الأكمل والأتم.

فإذا كان النور الحسّي أسرع الأشياء المادية في السير والدوران ، فالنور الّذي يحمله القرآن الكريم مثله في السرعة والانتشار ، فقد انبثق نور القرآن من أُمّ القرى وانتشر بسرعة فائقة في أجواء العالم ، وبدّد الظلام عن أُمّ القرى وما حولها إلى أن وصل إلى منتهى الخف والحافر.

وإذا كانت الحياة المادية لا تستقر في هذا الكوكب إلاّ بضوء الشمس فالحياة المعنوية لا تستقر في هيكل الفرد والمجتمع ، إلاّ بالإيمان والعمل الصالح ، ولا يهتدي الإنسان إلى كل منهما إلاّ ببركة الوحي المجسّد في الذكر الحكيم.

وإذا كان ضوء الشمس ونور الكوكب يبدّد الحجب في البوادي والصحاري والمدن والبلدان فيغيب المجرم ، ويختفي المسيء ، فالنور المعنوي الّذي يحمله القرآن ومثله كل وحي سماوي ، يضيء المجتمع وينوّر القلوب ، فلا تجد فيه مجالاً لظهور الرذائل وانتشار المساوئ ، وإنّما تظهر رذائل الأخلاق في غياب الإيمان والقرآن عن المجتمع.

وإذا كان النور الحسّي يكافح العوامل الهدّامة للحياة ، فالنور المعنوي أيضاً يكافح الغي والفساد ، والهرج والمرج ، والجهل والفقر ، وغيرها من الأُمور الّتي تعد من العوامل الهدّامة لحياة الإنسان المعنوية.

ولأجل ذلك نرى أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمر بالتمسّك بالقرآن الكريم عند التباس الفتن على الإنسان كقطع الليل المظلم ويقول : « إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنّه شافع مشفّع وماحل مصدّق ... » (١).

__________________

(١) الكافي : ٢ / ٢٣٨.

١٠

ولأجل هذا الأمر وغيره عكف علماء الإسلام منذ فجر الدعوة الإسلامية على دراسة القرآن وقراءته وحفظه وتفسيره والعناية به بشتى الطرق والوجوه. وقد بلغ إقبال المسلمين والعناية بكتابهم مبلغاً لا يوجد له نظير في جميع أنحاء العالم والمجتمعات البشرية. كيف ؟ وقد أسّسوا للاستضاءَة من ذلك النور ، علوماً كثيرة خدموا بها القرآن الكريم وعالجوا بها مشاكله ومبهماته ومعضلاته ، شكر الله مساعي الجميع.

منهج التفسير الموضوعي :

إنّ السيرة الرائجة في تفسير القرآن الكريم هي تفسيره سورة بعد سورة ، فالمفسر الموفّق هو من يأخذ بتفسير سورة الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران وهكذا إلى أن ينتهي إلى آخر القرآن ، أو إلى ما تصل إليه جهوده ، وهذه سيرة رائجة في جميع القرون ، غير أنّ هناك منهجاً آخر لتفسير الذكر الحكيم لم يقع موضع العناية الكبيرة للسلف الصالح من المفسرين وهو « المنهج الموضوعي » لتفسير القرآن.

والمقصود منه جمع الآيات الواردة في كل موضوع والبحث عنها دفعة واحدة ، وهذا هو الطريق الأمثل الّذي ستحل به معضلات الآيات ، وترتفع مبهماتها ، فإنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ، وينطق بعضه ببعض ، ولا مناص للمجتمع القرآني من العناية بهذا المنهج أيضاً كما كان له العناية بالمنهج الأوّل ، فالمنهجان متواكبان في الإضاءة والتنوير ، ولكل مزيّته ومحاسنه.

ثم إنّ من الذين عانوا في سد هذا الفراغ وبذلوا جهوداً واسعة في سبيله العلاّمة الحجّة المحقّق الأخ الشيخ جعفر السبحاني أدام الله تأييده.

فقد سلك هذا الطريق وكشف حقائق قيّمة ، فشكر الله مساعيه ووفقّه

١١

لإدامة هذا المشروع.

فقد اختار من بين الموضوعات أوّلاً ما يتصل بالله سبحانه ، وصفاته وأفعاله ، والنبوات العامة والخاصّة ، فلأجل ذلك قام بطرح مباحث التوحيد في الجزء الأوّل في اثني عشر فصلاً على وجه بديع.

ولقد أعجبني من هذه الفصول الفصل المعقود لتفسير التوحيد في العبادة ، وما يتميّز به ما يشبه العبادة عن غيره ، فقد اعتمد في هذا المبحث على ضابطة قيّمة استنبطها من الذكر الحكيم.

ولما انتهى بحثه في هذا الجزء إلى قسم خاص من التوحيد وهو « التوحيد في الحاكمية » وانّ الحكم حق مختص بالله سبحانه ، لا يناله غيره إلاّ بإذنه ، جعل مدار البحث في الجزء الثاني « معالم الحكومة الإسلامية » باسلوب رائق وطريقة جديدة في نوعها ، إلى غير ذلك ممّا يراه القارئ في أجزاء هذا الكتاب القيّم من الموضوعات الهامّة.

أضف إلى ذلك كلّه أنّ الكتاب يشتمل على مزايا أُخرى قيّمة في ذاتها ، منها الصراحة في البحث ، وطرح المباحث بقلم واضح بعيد عن التعقيد ، والإيجاز المخل ، والإطناب الممل.

ومنها الحفاظ على المفاهيم الإسلامية من دون أيّ تحوير فيها وتغيير ، والتحرّز عن المناهج المزيجة الملفقة ، الّتي تأخذ من الإسلام شيئاً ، ومن المناهج غير الإسلامية شيئاً آخر ، فتمزجهما وتقدّم المجموع الملفّق باسم الإسلام ، من المناهج الّتي لها الضرر الكثير على الإسلام وأهله ، أعاذنا الله من شرور هذه الفكرة وخطورة هذه المناهج.

١٢

وقد مشى المؤلف فيما يمتّ إلى هذه المباحث في ضوء القرآن الكريم من دون أي خضوع للأفكار المادية ، أو إخضاع المفاهيم الإسلامية لتلك المناهج ، فشكر الله سعيه ، وضاعف أجره وجزاه الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

ناصر مكارم الشيرازي

قم ـ الحوزة العلمية

١٢ ـ شوال ـ ١٤٠٧ ه‍

١٣
١٤

بسم الله الرحمن الرحيم

المفاهيم القرآنية بين الجمود والتأويل

إنّ الذكر الحكيم يشتمل على معارف وأُصول كما يشتمل على أحكام وفروع ، والغاية المتوخّاة من المعارف والأُصول ، هي تحصيل العلم والمعرفة أوّلاً ، والإذعان والإيمان ثانياً ، كما أنّ الهدف من تشريع الأحكام والفروع هو الدعوة إلى العمل والتطبيق.

فلو كان شرف كل علم بشرف موضوعه ، فالعلم الأوّل ـ بما أنّه يبحث عن معرفة الله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله وما ينبغي له وما لا ينبغي له ـ يكون هو الأشرف والفقه الأكبر ، كما أنّ العلم الثاني ـ بما أنّه يبحث عن حكمه سبحانه بما يتعلّق بأفعال العباد ـ يكون هو الفقه الأصغر. ولكلٍّ أئمّةٌ وقادة مفكرّون ، وكثيراً ما يكون الإنسان إماماً في باب المعارف والعقائد ، وفي الوقت نفسه يكون غير رفيع المستوى في باب معرفة الأحكام ، وربّما يكون على العكس ، فالكل إذا تكلموا فيما أحسنوا ، أرشدوا إلى الطريق المهيع والحق المبين ، فإذا نطقوا في غيره أتوا بما تندهش منه العقول ويقضي منه العجب (١).

فاللازم على روّاد العلم حسب ما أمر به الرسول من تنزيل كل أمرئ

__________________

(١) قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لو سكت من لا يعلم لرفع الاختلاف » لاحظ درر الحكم للآمدي.

١٥

منزلته (١) والأخذ عنهم فيما برعوا وفاقوا فيه ، وترك الاقتفاء والتبعية فيما لا حذق لهم فيه ولا براعة ، وهذا هو دأب الدين ، وهي السنّة القرآنية الّتي أمر الله سبحانه بها حيث قال : ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) (٢).

وكذلك علم الحديث والسنّة ، فربّما يكون الرجل قدوة في الحفظ ، عارفاً بمتون الأحاديث وأسانيدها ، وليس له مقدرة علمية لتحليل مفادها والغور في أعماقها ، فيكون ذلك من موارد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها ، فربّ حامل فقه غير فقيه ، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه » (٣).

فليس كل من روى كلاماً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يقبل رأيه الّذي رأى ، ولا كل من حفظ اللفظ ، كان أهلاً لبيان كنه المعنى ، وما يستنبط منه ، بل لكل من الحفظ والنقد والتحليل رجال متخصّصون ، ولكل فن أهل وأرباب ، فمن خاض في علم بلا كفاءة كان خطاؤه أكثر من صوابه وكان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه.

هذا هو الأصل الّذي دعا إليه القرآن ، واستقرّت عليه سيرة العقلاء ، ولكن الغفلة عن هذا الأصل في بدايات القرون الهجرية الأُولى ، أحدثت تخبّطاً في الأوساط الإسلامية فنجمت بين المسلمين بدع يهودية وآراء مسيحية ، من القول بالتشبيه ، وإثبات المحل لله تعالى ، والجهة له سبحانه ، فوصف الباري ـ المنزّه عن كل نقص ـ بالجلوس ، والنزول إلى الأرض ، وأثبتت له الأجزاء والأعضاء كالوجه والعين واليد والرجل ، ونسب إليه الاستعلاء الحسي على العرش ، وكان السبب لهذا

__________________

(١) روى مسلم في صحيحه : ( ١ / ٥ ) عن عائشة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرنا أن ننزل الناس منازلهم.

(٢) البقرة : ١٨٩.

(٣) سنن الترمذي : ٥ / الباب ٧ ، كتاب العلم ، الحديث ٢٦٥٧ ; مسند أحمد : ٢ / ٢٢٥.

١٦

التخبّط أمران :

أوّلاً : الاغترار بما وضعه أعداء الإسلام من الأحبار والرهبان الذين تظاهروا بالإيمان وأضمروا الكفر تنفيذاً لحقدهم وعدائهم ، ويقف القارئ على نماذج كثيرة من هذه الإسرائيليات فيما روي عن كعب الأحبار ، ووهب من منبه ، وعبد الملك بن جريج ، ومن شاكلهم من المتأسلمين لا المسلمين الحقيقيّين.

ثانياً : الجمود على ظواهر بعض الآيات والأحاديث من دون تعمّق في أغوارها ، ولا تفحّص في مفاهيمها وأعماقها ، حتّى عاد التفكّر في مفاد الآية والحديث تأويلاً بغيضاً ، فعند ذاك هاجت بحار الفتن وتلاطمت أمواجها بالبدع المهلكة ، فسمّي التفكّر في القرآن والتدبّر في كلمات الرسول « كفراً » و « زندقة » وعدّ إقصاء العقل وعزله عن القضاء في المعارف والأُصول « قداسة » و « نزاهة » !!!

ففي هذه الظروف والأحوال قامت قيامة تأسيس المناهج ، ونجمت فرق كثيرة ، كلٌّ يدّعي الانتساب إلى الوحي والسنّة.

وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى

وليلى لا تقرّ لهم بذاكا

وإليك تسمية بعض هذه الفرق وبيان رؤوسها :

١. مبتدعة السلف :

وهم المغترون بكل حديث وقعت أعينهم عليه ، فجمعوا في حقائبهم كل رطب ويابس ، وأخذوا بالظواهر وتركوا الاستعانة بالقرائن ، وسمّوا كل بحث من أيّ أصل من الأُصول والمعارف « تأويلاً » و « خروجاً عن الدين » وكبحوا العقل بتهمة الزندقة ، واستراحوا لما رووا عن أئمتهم من ذم علم الكلام ، فوصفوا الجمال

١٧

المطلق والكمال اللامتناهي بالمحل والجسم ، والنزول والصعود ، وخرقوا له كثيراً من الأشباه والنظائر.

ترى كثيراً من هذه الأحاديث في مرويات حمّاد بن سلمة ، ونعيم بن حمّاد ، ومقاتل بن سليمان ، ومن لف لفهم ، ففي مروياتهم تلك الآثار المشينة ، وقد قلّدهم كثير من البسطاء في القرون المتأخرة ، فحسبوها حقائق راهنة وألّفوا فيها الكتب.

وعلى هذا الأساس أُلّف كتاب « التوحيد » لمحمد بن إسحاق بن خزيمة ( المتوفّى عام ٣٢١ ه‍ ) ، وكتاب « السنّة » لعبد الله بن أحمد بن حنبل ، وكتاب « النقض » لعثمان بن سعيد الدارمي السجزي المجسّم فإنّه أول من اجترأ من المجسّمة بالقول : بأنَّ الله لو شاء لاستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ، فكيف على عرش بعيد (١).

ولقد عزب عن هؤلاء المساكين أنّ التفكّر في آي الذكر الحكيم والغور في أعماقها ممّا أمر به منزّله سبحانه حيث قال : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ) (٢). وليس صرف آيات الاستواء على العرش والوجه واليد والعين وما شابهها ، عن الظاهر المتبادر من مفرداتها ، إلى ما هو المتبادر عند أئمّة البلاغة ، تأويلاً وخروجاً عن ظاهر الكلام ، إذ للكلمة بمفردها حكم ، وللجملة المتكوّنة من بعض الكلمات حكم آخر.

وإن كنت في ريب من هذا فلاحظ لفظ الأسد بمفرده ، ونفس اللفظ في قول القائل : « رأيت أسداً يرمي » ، فحملها في الجملة الثانية على الحيوان المفترس

__________________

(١) لاحظ مقدمة الشيخ محمد زاهد الكوثري على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي.

(٢) ص : ٢٩.

١٨

صرف لظاهر الكلام بلا دليل ، وتأويل بلا مسوّغ.

وبهذا يظهر أنَّ الصفات الخبرية الواردة في القرآن كالوجه وغيره لها حكم عند الإفراد ، ولها حكم آخر إذا ما جاءت في ضمن الجمل ، فلا يصحّ حملها على المعاني اللغوية إذا كانت هناك قرائن صارفة عنها ، فإذا قال سبحانه : ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ) (١) ، فيحمل على ما هو المتبادر من الآية عند العرف العام ، أعني : الإسراف والتقتير ، فبسط اليد كناية عن الإنفاق بلا شرط ، كما أنّ جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن البخل والتقتير ، ولا يعني به بسط اليد بمعنى مدّها ، ولا غلّ اليد إلى العنق بمعنى شدّها إليه.

وعلى هذا يجب أن يفسر قوله سبحانه : ( الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) (٢) ، فالعرش في اللغة هو السرير ، والاستواء عليه هو الجلوس ، غير أنَّ هذا حكم مفرداتها ، وأمّا معنى الجملة فيتفرع الاستظهار منها ، على القرائن الحافة بها ، فالعرب الأقحاح لا يفهمون منها سوى العلو والاستيلاء ، وحملها على غير ذلك يعد تصرّفاً في الظاهر ، وتأويلاً لها ، فإذا سمع العرب قول القائل :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

أو سمع قول الشاعر :

ولما علونا واستوينا عليهم

تركناهم مرعى لنسر وكاسر

فلا يتبادر إلى أذهانهم سوى العلو والسيطرة والسلطة ، لا العلو المكاني

__________________

(١) الإسراء : ٢٩.

(٢) طه : ٥.

١٩

الّذي يعد كمالاً للجسم ، وأين هو من العلو المعنوي الّذي هو كمال الذات.

وقد جاء استعمال لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات مقترناً بذكر فعل من أفعاله ، وهو رفع السماوات بغير عمد ، أو خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، فكان ذاك قرينة على أنّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني بل الاستيلاء والسيطرة على العالم كله ، فكما لا شريك له في الخلق والإيجاد لا شريك له أيضاً في الملك والسلطة ، ولأجل ذلك يقول في بعض هذه الآيات : ( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (١).

فالتأويل بلا قيد وشرط ، إذا كان ضلالاً ـ كما سيوافيك بيانه ـ فكذلك الجمود على ظهور المفردات ، وترك التفكّر والتعمّق أيضاً ابتداع مفض إلى صريح الكفر ، فلو حمل القارئ قوله سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (٢) على أنّ لله مثلاً ، وليس لهذا المثل مثل ... إذن يقع في مغبّة الشرك وحبائله ، وقد نقل الرازي في تفسيره لهذه الآية كلاماً عن ابن خزيمة فراجعه (٣).

وما أحسن قول ابن العربي في هؤلاء المجسّمة المشبهة :

قالوا الظواهر أصل لا يجوز لنا

عنها العدول إلى رأي ولا نظر

بينوا عن الخلق لستم منهم أبداً

ما للأنام ومعلوف من البقر

وهؤلاء سلف المشبهة وأئمّة المجسّمة ، وقد اغتر بقولهم جماعة من البسطاء المحدثين إلى أن طلع إمام الأشاعرة فادّعى في الفترات الأخيرة من حياته أنّه تاب

__________________

(١) الأعراف : ٥٤.

(٢) الشورى : ١١.

(٣) مفاتيح الغيب : ٨ / ٣٨٨.

٢٠