حاشية الدسوقي - ج ١

محمّد بن عرفة الدسوقي

حاشية الدسوقي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عرفة الدسوقي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-744-1
ISBN الدورة:
9953-34-744-1

الصفحات: ٧٥٤

البلاغة

١

٢

تقديم

الحمد لله والصلاة والسّلام على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعد : فقد بدأنا هذه السلسلة من تحقيق هذا التراث البلاغى المطمور من شروح" التلخيص" بإخراج كتاب" عروس الأفراح" للسبكي ، ثم ثنينا بهذا الكتاب إنجازا لما وعدنا به من محاولة إخراج هذا التراث فى ثوب قشيب جديد ، يساعد الباحث على استجلاء خير ما فيه ، والوقوف على بغيته من قضايا البلاغة ومسائلها.

والحقيقة أن معين البلاغة لا ينضب ، وأن كتب التراث مهما تباعد زمانها فلا يزال الباحثون المعاصرون يجدون فيها كثيرا مما يوافق أحدث النظريات والبحوث العلمية ، وهذا يجعلنا نعكف على قراءة هذا التراث بشيء من التأنى والتؤدة ؛ بغية تأصيل كثير من القضايا المعاصرة.

والحق الذى لا مرية فيه ـ وهو ما أكده كثير من الدارسين العقلاء ـ أننا إذا أردنا نهضة علمية صحيحة تمثل هويتنا وذاتنا العربية الإسلامية ، فلا بد لهذه النهضة أن تقوم على أمرين :

١ ـ العكوف على دراسة التراث وهضمه وتمثله.

٢ ـ إعادة النظر فى ذلك التراث فى ضوء أطروحات العصر ، ومحاولة الانطلاق من روح ذلك التراث ومفاهيمه دون التقيد الحرفى بتطبيقاته ؛ للوصول إلى رؤية حديثة تجمع بين الأصالة والمعاصرة.

وبغير هذا الصنيع فلن نكون جديرين باحترام الآخرين لنا ؛ ذلك لأن الآخر لن ينظر إلينا بعين التقدير والاحترام إذا نظر فيما نقدمه فقال : (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) وإنما سوف نكون جديرين باحترام الناس جميعا إذا وجدوا لدينا ما نتميز به ، وما يعبر عن ذواتنا وهوياتنا المغايرة لذواتهم وآرائهم وما هم عليه ، فحينئذ سيكون أدبنا وبلاغتنا ونقدنا وسائر علومنا جديرة بأن يقرأها الآخرون ؛ لأنهم سوف يجدون فيها ما ليس عندهم.

أما وهم لا يجدون فى كتاباتنا إلا صورة مشوهة لآداب الغرب وعلومه ، فليس فى ذلك إلا ما يدعو للسخرية والنفور!

المحقق

٣

ترجمة جلال الدين القزوينى

صاحب" التلخيص"

اسمه ونسبه :

هو محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن الحسن بن على بن إبراهيم بن على بن أحمد بن دلف بن أبى دلف ، العجلى القزوينى ، جلال الدين أبو المعالى بن سعد الدين بن أبى القاسم بن إمام الدين ، الشافعى العلامة.

ولادته ونشأته :

ولد سنة ٦٦٦ ه‍ ، وسكن الروم مع والده وأخيه ، واشتغل وتفقه حتى ولى قضاء ناحية بالروم وله دون العشرين ، ثم قدم هو وأخوه أيام التتر من بلادهم إلى دمشق.

صفته :

كان فهما ذكيّا مفوها حسن الإيراد جميل الذات والهيئة والمكارم ، وكان جميل المحاضرة حسن الملتقى حلو العبارة حاد الذهن جيد البحث منصفا ، فيه مع الذكاء والذوق فى الأدب حسن الخط.

وكان جوادا صرف مال الأوقاف على الفقراء والمحتاجين. وكان مليح الصورة ، فصيح العبارة ، موطأ الأكناف ، جم الفضيلة ، يحب الأدب ويحاضر به ويستحضر نكته.

طلبه للعلم ومشايخه :

سمع من العز الفاروتى (١) وطائفة وأخذ عن الأيكى وغيره ، وخرج له البرزالى جزءا من حديثه وحدث به ، وتفقه واشتغل فى الفنون وأتقن الأصول والعربية والمعانى والبيان.

__________________

(١) كذا فى الدرر الكامنة ، وفى بغية الوعاة : الفاروثى ، وفى مفتاح السعادة : الفاروقى.

٤

وكان يرغّب الناس فى الاشتغال بأصول الفقه وفى المعانى والبيان.

ولى القضاء فى ناحية الروم ثم دمشق ثم مصر ثم دمشق ، وخطب بجامع القلعة لما أتى مصر بأمر من السلطان.

قال عنه صاحب" كشف الظنون" : " المعروف بخطيب دمشق" ، ولعل هذا سبب شهرته بالخطيب القزوينى ، وكان يفتى كثيرا.

مصنفاته :

قال ابن كثير : " له مصنفات فى المعانى ، مصنف مشهور اسمه" التلخيص" اختصر فيه" المفتاح" للسكاكى". وهو من أجل المختصرات فيه كما قال السيوطى. وله : إيضاح التلخيص ، والسور المرجانى من شعر الأرجانى.

وفاته :

قال ابن حجر : " قال الذهبى : مات فى منتصف جمادى الأولى سنة ٧٣٩ ه‍ ، وشيعه عالم عظيم وكثر التأسف عليه ، وسيرته تحتمل كراريس وما كل ما يعلم يقال.

هذا كلام الذهبى على عادته فى الرمز إلى الحط على من يخشى غائلة التصريح فيه".

اه كلام ابن حجر.

وقال الحافظ ابن كثير : " دفن بالصوفية ... وكان عمره قريبا من السبعين أو جاوزها" (١).

__________________

(١) راجع ترجمته فى : الدرر الكامنة لابن حجر (٤ / ٣ ، ٤) ، والبداية والنهاية للحافظ ابن كثير (١٤ / ١٨٥) ، وبغية الوعاة للسيوطى (١ / ١٥٦ ، ١٥٧) ، ومفتاح السعادة لطاش كبرى زاده (١ / ١٩٤) والأعلام (٦ / ١٩٢) ، وكشف الظنون (١ / ٤٧٣).

٥

ترجمة

سعد الدين التفتازاني

صاحب" مختصر السعد شرح التلخيص"

هو مسعود بن عمر بن عبد الله ، سعد الدين التفتازانى ، الإمام العالم بالعلوم العربية والكلام والأصول والمنطق ، وكان فى لسانه حبسة.

مولده :

ولد بتفتازان ـ وهى بلدة بخراسان ـ فى صفر سنة ٧١٢ ه‍ ، هذا ما ذكره الإمام ابن حجر فى" الدرر الكامنة" على ما وجد بخط ابن الجزري.

منزلته وشهرته :

اشتهر ذكره وطار صيته فى الآفاق ، وكان من محاسن الزمان ، وأحد الأعلام والأعيان ، وقد خلد التاريخ ذكره فى بطون الأوراق ، وانتفع الناس بتصانيفه فى أنواع العلوم التي تنافس الأئمة فى تحصيلها والاعتناء بها ، وكان قد انتهت إليه معرفة علوم البلاغة والمعقول بالمشرق ، بل بسائر الأمصار لم يكن له نظير فى معرفة هذه العلوم.

مصنفاته :

له التآليف التى تدل على عظيم قدرته ، ومزيد فطنته وذكائه ، منها :

(١) الشرحان الكبير والصغير على تلخيص «المفتاح» ، أتم الأول بهراة سنة ٧٤٨ ه‍ ، والثانى سنة ٧٥٦ ه‍.

(٢) شرح الرسالة الشمسية المعروف بالسعدية (فى المنطق) ، أتمه فى جمادى الآخرة سنة ٧٥٧ ه‍ بمزار جام.

(٣) حاشية التلويح على التوضيح فى الأصول (فقه حنفي) ، أتمها فى ذى القعدة سنة ٧٦٨ ه‍.

٦

(٤) تهذيب المنطق والكلام ، أتمه فى رجب سنة ٧٨٩ ه‍.

(٥) المقاصد وشرحها فى علم الكلام ، أتمها فى رجب سنة ٧٨٩ ه‍.

(٦) مفتاح الفقه ، أتمه سنة ٧٧٢ ه‍.

(٧) حواشى الكشاف ، أتمها فى الثامن من شهر ربيع الأول سنة ٧٨٩ ه‍.

(٨) شرح الزنجانى فى الصرف ، عمله حين بلغ عمره ست عشرة سنة فى شهر شعبان سنة ٧٣٨ ه‍.

(٩) شرح تلخيص الجامع الكبير سنة ٧٨٦ ه‍ بسرخس.

(١٠) رسالة الإرشاد ، أتمها فى سنة ٧٧٤ ه‍.

(١١) شرح عقائد النسفي ، أتمه فى شعبان سنة ٧٦٨ ه‍.

(١٢) حاشية شرح مختصر ابن الحاجب للعضد ، أتمها فى سنة ٧٧٠ ه‍.

(١٣) شرح المفتاح ، أتمه فى شوال سنة ٧٨٩ ه‍ بسمرقند.

(١٤) شرع فى تأليف الفتاوى الحنفية يوم الأحد التاسع من ذى القعدة سنة ٧٦٩ ه‍.

مذهبه الفقهي :

اختلف الناس فى مذهبه الذى كان يتعبد عليه :

أـ طائفة جعلوه حنفيّا ؛ من جراء تصانيفه فى فقه أبى حنيفة ، ومن هؤلاء ابن نجيم المصرى صاحب" البحر الرائق" فى فقه الحنفية ، قال : إليه انتهت رياسة الحنفية فى زمانه حتى ولى قضاء الحنفية ، وله تكملة شرح الهداية للسروجي ، وفتاوى الحنفية ، وشرح تلخيص الجامع الكبير.

ب ـ طائفة جعلوه شافعيّا ، منهم : صاحب كشف الظنون ، وحسن جلبى فى حواشيه على المطول ، والكفوي قال : كان التفتازانى من علماء الشافعية وله آثار جليلة فى أصول الحنفية. وكذا السيوطى فى بغية الوعاة (١).

__________________

(١) لم يترجم له تاج الدين السبكى فى طبقات الشافعية الكبرى.

٧

عبقرية التفتازاني :

يقول الشيخ المراغى فى" تاريخ علوم البلاغة" :

" إن السيد الشريف وإن فاقه ذكاء وغلبه فى البحث والجدل ، فإنه لا يصل إلى منزلته فى دقة الفكر والغوص على المعاني ، وقد كان فى بدء التأليف وأثناء التصنيف يغوص فى بحار تحقيقاته ، ويلتقط الدر من تدقيقاته ، ويعترف برفعة شأنه ، وجلالة قدره وعلوّ مقامه ، إلا أنه وقعت بينهما منافرة بسبب المناظرة التى كانت فى مجلس تيمورلنك ، وحل الخلاف محل الوفاق ، والتزم كل منهما تزييف ما قال الآخر".

وقال مؤرخ المغرب القاضى عبد الرحمن بن محمد الحضرمى المالكى الشهير بابن خلدون فى" مقدمة" تاريخه : وقفت بمصر على تآليف متعددة لرجل من عظماء هراة من بلاد خراسان اشتهر بسعد الدين التفتازاني ، تشهد بأن له ملكة راسخة فى علم الكلام وأصول الفقه والبيان ، وفى أثنائها ما يدل على أن له اطلاعا على العلوم الحكمية ، وقدما عالية فى سائر الفنون.

ذكر وفاته ـ رحمه‌الله تعالى ـ :

قال السيوطى فى" بغية الوعاة" : " مات بسمرقند سنة إحدى وتسعين وسبعمائة هجرية" وقال ابن حجر فى" الدرر" : " مات فى صفر سنة ٧٩٢ ه‍ ، ولم يخلف بعده مثله ، وكان مولده سنة ٧١٢ ه‍ على ما وجد بخط ابن الجزري ، وذكر لى شهاب الدين بن عربشاه الدمشقى الحنفى أن الشيخ علاء الدين كان يذكر أن الشيخ سعد الدين توفى سنة ٧٩١ ه‍ عن نحو ثمانين سنة".

كتاب" مختصر السعد" :

أما كتابه هذا فهو من جملة شروح" التلخيص" الدائرة فى فلك" المفتاح" والتى صبغتها الصبغة السكاكية ، وغلبت عليها الحدود المنطقية.

غير أن القارئ لكتابه لا يعدم فائدة أو لطيفة يبز بها التفتازانى أقرانه ، ويتميز بها عليهم ، وقد حاولنا إبراز بعض ذلك فى مواضعه.

٨

ترجمة

محمد بن عرفة الدسوقى

صاحب" حاشية الدسوقى"

اسمه وكنيته (١) :

هو محمد بن أحمد بن عرفة المصرى المالكى الشهير بالدسوقى.

مولده وحياته :

لم تحدد كتب التراجم تاريخ نشأته ، ولم تحدد عمره ، هل عمّر طويلا أم لم يعمر.

ولكنه ولد بدسوق ـ إحدى قرى الدلتا بمصر ـ ورحل إلى القاهرة ، وحفظ القرآن ، وتعلم بالأزهر الشريف حتى صار شيخا له رواده من طلبة العلم.

صفاته :

هو الجامع لأشتات الفضائل والمعارف ، المنفرد بتسهيل المعانى ، وتبيين المبانى ، اشتهر فى عصره بحل المشكلات ، وفتح باب المعضلات ، بأسلوب عذب وتحرير بديع.

شيوخه :

تلقى العلم على عليّ الصعيدى ، والدردير ، وحسن الجبرتى المتوفى سنة ١١٨٨ ه‍ صاحب الشروح والحواشى فى العلوم المختلفة من فقه وهندسة ، وقد أخذ عن الأخير علم الفلك والهندسة والتوقيت والحكمة برواق الجبرتى بالأزهر.

تلاميذه :

لم تذكر كتب التراجم أسماء تلامذته ، إلا الشيخ حسن العطار المتوفى سنة ١٢٥٠ ه‍ ، وقد كان تلميذا نجيبا حيث كان الدسوقي شيخ الجامع الأزهر ، وقد رثاه

__________________

(١) انظر فى ترجمته : هدية العارفين للبغدادى (ج ٥ / ٢٠١) ، (ج ٦ / ٢٧٣) ، تاريخ علوم البلاغة للمراغى ص (٢٠١).

٩

عند وفاته بقصيدة سوف نذكر جزءا منها عند ذكر وفاته ، وقد كان درسه مجتمع أذكياء الطلاب النابغين من ذوى الألباب.

مؤلفاته :

له التآليف السهلة العبارة ، الواضحة الأسلوب ، وقد كان مكثرا فى عمل الحواشى على الكتب المختلفة من نحو وبلاغة وشعر وفقه ... إلخ ، مثل : حاشيته على مختصر السعد على تلخيص المفتاح ، وحاشيته على شرح المغنى لابن هشام ، وحاشيته على شرح المحلى للبردة ، وحاشيته على شرح الدردير لمتن خليل فى فقه المالكية.

وفاته :

لم يزل معنيّا بالجمع والكتابة والإفادة والإفتاء إلى أن اعتلت صحته ، وتوفى يوم الأربعاء الحادى والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ١٢٣٢ ه‍ ، وصلّى عليه بالجامع الأزهر فى جمع حافل ، ودفن بقرافة المجاورين ، ورثاه تلميذه حسن العطار بقصيدة منها :

أحاديث دهر قد ألّم فأوجعا

وحلّ بنادى جمعنا فتصدّعا

ومنها :

وأبقى بتأليفاته بيننا هدى

بها يسلك الطّلّاب للحقّ مهيعا

وحلّ بتحريراته كلّ مشكل

فلم يبق للإشكال فى ذاك مطمعا

ومنها :

فقدناه لكن نفعه الدّهر دائم

وما مات من أبقى علوما لمن وعى

١٠

منهج التحقيق

١ ـ اعتمدنا فى تحقيق هذا الكتاب على النسخة المصورة عن طبعته القديمة المتداولة ، مع الاستعانة فى تصحيحها بمخطوطات الكتاب فى دار الكتب المصرية.

٢ ـ أضفنا تعليقات توضيحية أفدناها من شروح" التلخيص" الأخرى.

٣ ـ تخريج الشواهد القرآنية.

٤ ـ تخريج الشواهد الحديثية فى كتب الحديث المشهورة مع الحكم على الحديث.

٥ ـ تخريج الشواهد الشعرية فى دواوينها ومصادرها فى كتب الأدب وكتب التراث البلاغى.

٦ ـ شرح معانى الألفاظ الغريبة.

٧ ـ الترجمة لبعض أعلام البلاغة المذكورين فى الكتاب.

٨ ـ الترجمة الوافية لكل من الخطيب القزوينى صاحب الأصل (التلخيص) والتفتازانى صاحب الشرح (مختصر السعد) ، والدسوقى صاحب الحاشية (حاشية الدسوقى على مختصر السعد).

٩ ـ جعلنا شرح السعد كمتن فى أعلى الصفحة وحاشية الدسوقى شرحا عليه.

١٠ ـ زيادة بعض العناوين الفرعية للموضوعات ، مع تمييزها بمعكوفين.

١١ ـ وضع الفهارس العلمية الشاملة للقرآن والحديث والشواهد الشعرية والموضوعات.

١١
١٢

حاشية الدسوقي

على مختصر السّعد

١٣
١٤

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة الافتتاح للدسوقي

______________________________________________________

الحمد لله العلى الأعلى ، موجد الأشياء بعد فنائها ، فله المجد الأسنى ، أحمده على ما ألهمناه من معانى البيان ، وعلمنا من لوامع التبيان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الملك المنان ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد ولد عدنان ـ صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أعجزوا ببلاغتهم فرسان البلغاء فى كل ميدان ؛ وبعد : فيقول العبد الفقير المضطر لإحسان ربه القدير ، محمد بن عرفة الدسوقى ، نظر الله بعين لطفه إليه ، وغفر له ولوالديه : هذه فوائد شريفة ، وتقييدات لطيفة ، على شرح العلامة الثانى سعد الملة والدين التفتازانى لتلخيص" المفتاح" ، اقتطعتها من تقارير مشايخنا المحققين ، ومن زبد أرباب الحواشى والشارحين ، وإن لم أكن من فرسان هذا الميدان ، لكن رجوت العفو بدعوة صالح من الإخوان ، وبالله أستعين ، وعليه التكلان ، فى سلوك سبيل الرشاد فى كل شان.

[القول فى البسملة] :

قال ـ نفعنا الله به (١) ـ : (بسم الله الرحمن الرحيم) ، ينبغى التكلم على هذه الجملة بما يتعلق بها من الفنون الثلاثة التى صنّف فيها هذا الكتاب كما هو اللائق بالشارع فى كل فن ؛ لما قيل : إن ترك التكلم عليها إما تقصير أو قصور ، فنقول : يتعلق بها من فن المعاني ـ وهو الباحث عن مقتضيات الأحوال ـ مبحثان :

الأول : أن مقتضى الحال تقدير المتعلّق مؤخّرا ؛ لإفادة الاهتمام باسمه تعالى ؛ لأن المقام مقام استعانة بالله ، ولإفادة القصر.

والقصر : إما قصر إفراد ، وهو يخاطب به من يعتقد الشركة ، وقصر قلب ، ويخاطب به من يعتقد العكس ، وقصر تعيين ، ويخاطب به الشاك.

__________________

(١) المراد : نفعنا بعلمه ، يقصد العلامة التفتازاني.

١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فالقصر هنا ينظر فيه لأحوال المخاطبين : فهو قصر قلب إن كانوا يعتقدون أن البركة تحصل بالابتداء بغير اسم الله سبحانه وتعالى. وقصر إفراد إن اعتقدوا أنها تحصل بالابتداء باسم الله واسم غيره. وقصر تعيين : إن شكوا فى حصول البركة بأىّ. لكن هذا الثالث بعيد.

المبحث الثانى : أن مقتضى الحال قطع الصفات ، أعنى الرحمن الرحيم ؛ لأن المقام مقام ثناء ، وقد نصوا على أن النعوت إذا كان المقصود منها المدح فالأولى قطعها ؛ لأن فى قطعها دلالة على أن المنعوت متعيّن بدونها ، وإنما أتى بها لمجرد المدح ، لكن لا يخفاك أن الوارد فى القرآن والسنة الإتباع ، وحينئذ فتكون مخالفة مقتضى الحال ؛ لما فى الإتباع من الجرى على الأصل ؛ إذ الأصل عدم القطع ، ثم إذا قطعت تلك الصفات على تقدير (هو) ، أو (أعنى) كانت الجملة مفصولة ، فيقال : ما سبب الفصل دون الوصل؟ فيقال : سببه أنه لم يقصد التشريك بين الجملتين فى حكم من الأحكام المقتضى ذلك للوصل ، أو يقال : سببه أن بين الجملتين كمال الانقطاع ؛ وذلك لأن جملة" أؤلف باسم الله" خبرية بالنظر لصدرها ، وجملة" هو الرحمن" مثلا لإنشاء المدح ، ومتى كان بين الجملتين كمال انقطاع تعين الفصل ، كما يأتى إن شاء الله تعالى.

وأما ما يتعلق بها من علم البيان ـ الباحث عن حال اللفظ من حيث الحقيقة والمجاز والكناية ـ فخمسة مباحث :

الأول : " الباء" حقيقتها الإلصاق ، وهو حقيقى ك" أمسكت بزيد" إذا قبضت على شيء من جسمه أو على ما يحبسه من يد أو نحوه ، ومجازى نحو" مررت بزيد" أى ألصقت مرورى بمكان يقرب من زيد ، وهى هنا للاستعانة ، وحيث كانت هنا كذلك فتكون استعارة تبعية ، وتقريرها أن يقال : شبه الارتباط على وجه الاستعانة بالارتباط على وجه الإلصاق بجامع مطلق الارتباط فى كلّ ، فسرى التشبيه للجزئيات ، فاستعيرت الباء الموضوعة للإلصاق الجزئى للاستعانة الجزئية على طريق الاستعارة التبعية ، ولك أن تجعلها من قبيل المجاز المرسل علاقته الإطلاق ، والتقييد ، وذلك أن الباء

١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

موضوعة للارتباط المقيد بالإلصاق فأطلقت عن ذلك ، واستعملت فى الارتباط على وجه الاستعانة ، فهو مجاز مرسل بمرتبتين علاقته ما ذكر. هذا إذا كان استعمال الباء فى الاستعانة من حيث خصوصها ، وأما إن كان الاستعمال فيها من حيث إنها جزئى من جزئيات مطلق ارتباط كان المجاز بمرتبة وهى الإطلاق على ما فيه من الخلاف ، ثم حيث نقلت الباء من معناه الأصلى ، وهو الإلصاق للاستعانة ، فحق الاستعانة أن تكون بالذات لا بالاسم ، وهنا قد جعلها بالاسم فيكون ذلك مجازا على مجاز ، أما المجاز المبنى عليه فقد علمته ، وأما المبنى فتقريره أن يقال : شبه الارتباط الواقع بين مطلق مستعان فيه واسم المستعان به ، بالارتباط الواقع بين مطلق مستعان فيه وذات المستعان به ، فسرى التشبيه للجزئيات ، فاستعيرت الباء الموضوعة للارتباط بين المستعان فيه ونفس المستعان به الخاصين للارتباط بين المستعان فيه واسم المستعان به الخاصين ، على طريق الاستعارة التبعية. هذا وقد وقع خلاف فى بناء المجاز على المجاز : فقال بعضهم بمنعه ؛ لأن فيه أخذ الشىء من غير مالكه ؛ لأن الحق فى اللفظ إنما هو للمعنى الحقيقىّ والمجازىّ أخذه تطفلا ، وقال بعضهم بالجواز ؛ لأن اللفظ لما نقل للمعنى المجازى بالعلاقة صار كأنه موضوع له خصوصا ، وقد قالوا : إن المجاز موضوع بالوضع النوعى ، وجعل من ذلك قوله تعالى : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا)(١) ، فإن السر ضد الجهر ، ثم أطلق على الوطء مجازا ؛ لأنه لا يكون غالبا إلا سرّا ، ثم استعمل اللفظ فى سببه وهو العقد ، وحينئذ فاستعمال السر فى العقد مجاز مبنى على مجاز. ثم اعلم أنه على القول بالجواز تعتبر علاقة المجاز الثانى بينه وبين المجاز الأول ، لا بينه وبين المعنى الحقيقى.

المبحث الثانى : الجار والمجرور فى البسملة متعلّق بمحذوف ، وحينئذ ففيها مجاز بالحذف بناء على قول من يقول : إن الحذف مجاز مطلقا ، وأما على قول من يقول : ليس بمجاز مطلقا ، وكذا على قول من يقول : إنه مجاز إذا تغير بسببه إعراب الباقى

__________________

(١) البقرة : ٢٣٥.

١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

كما فى قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١) ـ فليس فيها مجاز. وسيأتى أن المجاز بالحذف ليس من قسم المجاز المعرّف بأنه : الكلمة المستعملة فى غير ما وضعت له ... إلخ ، بل قسم آخر.

المبحث الثالث : إضافة" اسم" إلى" الله" حقيقية إن أريد من لفظ الجلالة الذات ، وعليه يأتى ما مر من بناء المجاز على المجاز ، وأما إن أريد منه اللفظ فهى بيانية ، والإضافة البيانية مجاز بالاستعارة عندهم ؛ لأن الإضافة البيانية مقابلة للحقيقيّة ، والإضافة نسبة جزئية بمنزلة معنى الحرف ، والاستعارة فى معنى الحرف تبعية ، فكذا ما كان بمنزلته.

وتقريرها أن تقول : إن هيئة الإضافة موضوعة لتخصيص الأول بالثانى أو تعريفه به ، فاستعملت هنا فى تبيين الثانى للأول بأن شبه مطلق نسبة شيء لشيء على أن الثانى مبين للأول بمطلق نسبة شيء لشيء ، على أن الثانى مخصص أو معرف للأول بجامع مطلق التعلق فى كلّ ، فسرى التشبيه للجزئيات ، فاستعير صورة الإضافة الموضوعة للنسبة الجزئية المفيدة للتعريف والتخصيص ، للنسبة الجزئية المفيدة للبيان على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.

المبحث الرابع : لفظ الجلالة علم على الذات العلية علم شخصى لا جنسى ، وقد اختلف فى الأعلام الشخصية : فقيل : إنها حقيقة ؛ لأنها استعملت فيما وضعت له ، وقيل : إنها واسطة بين الحقيقة والمجاز ؛ لأنهما من خواص الأمور الكلية ، والأعلام الشخصية موضوعة لمعان جزئية ، فعلى القول الأول لفظ الجلالة حقيقة ، وعلى الثانى لا حقيقة ولا مجاز ، بل واسطة بينهما.

المبحث الخامس : حقيقة الرحمة رقة فى القلب وانعطاف تقتضى التفضل والإحسان ، وهى مستحيلة عليه سبحانه وتعالى ، فيراد منها لازمها ، وهو التفضل والإحسان ، واشتق منها بهذا المعنى رحمان ورحيم بمعنى : متفضل ومحسن ، فهو مجاز

__________________

(١) يوسف : ٨٣.

١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

مرسل تبعى ؛ لأن التجوز فيهما تابع للتجوز فى أصلهما. وذكر بعضهم أنه يصح أن يكون فى الكلام استعارة تمثيلية بأن يقال : شبه حال الله مع عباده فى إيصاله لهم بجلائل النعم ودقائقها ، بحال ملك رق قلبه على رعيته فأوصلهم إنعامه ، بجامع أن كلّا حالة عظيم مستول على ضعفى ممدّ لهم بإحسانه ، واستعير اللفظ الدال على المشبه به للمشبه. وأورد عليه أن اللفظ المستعار فى التمثيلية لا بد أن يكون مركّبا كما فى" إنى أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى" وما هنا مفرد ، وأجيب : بأنه يجوز أن يقتصر على بعض المفردات ، ويرمز به إلى المركب على أن المشترط فى اللفظ منها إنما هو مطلق تركيب ، وهو حاصل ب" الرحمن الرحيم" وليس بلازم أن يكون تركيب جملة.

واعترض بأن المشبه به شأنه أن يكون أقوى من المشبه ، وجعل حال الملك أقوى من حال الله لا يتم ، وأجيب بأنه ليس المراد القوة بحسب الحقيقة ونفس الأمر فقط ، بل القوة ولو بالاعتبار كما هنا ، فحال الملك باعتبار مشاهدتها للقاصرين أقوى ، واعترض أيضا بأن استعارة اللفظ من شيء لشيء تقتضى استعمال اللفظ فى المستعار منه ، وقد نصوا على أن" الرحمن الرحيم" مختصان بالله ولم يستعملا فى غيره ، وأجيب بأن الاستعمال فى المستعار منه ليس بلازم ، بل يكفى الوضع للمستعار منه الذى هو المعنى الحقيقى ، ولذا قال الشارح بجواز وجود مجازات لا حقائق لها.

وأما ما يتعلق بها من البديع : فاعلم أن فيها التورية ، وهى أن يطلق لفظ له معنيان : قريب وبعيد ، ويراد البعيد اعتمادا على قرينة خفية ، فقد أطلقت الرحمة وأريد بها التفضل والإحسان ـ الذى هو معنى بعيد لها ؛ لأنه مجازى ـ اعتمادا على قرينة خفية ، وهو استحالة المعنى القريب الذى هو الرقة.

وفيها أيضا القول بالموجب ، ويقال له : المذهب الكلامى ، وهو أن يساق المعنى بدليله ، كما فى قوله (١) :

__________________

(١) هو من البسيط وهو ترجمة لبيت فارسى ، والجوزاء برج فى السماء ، وحولها نجوم تسمى نطاق الجوزاء. الإيضاح الفقرة ٢٤٦. ص ٣٢٤ تحقيق د / عبد الحميد هنداوى.

١٩

نحمدك ...

______________________________________________________

لو لم تكن نيّة الجوزاء خدمته

لما رأيت عليها عقد منتطق

وكما فى قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(١). وبيانه هنا : أن قوله : " بسم الله الرحمن الرحيم" فى قوة قولنا : لا أبتدئ إلا باسم الله ؛ لأنه الرحمن الرحيم. وفيها أيضا الاستخدام بناء على أن المراد من اسم الجلالة اللفظ ، وفى الرحمن ضمير يعود على الله باعتبار الذات ، وفيها التفات على مذهب السكاكى ؛ لأن مقتضى الظاهر فى التوجه له تعالى الخطاب ، بأن يقال : باسمك اللهم ، فعدل عن مقتضى الظاهر وقيل " بسم الله الرحمن الرحيم". وفيها أيضا الإدماج وهو أن يضمّن الكلام المسوق لغرض غرضا آخر ، كما فى قوله :

أقلّب فيه أجفانى كأنّى

أعدّ بها (٢) على الدّهر الذّنوبا (٣)

وبيان ذلك هنا : أن الغرض الأصلى من البسملة التبرك والاستعانة باسمه تعالى ، فبعد أن ذكر هذا الغرض منها أدمج فيها الثناء على الله بكونه رحمانا رحيما.

(قوله : نحمدك) أى : نصفك بالجميل الذى أنت أهله ؛ لأن الحمد : الثناء بالجميل ، ومن المعلوم أن كل أوصافه جميلة ، فكأنه قال : نصفك بكل صفة جميلة ، ثم إن ذكر نعمتى شرح الصدور وتنوير القلوب ، وإن احتمل أن يكون لمجرد تعيين المحمود ، أو لمجرد براعة الاستهلال المتبادر منه أنه لأجل كونهما المحمود عليه ، والمعنى : نحمدك يا من ... إلخ لأجل هذين الوصفين ؛ لأن الموصول مع صلته فى معنى المشتق ، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعلية المشتق منه ، وحينئذ فيرد ما يقال : إن هذا الحمد حمد وشكر ، فلم اختار التعبير بالحمد على التعبير بالشكر؟ وأجيب : بأنه إنما اختار مادة الحمد على مادة الشكر لأمور ثلاثة :

الأول : الاقتداء بالقرآن الأعظم. الثانى : العمل بحديث : " كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه ب (الحمد لله) فهو أجذم" (٤) على رواية ضم الدال. الثالث : أن الحمد اللغوى

__________________

(١) الأنبياء : ٢٢.

(٢) كذا فى الأصل وفى الديوان" به".

(٣) البيت للمتنبي ، ديوانه ١ / ١٤٠ ، والإشارات ص ٢٨٥.

(٤) ضعيف ، انظر : إرواء الغليل للألبانى ١ / ٣٠.

٢٠