مفاهيم القرآن - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

يشهد العالم الإسلاميّ ـ منذ سنوات قريبة ـ تعطُّشاً كبيراً من أبناء الأُمّة الإسلاميّة للتعرُّف على كنوز المعرفة في كتابهم الإلهيّ العظيم « القرآن الكريم ».

وقد ازداد هذا التعطّش والشوق مع بزوغ القرن الخامس عشر الهجري ، وما حقّقته تعاليم القرآن الكريم وتوجيهاته الربانيّة من انتصارات ساحقة على قوى الطغيان والشرِّ والظلام.

من هنا نجد الأيدي والقلوب تتلقّف كلَّ ما يصدر حول هذا الكتاب الإلهيّ الخالد من دراسات ، لأنّهم وجدوا فيه مصدر عزَّتهم الغابرة ، ورمز مجدهم التليد ، ودستور حضارتهم الكبرى.

ومن هنا أيضاً ، شهدت الموسوعة القرآنيّة « مفاهيم القرآن » ـ وهي من محاضرات الأُستاذ العلاّمة الشيخ جعفر السُّبحانيّ منذ الأيّام الأُولى من انتشار أوّل حلقة منها عام ( ١٣٩٣ ه‍ ) ـ استقبالاً شديداً من القرّاء الكرام ، وتشجيعاً وترحيباً كبيرين من أقطاب الفكر الإسلاميّ ، وكبار أعلام التفسير والعلم ، الذين عبّروا عن ذلك برسائلهم وكتبهم القيّمة ، أو بالتشجيع الشفهيّ ، وحثُّوا على مواصلة هذا المشروع القرآنيّ المفيد.

وقد جاءت الحلقة ـ هذه المرّة ـ لتُلبّي حاجةً شديدةً طالما أحسَّ بها المسلمون في أعماقهم ، ألا وهي الحاجة إلى معرفة « الحكومة الإسلاميّة » والتعرّف على طبيعتها وتركيبتها ومناهجها على ضوء القرآن الكريم.

٣

وليس بخافٍ على أحدٍ أنّ إيقاف القرّاء الأعزّاء على الملامح الحقيقيّة للحكومة الإسلاميّة لم يكن بالأمر السهل بعد أن مضى على المسلمين زمن طويلٌ غاب عنهم فيه الوجه القرآنيّ الأصيل لهذه الحكومة في خِضمِّ الممارسات البعيدة عن روح القرآن.

ولهذا ، سيقف القارئ الكريم بنفسه على مدى الجهود الضخمة ، والمساعي المُضنية التي بُذلت لإخراج هذه الدراسة ، واستجلاء صيغة الحكومة الإسلاميّة على ضوء القرآن الكريم ، وما ورد في ذلك من السنَّة المطهّرة.

ولهذا نعتقد بأنّ القارئ الكريم سيولي هذا الكتاب اهتماماً خاصّاً ، وسيجده ـ ربّما ـ أولى وأوسع دراسة في هذا الصعيد.

ونحن إذ نقدِّم هذا المجهود الذي هو حصيلة تلكُم الجهود الطويلة من البحث والتنسيق إلى كلِّ القوى الإسلاميّة المخلصة ، التي تعمل وتجاهد الآن للإطاحة بالنُّظم الطاغوتيّة في البلاد الإسلاميّة ، لإقامة نظام الحكومة الإسلاميّة فوق أنقاضها إظهاراً لدولة الحق ، وإعلاءً لكلمة الله العليا.

وإذ نرى أنفسنا مَدينين لترحيب كبار رجال الفكر والعلم وتشجيعهم ، فننشر هنا بعض رسائلهم وفاءً لجميلهم ، وإحياءً لذكراهم ، نرجو العليّ القدير أن يتقبَّل منّا هذا العمل ، ويجعله خالصاً لوجهه إنّه سميعٌ مجيب.

الجامعة العلميّة الإسلاميّة في مدينة قم المقدّسة

جعفر الهادي

٣٠ / شعبان / ١٤٠١

٤

كتابٌ كريم

من فقيد الإسلام سماحة العلاّمة الحجّة الشيخ مرتضى آل ياسين المتوفّى في ذي القعدة الحرام عام ( ١٣٩٨ ه‍ ) رحمه‌الله.

بسم الله وله الحمد وبه نستعين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.

وبعد لا يخفى عليك أيّها القارئ الكريم أنّ هذا السِّفر الجليل الذي بين يديك مجموعة من بحوث قيّمة في القرآن الكريم قلّما تناولتها أقلام الباحثين من قبل إلاّت بنحو من الإجمال لا يكاد يروي من غلّة ، أو يشفي من علّة ، وفيه من الفوائد الرائعة ما يُشبع طرفاً كبيراً من نهمك العلمي ، وذلك بما يعرض إليه من الشكوك والشبهات الدائرة حول العقائد الحقّة فينسفها نسفاً ببيان رصين لا يشذّ عنه الدليل والبرهان ، هذا إلى استئثاره بمنهج من التفسير له طابعه الخاص الّذي يميّزه عن سائر التفاسير كما يبدو ذلك جلياً لكلّ من سرّح نظره فيه.

وليس من شك عندي أنّ الموهبة الإلهيّة الّتي مُنح بها مؤلف هذا الكتاب فضيلة العلاّمة العبقري الشيخ السُّبحاني ـ أيّده الله ـ هي الّتي آثرته بالتوفيق لإنجاز مثل هذا النتاج القيّم الّذي طالما تطلّعت إليه المكتبة الإسلاميّة لكي تسدّ به فراغاً لا يزال ماثلاً بين صفوفها منذ أمد بعيد. فإليه دام تأييده أُزجي تحيّتي ، وتهنئتي تقديراً لجهوده ، وتثميناً لمجهوده راجياً من المولى عزَّ شأنه أن يجعله ذخراً له في آخرته كما جعله فخراً له في دنياه والسّلام عليه ورحمة الله وبركاته.

مرتضى آل ياسين

٧ / ٣ / ١٣٩٤ ه‍

٥

تقييمٌ وتقدير

من فقيد الإسلام المفكّر الكبير آية الله العظمى الشهيد السيد محمّد باقر الصّدر قدس‌سره (١).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سماحة حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ جعفر سبحاني متّعنا الله تعالى بوجوده الشريف.

السلام عليكم زِنَة شوقي إليكم وتقديري لكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد ، فقد تسلّمت بالأمس بواسطة السيّد الفاضل أحمد العلوي البحريني قَبَسكم الهادي المشعّ بمفاهيم القرآن الكريم ، وهو كما ذكرتم بحقّ منهجٌ جديدٌ في تفسير القرآن الكريم على الصعيد الإسلاميّ ، وفي حدود ما اتّسعت له النظرة الأُولى خلال هذا اليوم وجدت علماً غزيراً واطّلاعاً واسعاً وعمقاً في البحث والاستنتاج ، وعشت فترةً سعيدةً مع الكتاب الجليل ذكّرتني باللقاء السابق مع سماحتكم وما خلّفه ذلك اللقاء من أعمق الانطباعات وأرسخ المشاعر ، ولئن كنت أشعر باستمرار باعتزاز كبير بشخصيّتكم العلميّة المجاهدة ، فإنَّ هذه النفحة القرآنية الجديدة ، أكّدت هذا الاعتزاز وجسّدت بعض الآمال المعقودة عليكم ، وسوف أُحاول في فرصة أوسع أن أستوعب قدراً معتدّاً به من بحوث الكتاب الجليلة وأُسجّل لكم ما قد يحصل من انطباعات.

حفظكم الله تعالى مناراً للعلم وسنداً للدّين الحنيف والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محمّد باقر الصّدر

غرّة شعبان ١٣٩٥

__________________

(١) استشهد قدس‌سره في رجب عام ( ١٤٠٠ ه‍ ).

٦

إكبارٌ وتشجيع

من رائد الفكر الإسلامي فقيد الأُمّة العلاّمة الشيخ محمّد جواد مغنيّة رحمه‌الله.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضيلة الأخ العلاّمة الكبير الشيخ جعفر سبحاني ـ دام ظلّه ـ بعد السلام والاحترام ، أشكر هديّتكم السنيّة الغنيّة : التفسير الموضوعي للقرآن الكريم هذا السِّفر المَعلَم القيّم في سموّ مطالبه وعلوّ صاحبه ، الجديد في بابه أو موضوعه ، لقد جمع الآيات المتشابكة المتعاضدة على إرساء فكرة واحدةٍ ، وأرانا بأُسلوبه السهل : كيف ينطق بعضها ببعض توضيحاً وتحديداً حتّى عالج الكثير من الصعاب التي تخطّاها السابق واللاحق عن قصد أو غير قصد ... ولا بِدْعَ أن يتصدّى لها شيخنا الأجلّ فقد توفّرت فيه كلُّ الشروط ، وتكاملت كلُّ الصفات الّتي يتطلّبها هذا الميدان الصعب المستصعب.

محمّد جواد مَغنيَّة

ج ٢ / ١٣٩٦ ه‍

شكر واعتذار

لقد وردت إلينا رسائل أُخرى من الشخصيّات العلميّة البارزة تشجّعنا على هذا المشروع ، فنحن إذ نشكرهم شكراً جميلاً وجزيلاً ، نرفع إليهم الاعتذار لعدم نشر ما كتبوه بأقلامهم الشريفة في هذا الجزء ، ونرجو نشرها في الجزء الثالث من هذه الموسوعة الّذي هو جاهزٌ للطبع أيضاً.

٧

بسم الله الرحمن الرحيم

٨

مقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

بدأ القرن الرابع عشر الهجريّ بيقظة المسلمين وقد بذل علماء الإسلام ومفكّروه جهوداً عظيمةً وجبارةً بالقلم تارةً ، وباللسان اُخرى ، وبتحمُّل المَشاقّ الجسيمة ، والصعوبات المُضنية لإيقاظ الأُمّة الإسلاميّة من رقْدتها العميقة ، وذكروا ـ بالإجماع ـ بأنّ استعادة مجد الإسلام لا تُمكن إلاّ بالعودة إلى القرآن ، والوقوف على حقائق الدّين النّابضة بالحياة ، والعمل بالكتاب العزيز.

ومن هذا المنطلق ، ظهرت ـ في عصورنا ـ جهودٌ قيّمة في مختلف نقاط البلاد الإسلاميّة لمعرفة القرآن الكريم والتعريف بمفاهيمه ، وهي جهودٌ تستطيع أن تفتح الطريق أمام المتعطّشين لمعرفة هذا الكتاب الإلهيّ الخالد في القرن الحاضر.

والآن بعد أن بدأت الأُمّة الإسلامية تتحرَّر في مطلع القرن الخامس عشر الهجريّ وراحت تخرج من رِبْقة الإستعمار البغيض ، وتتخلّص من قيود الإستكبار العالمي ازداد تعطّش الشباب خاصّةً ، إلى « القرآن » ، وهي ظاهرة ملموسة ومحسوسة في أكثر البلاد الإسلاميّة.

نعم لمّا كانت بعض البلاد الإسلاميّة لا تزال ترزح تحت نير الاستعمار

٩

وتُعاني من قيوده ؛ فإنَّ طرح الكثير من الجوانب الثوريّة والحيويّة من الإسلام بات ممنوعاً أو مستحيلاً ، فيكتفى في تلك البلاد بقراءة القرآن وتجويده دون أنْ يصلَ الناس إلى نتيجةٍ مطلوبةٍ من هذا السِّفر الإلهيّ العظيم.

ففي بعض هذه البلاد التي لا تزال تعيش في قيود الاستعمار ـ باطناً ـ تُقام المؤتمرات السنويّة الضّخمة لمعرفة ( اجود مقرئ للقرآن ) ويشترك فيها قرّاء من مختلف البلاد الإسلاميّة ، ثمّ يتمُّ اختيار أجود قارئ حسب معايير خاصة ليست بغريبة عن السياسات الحاضرة غالباً ، ولكن دون أن تقوم أيّة مؤتمرات بصدد التعريف بمفاهيم القرآن ، أو جدوَلة موضوعاته أو الحصول على طرق جديدة للتفسير أكثر عطاءً ، للوقوف على حقائق هذا الكتاب السماويّ وبيّناته وبصائره ، حتّى أنّني عندما اشتركت على رأس هيئة في أحد هذه المؤتمرات المعقودة لاختيار أفضل قارئ طرحت هذا الموضوع على وزير الأوقاف في البلد المضيِّف وقدّمت له اقتراحاً مكتوباً بهذا الصدد ولكن دون أن أجد منه ترحيباً بالاقتراح ، والعلّة واضحةٌ والسبب معلوم.

إنّنا بحكم واجبنا الدّينيّ الذي يقضي بأنّ تكون الجهود العلميّة موافقةً للاحتياجات الحاضرة ، ركّزنا قسماً كبيراً من نشاطاتنا العلميّة والفكريّة ـ طوال عشرين عاماً منصرمات ـ على دراسة القرآن الكريم واستجلاء حقائقه واستقصاء معارفه ومسائله ، وقد حقّقنا ـ في هذا السبيل ـ نجاحاً كبيراً والحمد لله.

وقد كان نتيجة ما حققناه ـ طوال هذه السنين ـ هو عرض نمط جديد للتفسير لم يكن له مثيلٌ فيما كتبه المفسّرون في هذا المضمار وهو تفسير القرآن حسب الموضوعات ، مستعينين في تفسير الآيات بنفس الآيات ، وكشف معضلاتها بمشابهاتها.

١٠

وقد طُبع ـ إلى الآن ـ سبعة أجزاء من هذا التفسير لقيت ترحيباً كبيراً من قبل العلماء والمفكّرين المهتمّين بهذا النوع من البحوث القرآنيّة.

هذه الدّراسة

وما يراه القارئ في هذه الدراسة هو نتيجة ما ألقيناه على فضلاء الجامعة الدينيّة في قم المشرّفة من ذلك النَّمط التفسيريّ الجديد.

ولمّا انتهى البحث في الجزء الأوّل إلى التوحيد في الحاكميّة ، وقلنا : إنّ الحاكميّة مختصّةٌ بالله سبحانه ، وذكرنا أنّ اختصاص الحكومة بالله لاتعني اختصاص الإمرة به سبحانه ، فلأجل ذلك ، جعلنا محور البحث في هذا الجزء رفع الستار عن صيغة الحكومة الإسلاميّة نزولاً عند رغبة أكثر القرّاء من الشباب حيث ازداد تعطّشهم إلى معرفة الحكومة الإسلاميّة ، تلك الناحية الحسّاسة من النظام الإسلاميّ التي أُهملت في القرون الغابرة ، بياناً ، وتأليفاً.

شكر وتقدير

وقد تمّ تنسيق وتأليف محتويات هذا الجزء بواسطة الكاتب الإسلاميّ الفاضل الشيخ جعفر الهادي الذي بذل جهداً كبيراً في تحرير هذه البحوث وتنظيمها وصبّها في ثوب قشيبٍ من التعبير ، وكأنّه بذلك أفاض عليها حياةً جديدة.

وإنّني إذ أشكر ـ بإخلاص ـ جهوده المضنية في هذا الصعيد ، أسأل الله تعالى أن يوفقه لتحقيق الأهداف الإسلاميّة العليا ويأخذ بيده لخدمة الفكر الإسلاميّ العظيم.

١١

على أنّنا نُذكِّر القرّاء الكرام بأنّنا لا ندّعي أبداً بأنّ عملنا ـ هذا ـ عمل متكاملُ الأركان ، عارٍ عن النقصان ، وأنّنا في غنىً عن النقد البنّاء والاعتراض الهادف السليم ... ولهذا ، فإنّنا نرحّب بكلّ نقد في هذا المجال ، ونتلقّاه برحابة صدرٍ آملين أنْ يُتحفنا الإخوة بما يرونه مفيداً وضرورياً لنزيد من كمال هذا المجهود فيتحقّق الهدف ، ويحصل المطلوب ، والله من وراء القصد.

جعفر السبحاني

٥ / شعبان / ١٤٠٣ ه‍.

١٢

الفصل الأوّل

١

الحكومة

حاجة طبيعيّة وضروريّة

الحديث عن الحكومة الإسلاميّة من المسائل التي تطرح نفسها اليوم بشدّة على أذهان الناس في المجتمع الإسلامي ، وتستقطب اهتمامهم في كلّ مكان.

ولقد استوفينا الكلام حول لزوم وجود الحكومة ، وضرورة استقرارها وقيامها في الحياة البشريّة عامّةً ، وفي المجتمع الإسلامي خاصّةً ، وذلك عند دراسة « التوحيد في الحاكميّة » الذي كان آخر فصل لكتابنا : « معالم التوحيد في القرآن الكريم ».

ونرى هنا ـ لدى البحث عن معالم الحكومة الإسلاميّة ـ أن نعيد الكرّة على ما ذكرناه هناك باختصار فنقول :

إنّ ضرورة قيام الحكومة ووجود الدولة في الحياة البشريّة ليست أمراً تقتضيه وتؤكّده الحياة المعاصرة التي اشتدّت فيها الحاجة إلى الحكومة فحسب ، بل كانت موضع تأكيد كبار الفلاسفة والمفكّرين في التاريخ القديم أيضا.

١٣

فها هو « أرسطو » كبير الفلاسفة القدامى وزعيمهم يقول :

« إنّ الدولة من عمل الطبع ، وإنّ الإنسان بالطبع كائن اجتماعيّ ، وإنّ الذي يبقى متوحّشاً ـ بحكم النظام لا بحكم المصادفة ـ هو على التحقيق إنسان ساقط أو إنسان أسمى من النوع الإنسانيّ » (١).

فإذن ، تعتبر الدولة ـ حسب رأي أرسطو ـ حاجة طبيعيّة تقتضيها الفطرة الإنسانيّة بحيث يعدُّ الخارج على الدولة ونظامها وتدبيرها إمّا متوحّشاً ساقطاً ، أو موجوداً يفوق النوع الإنساني ، ويخلو عن الطبيعة البشريّة.

وها هو « أفلاطون » يرى : « أنّ أفضل حياة للفرد لا يمكن الحصول عليها إلاّ بوجود الدولة ، لأنّ طبيعة الإنسان م آلها إلى الحياة السياسيّة ، فهي من الاُمور الطبيعيّة التي لا غنى للناس عنها » (٢).

وهذا هو ابن خلدون يستدلُّ على ضرورة وجود الدولة والحكومة بضرورة الاجتماع الإنساني التي يعبّر عنها في اصطلاح الحكماء بعبارة : « أنّ الإنسان مدنيّ بالطبع ».

ثمّ يستدلُّ على ذلك حتى ينتهي إلى إثبات ضرورة إيجاد الحكومة والدولة (٣).

وأمّا من المفكّرين المعاصرين ، فيكتب ثروت بدوي : « إنّ أوّل مقوّمات النظام السياسيّ هو وجود الدولة ، بل إنّ كلّ تنظيم سياسيّ للجماعة يفترض وجود الدولة ، حتّى أنّ البعض يربط بين مدلول السياسة وفكرة الدولة ، ولا يعترف بصفة الجماعة السياسيّة بغير الدولة » (٤).

هذا وما جاء في الإسلام وورد من نصوص وسيرة أكثر دلالةً ، وأقوى برهنةً على لزوم إيجاد الدولة في الحياة البشريّة ، من أي دليل آخر.

__________________

(١) السياسة : ٩٦ ترجمة أحمد لطفي.

(٢) الجمهوريّة بتلخيص.

(٣) مقدّمة ابن خلدون : ٤١ ـ ٤٢.

(٤) النُّظم السياسيّة : ١ ـ ٧.

١٤

أمّا السيرة فيكفي النظر إلى حياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرته الشريفة للوقوف على هذه الحقيقة.

المؤسّس الأوّل للحكومة الإسلاميّة :

فمن تتبّع تلك السيرة الشريفة وجد كيف أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقدم بمجرّد نزوله في المدينة المنوّرة على تأسيس الدولة بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى ، وكيف مارس كلّ ما هو من شأن الحاكم السياسي من تشكيل جيش منظّم ، وعقد معاهدات ومواثيق مع الطوائف الاخرى ، وتنظيم الشؤون الإقتصاديّة والعلاقات الإجتماعيّة ممّا يتطلّبه أي مجتمع منظّم ذو طابع قانونيّ ، وصفة رسميّة وصيغة سياسيّة ، واتخاذ مركز للقضاء والإدارة ـ وهو المسجد ـ ووضع رواتب وتعيين مسؤوليات إداريّة ، وتوجيه رسائل إلى الملوك والامراء في الجزيرة العربيّة وخارجها ، وتسيير الجيوش والسرايا وبذلك يكون الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل مؤسّس للدولة الإسلاميّة التي استمرّت من بعده ، واتّسعت ، وتطوّرت وتبلورت ، واتّخذت صوراً أكثر تكاملاً في التشكيلات والمؤسّسات وإن كانت الاسس متكاملةً في زمن المؤسّس الأوّل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إنّ من يراجع التاريخ النبويّ يلاحظ ـ بجلاء ـ أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان منذ بداية بعثته الشريفة وحياته الرساليّة بصدد تأسيس الحكومة ، وإقامة الدولة.

وقد تمّ ذلك في مرحلتين كانت المرحلة الاولى في مكة ، والاخرى في المدينة.

ففي مكة ـ يوم لم يكن مأموراً بالظهور والإعلان عن دعوته ـ قام بتأسيس الحزب السريّ ـ إن صحّ هذا التعبير ـ حيث أخذ في إعداد وبناء الأفراد الصالحين ، وتوفير الكوادر المؤمنة عن طريق الاتّصالات الخاصّة واللقاءات السّريّة.

ثمّ بعد أن امر باعلان رسالته لقوله سبحانه : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ) ( الحجر : ٩٤ و ٩٥ ) ، راح الرسول الأكرم يلتقي بقادة القبائل ورؤساء الوفود الآتية إلى مكّة يدعوهم الى دينه ، والانضمام

١٥

إلى جماعته ؛ وكان من أبرز ما فعله على صعيد التهيئة العامّة لإقامة حكومته المرتقبة ، عقد البيعة مع بعض الوفود القادمة من أنحاء الجزيرة إلى مكة ، وأخذ العهد منهم على نصرته ودعم ما ينشد إقامته في ظرفه المناسب كما تمّ ذلك في بيعتي العقبة الاولى والثانية (١).

وعندما هاجر إلى المدينة ، وسنح له الظرف المناسب باشر بتأسيس أوّل حكومة إسلاميّة وبذل في ذلك أكبر مجهود بعد أن مهّد لها بعقد ميثاق الاخوّة بين أصحابه من الأنصار والمهاجرين ، وإقامة مسجد جعله مركزاً لتجمّع المسلمين وموضعاً لعملياته ونشاطاته الاجتماعيّة والسياسيّة.

وقد تجلىّ العمل السياسيّ الذي قام به النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي يدلُّ على أنّه كان أوّل من أقام حكومة إسلاميّة وبنى قواعدها ، أنّه كان يباشر اُموراً هي من صميم العمل السياسي والنشاط الاداري الحكومي ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر :

١. أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقد بين أصحابه وبين الطوائف والقبائل الاخرى المتواجدة في المدينة كاليهود وغيرهم اتفاقيةً وميثاقاً يعتبر في الحقيقة أوّل دستور للحكومة الإسلاميّة ، وقد ذكرنا بنودها في هذا الفصل من كتابنا هذا.

٢. أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهّز الجيوش وبعث البعوث العسكريّة والسرايا إلى مختلف المناطق في الجزيرة ، وقاتل المشركين وغزاهم ، وقاتل الروم وقام بمناورات عسكريّة لإرهاب الخصوم ... وقد ذكر المؤرّخون أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاض أو قاد خلال ١٠ أعوام من حياته المدنيّة ٨٥ حرباً.

٣. بعد أن استتبّ له الأمر في المدينة وما حولها وأمن جانب مكّة وطرد اليهود من المدينة وماحولها وقلع جذورهم وقضى على مؤامراتهم ، توجّه باهتمامه إلى خارج الجزيرة ، وإلى المناطق التي لم تصل إليها دعوته ودولته من مناطق الجزيرة ، فراح يراسل الملوك والامراء يدعوهم إلى الانضواء تحت راية الإسلام والدخول تحت ظلّ دولته والقبول

__________________

(١) راجع السيرة النبويّة ١ : ٤٣١ و ٤٦٧ ، وإعلام الورى.

١٦

بحكومته الإلهيّة.

فراسل قيصر ملك الروم.

وكسرى ملك إيران وامبراطورها.

والمقوقس عظيم القبط في مصر.

والنجاشيّ ملك الحبشة.

وكبار قادة الشام واليمن وغيرهم من الامراء والملوك ورؤساء القبائل الكبيرة.

وربّما وقّع مع بعضهم المعاهدات ، وأقام بعض التحالفات العسكريّة والسياسيّة والمعاهدات الإقتصاديّة (١) كما ستعرف ذلك.

وقد جمعت أكثر هذه الرسائل والمواثيق في كتب خاصّة أمثال ( الوثائق السياسيّة ) تأليف البروفسور محمد حميد الله الاستاذ بجامعة باريس و ( مكاتيب الرسول ) وإليك نماذج من هذه الرسائل والمكاتيب السياسيّة :

كتابه إلى ملك عمان والأزد ، جيفر وعبد ابني الجلندي :

« بسم الله الرّحمن الرّحيم من محمّد بن عبد الله إلى ..

سلام على من اتّبع الهدى ، أمّا بعد ، فإنّي أدعوكم بدعاية الإسلام ، أسلما تسلما. إنّي رسول الله إلى الناس كافّةً لأنذر من كان حيّاً ويحقّ القول على الكافرين. إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما ، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإنّ ملككما زائل عنكما ، وخيلي تحلُّ بساحتكما ، وتظهر نبوّتي على ملككما » (٢).

وكتابه لرفاعة بن زيد الجذاميّ أحد امراء الجزيرة :

« بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا كتاب من محمّد رسول الله لرفاعة بن زيد : إنّي قد بعثته إلى قومه عامّة ومن دخل فيهم يدعوهم إلى الله ورسوله ، فمن أقبل منهم ففي

__________________

(١) على نحو ما فعل مع أهل اليمن ( راجع تاريخ اليعقوبي ٢ : ٦٤ ).

(٢) المواهب اللدنيّة ٣ : ٤٤٠ ، السيرة الحلبيّة ٣ : ٢٨٤ ، أعيان الشيعة ٢ : ١٤ ومكاتيب الرسول : ١٤٧.

١٧

حزب الله وحزب رسوله ومن أدبر فله أمان شهرين » (١).

ومن رسالته إلى اسقف نجران :

« بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، من محمّد النبيّ رسول الله إلى أسقف نجران : أسلم أنتم ( أي أنتم سالمون إذا أسلمتم ) فإنّي أحمد الله إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

أمّا بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية وإن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام » (٢).

٤. أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث السفراء والمندوبين السياسيين إلى الملوك والزعماء.

قال الاستاذ عبد الله عنّان عن هذه السفارات النبويّة : « كانت هذه السفارات والكتب النبويّة عملاً بديعاً من أعمال الدبلوماسيّة ، بل كانت أوّل عمل قام به الإسلام في هذا الميدان.

إنّ هذه الدبلوماسيّة الفطنة التي لجأ إليها النبيُّ في مخاطبة الملوك في عصره لم تذهب كلُّها عبثاً كما رأينا » (٣).

٥. أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصب القضاة وعيّن الولاة ، وأعطاهم برامج للإدارة والسياسة فأوصاهم فيما أوصاهم بتعليم أحكام الإسلام ، ونشر الأخلاق والآداب التي جاء بها الإسلام ، وتعليم القرآن الكريم ، وجباية الضرائب الإسلاميّة كالزكاة وإنفاقها على الفقراء والمعوزّين وما شابه ذلك من المصالح العامّة ، وفصل الخصومات بين الناس وحلّ مشاكلهم والقضاء على الظلم والطغيان ... وغير ذلك من المهام والصلاحيّات والمسؤوليّات الإداريّة والاجتماعيّة.

وبالتالي لقد كان النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعمل كلّ ما يعمله الساسة وأصحاب السلطات

__________________

(١) السيرة الدحلانيّة على هامش السيرة الحلبية ٣ : ١٣١.

(٢) البداية والنهاية ٥ : ٥٣ والدرّ المنثور ٢ : ٣٨ وبحار الأنوار ٦ : ٩ الطبعة القديمة.

(٣) مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام : ٢٠٨.

١٨

اليوم ، ولكن يفعل كلّ ذلك وفق منهج السّماء ، فكان يقوم بالعزل والنّصب ، والمراسلة وعقد الأحلاف ، وتوقيع الوثائق السياسيّة والعسكريّة والإقتصاديّة حسبما تقتضيها المصلحة الإسلاميّة والاجتماعيّة في عصره وضمن تشكيلات بسيطة ..

هذا مضافاً إلى أنّ من طالع سورة الأنفال والتوبة ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلاحظ كيف يرسم القرآن فيها الخطوط العريضة لسياسة الحكومة الإسلاميّة وبرامجها ووظائفها ... فهي تشير إلى مقوّمات الحكومة الإسلاميّة الماليّة ، واسس التعامل مع الجماعات غير الإسلاميّة ، ومبادئ الجهاد والدفاع وبرامجها ، وتعاليم في الوحدة الإسلاميّة التي تعتبر أقوى دعامة للحكومة الإسلاميّة ... وكذا غيرها من السور والآيات القرآنيّة ، فهي مشحونة بالتعاليم والبرامج اللازمة للحكومة والدولة.

وهذا يكشف عن أنّ النبيّ ( محمّداً ) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أوّل مؤسّس للحكومة الإسلاميّة وأنّ أوّل حكومة إسلاميّة هي التي أقامها وأوجدها النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة المنورة بعد أن مهّد لها في مكّة.

على أنّ هذه الحكومة ـ كما قلنا ـ وإن لم تكن من حيث التشكيلات والتنظيمات الإداريّة على النحو المتعارف الآن ، إلاّ أنّها كانت على كلّ حال تمثّل حكومةً كاملة الأركان ، ودولةً كاملة السّمات والملامح.

وهذا يعني أنّه لابدّ أن تكون للحكومة الإسلاميّة أركان ومؤسّسات وتشكيلات للقيام بمثل ما كان يقوم به النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسب ما تقتضيه طبيعة عصرنا الحاضر ..

وكلُّ هذا يتّضح من مطالعة ما دوّن حول السيرة النبويّة من كتب تأريخيّة على أيدي مؤرّخين من القدماء ، مثل سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري وتاريخ الكامل للجزريّ والإرشاد للمفيد وكشف الغمّة للأربلّي ، ومن المتأخّرين ، مثل كتاب تاريخ الإسلام السياسيّ (١) ، وغير ذلك من المؤلّفات التاريخيّة المختصرة والمفصّلة.

__________________

(١) تأليف الكاتب المعاصر الدكتور حسن إبراهيم حسن استاذ التاريخ الإسلاميّ بجامعة القاهرة.

١٩

ثمّ إنّ نظرةً اخرى إلى الدين الإسلاميّ نفسه تشهد بأنّ الأحكام والمناهج الإسلاميّة تقتضي ـ بنفسها ـ قيام مثل هذه الدولة وذلك من جهتين :

الاُولى : أنّ الإسلام يدعو ـ في أكثر من نصّ ـ إلى الوحدة بين أبنائه وأتباعه ، وينهى عن التشتُّت والفرقة والاختلاف حتّى عرف الإسلام بأنّه بني على كلمتين : « كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة » قال القرآن الكريم : ( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) ( الأنعام : ١٥٣ ).

وقال تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) ( آل عمران : ١٠٣ ).

وقال تعالى : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات : ١٠ ).

وقال تعالى : ( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال : ٦٣ ).

فإنّ الله يمنُّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه وحّد بهداه قومه ، وهو يعني أنّ التوحيد ورصّ الصفوف هو غاية الإسلام الأكيدة.

إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف عن أنّ القرآن يريد وحدة الاُمّة الإسلاميّة.

ولذلك قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أتاكم وأمركم جميع ( مجتمع ) على رجل واحد ، يريد ان يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه » (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً : « مثل المؤمن من المؤمن كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضاً » (٢).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في هذا الصّدد : « والزموا السّواد الأعظم ،

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه كما في جامع الاُصول في أحاديث الرسول ٣ : ٤٨.

(٢) مسند أحمد ٤ : ٤٠٤ ورواه غيره من أصحاب الصّحاح والسُّنن.

٢٠