خطط الكوفة وشريح خريطتها

المؤلف:

لويس ماسينيون


المترجم: تقي بن محمّد المصعبي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار الوراق للنشر المحدودة
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١

الطوبوغرافية الاقتصادية للكوفة

كان قد تأسّس في الكوفة منذ أول الأمر مخزن كبير «دار الرزق» عند مخرج الجسر المنصوب على الفرات (١) وذلك بغية حفظ أموال الصدقات أو الغنائم قبل توزيعها بين المقاتلة. وقد لعب هذا المخزن «الذي كان يوجد نظيره في البصرة والفسطاط» (٢) دورا أساسيا مهما وفي الحركات والاضطرابات التي حدثت في الكوفة ، وبعد تأسيس دار الرزق نصبت سلسلة على رأس الجسر (٣) فقامت مقام مركز الگمرك على عهد الساسانيين (بالقرب من المشنقة التي صلب عليها أبو الخطاب (٤).

__________________

(١) وهذا الجسر كان قد شيد في موضع المسمى بلقية (الكاشي ص ١١٣) وقد جدد بناؤه عدة مرات (أربعة حسب رواية البلاذري).

(٢) طبقات ابن سعد ج ٦ ص ٥١ و ٦٧.

(٣) وبهذه المناسبة أورد البلاذري (كذلك راجع كتاب الاستيعاب لابن عبد البر في باب حكيم بن جبلة ، مدينة الرزق) حكيم بن جبلة العبدي (من عبد القيس) هو بطل معركة الجمل الصغرى وقد استشهد فيها (راجع كتابنا النبأ العظيم الجزء الثاني الفصل الأول) المترجم.

(٤) أبو الخطاب هو محمد بن مقلاص الأسدي الكوفي الأجدع ، كان بزازا وقد وردت

٤١

وأما الأسواق فكانت تمتد من القصر والجامع إلى دار الوليد بن عقبة من جهة والقلائين من الجهة الأخرى وإلى منازل ثقيف وأشجع من الجانب الآخر ، وكانت سقوفها في بادىء الأمر من الحصر وظلت كذلك حتى زمن الوالي خالد القسري حيث عقدت بالأحجار ، ومن المهم أن نصف وضع هذه الأسواق وترتيبها بالنظر إلى أنها صارت أنموذجا وقدوة لسوق بغداد (١) ، وكذلك كان ديوان المحتسب (٢) في السوق بين حوانيت الصيارفة والسماسرة (ونحن نعلم بأن نصر بن مزاحم المؤرخ الشهير «سنة ٢١٢» قد تولى هذا المنصب طوال المدة في إحدى الثورات الزيدية (٣).

الصيارفة والسماسرة :

أما حوانيت الصيارفة فكانت مقابل مسجد بني جذيمة (وهم بنو

__________________

روايات في ذمه واتهم بأنه ادعى النبوة وألّه الإمام جعفر بن محمد وكان له في الكوفة أصحاب وأتباع ونحن نشك كثيرا في صحة ما نسب إليه حيث يستبعد جدا صدور مثل تلك الادعاءات من رجل مثله كثير العلم وافر الفضل فقيه ومحيط بأصول الدين ومن كان يعد في المرتبة الأولى من علماء عصره ثم إن الإمام الصادق كان قد عهد إليه وكالته واعتماده وهناك روايات تنص بأن الإمام الصادق قال له : أنت مخزن العلوم والأسرار الخ ... وأما ما قيل بأنه ادعى الرسالة والنبوة وألوهية جعفر الصادق فمن المحتمل القوي بأن أخبر أهل الكوفة على أنه رسول الصادق ونائبه ، فظنوا بأنه يدعي الرسالة لنفسه ويعتقد بألوهية الصادق أم أن أعداءه وخصومه والمغرضين قد أفهموا العامة بهذا المعنى (المترجم).

(١). Cf. notre mission, t, ii. p. ١٩, et rev. internat sociologie ٠٢٩١, ٣٧٤

(٢) المحتسب كان في ذلك العهد يقوم بعدة وظائف إدارية ومالية ويقوم أيضا بالتنظيمات البلدية ما يقابل اليوم وظائف مدير الواردات ورئيس البلدية (المترجم).

(٣) الطبري المجلد (٣) ص ٢٩٥.

٤٢

نصر بن قعين الأسدي) (١) وفي جوارهم كان سماسرة العبيد ثم المكارية في جوانب الكناسة (المحلة التي سوف نبحث عنها في فصل قادم) وقد لعب الصيارفة أدوارا مهمة في المؤامرات التي كانت تديرها الشيعة حيث كانوا يجمعون الأموال ويحفظونها لتقديمها للدعاة ، ولم يكن ابن مقارن الذي أكّد للمنصور (سنة ١٤٥ ه‍) وضمن له هدوء الكوفة إلا صيرفيا (٢).

ولنذكر بهذه المناسبة بأن ينبغي أن نبحث في الكوفة عن منشأ تنظيم البنوك (ولقد بيّنا مع فيشل كيفية تطورها وانتشارها في بغداد في القرن العاشر من تاريخنا عندما كانت اليهود تؤدي ذلك أولا والذين استولوا عليها نهائيا) لأن الكوفة كانت تدير مباشرة (٣) المدائن تلك العاصمة السياسية والاقتصادية الكبرى على عهد الساسانيين (٤) حيث

__________________

(١) ويجب أن نذكر بأن رئيسهم هو طليحة بن خويلد الذي كان قد ادعى النبوة (الطبري المجلد ١ ص ١٨٩٧).

(٢). Bull. Instit, franc. Damas, t. j. pp. ٣ ـ ٢١, cf. W. Fischel in JRAS. avril et Juillet ٣٣٩١

(٣) لم يكن للمدائن وال مستقل إلا بعد سنة ٣٧ ه‍.

Sur Madai ? n, voir O. Reuther Die Ausgrabungen derdeutsch, Ktesiphon ـ exp) ٨٢٩١ ـ ٩٢ (Staatl, mus. Berlin, et; Die Ausgrabungen der Zweiten D. K. E. I ١٣٩١ ـ ٢٣ (. Staalt mus Berlin, ٣٣٩١

(٤) كانت المدائن (وهي سبع مدن متقاربة ثلاث على الجانب الغربي وأربع على الجانب الشرقي) ومدينتها العظمى طيسفون في الضفة الشرقية (في موضع قرية سلمان پاك الحالية) تابعة للكوفة منذ الفتح أي إن أميرها كان مرتبطا إداريا بعامل الخليفة في الكوفة ، وأول من عين لإمارتها هو حذيفة بن اليمان العبسي وبعد وفاته عين الخليفة عمر سلمان الفارسي أميرا عليها ولبث سلمان في منصبه حتى وفاته (سنة ٣٥ هجرية أو ٣٦ ه‍) وعندما قدم أمير المؤمنين صلوات الله عليه الكوفة بعد وقعة الجمل وأقام فيها وأصبحت عاصمة الامبراطورية الإسلامية بدل المدينة ،

٤٣

كانت الأقلية المسيحية هي التي تستطيع التحكيم بين الفرس ذوي المسكوكات الفضية والبيزنطيين أصحاب المسكوكات الذهبية ، فعلى هذا كانت تجارة التبادل والصيرفة في أيديهم.

وكان أحد ولاة الكوفة الأسبقين (المغيرة) من قبيلة ثقيف التي أجازها النبي أن تتعاطى بالربا بصورة استثنائية (١).

وحقا كان صيارفة اللخميين قديما أساقفة الحيرة ، ولكن بعده نرى ظهور بعض الصيارفة من المسلمين بالرغم من النهي الشرعي ، وكان هؤلاء على اتصال مع الصيارفة النصارى اليعاقبة الذين كانوا قد نزحوا من نجران (بلاد مذحج في اليمن) وكانت حوانيتهم قبال مسجد

__________________

قام بتعديل وتغيير بعض التقسيمات الإدارية ، منها أن جعل المدائن الشرقية وما والاها من أعمال دجلة والنهروان وجوخى كورة (ـ ولاية) وعين يزيد بن قيس الأرحبي واليا لها ، وجعل المدائن الغربية وما تبعها من أعمال دجلة الغربية إلى تخوم البهقباذات كورة أخرى (وكانت حاضرتها مدينة بهرسير) وبعث عدي بن الحارث واليا عليها ، فبذلك أصبحت المدائن كورتين مستقلتين تراجعان العاصمة رأسا (المترجم).

(١) لا استثناء في الأحكام فصريح الآية تقول (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٧٥) والآية الأخرى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (٢٧٦) والآية الثالثة(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) الخ .. (القرآن الكريم سورة البقرة). فبعد هذه الآيات يمكن الحكم بعدم صحة تلك الرواية ، ولا نشك في أن تكون من مختلقات المغيرة بن شعبة وأكاذيبه وافتراءاته على النبي فهو مشهور بالكذب والافتراء. (المترجم).

٤٤

بني جذيمة ، والأسماء الواردة لأولئك الصيارفة أسماء رجال من الشيعة الذين كانوا يستلمون الأموال والزكاة ويحفظونها سرّا كي يرسلوها إلى الأئمة ، وبالأخص إلى الإمام جعفر بن محمد ، أو بعبارة أوضح كانوا جباة وعمالا للعلويين مستترين خلف ستار الصيرفة (١). وإليك أسماء من نخصّ منهم بالذكر :

سدير بن حكيم (٢) الذي كان قد سجن (وكان أبوه حكيم كذلك صيرفيا وهم من موالي بني ضبة).

معلى بن خنيس الأسدي (٣) (الذي أعدم قبل سنة ١٥٠ ه‍).

__________________

(١) لم يكن هؤلاء الصيارفة ليخالفوا النصوص الشرعية ولم يتعاطوا الربا. بل كل ما كان هو وجود حانوت صيرفي لرفع الشبهة عنهم. وكانت غايتهم فقط جمع الزكاة والأموال لإرسالها إلى الأئمة عليهم‌السلام وعلى الدوام كان في الكوفة واحد فقط يقوم بتلك المهمة وهو وكيل الإمام ومعتمده : (المترجم).

(٢) هو أبو الفضل سدير بن حكيم من حلفاء بني زرارة ، كان من وجوه الشيعة ومن أصحاب جعفر بن محمد المقربين. وقد نسب إليه بعض الأمور خطأ حيث وقع التباس بين اسمه واسم شديد بن حكيم وكل ما ورد فهو منسوب إلى شديد وليس إليه. (المترجم).

(٣) معلى بن خنيس كان من أصحاب الصادق جعفر بن محمد ، وكان أول الأمر بزازا ، قتله بمكة صاحب شرطة داود بن علي (والي بني العباس) ولما بلغ الإمام الصادق خبره جاء إلى داود ولامه وعاتبه فأنكر داود أولا ثم اعترف بقتله وقال : إن قاتله هو صاحب شرطته. فسأله الإمام هل كان بأمرك أم بغير أمرك؟ فأجابه بغير أمري. فنادى الإمام ابنه إسماعيل وأمره بأن يقتل قاتل ابن خنيس. وقد رمي معلى بالغلو في جعفر بن محمد عليه‌السلام وما أشبه ذلك. وكلها عارية من الصحة ومن افتراءات الخصوم وحاشاه أن يكون كذلك وهو صديق الإمام وصاحبه ووكيله وقد شهد الإمام له بالجنة ، وكان من العلماء المعدودين ومن أجلّاء الشيعة (المترجم).

٤٥

بسام بن عبد الله (١) (الذي قتل سنة ١٣٨ ه‍ لتحزبه إلى إسماعيل ابن جعفر الصادق) وإسماعيل هذا هو أبو السلالة الفاطمية التي قامت بإفريقيا ومصر وأسست الدولة الفاطمية العلوية (٢).

المفضل الجعفي (٣) (من مذحج أيضا) الذي أصبح بعد مقتل أبي الخطاب الوكيل السياسي للإمام جعفر ، ومكث في منصبه هذا حتى زمن الإمام موسى الكاظم.

ومن وجوه الشيعة الصيارفة في القرن الثالث بنو الزبير وأبو سمينة الطاحي الأزدي وعبد الملك النخعي (٤) (كذلك من مذحج) (٥).

وحوانيت الصيارفة الأرجح أنها كانت في أماكن قريبة للمحلات المسيحية واليهودية.

وكان النصارى في أول الأمر منبثين بين القبائل التي ينتمون إليها (كعجل وبكر وتغلب) ولكن في القرن الثاني لم يبق منهم تقريبا سوى

__________________

(١) بسام بن عبد الله الأسدي كان من موالي بني أسد فنسب إليهم وهو من أصحاب الإمامين محمد بن علي وجعفر بن محمد عليهما‌السلام وروى عنهما الحديث وكذلك روي عن الإمام زيد بن علي عليه‌السلام. (المترجم).

(٢) الكشي ص ٢٣٩ و ١٥٩.

(٣) هو المفضل بن عمرو النخعي المذحجي كان من رؤساء الشيعة ومن أصحاب الإمامين الصادق والكاظم عليهما‌السلام وقد روى عنهما الحديث (المترجم).

(٤) عبد الملك بن عمارة النخعي المذحجي كان من وجوه الشيعة ومن أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام (المترجم).

(٥) الكشي ص ٥٥ و ٣٥٢ ، والاسترابادي ص ١٢٠.

٤٦

النجرانيين البلحارثيين (من مذحج) الذين أقاموا احتفالا فخما في سنة ١٣٢ ه‍ للفاتح العباسي (١) ، لأنهم كانوا من أخواله (٢).

وكان بالكوفة دائما يوجد أسقفان أحدهما نسطوري والآخر يعقوبي (كانا يسكنان دار الروميين) لأن نصارى الكوفة «ـ عاقولا بالسريانية» (٣) كانت طائفتين :

١ ـ نساطرة وهم الحضر.

٢ ـ يعاقبة وهم البدو.

أما موقع محلة اليهود فكان بالقرب من النصارى ، ولقد أشار بنجامن دوتيودل Benjamin de Tude ? l بأنهم كانوا يسكنون في جوانب الجسر وعلى مقربة من دار الرزق ونبي يونس (وذلك بعد أربعة قرون) ولكنه مشتبه ومبالغ في زعمه هذا.

__________________

(١) هو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي أول خلفاء بني العباس.

(٢) البلاذري «نجران» وكانت محلتهم على الدرب الذي كان يقع بين الجامع ودار بني أود «حيث سكن الخليفة هناك أيضا» ياقوت المجلد (٢) ص ٤١٨».

(٣) Voir sur George, e ? ve ? que Jacobite de Kufa) ٤٠٧ de notre e ? re (Les e ? tude de P. Ryssel.) in Theol. stud. und Kritik, Gotha, ٣٨٨١ وربما كان اسم الكوفة ترجمة كلمة عاقولا (ـ دائرة أو حلقة) بالسريانية.

لقد أصاب حضرة المؤلف لأن الكوفة بمعنى الاستدارة أو المدورة ، يقال تكوّف أي تجمّع واستدار (المترجم).

٤٧

المهن التي ورد ذكرها

الصيارفة والصياغون (١) بالقرب من الجامع في جهة القبلة (الجنوب).

الورّاقون في ودعة الجامع (شماله).

التمارون والبقالون.

أصحاب الأنماط والخز (٢) والقصارون في أطراف دار الوليد.

الجزّارون (٣) والحنّاطون (٤) والسواقون (ـ باعة السويق وهو طحين الشعير) (٥)

ثم باعة الأزهار كالبنفسج والزنبق الأبيض (أزاذ) (٦).

وحديقة أديرة الكوفة (٧) صارت متنزهات لأهل الكوفة وطالما تغنّى بها شعراؤها قبل أن يعرف شعراء بغداد هذا الضرب من النظم.

__________________

(١) الهداية للخصيبي ص ٤٥٣.

(٢) ابن سعد ج ٦ ص ١٤.

(٣) الطبري المجلد (٢) ص ٢٦٧ (مصرع مسلم بن عقيل).

(٤) ابن سعد ج ٦ ، ص ١٥٧.

(٥) السمعاني (بحث السويق) ..

(٦) المقدسي ص ١٢٨ ، وابن الفقيه ص ١٧٥.

(٧) ابن الفقيه ص ٣٠ و ١٢٥.

٤٨

وقد وجد في الكوفة بعض الرسامين ، ما دام قد ورد بأن الرسامين الصينيين (فان ـ شن وليو ـ تسه) كانا يقطنان بين سنة ٧٥١ و ٧٦٢ م في (يا ـ كيو ـ او) (ـ عاقولا) وهو الاسم السرياني للكوفة (١).

__________________

(١).P.Pelliot ,ap.Toung pas ,٨٢٩١ ,pp.٠١١ ـ ٣١١

٤٩
٥٠

القصر والميدان

إن النصوص الواردة تجزم بأن موقع القصر كان في الواجهة الجنوبية من المسجد «مع انحراف قليل نحو الشرق» وتؤيدها الروايات المحلية (١) ، وقد جدد بناؤه في زمن عبد الملك.

والميدان الذي كان يطل عليه القصر من الغرب «وفي وسطه كانت مصطبة كبيرة معدة للاجتماعات» (٢) كان يسمى أيضا ب «رحبة علي».

أما بيت علي الذي يؤمه الزوار «كما كانوا في أيام ابن جبير» فهو أثر محجى (٣)

__________________

(١) هذا وقد قامت دار الآثار في الحفريات والتنقيب عن دار الإمارة في هذا الموضع في المدة الأخيرة فعثروا على جدران القصر ولا تزال أعمال الحفر جارية. (المترجم).

(٢) الطبري المجلد (٢) ص ٦٣٣ و ٦٥٥.

(٣) لم يلاحظ حضرة المؤلف بأن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يسكن في قصر الإمارة ولا قصر آخر ، وحاشاه أن يكون من سكان القصور العالية والحصون ذات الحراس والخفراء ، وهو الذي قد طلق الدنيا ثلاثا وكان في الزهد المثل الأعلى ، بل نزل عليه‌السلام عند قدومه الكوفة في دار أخته أم هاني (زوج هبيرة المخزومي) ريثما بني

٥١

فهذا البيت الذي يقع خارج قصر الإمارة يمثل محلا لاجتماع الشيعة للقيام بالعبادات والصلاة (١) ، ويحتمل بأن ذهاب رشيد الهجري «الشيعي المتطرف» إلى هذا البيت كان للعبادة وذكر الله «في حضور علي حسب رواية الشعبي».

أما بيت المال فقد كان داخل القصر ، وكان يوجد بالكوفة سجنان ، وقد رأينا بأن السجن القديم كان في غرب المدينة «قرب الكناسة».

__________________

له كوخا في جانب الميدان فانتقل إليه ، فبذلك سمي هذا الميدان برحبة علي ، أما هذا البناء الذي نراه ويؤمه الزوار المسمى ببيت علي ليس إلا أثر شيد في موضع مسكن أمير المؤمنين عليه‌السلام. وبهذه المناسبة نذكر ما أورد نصر بن مزاحم المنقري في كتاب صفين ص ٣ قال : عمر بن سعد بن أبي الصيد الأسدي عن الحارث بن حضيرة عن عبد الله بن أبي الكنود وغيره قالوا : لما قدم علي بن أبي طالب عليه‌السلام من البصرة إلى الكوفة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من رجب سنة ٣٧ ، وقد أعزه الله ونصره وأظهره على عدوه ، ومعه أشراف أهل البصرة ، استقبله أهل الكوفة وفيهم قرّاؤهم وأشرافهم ، فدعوا له بالبركة وقالوا : يا أمير المؤمنين أين تنزل؟ أتنزل القصر؟ فقال : لا ولكني أنزل الرحبة فنزل وأقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى ركعتين ثم خطب الناس الخ. وذكر نصر أيضا في ص (٥) من نفس الكتاب : قال نصر عن أبي عبد الله سفيان بن عمر عن سعيد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة أن عليا عليه‌السلام لما دخل الكوفة قيل له أي القصرين ننزلك؟ قال : قصر الخبال لا تنزلونيه ، فنزل على جعدة بن هبيرة (ابن أخته). وأيضا في ص (٥) : قال نصر عن الغيض بن محمد عن عون بن عبد الله بن عتبة قال : لما قدم علي عليه‌السلام الكوفة نزل على باب المسجد فدخل وصلى ثم تحول فجلس إليه الناس فسأل عن رجل من أصحابه كان ينزل الكوفة فقال قائل : استأثر الله به ، فقال : إن الله لا يستأثر بأحد من خلقه ، إنما أراد الله بالموت إعزاز نفسه وإذلال خلقه وقرأ(وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة : ٢٨] قال : فلما لحق الثقل قالوا : أي القصرين تنزل؟ فقال عليه‌السلام قصر الخبال لا تنزلونيه.

(١) الذهبي في كتابه الاعتدال ج ١ ، ص ٣٢٩ ، وهو الباب الثاني حسب معتقد النصيرية.

٥٢

جامع الجمعة ومساجد المحلات

لقد وضع نيبوهرNie ? buhr خريطة للجامع والتي أرجع إليها. (ولكنه نسي أن يبيّن موضع باب الفيل في الشمال». وقد أجري فيه بعض الترميمات الطفيفة منذ سنة ١٩٠٨ «راجع اللوحتين رقم ٤٣ و ٤٤ في كتاب بعثتي».

وهنا أذكر بأن الكوفة قد صارت نقطة اتصال بين التأملات الدينية عند الغزاة الأسبقين وبين الأساطير الكلدانية القديمة. فمثلا : كان فيضان الفرات يذكرهم بالطوفان ، ولا يزال يرى في المسجد موضع سفينة نوح والتنور الذي تدفّق منه الماء (١).

وأما محراب علي والأسطوانات السبع فهي من الأماكن المقدسة لدى الشيعة «والقرامطة كانوا قد وضعوا الكعبة (٢) فوق الأسطوانة

__________________

(١) راجع كتاب الخصيبي الفصل ٩٣.

(٢) هكذا يذكر حضرة المؤلف ويقصد بالكعبة الحجر الأسود الذي نقله القرامطة من مكة (المترجم).

٥٣

السابعة ـ أسطوانة إبراهيم» (١) والقنوات التي كانت تجلب الماء من الفرات إلى سقايات الجامع يظهر بأنها لم تكن موجودة في بدء الأمر ولا لتؤدي وظيفتها كاملة مثلما كانت في زمن ابن جبير.

ومع ما يظن لامانس Lammense لم تكن العبادات وإجراء الطقوس الدينية يوما ما منحصرة بالمسجد الجامع الذي توسع منذ سنة ٥٠ فجعله زياد أكبر وأجمل مسجد كاتدرائي إسلامي قبل أن يفطن عبد الملك في أن يجعل بيت المقدس والحجاج مسجد المدينة. ولا غرو في أن هذا المسجد كان محلا روحانيا مشتركا للأهالي جميعهم «ونرى كيف أن والي الكوفة عند قيام زيد بن علي سنة ١٢١ ه‍ احتال على أهل الكوفة وجمع في المسجد كافة الرجال اللائقين لحمل السلاح. كما أن عند دعوة أبي الخطاب سنة ١٣٨ ه‍ قتل أصحابه السبعون في المسجد ، ولم ينج منهم سوى واحد».

ومن ابتداء تأسيس الكوفة كان هناك عدا المسجد الجامع عدة مساجد أخرى وهي

أولا : مساجد بطون القبائل : كمسجد عبد القيس ومسجد أحمس ومسجد بني فرن ـ بني أود (من مذحج) ومسجد السكون ومسجد جعفر بن بسر ومسجد بني بهذلة ومسجد بني مرة (من كندة) ومسجد بني مقاصف (من غطفان) ودار اللؤلؤ (ـ مسجد فزازة) ومسجد بني عدي (طيء) ومساجد الكناسة «انظر الفصل الآتي» (٢) :

__________________

(١) راجع كتاب الخصيبي ص ٩٣.

(٢) البلاذري والطبري.

٥٤

ثانيا : المساجد التي جعلتها الحوادث التاريخية تبعا للتقاليد الشيعية صنفين :

١ ـ المساجد الملعونة الأربعة (١) وهي :

(١) مسجد ثقيف (لأجل المغيرة بن شعبة الثقفي).

(٢) مسجد الأشعث بن قيس الكندي (لخيانته في صفين لعلي).

(٣) مسجد جرير بن عبد الله البجلي (لحياده واعتزاله قبل وقعة صفين).

(٤) مسجد سماك بن مخرمة الهالكي الأسدي (وهو من الهاربين إلى الرقة قبل صفين) (٢).

٢ ـ المساجد المقدسة الأربعة (٣) :

(١) مسجد السهلة «ـ مسجد القرى ، الظفير الذي أشخصه بمسجد عبد القيس» ويقال بأن الخضر كان يظهر فيه ، وصار هذا المسجد يقدس منذ سنة ٢٨٦ ه‍ (٤) «ولا تزال الشيعة تعتكف فيه حتى الآن» ويقال أيضا بأن بيت إبراهيم الخليل كان في هذا الموضع ،

__________________

(١) الاسترابادي في المنهج ص ٨١.

(٢) راجع ملحقنا في آخر الكتاب ، وكتابنا النبأ العظيم الجزء الثاني الفصل ٣ حول اعتزال جرير وهروبه والهاربين معه ، والجزء الثالث ، حول الأشعث وخيانته في صفين (المترجم).

(٣) ابن الفقيه ص ١٧٤.

(٤) الطبري المجلد (٣) ص ٢١٤٠.

٥٥

وسوف يكون ظهور المهدي من هنا ، ومن المهم جدا أن نجد مسجدي صعصعة بن صوحان وأخيه زيد (١) بالقرب من هذا المسجد.

(٢) مسجد جعفي (من مذحج) وسبب تقديس هذا المسجد ربما كان تلك المواقف المشهودة والأدوار المشرفة التي قام بها الشيعة الثلاثة جابر والمفضل وابنه محمد من أبناء هذه العشيرة (٢)

__________________

(١) صعصعة بن صوحان العبدي «نسبة إلى بني عبد القيس وهم بطن من ربيعة) كان من أخصّ أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن وجوه الشيعة وكذلك أخواه زيد وسيحان وكانوا من شجعان الفتوحات وذوي البلاء فقد زيد يده اليمنى فيها ، واشتركوا في الحركات الإصلاحية والمطالبات الاجتماعية العادلة في زمن عثمان ، وشهدوا حرب الجمل حيث استشهد زيد ، وكان صعصعة قد بعثه أمير المؤمنين سفيرا إلى معاوية وتولى قيادة قومه ، وكانوا رحمهم‌الله من العلماء الأعلام ومن خيرة الزهاد.

راجع للتفصيل كتابنا النبأ العظيم الجزء الأول الفصل الثالث والجزء الثاني الفصل الأول والثاني والجزء الثالث الفصل الثاني والثالث «المترجم».

(٢) جابر بن يزيد الجعفي «المذحجي» كان من أعيان الشيعة ومن أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام وقد روى عنهما الحديث وكان قد تلمذ على الباقر وكيفية ذلك أنه خرج من العراق شاخصا نحو المدينة فتشرف بالحضور عند الباقر عليه‌السلام فسأله الباقر من أين الفتى؟ فأجابه عراقي من الكوفة من جعفى. فقال الإمام ما الذي أقدمك؟ فقال : طلب العلم. فقال له الإمام ممّ تطلبه؟ قال : منك يابن رسول الله. فقال الباقر : إذا سألك أحد فقل بأنك من أهل المدينة. فقال جابر : أيجوز الكذب؟ فأجابه الإمام : إنه ليس بالكذب فكل من سكن المدينة هو من أهلها ، فمكث جابر هناك يدرس عند الإمام حتى تخرّج على يده ، فسلمه الباقر كتابا وقال له : تعلّم ما فيه إلى أن يزول ملك بني أمية فعند ذاك عليك لعنتي ولعنة آبائي إن أخفيت شيئا منه بعد بني أمية ، فصار جابر من أعلم أهل عصره وله كتاب في الحديث وآخر في التفسير ورسالة أبي جعفر إلى أهل البصرة وكتب أخرى في حروب الجمل وصفين والنهروان وغيرها. وتوفي سنة ١٢٨ ه‍ ـ أما المفضل بن عمرو الجعفي فمن عظماء

٥٦

«في القرن الثاني الهجري» (١).

(٣) مسجد غني (بطن من بني العصر من القيسيين) (٢) (أما سبب تقديس هذا المسجد فغير معلوم) (٣).

(٤) مسجد الحمراء (الذي كان فيه بستان) وهذه القبيلة الإيرانية كانت تحمل شعورا وعاطفة شيعية منذ أن دخلوا في الإسلام (٤).

وأنا حتى الآن لم أبحث في الكتب الخاصة بالزيارات (٥) التي نسمع صداها في أخبار ابن بطوطة كما أني لم أراجع بعد الأحاديث والروايات التي تخصّها.

__________________

الشيعة وكان شديد الحب لعلي وآله حتى رموه بالغلو والكفر (شأن الخصوم والمغرضين في كل عصر وزمان) وهو بريء منهما وقد شهد الإمام جعفر بن محمد عليه‌السلام له بالجنة وكان يحبه حبا جمّا وعينه وكيلا له ومعتمده في العراق يجبي له الزكاة وسهم الإمام وظل في منصبه حتى زمن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام «كما ذكر حضرة المؤلف في فصل الطوپوغرافية الاقتصادية للكوفة» وابنه محمد بن المفضل كذلك كان من وجوه الشيعة ورؤسائهم. «المترجم».

(١) الغنويون كانوا يملكون حران وكان أحد رؤسائهم أبو مرثد قد تحالف في دمشق مع ابن حمزة بن عبد المطلب عمّ النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) وهم أبواب الأئمة حسب معتقد الغلاة.

(٣) أظن بأن سبب تقديس هذا المسجد هو لأن الإمام علي بن الحسين عليهما الصلاة والسلام كان قد صلى فيه. «المترجم».

(٤) كان هؤلاء قد تخالفوا مع عبد القيس بعد وقعة القادسية كما مرّ في فصل تمصير الكوفة ، وبما أن عبد القيس كانوا من الشيعة فصار حلفاؤهم مثلهم.

(٥) في آداب زيارة العتبات العالية.

٥٧
٥٨

ضاحية الكناسة (المندرسة)

كانت أولا كناسة لبني أسد (١) ، أي محل رمي الأنقاض (مزبلة) لهذه القبيلة ، عند مخرج الكوفة من الغرب ، ومن ثم أصبحت تجارة النقليات وصناعتها متمركزة هناك بطبيعة الحال لأنها كانت مناخة لإبل القوافل وموضعا لتحميل البضائع وتفريغها ونظير هذا المحل كان يسمى بالبصرة (المربد) وكان يوجد هناك من ابتداء الأمر سوق البراذين (وفيه قتل الأربد العبسي سنة ٣٧ ه‍) (٢) وفي هذا السوق كانوا يشترون ويستأجرون الحمير والبغال والإبل من نخاسة الدواب الذين كانوا بجنب الحدادين (٣). ومن المحقق بأن نخاسة العبيد كذلك كانوا هنا. أما سوق الغنم فنستدل من رواية مصرع هاني بن عروة بأنه كان شرقي الكناسة على تخوم محلة مذحج (٤).

__________________

(١) نفس الرحمن لنوري الطبرسي ص ٦٩.

(٢) نصر بن مزاحم كتاب صفين ص ٦٨ «وراجع ملحقنا أيضا ، المترجم).

(٣) الطبري المجلد (٢) ص ٧٣٥ ، وابن سعد ج ٦ ص ٢٨٠ ، والسمعاني.

(٤) الطبري المجلد (٢) ص ٢٦٨.

٥٩

والقبائل التي سكنت الكناسة هي : عبس وضبة وبالأخص تميم ، ثم أصبحت ملجأ للسنيين يلتجؤون إليها كلما زاد تشيع أهل الكوفة حماسا وحنقا على بني أمية.

ولما انحطت الكوفة أضحت الكناسة ضاحية منعزلة مختصة بالسّنة ، كما يذكر لنا المقدسي وفيها كانت منازل آل طلحة (من نسل ابنه موسى) ومساكن بطون قبيلة تميم ، فبنو رياح كانوا يسكنون في الجهة الشرقية (والسكة التي كانت تمتد من الكناسة إلى السجن القديم سميت ب (سكة شبث) نسبة إلى رئيسهم الخارجي (شبث بن ربعي) (١) وبنو دارم كانوا يسكنون حيال بني رياح (وكان القادم من جهة القصر يرى دار رئيسهم بشر بن عطارد (٢) خلف دور بني أسد) (٣) وكذلك كان بنو حمام وبنو الشيطان (ـ حنظلة) يسكنون الكناسة. وبعد زمن سكنت الكناسة بعض بطون بني أسد كبني عوف وبني حزام (وليس بني خزّام ، الذين كان آل جابر الأنصاري الحواري الشيعي قد اختفوا في منازلهم ، كما أن الشيعي المتطرف (المغيرة) (٤) كان يتردد هناك على الشيعيين (الأحمس وصفوان بن مهران). وسكن الكناسة أيضا بنو هالك (رهط سماك بن مخرمة خصم العلويين) وكان لهم هناك

__________________

(١) الأغاني الطبعة الثانية المجلد (١٥) ص ١١٠.

(٢) الكشي ص ٦٠.

(٣) ابن الفقيه ص ١٨٣.

(٤) هو المغيرة بن سعيد البجلي كان عابدا زهدا ، وقد أمر بإحراقه عبد الله بن خالد القسري والي بني أمية على الكوفة (سنة ١١٩ ه‍) المترجم.

٦٠