حاشية الدسوقي - ج ٢

محمّد بن عرفة الدسوقي

حاشية الدسوقي - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عرفة الدسوقي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-744-1
ISBN الدورة:
9953-34-744-1

الصفحات: ٧٤٣

المدركة للكليات. وبالوهم : القوة المدركة للمعانى الجزئية الموجودة فى المحسوسات ...

______________________________________________________

فى معان جزئية ، أو بواسطة الخيال وحده بأن كان تصرفها فى صورة جزئية ، أو بواسطتها خصت باسم المتخيلة ، أو المتوهمة ، وهذه القوى أى : المفكرة فى التجويف الوسط من الدماغ ، وليس فيه غيرها إذا لم يذكر لها خزانة ، بل خزانتها خزائن القوى الأخر فتأخذ صورة من الخيال وتحكم عليها بمعنى من المعانى التى فى الحافظة أو العكس ، وتأخذ صورة من الخيال وتحكم عليها بمعنى كلى من المعانى التى فى خزانة العقل وهكذا ، وقد تقرر بهذا أن فى الباطن سبعة أمور القوة العاقلة وخزانتها ، والوهمية وخزانتها ، والحس المشترك وخزانته ، والمفكرة ، وبهذه السبعة ينتظم أمر الإدراك ؛ وذلك لأن المفهوم المدرك : إما كلى أو جزئى ، والجزئى : إما صورى وهى المحسوسة بالحواس الخمس الظاهرة ، وإما معان ولكل واحد من الأقسام الثلاثة مدرك وحافظ فمدرك الكلى هو العقل ، وحافظه المبدأ الفياض ، ومدرك الصور هو الحس المشترك ، وحافظها هو الخيال ومدرك المعانى هو الوهم ، وحافظها هو الذاكرة ، ولا بد من قوة أخرى متصرفة وتسمى مفكرة ومتخيلة ، وهذا كله عند الحكماء ، واستدلوا على تعدد هذه القوى بأن الآفة إذا أصابت محل تلك القوى ذهب إدراكها المخصوص ـ ألا ترى لقلة الحفظ بالحجامة فى القفا لضعف عصب محل القوة الوهمية ولفساد التصرف بفساد وسط الدماغ ، وأما أهل السنة : فلا يثبتون هذه القوى تحقيقا فيجوزون هذا التفصيل ، ما عدا العقل الفياض الذى جعلوه خزانة القوة العاقلة ، ويجوز عندهم أن يكون المدرك قوة واحدة ، وتسمى بهذه الأسماء باعتبار تعلقها بتلك المدركات وحكمها بتلك الأحكام فهى من حيث حكمها بالأحكام الكاذبة ، وإدراك المعانى الجزئية وهم ، ومن حيث إدراك الصور الظاهرية من الحواس حس مشترك وخيال ، ومن حيث التصرف الصادق وإدراك المعانى الكلية متعقلة ، ومن حيث التصرف الكاذب متخيلة ومتوهمة (قوله : المدركة للكليات) أى : بالذات ، وكذا يقال فى بقية تعاريف القوى المذكورة بعد ، وإنما قلنا بالذات فى التعاريف ؛ لأن كلا من القوى المذكورة يدرك غير ما له بالواسطة كالعقل مثلا ، فإنه يدرك الجزئى بواسطة تجريده عن العوارض الجسمانية والواهمة ،

٥٤١

من غير أن تتأدى إليها من طرق الحواس ؛ ...

______________________________________________________

فإنها تدرك صور المحسوسات بواسطة الحس المشترك ، وبهذا يندفع ما يقال : إذا قيل زيد إنسان ، فإما أن يكون الحاكم الحس المشترك فيرد عليه أنه إنما يدرك زيدا فقط ولا يدرك النسبة ولا المحمول الكلى ـ فكيف يصح الحكم منه؟ والحاكم يجب أن يدرك الطرفين ، وإما أن يكون الحاكم الواهمة فيرد عليه أنها لا تدرك الموضوع ولا المحمول ، فكيف تحكم؟ وإما أن يقال : الحاكم العقل ـ فيرد عليه أنه لا يدرك الموضوع ولا النسبة ـ فكيف يحكم؟ وحاصل الجواب : أنّا نختار الأخير ـ وهو أن الحاكم العقل ، وقولكم : إنه لا يدرك الموضوع ولا النسبة إن أريد أنه لا يدركهما أصلا لا بالذات ولا بالواسطة فهو ممنوع ، إذ الموضوع الجزئى يدركه بواسطة تجريده عن العوارض الجسمانية والنسبة يدركها بواسطة الواهمة ، وإن أريد أنه لا يدركهما بالذات فمسلم ، لكن الحكم لا يتوقف على ذلك ، إذ المدار على كون الحاكم مدركا للطرفين ولو بالواسطة ، ويندفع أيضا ما يقال : إن المعانى الجزئية نسب منتزعة من الصور فتعقلها متوقف على تعقل صور المحسوسات ـ فكيف تدركها الواهمة من غير إدراك الصور؟ وحاصل الدفع أن إدراكها للعداوة مثلا التى هى أمر جزئى يتأدى بغير طرق الحواس بذاتها وإدراكها للذئب ـ مثلا ـ الذى هو صورة يتأدى بواسطة الحواس الظاهرة بواسطة الحس المشترك ؛ لأن القوى الباطنية كالمراءى المتقابلة ينعكس إلى كل ما ارتسم فى الأخرى ، هذا والموافق لما تقدم من أن الوهمية سلطان القوى ، وأن لها التصرف فى مدركاتها أن الحاكم إنما هو تلك القوة ـ هذا محصل ما فى شرح شيخنا الشيخ الملوى لألفيته ، وهو مبنى على أن تلك القوى حقيقة ، والذى صرح به بعض المحققين كالسيد فى حاشية شرح المطالع أن المدرك للكليات والجزئيات ـ سواء كانت صورا أو معانى ـ إنما هو النفس الناطقة لكن بواسطة هذه القوى وأن نسبة الإدراك لهذه القوى كنسبة القطع إلى السكين فى يد صاحبه ، فإذا قيل لقوة من تلك القوى إنها مدركة لكذا ، فالمراد أنها آلة لإدراكه ، وعلى هذا فلا يرد شىء من البحثين السابقين ، فإذا قلت زيد إنسان ، فالحاكم النفس وهى تدرك الجميع بآلات مختلفة (قوله : من غير أن تتأدى) أى :

٥٤٢

كإدراك الشاة معنى فى الذئب. وبالخيال : القوة التى تجتمع فيها صور المحسوسات وتبقى فيها بعد غيبتها عن الحس المشترك ؛ وهو القوة التى تتأدى إليها صور المحسوسات من طرق الحواس الظاهرة. وبالمفكرة : القوة التى من شأنها التفصيل والتركيب بين الصور ...

______________________________________________________

تصل إليها من طرق الحواس وهذه زيادة توضيح ؛ لأن المعانى عبارة عما يقابل الصور ، والمتأدى بالحواس هو الصور ، فالمسموعات والمشمومات والمذوقات والملموسات داخلة فى الصور لا فى المعانى ، وليس المراد بالصور خصوص المبصرات وبالمعانى ما عداها حتى يدخل فيها ما ذكر (قوله : كإدراك الشاة) أى : كقوة إدراك الشاة أى : كالقوة التى تدرك بها الشاة معنى فى الذئب وهو الإيذاء والعداوة ، فالعداوة التى فى الذئب معنى جزئى تدركه الشاة بالواهمة ولم يتأد إليها من حاسة ظاهرة لا من السمع ، ولا من البصر ، ولا من الشم ، ولا من الذوق ، ولا من اللمس.

(قوله : التى تجتمع فيها إلخ) أى : فهى خزانة للحس المشترك وليست مدركة (قوله : وتبقى) أى : تلك الصور والمحسوسات ، (وقوله : فيها) أى : فى تلك القوة الخيالية ، فمتى التفت إليها الحس المشترك بعد غيبتها عنه وجدها حاصلة فى الخيال الذى هو خزانته فالحس المشترك هو المدرك للصور والخيال قوة ترسم فيه تلك الصور فهو خزانة له (قوله : وهو) أى : الحس المشترك القوة التى تتأدى أى : تصل إليها صور المحسوسات من طرق الحواس الظاهرة فهو كحوض يصب فيه من أنابيب خمسة هى الحواس الخمس : السمع والبصر والشم والذوق واللمس (قوله : التى من شأنها التفصيل والتركيب إلخ) أى : أن شأن تلك القوة تركيب الصور المحسوسة التى تأخذها من الحس المشترك ، وتركب بعضها مع بعض كتركيب رأس الحمار على جثة إنسان وإثبات إنسان له جناحان أو رأسان ، وشأنها أيضا تركيب المعانى التى تأخذها من الوهم مع الصور التى تأخذها من الحس المشترك بأن تثبت تلك المعانى لتلك الصور ، ولو على وجه لا يصح : كإثبات العداوة للحمار ، والعشق للحجر ، والضحك للإنسان ، وشأنها أيضا تفصيل الصور عن المعانى بنفيها عنها ، وتفصيل الصور بعضها عن بعض ، ومثال

٥٤٣

المأخوذة من الحس المشترك والمعانى المدركة بالوهم بعضها مع بعض ، ونعنى بالصور : ما يمكن إدراكه بإحدى الحواس الظاهرة ، وبالمعانى : ما لا يمكن.

فقال السكاكى : الجامع بين الجملتين إما عقلى ؛ وهو أن يكون بين الجملتين اتحاد فى تصور ما ؛ مثل الاتحاد ...

______________________________________________________

تفصيل الصور بعضها عن بعض ولو على وجه لا يصح كتفصيل أجزاء الإنسان عنه حتى يكون إنسانا بلا يد ولا رجل ولا رأس ، ومثال تفصيل المعانى عن الصور بنفيها عنها نفى الجمود عن الحجر ، ونفى المائعية عن الماء ، ومن أجل ذلك تخترع أمورا لا حقيقة لها حتى إنها تصور المعنى بصورة الجسم ، والجسم بصورة المعنى فإن اخترعت تلك الأمور بواسطة تركيب صور مدركة بالحس المشترك سمى ما اخترعته خياليا : كاختراعها أعلاما ياقوتية منشورة على رماح زبرجدية ، وإن اخترعتها مما ليس مدركا بالحس سمى ما اخترعته وهميا ، وذلك كما إذا سمع إنسان قول القائل الغول شىء يهلك فيصوره بصورة مخترعة بخصوصها مركبة من أنياب مخترعة بخصوصها أيضا (قوله : المأخوذة من الحس) أى : التى تأخذها منه (قوله : والمعانى المدركة بالوهم) المناسب لما قبله أن يقول : والمعانى التى تأخذها من الوهم (قوله : ونعنى بالصور) أى : المدركة بالحس المشترك (قوله : وبالمعانى) أى : المدركة بالوهم ، (وقوله : ما لا يمكن) أى : إدراكه أى : ما لا يمكن إدراكه بإحدى الحواس لا يقال : يدخل فى هذا المعانى الكلية المدركة بالعقل ؛ لأنا نقول : إن ما واقعة على معان جزئية ؛ لأن المعانى المدركة بالوهم التى الكلام فيها لا تكون إلا جزئية (قوله : فقال) عطف على قوله : سابقا ذكر ، وقوله هنا السكاكى : إظهار فى محل إضمار لبعد العهد بكثرة الفصل (قوله : مثل الاتحاد إلخ) يفهم منه أن الاتحاد فى واحد من المخبر عنه أو به قيد من قيودهما كاف للجمع بين الجملتين وفساده واضح ، وهذا حاصل الاعتراض المشار له بقول الشارح : ولما كان إلخ ، وسيجيب عنه الشارح بعد بأن كلامه هنا فى بيان الجامع فى الجملة لا فى بيان القدر الكافى بين الجملتين ؛ لأنه ذكره فى موضع آخر ، وسيأتى البحث عنه.

٥٤٤

فى المخبر عنه ، أو فى الخبر ، أو فى قيد من قيودهما ؛ وهذا ظاهر فى أن المراد بالتصور الأمر المتصور.

ولما كان مقررا أنه لا يكفى فى عطف الجملتين وجود الجامع بين مفردين من مفرداتهما ـ باعتراف السكاكى أيضا ـ غير المصنف عبارة السكاكى ، وقال :

______________________________________________________

(قوله : فى المخبر عنه) أى : المبتدأ نحو : زيد قائم وزيد قاعد ، (وقوله : أو فى الخبر) نحو : زيد كاتب وعمرو كاتب كذلك ، ولو عبر بالمسند إليه والمسند بدل المخبر عنه والخبر لكان أولى لأجل أن يشمل الجمل الإنشائية ، (وقوله : أو فى قيد من قيودهما) مثاله فى قيد المسند إليه زيد الراكب قائم وعمرو الراكب ضارب ، ومثاله فى قيد المسند زيد أكل راكبا وعمرو ضرب راكبا (قوله : وهذا) أى : قول السكاكى مثل الاتحاد إلخ ، ظاهر فى أن المراد بالتصور الأمر المتصور ؛ لأن المخبر عنه والخبر والقيد التى مثل بها للتصور أمور متصورة لا تصورات ولا بدع فى إطلاق التصور على المتصور ، إذ كثيرا ما يطلق التصورات والتصديقات على المعلومات التصورية والتصديقية (قوله : لا يكفى إلخ) أى : بل لا بد من جامع بين جميع الأجزاء الأربعة على الوجه السابق (قوله : مقررا) خبر كان مقدما ، (وقوله : أنه لا يكفى) اسمها (قوله : باعتراف السكاكى) أى : وعبارته السابقة تؤذن بالكفاية كما يأتى بيانه (قوله : غير المصنف عبارة السكاكى) جواب لما أى غيرها للإصلاح لما فيها من إيهام خلاف المقصود ، فأبدل الجملتين بالشيئين الشاملين للركنين بجعل أل فى الشيئين للعموم بمعنى أن كل شيئين من الجملتين يجب الجامع بينهما ، فيقتضى ذلك وجوب وجود الجامع بين كل ركنين ، وأبدل تصور المنكر بالتصور المعرف مرادا به الإدراك لا المتصور ؛ لأن تصور المنكر نكرة فى سياق الإثبات فلا يصدق إلا على فرد فيقتضى كفاية الاتحاد فى متصور واحد ، فعدل عنه للمعرف ليفيد أن الجامع الاتحاد فى جنس المتصور فيصدق بتصور المسندين والمسند إليهما ولا يكفى تصور واحد ، والحاصل أن المصنف إنما عدل عن الجملتين إلى الشيئين ؛ لأن الجامع يجب فى المفردات أيضا فنبه على أن ما ذكره لا يخص الجملتين ، وعدل عن تصور إلى التصور ؛ لأن المتبادر منه كفاية الاتحاد فى متصور واحد فعدل للمعرف ليفيد أن الجامع الاتحاد فى جنس المتصور ولا يكفى الاتحاد فى متصور واحد.

٥٤٥

(الجامع بين الشيئين : إما عقلى) وهو أمر بسببه يقتضى العقل اجتماعهما فى المفكرة ؛ وذلك (بأن يكون بينهما اتحاد فى التصور ، ...

______________________________________________________

(قوله : الجامع بين الشيئين) أى : بين كل شيئين من الجملتين ، فأل للاستغراق فيستفاد منه اشتراط وجود الجامع بين كل ركنين من أركانهما.

(قوله : وهو) أى : الجامع العقلى أمر أى : كالاتحاد فى التصور والتماثل ، (وقوله : اجتماعهما) أى : اجتماع الشيئين أى : اجتماع معناهما فى المفكرة وهى الآخذة من الوهم والحس المشترك لتتصرف فى ذلك المأخوذ منهما بالتركيب فيه ، والحل على وجه الصحة أو البطلان كما مر ، وأنت خبير بأن الذى أوجب الجمع عند المفكرة هو قوة العقل المدركة بسبب الاتحاد أو التماثل مثلا ، فلذا يسمى كل منهما جامعا عقليا ، والحاصل أن القوة العاقلة هى التى تجمع بين الشيئين فى المفكرة بسبب هذا الأمر فتتصرف فيهما المفكرة حينئذ بما تتصرف به ، وعلى هذا فتسمية الاتحاد فى التصور مثلا جامعا عقليا لكونه سببا فى جمع العقل بين الشيئين ، فعلم من هذا أن الجامع العقلى هو السبب فى جمع العقلى سواء كان مدركا بالعقل لكونه كليا أو مضافا لكلى أو مدركا بالوهم بأن كان جزئيا لكونه مضافا لجزئى ، وليس المراد بالجامع العقلى ما كان مدركا بالعقل (قوله : وذلك) أى : الجامع العقلى ، (وقوله : بأن يكون) أى : يتحقق بوجود الاتحاد أو التماثل بينهما من تحقق الجنس فى النوع كما يقال يوجد الحيوان بوجود الإنسان (قوله : اتحاد فى التصور) أى : عند تصور العقل لهما ، وذلك إذا كان الثانى هو الأول نحو : زيد كاتب وهو شاعر ولا يضر اختلاف الجامع ، فإنه فى المسند إليه عقلى وفى المسندين خيالى وهو تقارن الشعر والكتابة ، فإن قلت : إن الاتحاد فى التصور يرفع التعدد المحوج للجامع ـ قلت إذا قلنا مثلا زيد يكتب ويشعر ، ففى قولنا يشعر مسند إليه به حصل التعدد اللفظى ، وإن اتحد المدلول ، فالتعدد المحوج للجامع موجود فى الصناعة اللفظية ، والاتحاد فى المدلول أقوى جامع بين اللفظين المعتبرين فى الجملتين ، فإن قيل ما ذكر من الاتحاد يمكن الخروج به عن البحث السابق عند اختلاف ركنين من الجملتين لوجود مطلق الاختلاف المصحح للعطف ، وأما عند الاتحاد فى الركنين ، فقد صارت

٥٤٦

أو تماثل ، فإن العقل بتجريده المثلين عن التشخص فى الخارج يرفع التعدد) بينهما

______________________________________________________

الجملة الثانية نفس الأولى ، فكيف يتحقق الاختلاف الموجب لطلب الجامع ، قلت : إن الكلام فى مصحح العطف بالواو ولا بد فيه من الاختلاف بوجه ما ، ولا يتأتى أن يوجد الاتحاد فى الركنين عند العطف بها ، وإلا كانت الثانية تأكيدا ، فلا يصح العطف فإن قلت كون المسند إليهما أو المسندين متحدين معنى ، بل وكونهما متناسبين بأى جامع عقليا كان أو وهميا أو خياليا إنما يقتضى اجتماع ذينك المتناسبين عند المفكرة ؛ لأنهما هما اللذان جمع بينهما الوهم أو العقل أو الخيال ، ولا يلزم من ذلك اجتماع مضمون الجملتين الذى هو النسبة الحكمية ، والمطلوب اجتماع مضمون الجملتين لا اجتماع المفردات الموجودة فى الجملتين ؛ لأن الجملتين هما اللتان وقع فيهما العطف فيطلب الجامع بينهما لا المفردات ، إذ لا عطف فيها حتى يطلب الجامع بينها قلت : إذا تحقق الجامع بين المفردات تحقق بين النسبتين ضرورة أن تناسب المفردات يقتضى التناسب بين النسبتين فى الجملتين ، وحينئذ فإذا اجتمعت المفردات عند المفكرة اجتمع فيها النسبتان تبعا للمفردات فصح العطف.

(قوله : أو تماثل) أى : أو يكون بينهما تماثل وذلك بأن يتفقا فى الحقيقة ويختلفا فى العوارض ، فمثال ما إذا كان بينهما تماثل فى المسند إليه كأن يقال : زيد كاتب وعمرو شاعر ، فبين زيد وعمرو تماثل فى الحقيقة الإنسانية ، فكأنه قيل : الإنسان كاتب والإنسان شاعر ، ومثال التماثل فى المسند نحو : زيد أب لبكر وعمرو أب لخالد فأبوة زيد وأبوة عمرو حقيقتهما واحد وإن اختلفا بالشخص ، فإذا جردتا عن الإضافة المشخصة صارتا شيئا واحدا.

(قوله : فإن العقل بتجريده إلخ) هذا بيان لوجه كون التماثل جامعا عقليا وهو فى الحقيقة جواب عما يقال إن المتماثلين قد يكونان جزئيين جسمانيين والعقل لا يدرك الجزئيات الجسمانية ؛ لأن العقل مجرد عن المادة أعنى العناصر الأربعة ولواحقها والجزئيات الجسمانية ليست مجردة عنها فلا تناسب العقل المجرد والذى يناسبه إنما هو الكلى والجزئى المجرد ، وحيث كان الجزئى الجسمانى لا يدركه العقل فكيف يجمع بينهما

٥٤٧

فيصيران متحدين ؛ وذلك لأن العقل يجرد الجزئى الحقيقى عن عوارضه المشخصة الخارجية ، وينتزع منه المعنى الكلى فيدركه على ما تقرر فى موضعه ، وإنما قال : فى الخارج ...

______________________________________________________

فى المفكرة ، وحاصل ما أجاب به المصنف أن العقل يدركهما بعد تجريدهما عن المشخصات ، (وقوله : بتجريد) مصدر مضاف لفاعله وهو متعلق بيرفع. والباء سببية ، والمراد بتجريد العقل للمثلين عن المشخصات عدم ملاحظته لتلك المشخصات التى فيها كما فى الأطول ، (وقوله : عن التشخص) أى : عن الصفة المشخصة ـ أى : المميز لهما فى الخارج ـ التى بها يباين أحدهما الآخر من طول وعرض ولون ، ومن اللون المخصوص والمقدار المخصوص ، (وقوله : يرفع) أى : العقل ، (وقوله : التعدد) أى : الحاصل بين المثلين كزيد وعمرو وهذه الجملة خبر إن (قوله : فيصيران متحدين) أى : فيصيران شيئا واحدا عند المفكرة كالمتحدين والاتحاد جامع ؛ لأن حضور أحد الأمرين المتحدين فى الحقيقة فى المفكرة حضور للآخر ، فعلم من هذا أن الاتحاد جامع سواء كان حقيقيا أو حكميا.

(قوله : وذلك) أى : التجريد المذكور حاصل ؛ لأن إلخ (قوله : لأن العقل يجرد الجزئى الحقيقى) المراد به الجزئى الجسمانى وهو ما يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه ، واعترض بأن تجريد العقل للجزئى المذكور لا يكون إلا بعد إدراكه والعقل لا يدركه ؛ لأنه إنما يدركه الكلى أو الجزئى المجرد ، وحينئذ فلا يمكن أن يجرد الجزئى الحقيقى ، إذ فيه تجريد الشىء قبل إدراكه ، وحاصل الجواب أن المنفى عن العقل إدراكه للجزئى المذكور بالذات ، وهذا لا ينافى استشعاره له بالوسائط ، فالجزئيات الجسمانية تدرك أولا بالحس ، فإذا أدركها الحس استشعرها العقل ، ثم يجردها بعد ذلك عن المشخصات بواسطة المفكرة ، ثم يدركها بالذات (قوله : الخارجية) أى : كالألوان والأكوان المخصوصة ، والمقدار المخصوص ، والمراد بالخارج هنا ما يعم خارج الأعيان ، وخارج الأذهان ، فتدخل الجزئيات المعدومة (قوله : وينتزع منه المعنى الكلى) أى الماهية الكلية كماهية الإنسان أعنى الحيوان الناطق (قوله : على ما تقرر فى موضعه) متعلق بيجرد والمراد بموضعه كتب الحكمة (قوله : وإنما قال فى الخارج) أى : ولم يطلق التشخص

٥٤٨

لأنه لا يجرده عن المشخصات العقلية ؛ لأن كل ما هو موجود فى العقل فلا بد له من تشخص فيه به يمتاز عن سائر المعقولات.

وهاهنا بحث ؛ وهو أن التماثل هو الاتحاد فى النوع ؛ مثل : اتحاد زيد وعمرو ـ مثلا فى الإنسانية ، وإذا كان التماثل جامعا لم تتوقف صحة قولنا : زيد كاتب وعمرو شاعر على أخوة زيد وعمرو ، أو صداقتهما ، أو نحو ذلك ؛ لأنهما متماثلان لكونهما من أفراد الإنسان. والجواب : أن المراد بالتماثل هاهنا اشتراكهما فى وصف له نوع اختصاص بهما ؛ ...

______________________________________________________

(قوله : لأنه لا يجرده) أى : لأن العقل لا يجرد الجزئى الحقيقى (قوله : عن المشخصات العقلية) أى : وهى الفصول التى لا يتحقق التمايز بين الكليات فى العقل إلا بها كالناطقية بالنسبة للإنسان ، والناهقية بالنسبة للحمار ، والصاهلية بالنسبة للفرس ، ويقال لها مشخصات ذهنية أيضا (قوله : لأن كل ما هو موجود فى العقل) أى : كماهية الإنسان وهذا علة لعدم تجريد العقل للمشخصات العقلية (قوله : فلا بد له) أى : للموجود فى العقل ، (وقوله : من تشخص) أى : من مشخص ومعين ، (وقوله : فيه) أى : فى العقل (قوله : به) أى : بذلك المشخص (قوله : عن سائر المعقولات) أى : كماهية الفرس ، والحاصل أن الأمرين الكليين كالإنسان والفرس كل منهما حاصل عند العقل ومتعين فيه عن غيره بواسطة أن المعين للأول الناطقية ، وللثانى الصاهلية ، فلو جردهما العقل عن مميزهما لزم أنهما معلوم واحد ولزم أن الأشياء كلها معلوم واحد عند تجريد سائر الكليات ، وكون الأشياء كلها معلوما واحدا باطل ـ كذا قرر شيخنا العدوى.

(قوله : وهاهنا) أى : فى هذا المحل بحث من جهة جعل التماثل جهة جامعة (قوله : وهو أن التماثل) أى : عند الحكماء (قوله : هو الاتحاد فى النوع) أى : فى الحقيقة (قوله : مثلا) تأكيد لقوله : مثل (قوله : لم تتوقف إلخ) أى : مع أنه تقدم أن المسند إليهما إذا تغايرا ، فلا بد من تناسبهما نحو : زيد شاعر وعمرو كاتب وزيد طويل وعمرو قصير لمناسبة بينهما إلخ (قوله : أو نحو ذلك) أى : كاشتراكهما فى صنعة (قوله : أن المراد بالتماثل هاهنا) أى : فى كلام المصنف التماثل عند البيانيين وهو اشتراك الشيئين فى وصف

٥٤٩

على ما سيتضح فى باب التشبيه.

(أو تضايف) وهو كون الشيئين بحيث لا يمكن تعقل كل منهما إلا بالقياس إلى تعقل الآخر (كما بين العلة والمعلول) ...

______________________________________________________

مع اشتراكهما فى الحقيقة لا مجرد اشتراكهما فى النوع ، والحاصل أن هذا البحث مغالطة منشؤها توهم أن المراد بالتماثل هنا التماثل بالمعنى المصطلح عليه عند الحكماء وهو الاتحاد فى الحقيقة ، وجوابها منع أن المراد بالتماثل هنا التماثل بالمعنى المذكور ، بل بالمعنى المصطلح عليه عند البيانيين وهو الاشتراك فى وصف له مزيد اختصاص وارتباط بالشيئين ـ بحيث يوجب اجتماعهما فى المفكرة مع اشتراكهما فى الحقيقة.

(قوله : على ما سيتضح فى باب التشبيه) أى : من اشتراك المشبه والمشبه به فى وصف خاص زائد على الحقيقة ، فإذا قيل : زيد كعمرو لم يكف أن يقال فى الإنسانية ، بل لا بد من وصف زائد على ذلك كالكرم والشجاعة ، فإن قلت المذكور فى باب التشبيه أنه لا بد من المشاركة فى وصف خاص دون الحقيقة والمعتبر هنا المشاركة فى الحقيقة والوصف جمعا ، فكيف يحمل ما هنا على ما هناك؟ قلت : المشاركة فى الحقيقة لازمة للمشاركة فى الوصف ، فإذا قيل زيد كعمرو فى الكرم ، فكأنه قيل : زيد كعمرو فى الإنسانية مع الكرم ، وحينئذ فيتقوى بذلك ما اعتبر هنا ؛ لأن لباب الجامع تعلقا بباب التشبيه من حيث استدعاء كل منهما أمرا مشتركا فيه فيكون ما اعتبر فى أحدهما معتبرا فى الآخر (قوله : أو تضايف) كأن يقال أبو زيد يكتب وابنه يشعر ، فالجامع بين الأب والابن المسند إليهما عقلى وهو التضايف ، وكذا يقال فى أبوك زيد وابنك عمرو ، وإن اختلفا من جهة أن الجامع بين المسندين فى المثال الأول خيالى ، وفى المثال الثانى عقلى وهو التماثل (قوله : بحيث لا يمكن تعقل كل منهما إلخ) أى : بحيث يكون تصور أحدهما لازما لتصور الآخر ، وحينئذ فحصول كل واحد منهما فى المفكرة يستلزم حصول الآخر فيها ضرورة ، وهذا معنى الجمع بينهما فيها وليس المراد به اتحادهما فيها (قوله : كما بين العلة والمعلول) أى : كالتضايف الذى بين مفهوم العلة وهو كون الشىء سببا وبين مفهوم المعلول وهو كون الشىء مسببا عن ذلك الشىء كأن يقال :

٥٥٠

فإن كل أمر يصدر عنه أمر آخر بالاستقلال أو بواسطة انضمام الغير إليه فهو علة ، والآخر معلول (أو الأقل والأكثر) فإن كل عدد يصير عند العد فانيا قبل عدد آخر فهو أقل من الآخر ، والآخر أكثر منه.

______________________________________________________

العلة أصل أو موجودة ، والمعلوم فرع أو موجود أو بين ما صدق العلة وبين ما صدق المعلول باعتبار مفهوم العلة ومفهوم المعلول كأن يقال : حركة الخاتم موجودة ، وحركة الأصبع موجودة أو حركة الأصبع علة ، وحركة الخاتم معلولة ، أو النار محرقة ، والحطب محرق ، وبقولنا باعتبار إلخ ـ اندفع ما يقال : إنه لا تضايف بين حركة الأصبع وحركة الخاتم ؛ لأنه يمكن تعقل أحدهما بدون تعقل الآخر مع أن الأول علة ، والثانى معلول (قوله : فإن كل أمر) الفاء واقعة فى جواب شرط مقدر أى : إذا أردت أن تعرف الفرق بين العلة والمعلول ، فنقول لك إن كل إلخ ، وكذا يقال فيما بعد.

(قوله : بالاستقلال) أشار به إلى العلة التامة ، وأشار بقوله : أو بواسطة انضمام الغير إليه إلى العلة الناقصة فالأولى كحركة الأصبع بالنسبة لحركة الخاتم والثانية كالنجار بالنسبة للسرير ، فإنه يصدر عنه بواسطة الآلة وكالنار بالنسبة للاحتراق ، فإنه يصدر عنها بواسطة اليبوسة وانتفاء البلل ، وأراد المصنف بالعلة ما يشمل السبب والمحصل ، فالأول كالزوال بالنسبة لصحة صلاة الظهر ، فإذا لاحظت الزوال ، والطهارة ، وستر العورة ، وجميع ما تتوقف عليه صحة الصلاة المذكورة كان الجميع علة تامة ، وإن لاحظت الزوال وحده أو غيره كذلك كان علة ناقصة ، والثانى كالمولى سبحانه وتعالى ، فإنه علة فى وجود العالم بمعنى أنه محصل له ، لكن بالاختيار عندنا وبدون اختيار عند الحكماء ـ قرره شيخنا العدوى.

(قوله : أو الأقل والأكثر) أى : وكالتضايف الذى بين مفهومى الأقل والأكثر كأن يقال : هذا العدد الأقل لزيد وذلك العدد الأكثر لصاحبه ، أو بين ما صدقيهما باعتبار مفهوميهما ؛ لأنه يقال : الأربعة أقل من الخمسة ، والخمسة أكثر منها ، أو هذه الأربعة لزيد والخمسة لعمرو ، وإنما كان الأقل والأكثر من المتضايفين ؛ لأن كلا منهما لا يفهم إلا باعتبار الآخر فتصور كل منهما مستلزم لتصور الآخر فمتى حصل أحدهما فى المفكرة حصل الآخر فيها (قوله : فإن كل عدد يصير عند العد) أى : عند السرد

٥٥١

(أو وهمى) وهو أمر بسببه يحتال الوهم فى اجتماعهما عند المفكرة ، بخلاف العقل فإنه إذا خلى ونفسه لم يحكم بذلك ، وذلك (بأن يكون بين تصوريهما شبه تماثل ؛ كلونى بياض وصفرة ، ...

______________________________________________________

واحدا واحدا أو اثنين اثنين ، (وقوله : قبل عدد آخر) أى : قبل فناء عدد آخر ، (وقوله : فهو) أى : ذلك العدد الذى يصير فانيا أقل ، وإنما سمى جمع الاتحاد والتماثل والتضايف عقليا ؛ لأن العقل يدرك الأمور على حقائقها ويثبتها على مقتضاها والجمع بهذه محقق فى نفس الأمر لا يبطله التأمل فنسب للعقل بخلاف الجمع بالأمر الوهمى (قوله : أو وهمى) عطف على قوله : عقلى (قوله : وهو أمر) كشبه التماثل وشبه التضاد والتضاد ، (وقوله : بسببه يحتال) أى : يتحيل الوهم ، (وقوله : فى اجتماعهما) أى : اجتماع الشيئين عند المفكرة وذلك بأن يصور الوهم ذلك الأمر بصورة تصير سببا لاجتماعهما ، وليس فى الواقع سببا له سواء كان ذلك الأمر يدركه الوهم كشبه التماثل والتضاد وشبه التضاد الجزئيات أو كان لا يدركه الوهم ككلياتها ، والحاصل أن الجامع الوهمى ليس أمرا جامعا فى الواقع بل باعتبار أن الوهم جعله جامعا (قوله : إذا خلى ونفسه) أى : مع نفسه بأن لم يتبع الوهم ، وأما لو تبع الوهم لحكم بذلك الاجتماع تبعا له.

(قوله : لم يحكم بذلك) أى : الاجتماع لهذا الأمر ، وذلك لأن العقل إنما يدرك الأمور على حقائقها ويثبتها على مقتضياتها بخلاف الوهم ، فإن شأنه إدراك الأمور لا على حقيقتها ويثبتها على خلاف مقتضاها (قوله : بأن يكون إلخ) أى : وذلك الجامع الوهمى يحصل بسبب الكون المذكور من حصول الجنس بنوعه أو أن الباء للتصوير أى : وذلك مصور بأن يكون إلخ ، (وقوله : بين تصوريهما) أى : الشيئين ، وسيأتى الاعتراض على هذه العبارة فى الشرح والصواب بأن يكون بينهما (قوله : شبه تماثل) المراد بالتماثل الاتحاد فى النوع وذلك بأن يكون بين الشيئين تقارب وتشابه باعتبار وتباين باعتبار آخر (قوله : كلونى بياض إلخ) الإضافة بيانية أى : كلونين هما بياض وصفرة فيصح العطف فى نحو : بياض الفضة يذهب الغم وصفرة الذهب تذهب الهم (قوله : كلونى بياض وصفرة) أى : فهما ليسا متماثلين لعدم صدق تعريف التماثل السابق عليهما

٥٥٢

فإن الوهم يبرزهما فى معرض المثلين) من جهة أنه يسبق إلى الوهم أنهما نوع واحد ؛ زيد فى أحدهما عارض ، بخلاف العقل فإنه يعرف أنهما نوعان متباينان داخلان تحت جنس هو اللون. (ولذلك) ...

______________________________________________________

ولا متضادين ؛ لأنهما الأمران الوجوديان اللذان بينهما غاية الخلاف ، فإن لم توجد غاية الخلاف كما فى البياض والصفرة باعتبار ما عند الوهم فلا يكونان ضدين (قوله : فإن الوهم إلخ) أى : وإنما كان بين البياض والصفرة شبه تماثل ؛ لأن الوهم أى : القوة الواهمة (قوله : يبرزهما) أى : يظهر اللونين المذكورين (قوله : فى معرض) أى : فى صفة أو فى حال المثلين وقد سبق أن المثلين وهما الأمران المشتركان فى الحقيقة النوعية المختلفان بالعوارض يرجعان إلى المتحدين بتجريد العقل لهما عن العوارض المشخصة فى الخارج ، ومعرض بوزن مسجد وهو فى الأصل مكان عروض الشىء (قوله : من جهة أنه يسبق إلى الوهم) أى : لعدم غاية الخلاف بينهما ، (وقوله : زيد فى أحدهما عارض) إن جعل ذلك الأحد الصفرة ، فالعارض الكدرة وإن جعل البياض ، فالعارض الإشراق والصفاء فذلك الأحد غير معين ، بل هو محتمل كما هو المستفاد من كلام عبد الحكيم ، والمستفاد من غيره أن ذلك الأحد المزيد عليه معين وهو الصفرة ، والزائد عليه العارض الذى لا يخرجه عن حقيقته هو الكدرة وهو المتبادر من كلام الشارح ، والحاصل أن الوهم يدعى أن أصل الصفرة بياض زيد فيه شىء يسير من الكدرة لا تخرجه عن حقيقته ، أو أن البياض أصله صفرة زيد فيه شىء يسير من الإشراق لا يخرجه عن حقيقته ، وسبب ادعاء الوهم ذلك أن الأضداد تتفاوت والبياض والصفرة ولو كانا ضدين ، لكن ليس بينهما من الضدية ما بين البياض والسواد ، بل بينهما كما بين السواد والحمرة فيسبق إلى الوهم أنهما فى الحقيقة شىء واحد ، فيحتال على الجمع بينهما عند المفكرة كالمثلين ، وإذا حكم العقل بهذا فهو بالتبع للوهم ، وإلا فهو عند الملاحظة الحقيقية يحكم بأنهما نوعان متباينان داخلان تحت جنس هو اللون ، فيجوز أن يقال ـ على هذا : هذا الأصفر حسن وذلك الأبيض أحسن منه لوجود الجامع ، فإن قلت فهل يمتنع العطف عند الملاحظة العقلية ، أو يجوز تغليبا للملاحظة الوهمية مطلقا؟ قلت : الأقرب الجواز عند

٥٥٣

أى : ولأن الوهم يبرزهما فى معرض المثلين (حسن الجمع بين الثلاثة التى فى قوله :

ثلاثة تشرق الدّنيا ببهجتها

شمس الضّحى وأبو إسحق والقمر) (١)

فإن الوهم يتوهم أن الثلاثة من نوع واحد ، وإنما اختلفت بالعوارض ، والعقل يعرف أنها أمور متباينة.

______________________________________________________

غفلة العقل وعدم ملاحظته والمنع عند عدم الغفلة المذكورة : كدخول اللام على العلم للمح الأصل ومنعها عند عدمه ـ انظره انتهى يعقوبى.

(قوله : أى ولأن الوهم يبرزهما) أى : ولأجل أن الوهم يبرز الشيئين اللذين بينهما شبه تماثل فى معرض المثلين (قوله : حسن الجمع) أى : بالعطف ، (وقوله : بين الثلاثة) أى : المتباينة لتخيل الوهم فيها تماثلا كما تخيله فى البياض والصفرة (قوله : فى قوله) أى : التى وجدت فى قول الشاعر وهو محمد بن وهيب يمدح المعتصم بالله بن هارون الرشيد وذكره بكنيته أبى إسحق صونا لاسمه أن يجرى على الألسنة وكما حسن الجمع بين الثلاثة التى ذكرها لما ذكر من التعليل حسن الجمع بين الثلاثة فى قوله :

إذا لم يكن للمرء فى الخلق مطمع

فذو التّاج والسّقّاء والذّرّ واحد

فالوهم هو الذى حسن الجمع بين الملك والسقاء وصغار النمل لاشتراكها فى عدم التوقع منهم والاستغناء عنهم مع كونها متباعدة متباينة غاية التباين (قوله : ثلاثة إلخ) يصح أن يكون خبرا مقدما على المبتدأ ، وهو قوله : شمس الضحى وما عطف عليه ، ويصح أن يكون ثلاثة : مبتدأ محذوف الخبر أى : لنا أو فى الوجود ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ، وشمس الضحى : بدل أو عطف بيان ، أو خبر مبتدأ محذوف ، والاحتمال الثانى أليق وأعلق بالقلب ، وقال : ببهجتها ولم يقل : ببهجتهم تغليبا للعاقل على غيره ، مع أنه أكثر من تغليب غير العاقل نظرا لكون إشراق غير العاقل حسيا فهو أولى بالاعتبار (قوله : فإن الوهم) أى : وإن لم يكن البيت مما نحن فيه ؛ لأنه ليس من عطف الجمل ، وإنما هو من عطف المفردات ، لكن قد مر أن المفرد كالجملة فى اشتراط الجامع (قوله : يتوهم أن الثلاثة من نوع واحد) وهو المشرق أو المنور للدنيا ، (وقوله : وإنما اختلفت

__________________

(١) البيت فى الأغانى ص ٨٠ فى ترجمة محمد بن وهيب ؛ وفيه [ببهجتهم] بدل [ببهجتها].

٥٥٤

(أو) يكون بين تصوريهما (تضاد) وهو التقابل بين أمرين وجوديين يتعاقبان على محل واحد ...

______________________________________________________

بالعوارض) وهى كون الشمس كوكبا نهاريا وكون القمر كوكبا ليليا وكون أبى إسحاق حيوانا ناطقا ، وتوهم الوهم لذلك إنما نشأ من اشتراك الثلاثة فى إشراق الدنيا ، وإن كان الإشراق فى اثنين حسيا وإشراق الثالث عقليا بإفاضة أنواع العدل ، والإحسان بتنزيل ذلك المعقول منزلة المحسوس لكمال ظهوره ، والحاصل أن هذه الثلاثة عند النظر والتأمل متباينة ؛ لأن الشمس كوكب نهارى مضىء لذاته والقمر كوكب ليلى مطموس لذاته مستفاد نوره من نور غيره وهو الشمس وأما أبو إسحق فإنسان عم عدله وإحسانه جميع العالمين فى زعم الشاعر بحيث صار عموم عدله وإحسانه شبيها بعموم نور الشمس فى التوصل إلى الأغراض ، إلا أنه يسبق إلى الوهم تماثل هذه الثلاثة فى الإشراق ، وأنها نوع واحد ، وإنما تمايزت بالعوارض ، أما التوهم فيما بين الشمس والقمر فواضح ، وأما فيما بينهما وبين أبى إسحق فلكثرة تشبيه عموم العدل والإحسان بنور الشمس حتى صار بحيث يتوهم أن له إشراقا يهتدى به فى المحسوسات ، فأبرزها الوهم فى معرض المتماثلات.

(قوله : وهو التقابل) أى : التعاند (قوله : وجوديين) خرج به تقابل الإيجاب والسلب كتقابل الحركة لعدمها والسكون لعدمه ، وتقابل العدم والملكة وهو ثبوت شىء وعدمه عما من شأنه ذلك : كتقابل العمى للبصر ، وليس المراد بالوجودى هنا خصوص ما يمكن رؤيته ، بل المراد به هنا ما ليس العدم داخلا فى مفهومه فيشمل الأمور الاعتبارية ، وحينئذ فيدخل فى التعريف الأمران المتضايفان فلا بد من زيادة قيد لا يتوقف تعقل أحدهما على تعقل الآخر لأجل إخراجهما ، ومما يدل على أن المراد بالوجودى هنا ما قلناه ما سيأتى للشارح فى الأول والثانى ـ كذا قرر شيخنا العدوى ، وفى عبد الحكيم : أن هذه الإرادة خلاف التحقيق ؛ لأن قسمة الجامع إلى الأقسام الثلاثة باصطلاح الفلاسفة فإنهم يثبتون الحواس الباطنية وعندهم الأمور الإضافية موجودة يمكن رؤيتها ، فاللائق إجراء الكلام على طريقتهم. (قوله : يتعاقبان على محل واحد) أى : يوجدان على التعاقب فى محل واحد ولا يجتمعان. (وقوله : يتعاقبان) أى : يمكن ذلك ،

٥٥٥

(كالسواد والبياض) فى المحسوسات (والإيمان والكفر) فى المعقولات ، والحق أن بينهما تقابل العدم والملكة ؛ لأن الإيمان هو تصديق النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى جميع ما علم مجيئه به بالضرورة ؛ ...

______________________________________________________

لا أنه بالفعل ؛ لأن الضدين قد يرتفعان ، ثم إن المحل قد يراد به ما يقوم به الشىء فى الجملة ، فيشمل المادة وهى الهيولى باعتبار عروض الصور النوعية لها كالطين باعتبار عروض الصور كالزيرية والإبريقية له ، فعلى هذا يدخل فى التعريف التضاد بين الجواهر أعنى الصور النوعية كالإبريق والزير ، ومن أراد أن يخرج من التعريف الأنواع المتنافية من الجواهر لقصره التضاد على المعانى كالسواد والبياض ، أو على المتصف بها باعتبارها كالأسود والأبيض لا باعتبار ذات المتصف جعل مكان المحل الموضوع ، فقال يتعاقبان على موضوع واحد ؛ وذلك لأن الموضوع مخصوص بالجوهر ذى الصورة ، فعلى هذا لا يتقابل إلا الأعراض ، فتخرج الأنواع وتبقى المعانى ، ثم إنه فى بعض النسخ تقييد الأمرين الوجوديين بكونهما بينهما غاية الخلاف ، فيخرج بهذا القيد التعاند كالتقابل بين السواد والحمرة والبياض والصفرة ، وعلى ما فى هذه النسخة يكون ما ذكره الشارح تعريفا للتضاد الحقيقى ، وفى بعض النسخ إسقاط هذا القيد فيكون التعريف المذكور تعريفا للتضاد المشهور الشامل للتعاند ، والحاصل أنه على اعتبار القيد فى التعريف تكون أنواع التقابل خمسة التماثل والتناقض ، وتقابل العدم والملكة والتضاد والتعاند ، وعلى عدم اعتباره فيه يكون التعريف شاملا للتضاد الحقيقى وللمشهور ، وتكون أنواع التقابل منحصرة فى أربعة : التماثل والتناقض والتضاد وتقابل العدم والملكة (قوله : كالسواد والبياض) فيقال ذهب السواد وجاء البياض ، أو السواد لون قبيح والبياض لون حسن ، وقوله فى المحسوسات أى : حال كونهما من المحسوسات.

(قوله : والإيمان والكفر) نحو ذهب الكفر وجاء الإيمان ، والإيمان حسن والكفر قبيح ، (وقوله : فى المعقولات) حال أى : حال كونهما من المعقولات (قوله : والحق أن بينهما) أى : بين الإيمان والكفر تقابل العدم والملكة أى : لا تقابل التضاد كما هو ظاهر كلام المصنف وهو مبنى على أن الكفر وجودى ، فالإيمان تصديق النبى ـ صلّى الله

٥٥٦

أعنى : قبول النفس لذلك ، والإذعان له ؛ على ما هو تفسير التصديق فى المنطق عند المحققين ، مع الإقرار به باللسان. والكفر عدم الإيمان عما من شأنه الإيمان ، وقد يقال : الكفر إنكار شىء من ذلك ؛ فيكون وجوديا ؛ ...

______________________________________________________

عليه وسلم ـ فى كل ما علم مجيئه به بالضرورة كالوحدانية والبعث والرسالة ، والكفر على هذا القول : هو الجحد لشىء من ذلك كما سيأتى ، والجحد أمر موجود كالتصديق فكان المناسب جعل ذلك من شبه التضاد. (قوله : أعنى) أى : بالتصديق (قوله : والإذعان له) أى : الانقياد له وهو تفسير لما قبله ، والإذعان والانقياد يرجع لكلام نفسانى وهو قول النفس آمنت وصدقت (قوله : عند المحققين) كالقطب الشيرازى ، وظاهر الشارح أن التصديق عند المحققين من المناطقة هو الإذعان بوقوع النسبة أولا وقوعها ـ وليس كذلك ـ لاتفاق المناطقة على أن التصديق قسم من أقسام العلم ، والإذعان المذكور ليس علما كما علمت ، وإنما التصديق عند المحققين من المناطقة إدراك أن النسبة واقعة ، أو ليست بواقعة على وجه الإذعان والقبول ، وعند غيرهم وهو المشهور : إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة مطلقا أى : ولو كان ذلك الإدراك ليس على وجه الإذعان ، وأما التصديق عند المتكلمين فهو الإذعان لما علم مجىء النبى به وقبول النفس لذلك ومرجعه لكلام نفسى. (قوله : مع الإقرار به باللسان) أى : ولو مرة فى العمر (قوله : والكفر عدم الإيمان إلخ) ذكر الشيخ يس عن بعضهم : أنه على هذا القول يقال : الإيمان مخلوق لله تعالى والكفر غير مخلوق ؛ لأن الخلق إنما يتعلق بالأمور الموجودة كالإرادة ، فيصح أن يقال : الكفر ليس مرادا لله ، إذ لو كان مرادا للزم وجود المعدوم وإنه باطل ـ نعم على القول بأن الكفر وجودى يقال فيه إنه مخلوق ، ومراد له سبحانه وتعالى كالإيمان ـ فتأمل.

(قوله : عما من شأنه الإيمان) خرج به الجمادات والحيوانات العجم ، فلا يقال : إنها كافرة ؛ لأنه ليس من شأنها أن تتصف بالإيمان ، وهكذا شأن تقابل العدم والملكة لا بد فيه من اعتبار قبول المحل (قوله : وقد يقال الكفر إنكار شىء من ذلك) أى : مما علم مجىء النبى به بالضرورة ، وأورد على هذا القول أنه يقتضى ثبوت الواسطة بين

٥٥٧

فيكونان متضادين.

(وما يتصف بها) أى : بالمذكورات ؛ كالأسود والأبيض ، والمؤمن والكافر ، وأمثال ذلك ، فإنه يعد من المتضادين باعتبار الاشتمال على الوصفين المتضادين (أو شبه تضاد ؛ ...

______________________________________________________

الإيمان والكفر ، فالشاك والجاهل الذى لم يذعن ولم يجحد ليس بمؤمن ولا كافر ، مع أنه لا واسطة بينهما ، وأجيب بأن المراد بقولهم الكفر إنكار شىء أى : حقيقة أو حكما ؛ لأنه إذا ادعى وأقيم له المعجزة والدليل ، فتردده إنما هو لإنكاره ، فكلا منا فيمن دعى وهو لا يكون إلا مصدقا أو منكرا ، وليس كلا منا فيمن لم تبلغه دعوة.

واعلم أنه على التحقيق من أن التقابل بين الإيمان والكفر من تقابل العدم والملكة عدم الواسطة بينهما ظاهر ؛ لأن الشاك والجاهل داخلان فى الإنكار لانتفاء التصديق منهما (قوله : فيكونان متضادين) أى : وحينئذ فيصح التمثيل الذى ذكره المصنف.

(قوله : وما يتصف بها) عطف على السواد أى : وكالذوات المتصفة بالمذكورات (قوله : كالأسود إلخ) أى : فيقال : الأسود ذهب ، والأبيض جاء ، والمؤمن حضر ، والكافر غاب (قوله : وأمثال ذلك) عطف على الأسود أى : كسوداء ، وبيضاء ، ومؤمنة ، وكافرة ، أو على ضميريها كالإطاعة والعصيان ، فيقال : الطائع جاء ، والعاصى ذهب (قوله : فإنه) أى : ما يتصف بالمذكورات ، وهذا توجيه لجعل الذوات الموصوفة بالمذكورات متضادة (قوله : باعتبار الاشتمال إلخ) أى : على وجه الدخول فى المفهوم لا باعتبار ذاتيهما بقطع النظر عن وصفيهما ، فإنه لا تضاد بينهما ، فذات الأبيض وذات الأسود قطع النظر عن وصفيهما وهما البياض والسواد لا تضاد بينهما لعدم تواردهما على المحل لكونهما من الأجسام لا الأعراض ولعدم العناد بينهما (قوله : أو شبه تضاد) بألّا يكون أحد الشيئين ضدا للآخر ولا موصوفا بضد ما وصف به الآخر ، ولكن يستلزم كل منهما معنى ينافى ما يستلزمه الآخر وهو قسمان ما يكون فى المحسوسات كالسماء والأرض ، وما يكون فى المحسوسات والمعقولات كالأول والثانى فيقال : السماء مرفوعة لنا والأرض موضوعة لنا ، والأول سابق والثانى لاحق ، فالجامع بين

٥٥٨

كالسماء والأرض) فى المحسوسات ، فإنهما وجوديان ؛ أحدهما : فى غاية الارتفاع ، والآخر : فى غاية الانحطاط ؛ وهذا معنى شبه التضاد ، وليسا متضادين ؛ لعدم تواردهما على المحل ؛ لكونهما من الأجسام دون الأعراض ، ولا من قبيل الأسود والأبيض ؛ لأن الوصفين المتضادين هاهنا ليسا بداخلين فى مفهومى السماء والأرض.

______________________________________________________

المسند إليهما وهمى لتحققه بشبه التضاد بينهما (قوله : كالسماء والأرض) أى : كشبه التضاد الذى بين السماء والأرض (قوله : أحدهما فى غاية الارتفاع إلخ) المراد بالغاية هنا الكثرة وإن لم تبلغ النهاية ، فاندفع ما يقال : إن السماء الأولى ليست فى غاية الارتفاع ؛ لأن ما فوقها أرفع منها والأرض العليا ليست فى غاية الانحطاط ، وما أجاب به بعضهم : من أن المراد بالسماء مجموع السموات ، وبالأرض مجموع الأرضين ـ ففيه نظر ؛ لأن الذى فى غاية الارتفاع العرش ، والذى فى غاية الانحطاط الماء الذى تحت الأرض السابعة.

(قوله : وهذا) أى : كون أحدهما فى غاية الارتفاع والآخر فى غاية الانحطاط معنى إلخ ، فشبه التضاد هو الكونية المذكورة.

(قوله : وليسا إلخ) يعنى أن السماء والأرض لما لم يتعاقبا على موضوع أصلا لم يكونا متضادين فهما خارجان من تعريف التضاد بقوله : يتعاقبان على محل واحد. قال سم : وكأن وجه ذلك أن بينهما بعدا كثيرا كما بين المتضادين (قوله : دون الأعراض) ظاهر هذا الكلام يدل أن التوارد على المحل إنما هو فى الأعراض ـ وفيه نظر لما عرفت أن المحل أعم من الموضوع والمختص بالأعراض هو الثانى لا الأول (قوله : ولا من قبيل إلخ) إشارة إلى سؤال نشأ مما سبق وجوابه ، أما السؤال فهو أن يقال : جعل الأبيض والأسود من قبيل المتضادين باعتبار اشتمالهما على الوصفين المتضادين ـ فلم لم يجعل السماء والأرض من هذا القبيل بهذا الاعتبار؟ وحاصل الجواب أنهما لم يجعلا من قبيل الأسود والأبيض ؛ لأن الوصفين المتضادين فى الأبيض والأسود جزءان من مفهوميهما ؛ لأن الأسود شىء ثبت له السواد والأبيض شىء ثبت له البياض بخلاف السماء والأرض ، فإن الوصفين المتضادين فيهما وهما الارتفاع والانحطاط لازمان لهما وليسا داخلين فى مفهوميهما ، فإن السماء جرم مخصوص تنوسى فيه معنى السمو والأرض

٥٥٩

(والأول والثانى) فيما يعم المحسوسات والمعقولات ، فإن الأول : هو الذى يكون سابقا على الغير ، ولا يكون مسبوقا بالغير. والثانى : هو الذى يكون مسبوقا بواحد فقط ، فأشبها المتضادين باعتبار اشتمالهما على وصفين لا يمكن اجتماعهما ، ولم يجعلا متضادين ، كالأسود والأبيض ؛ لأنه قد يشترط فى المتضادين أن يكون بينهما غاية الخلاف ، ولا يخفى أن مخالفة الثالث والرابع وغيرهما للأول أكثر من مخالفة الثانى له ، مع أن العدم معتبر فى مفهوم الأول ، فلا يكون وجوديا.

______________________________________________________

جرم مخصوص لم يراع فيه الانحطاط ، ولكونهما لازمين جعلا شبيهين بالمتضادين ، وعلى تسليم إشعار السماء بالسمو ، وأنه لم يتناس فيها ، فالأرض لا تشعر بالانحطاط الذى هو المقال الآخر (قوله : والأول والثانى) أى : وكشبه التضاد الذى بين مفهوم لفظ الأول ومفهوم لفظ الثانى ، فيقال المولود الأول سابق والثانى مسبوق ، ونحو الأب أول والابن ثان (قوله : المحسوسات) كما مثل والمعقولات كقولهم علم الأب أول وعلم الابن ثان (قوله : فإن الأول) أى : وإنما كان بين مفهوميها شبه تضاد فإن مفهوم لفظ الأول (قوله : هو الذى يكون سابقا على الغير) أى : سواء كان محسوسا أو معقولا ، (وقوله : يكون سابقا على الغير) أى : على فرض أن لو وجد غير (قوله : والثانى) أى : ومفهوم لفظ الثانى (قوله : فقط) هو بمعنى لا غير فبهذا الاعتبار صار مفهوم الثانى محتويا على قيدين أحدهما وجودى والآخر عدمى كما أن مفهوم الأول كذلك (قوله : فأشبها المتضادين) أى : كالأبيض والأسود (قوله : على وصفين لا يمكن اجتماعهما) وهما عدم المسبوقية أصلا والمسبوقية بواحد (قوله : لأنه قد يشترط إلخ) أى : كما هو أحد القولين وإن كان الشارح أسقطه سابقا فى تعريف الضدين كما فى أكثر النسخ ، وأشار الشارح بقد إلى قلة هذا الاشتراط لقلة القائلين به وإلى ضعف القول به (قوله : ولا يخفى إلخ) علة لمحذوف أى : وهذا الشرط غير موجود هنا ؛ لأنه لا يخفى إلخ (قوله : مع أن العدم إلخ) رد ثان (قوله : فلا يكون وجوديا) أى : وحينئذ فلا يكونان ضدين ؛ لأنهما الأمران الوجوديان ، وظاهر هذا أن التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب أو العدم والملكة ، وعبارة المطول مع أن العدم معتبر فى مفهوميهما فلا يكونان وجوديين وهى ظاهرة أيضا ، أما اعتبار العدم فى مفهوم الأول فظاهر ؛ لأنه قال فيه : ولا يكون مسبوقا بشىء

٥٦٠