حاشية الدسوقي - ج ٢

محمّد بن عرفة الدسوقي

حاشية الدسوقي - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن عرفة الدسوقي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-744-1
ISBN الدورة:
9953-34-744-1

الصفحات: ٧٤٣

وهو ما ظهر على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات والبينات من الكتاب المعجز ، وغيره فلم يذكروا وأعرضوا عنه.

(ومنها) أى : من أنواع الطلب (الأمر) ...

______________________________________________________

يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ)(١) ، ثم قال : يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة ، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام ، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره ، والذى ذهب إليه ابن مسعود أن المراد بالدخان فى الآية ما يرى فى السماء عند الجوع كهيئة الدخان قال : لأنه عليه‌السلام لما دعا قريشا فكذبوه واستعصوا عليه قال اللهم أعنّى عليهم بسبع كسبع يوسف ، وفى رواية : اللهم أجعل عليهم سنينا كسنى يوسف ، فأخذتهم سنة حصت كل شىء أكلوا فيها الجلود والميتة من الجوع ، وينظر أحدهم إلى السماء فينظر كهيئة الدخان ، وفى رواية : كان إذا كلم أحد آخر فلا يراه ، فقام أبو سفيان فقال : يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا ، فادع الله لهم فأنزل الله ـ عزوجل ـ (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) إلى قوله : (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) (قوله : وهو) أى : ذلك الأعظم والأدخل (قوله : وأعرضوا عنه) أى : وحينئذ فالذكرى بعيدة جدا.

[ومن أنواع الطلب : الأمر] :

(قوله : الأمر) اعلم أنه إذا أريد به النوع من الكلام كما هنا جمع على أوامر ، وإذا أريد به الفعل جمع على أمور ومن إرادة الفعل به قوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(٢) أى : فى الفعل الذى تعزم عليه وهو حقيقة فى القول المخصوص مجاز فى الفعل ، وقيل مشترك لفظى فيهما ، وقيل معنوى وأنه موضوع للقدر المشترك بينهما ، والمناسب أن يراد بالأمر هنا الأمر اللفظى ؛ لأن الكلام فى الإنشاء وهو لفظى لا الأمر النفسى على ما عند الأصوليين ، ولا ينافى هذا قول المصنف بعد وصيغته ؛ لأن الإضافة بيانية ـ كذا قرر شيخنا العدوى.

__________________

(١) الدخان : ١٠.

(٢) آل عمران : ١٥٩.

٤٠١

وهو طلب فعل غير كف ...

______________________________________________________

(قوله : وهو طلب فعل إلخ) طلب مصدر مضاف إلى مفعوله ، وهذا تعريف للأمر النفسى وليس الكلام فيه ؛ لأن الكلام فى أنواع الطلب اللفظى فلو قال : طلب فعل بالقول كان أولى ، ولعل الحامل على هذا التفسير قول المتن الآنى أو الأزهر أن صيغته إلخ ـ تأمل ـ كذا فى يس ، وقد يقال : إن التعريف صالح لكل من الأمرين النفسى واللفظى فالمراد بالطلب ما هو أعم من اللفظى والنفسى ، أو أنه للفظى فقط وهو المناسب لما الكلام فيه ؛ لأن الكلام فى أنواع الطلب اللفظى ، وقوله : بعد وصيغته إضافته بيانية ، واعلم أن كلا من القول والأمر مشترك بين اللفظى والنفسى ، وممن صرح بالاشتراك العلامة القرافى فى المحصول ، وقوله : طلب كالجنس يشمل الدعاء والنهى والالتماس ، وخرج عنه الخبر والإنشاء غير الطلب ، وخرج بإضافة الطلب للفعل النهى بناء على أنه طلب ترك وقيل هو طلب كف فزاد غير كف لأجل أن يخرجه ، فالنهى خارج من التعريف على كلا القولين ، وقوله على جهة الاستعلاء أى : على طريق طلب العلو سواء كان عاليا حقيقة كقول السيد لعبده : افعل كذا أو لا كقول العبد لسيده : افعل كذا. حال كونه طالبا للعلو مخرج للدعاء والالتماس لأن الأول من الأدنى ، والثانى من المساوى بخلاف الأمر ، فإنه يشترط فيه طلب الآمر العلو ، وقد علمت أن المراد بطلبه العلو أن يعد نفسه عاليا بإظهار حاله العالى ، وذلك بأن يكون كلامه على جهة الغلظة والقوة لا على وجه التواضع والانخفاض ، فسمى ميله فى كلامه إلى العلو طلبا له سواء كان عاليا فى نفسه أو لا ، وبقولنا : يشترط فى الأمر طلب الآمر العلو يندفع ما يقال : إن تعريف الأمر المذكور يصدق بالتمنى والعرض والاستفهام حيث كان كل لطلب الفعل استعلاء ووجه الدفع أنه لا يشترط الاستعلاء فيها وإن وجد فى نفس الأمر ، وإنما يشترط فى الأمر وأورد على التعريف أنه غير مانع لصدقه بأمرتك بفعل كذا ، فإنه ليس بأمر مع صدق الحد عليه ، ولك أن تقول : إن كان التعريف حدا للأمر النفسى فلا إيراد لصدقه عليه ، وإن كان التعريف للأمر اللفظى فلا ورود ؛ لأن هذا غير داخل تحت الجنس وهو الطلب اللفظى وأنه غير جامع ؛ لأنه يخرج عنه نحو : اكفف عن

٤٠٢

على جهة الاستعلاء ، وصيغته تستعمل ...

______________________________________________________

القتل ، فإن هذا أمر وهذا خارج بقوله غير كف ؛ لأن هذا طلب كف وأجيب بأن المراد غير كف عن الفعل المأخوذ منه الصيغة فدخل نحو : كف عن القتل ؛ لأنه كف عن غير الفعل المأخوذ منه الصيغة بالتعريف وهذا صادق بما إذا كان طلب الفعل غير كف أو طلبا لفعل هو كف عن غير الفعل المأخوذ منه الصيغة ، فالأول نحو : قم ، والثانى نحو : كف عن القيام ، فإنه طلب لفعل هو كف عن غير الفعل المأخوذ منه الصيغة ، وأورد على هذا الجواب أنه يقتضى أن يخرج عن التعريف كف عن الكف عن القتل ؛ لأنه طلب فعل هو كف عن الفعل المأخوذ منه الصيغة مع أن هذا أمر ، وأجيب بأن كف مأخوذ من الكف مطلقا ، وهو إنما تعلق بالكف عن خصوص القتل والمطلق والمقيد متغايران (قوله : على جهة الاستعلاء) المتبادر تعلقه بقوله : طلب أى : الطلب على طريق الاستعلاء ، ويحتمل أن يكون حالا من فعل ؛ لأنه وصف بقوله غير كف والمعنى طلب فعل غير كف حال كونه على جهة الاستعلاء فى طلبه ، وإنما قيد بذلك ليكون التعريف المذكور للأمر لا نزاع فيه ، وإلا فالمختار عند الأشعرى وأتباعه عدم اشتراط الاستعلاء والعلو فى الأمر ، وإن كان الجمهور على اعتبار الاستعلاء فى حقيقة الأمر ، والحاصل أن فى الأمر مذاهب قيل يشترط فيه كل من الاستعلاء والعلو وقيل لا يشترط فيه شىء منهما ، وقيل يشترط فيه العلو دون الاستعلاء ، وقيل بالعكس وهو ما مشى عليه الشارح ودليل كل من هذه الأقوال مذكور فى كتب الأصول ، وأورد على اشتراط الاستعلاء فى مسمى الأمر قوله تعالى حكاية عن فرعون ما ذا تأمرون ، فقد استعمل الأمر فى طلب ليس فيه استعلاء ؛ لأن فرعون لا يرى استعلاء فى الطلب المتعلق به من غيره لادعائه الألوهية لنفسه ، فلو كان الاستعلاء معتبرا فى مفهوم الأمر لما قال ما ذا تأمرون ، وأجيب بأن المراد ما ذا تشيرون من المؤامرة بمعنى المشاورة ، وبأنه احتقر نفسه بعد رؤية معجزة موسى ، ولا يخفى أن كلا من الجوابين خلاف الظاهر ، فلذا كان الصحيح أن الاستعلاء ليس بشرط فى الأمر.

(قوله : وصيغته تستعمل إلخ) أى : صيغته المعهودة المتداولة كثيرا وهذا توطئة لما سيأتى فى المتن من قوله : والأظهر إلخ ، وإضافة صيغة للضمير للبيان ؛ لأنه من إضافة الأعم

٤٠٣

فى معان كثيرة فاختلفوا فى حقيقته الموضوعة هى لها اختلافا كثيرا ، ولما لم تكن الدلائل مفيدة للقطع بشىء قال المصنف : (والأظهر أن صيغته من المقترنة باللام ، نحو : ليحضر زيد ، ...

______________________________________________________

للأخص أى : والصيغة التى هى الأمر بناء على أن المراد الأمر اللفظى ولا شك أنه نفس الصيغة وهذا الاحتمال هو الظاهر ؛ لأن الكلام فى الأمر اللفظى ، أو أن الإضافة حقيقية وهو من إضافة الدال للمدلول بناء على أن المراد بالأمر الأمر النفسى ، ويدل لذلك قول الشارح فيما يأتى فالمراد بصيغته إلخ ، لكن لا يخفى أن الكلام فى الأمر اللفظى الذى هو من أقسام الإنشاء إلا أن يقال : هذا استطراد لزيادة الفائدة ، ثم إنه على هذا الاحتمال ربما يفهم أن الخلاف الآتى فى معنى صيغة الأمر إنما هو عند القائلين بالكلام النفسى ، أما عند النافين له : كالمعتزلة فلا يجرى فيها خلاف ، وليس كذلك ـ بينه حواشى جمع الجوامع وغيرهم (قوله : تستعمل فى معان كثيرة) أى : نحو ستة وعشرين معنى ذكرها أهل الأصول وذكر المصنف فيما يأتى بعضا منها (قوله : هى) أى : الصيغة وأبرز الضمير لجرى الصفة على غير من هى له وقوله لها أى : الحقيقة (قوله : اختلافا كثيرا) حاصله أن الأصوليين اختلفوا فى المعنى الذى وضع له صيغة الأمر فقيل وضعت للوجوب فقط وهو مذهب الجمهور وقيل للندب فقط ، وقيل للقدر المشترك بينهما وهو مجرد الطلب على جهة الاستعلاء فهى من قبيل المشترك المعنوى وقيل : هى مشتركة بينهما اشتراكا لفظيا بأن وضعت لكل منهما استقلال وقيل : بالتوقف أى : عدم الدراية وهو شامل للتوقف فى كونها للوجوب فقط أو للندب فقط ، والتوقف فى كونها للقدر المشترك بينهما اشتراكا لفظيا بمعنى أنا لا نعين شيئا مما ذكر ، وقيل مشتركة بين الوجوب والندب والإباحة ، وقيل موضوعة للقدر المشترك بين الثلاثة أى : الإذن فى الفعل ، والأكثر على أنها حقيقة فى الوجوب فقط (قوله : ولما لم تكن الدلائل) أى : الأدلة التى ذكرها أصحاب الأقوال المذكورة (قوله : بشىء) أى : من الأقوال المذكورة (قوله : قال المصنف) أى : مشيرا لما هو الأظهر عنده لقوة دليله.

(قوله : من المقترنة) أى : من الصيغة المقترنة باللام فمن لبيان أنواع الصيغة وقضية كلام المصنف هذا أن الصيغة الدالة على الطلب هى الفعل فى قولنا : ليضرب زيد

٤٠٤

وغيرها ، نحو : أكرم عمرا ، ورويدا بكرا) فالمراد بصيغته ما دل على طلب فعل غير كف استعلاء سواء كان اسما أو فعلا (موضوعة لطلب الفعل استعلاء)

______________________________________________________

مثلا وأن اللام قرينة على إرادة الطلب به ، وعلى هذا فالإضافة فى قولهم : لام الأمر لأدنى ملابسة أى : اللام المقترنة بصيغة الأمر ، ويحتمل أن يكون المجموع من اللام والفعل هو الدال على الطلب (قوله : وغيرها) أى : ومن غير المقترنة باللام (قوله : نحو أكرم عمرا) هذه الصيغة فعل محض (قوله : ورويد بكرا) رويد هنا اسم فعل مبنى على الفتح بمعنى أمهل وقد تكون مصدرا منصوبا نصب المصادر المأمور بها مصغرا تصغير الترخيم والأصل إرواد مصدر رود فيقال : رويد عمرا أى : أورده أى أمهله ، وقد يقع رويدا صفة لمصدر ، فيكون رويدا حينئذ بمعنى اسم المفعول نحو : سر سيرا رويدا أى : مرودا ، ويقع حالا نحو سيروا رويدا أى : مرودين ، وقال جار الله : هو حال من السير كأنه قيل : سيروا السير رويدا وهذا تفسير سيبويه ويقع مصدرا مضافا للمفعول نحو : رويد زيد كأنه قيل : إرواد زيد وغير مضاف نحو : رويدا زيدا كضربا زيدا وهو فى هذه الحالات ليس اسم فعل ، وإذا اتصل به الكاف نحو : رويدك عمرا فهو اسم فعل لا غير بمعنى : أمهل ـ كما فى الفنارى واعلم أن جعل رويد مفيدا للطلب مبنى على المذهب الكوفى من أن اسم الفعل يدل على ما يدل عليه الفعل لا على مذهب البصريين من أن مدلوله لفظ الفعل إلا أن يقال : إنه على مذهبهم يدل على الطلب بواسطة دلالته على لفظ الفعل ـ تأمل.

(قوله : ما دل إلخ) أى : لا خصوص فعل الأمر والمضارع المقرون بلام الأمر على ما اشتهر وقوله : ما دل أى : لفظ دل بمادته ولو بطريق التضمن كما فى الفعل (قوله : اسما) أى : كرويد ، وكالمصدر فى نحو : ضربا زيدا ، وقوله : أو فعلا أى : كفعل الأمر والمضارع المقرون بلام الأمر وهو ظاهر فى الأول ، وأما الثانى فمحل نظر لاحتمال أن يقال الدال على الطلب مجموع الفعل واللام كما مر (قوله : موضوعة لطلب الفعل) ظاهره ولو ندبا مع أن الجمهور على أنه حقيقة فى الوجوب ويؤيد كون مراد المصنف هذا الظاهر عدم عده الندب من الأغيار الآتية مع أنه أحق بالعد من غيره ، فيكون

٤٠٥

أى : على طريق طلب العلو وعد الآمر نفسه عاليا ، سواء كان عاليا فى نفسه أم لا (لتبادر الفهم عند سماعها) أى : سماع الصيغة (إلى ذلك المعنى) أعنى : الطلب باستعلاء ، والتبادر إلى الفهم من أقوى أمارات الحقيقة ...

______________________________________________________

الأظهر عند المصنف كون الصيغة موضوعة للقدر المشترك بين الوجوب والندب ـ كذا فى الفنرى.

(قوله : أى على طريق طلب العلو) فيه إشارة إلى أن نصب استعلاء بترع الخافض مع تقديره مضاف ، ويحتمل أنه مفعول مطلق على حذف مضاف أى : طلب استعلاء ويحتمل أنه تمييز ، ويؤيده قولهم على جهة الاستعلاء ، ويحتمل أن يكون حالا من فاعل المصدر المحذوف بالتأويل باسم الفاعل.

قال بعضهم : إذا تأملت فى قولهم صيغة الأمر ما دل على طلب الفعل استعلاء وجدته لا يخلو عن بحث ؛ لأنه إن أريد بالطلب الكلام النفسى كان لهذه الصيغة الإنشائية حينئذ معنى خارجى فتكون خبرا ، وإن أريد به الطلب اللفظى كان هو نفس الصيغة فيلزم اتحاد الدال والمدلول ورد بأنا نختار الأول ، ولا نسلم أن تلك الصيغة تكون خبرا حينئذ ؛ لأنها وإن كان لها معنى خارجى ، لكنه لم يقصد موافقة اللفظ له وحكايته به بخلاف الخبر ، فإنه لا بد فيه من ذلك كما مر (قوله : طلب العلو) هذا على أن السين والتاء للطلب ، وقوله : وعد إلخ إشارة إلى أنها للعد كما تقول استحسنت هذا الأمر أى : عددته حسنا ، ففى كلامه إشارة لجواز الوجهين ، وكان الأوضح فى هذه الإشارة العطف بأو كما فى الأطول وعد الآمر نفسه عاليا بإظهار القوة والغلظة فى كلامه دون التواضع والخضوع فدخلت أوامر الله سبحانه وتعالى (قوله : والتبادر إلى الفهم) أى : تبادر المعنى من اللفظ للفهم (قوله : من أقوى أمارات الحقيقة) أى : من أقوى أمارات كون اللفظ حقيقة ، واعترض هذا الدليل بأن المجاز الراجح يتبادر معناه من اللفظ للفهم ، ولا يدل ذلك التبادر على كونه حقيقة ؛ لأن التبادر أصله كثرة الاستعمال ، وأجيب بأن التبادر فى المجازات افتقر فيه إلى قرينة مصاحبة زيادة على كثرة الاستعمال والتبادر فى الحقيقة لا يفتقر للقرينة ، فالمراد بالتبادر فى كلام المصنف الذى لم يفتقر لقرينة بقى شىء

٤٠٦

(وقد تستعمل) صيغة الأمر (لغيره) أى : لغير طلب الفعل استعلاء (كالإباحة ، نحو : جالس الحسن أو ابن سيرين) فيجوز له أن يجالس أحدهما ، أو كليهما ، وأن لا يجالس أحدا منهما أصلا.

______________________________________________________

آخر ، وهو أن تبادر الفهم يتوقف على معرفة الوضع ، ففى الاستدلال به على الوضع دور بيان ذلك أن التبادر من غير معرفة الوضع محال فإذا عرف الوضع عرفت الحقيقة من المجاز ؛ لأن الأول بلا قرينة والثانى بمصاحبتها ، فلا يستدل بالتبادر على الحقيقة ؛ لأن معرفتها سابقة على التبادر ، وقد يجاب بأن السابق على التبادر مطلق معرفة الوضع ، لا الوضع الذى يتضمن الفرق بين الحقيقة والمجاز ، ومعرفة مطلق الوضع لا تفيد معرفة الحقيقة لصحة أن يدرك أن هذا اللفظ موضوع لكذا ، ولو لم يعلم كون الوضع بالقرينة أو لا ، فالتبادر بكثرة الاستعمال يدل على أن هذا الوضع مثلا حقيقة دون ذاك ـ فتأمل ـ انتهى ـ يعقوبى.

(قوله : وقد تستعمل لغيره) أى : لعلاقة بين ذلك الغير وبين معنى الأمر بحسب القرائن ، فإن قامت قرينة على منع إرادة معنى الأمر فمجاز وإلا فكناية ، ولا يخفى عليك أن مباحث الأمر والاستفهام ليست من فن المعانى وليس منه إلا نكات : العدول من الحقيقة إلى التجوز بالأمر والاستفهام ، ولا أثر لها فيما ذكره. اه أطول.

ولم يتعرض الشارح لعلاقة المجاز فى ذلك الغير وتعرض لها أهل الأصول ، فلا بأس بذكرها فى مواضعها وقول الشارح أى : لغير طلب الفعل استعلاء صادق بما إذا كان ذلك الغير طلبا من غير استعلاء وبأن لا يكون طلبا أصلا (قوله : كالإباحة) وذلك إذا استعملت صيغة الأمر فى مقام توهم السامع فيه عدم جواز الجمع بين أمرين والعلاقة بين الطلب والإباحة الموجبة لاستعمال لفظه فيها اشتراكهما فى مطلق الإذن فهو من استعمال اسم الأخص فى الأعم مجازا مرسلا ؛ لأن صيغة الأمر موضوعة للمأذون فيه المطلوب طلبا جازما ، فاستعملت فى المأذون فيه من غير قيد بطلب ، أو أن العلاقة بينهما التضاد ؛ لأن إباحة كل من الفعل والترك تضاد إيجاب أحدهما. (قوله : نحو جالس الحسن إلخ) أى : فالمخاطب يوهم عدم جواز مجالستهما لما كان بينهما من سوء المزاج

٤٠٧

(والتهديد) أى : التخويف وهو أعم من الإنذار لأنه إبلاغ مع التخويف ،

______________________________________________________

فأبيح له مجالستهما وتفارق الإباحة التخيير الذى قد تستعمل فيه صيغة الأمر أيضا ، ويمثلون له بنحو هذا التركيب بأنه لا يجوز الجمع بين الأمرين فى التخيير دون الإباحة ، ثم إن ظاهر المصنف كالأصوليين أن مفيد الإباحة هو الصيغة وأو على هذا قرينة على ذلك وعند النحويين أن مفيد الإباحة أو ، ولكن التحقيق أن المستفاد من الصيغة مطلق الإذن ، والمستفاد من أو الإذن فى أحد الشيئين أو الأشياء ، وما وراء ذلك من جواز الجمع بينهما وامتناعه إنما هو بالقرائن (قوله : والتهديد) وذلك إذا استعملت صيغة الأمر فى مقام عدم الرضا بالمأمور به والعلاقة بين الطلب والتهديد الموجبة لاستعمال لفظه فيه ما بينهما من شبه التضاد باعتبار المتعلق ؛ وذلك لأن المأمور به إما واجب ، أو مندوب ، والمهدد عليه إما حرام ، أو مكروه ، ولهذا يقال التهديد لا يصدق إلا مع المحرم والمكروه ، وقرر بعضهم : أن العلاقة بينهما السببية ؛ لأن إيجاب الشىء يتسبب عنه التخويف على مخالفته أو المشابهة بجامع ترتب العذاب على كل من الأمر والتهديد عند الترك ، ولا يخفى تقرير الاستعارة (قوله : أى التخويف) يعنى مطلقا سواء كان بمصاحبة وعيد مبين أو مجمل ، فالأول كأن يقول السيد لعبده : دم على عصيانك ، فالعصا أمامك ، والثانى كما فى قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)(١) أى : فسترون منا ما هو أمامكم ، فهذا يتضمن وعيدا مجملا ، وإنما كان هذا تهديدا لظهور أنه ليس المراد أمرهم بكل عمل شاءوا ؛ ولأن قرائن الأحوال دالة على أن المراد الوعيد لا الإهمال (قوله : وهو أعم من الإنذار) أى : فيكون الإنذار داخلا فى التهديد ، فلذا لم ينص عليه (قوله : لأنه إبلاغ إلخ) أى : لأن الإنذار إبلاغ مصحوب بالتخويف وكان الأوضح ؛ لأنه تخويف مع إبلاغ ، وذلك كما قيل فى قوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ)(٢) فصيغة تمتعوا مع ما بعدها تخويف بأمر مع إبلاغه عن الغير ، والتهديد هو التخويف مطلقا سواء كان مصحوبا بإبلاغ أو لا بأن كان من عند نفسه فيكون أعم من الإنذار ؛ لأنه تخويف مقيد والمقيد

__________________

(١) فصلت : ٤٠.

(٢) إبراهيم : ٣٠.

٤٠٨

وفى الصحاح : الإنذار تخويف مع دعوة (نحو : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)(١)) لظهور أن ليس المراد الأمر بكل عمل شاءوا (والتعجيز ، نحو : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(٢)) إذ ليس المراد طلب إتيانهم بسورة من مثله لكونه محالا ، والظرف ؛ أعنى : قوله : (مِنْ مِثْلِهِ) متعلق ب (فَأْتُوا) ...

______________________________________________________

أخص من المطلق (قوله : وفى الصحاح إلخ) حاصله أن التهديد أعم من الإنذار ؛ لأن الإنذار تخويف مع دعوة لما ينجى من المخوف ، وأما التهديد : فهو تخويف مطلقا ، فالإنذار أخص من التهديد على ما فى الصحاح ، وكذا على ما قبله ، لكن الفرق بين ما فى الصحاح وما قبله من جهة أن الإنذار على ما فى الصحاح لا يكون إلا من الرسول لكونه اعتبر فى مفهوم الدعوة ، والإنذار على ما قبله يكون من الرسول ومن غيره ؛ لأنه اعتبر فى مفهومه الإبلاغ وهو أعم من الدعوة ؛ لأنه يكون من الرسول ومن غيره ؛ لأنه يقال لمن أعلم قوما بأن جيشا يصحبهم إنه أنذرهم ولو لم يرسل بذلك (قوله : والتعجيز) أى : أن صيغة الأمر قد تستعمل للتعجيز وذلك فى مقام إظهار عجز من يدعى أن فى وسعه وطاقته أن يفعل مثل الأمر الفلانى ؛ لأنه إذا حاول فعله بعد سماع صيغة الأمر ، ولم يمكنه فعله ظهر عجزه حينئذ.

(قوله : لكونه محال) أى : لكون الإتيان بسورة من مثله محالا من جهة أن ذلك خارج عن وسعهم وطاقتهم ، فإذا حاولوا بعد سماع الصيغة ذلك الإتيان ولم يمكنهم ظهر عجزهم ، فإن قلت لم لا يكون المراد هنا من الصيغة الطلب ، وغايته أنه من التكليف بالمحال لاستحالة وجود الإتيان من المثل والتكليف بالمحال جائز أو واقع قلت القرائن هنا تعين إرادة التعجيز لإقامة الحجة عليهم فى تلك الآيات ، والعلاقة بين الطلب والتعجيز ما بينهما من شبه التضاد فى متعلقهما ، فإن التعجيز فى المستحيلات والطلب فى الممكنات أو السببية ؛ لأن إيجاب شىء لا قدرة عليه يلزم التعجيز عنه (قوله : متعلق بفأتوا) أى : فهو ظرف لغو والضمير لعبدنا أى : تعيينا ، والمعنى حينئذ : وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا من شخص مماثل لعبدنا فى كونه أميا لا يكتب بسورة ،

__________________

(١) فصلت : ٤٠.

(٢) البقرة : ٢٣.

٤٠٩

والضمير لعبدنا ، أو صفة لسورة والضمير لما نزلنا أو لعبدنا ، فإن قلت : لم لا يجوز على الأول أن يكون الضمير لما نزلنا ـ قلت لأنه يقتضى ثبوت مثل القرآن فى البلاغة وعلو الطبقة بشهادة الذوق ؛ ...

______________________________________________________

فالمأتى منه موجود والمأتى به معجوز عنه ومن على هذا ابتدائية (قوله : أو صفة إلخ) عطف على قوله متعلق بفأتوا أى أو متعلق بمحذوف صفة لسورة فيكون الظرف مستقرا (قوله : والضمير) أى : من مثله لما نزلنا أو لعبدنا أى : فيكون المعنى على الأول : فأتوا بسورة من وصفها أنها من مثل ما نزلنا فى حسن النظم وغرابة البيان أى : من جنسه فتكون من تبعيضية مشوبة ببيان ، وعلى الثانى : فأتوا بسورة كائنة من مثل عبدنا فمن على هذا ابتدائية ، ويراد على هذا الوجه بمثل عبدنا مثله فى مطلق البشرية من غير شرط الأمية لعجز الكل ـ كذا فى ابن يعقوب ، فالمعجوز عنه على كلا الوجهين هو السورة الموصوفة بصفة هى كونها من جنس المترل ، أو من مثل عبدنا ومعلوم أن الذى يفهم من مثل هذا الكلام عند امتناع الإتيان بالمأمور أن الامتناع لعدم القدرة على الموصوف مع وجوده بوصفه ، كما يقال ائتنى بثوب ملبوس للأمير فملبوس الأمير موجود ، وامتنعت القدرة عليه ، أو لعدم القدرة على الموصوف لانتفاء وصفه ، فيلزم امتناع الإتيان به بذلك القيد ، كما يقال ائتنى بثوب قدره أربعون ذراعا ، والفرض أنه لا ثوب موصوف بهذا الوصف ، وإنما كان المفهوم من مثل هذا الكلام عند امتناع الإتيان بالمأمور أن الامتناع لعدم القدرة على الموصوف مع وجوده بوصفه ولعدم القدرة على الموصوف لانتفاء وصفه ؛ لأن الوصف واقع فى حيز المأمور به فيفهم أن الامتناع لامتناع الوصف أو لامتناع تناول الموصوف لعدم القدرة عليه (قوله : على الأول) على الاحتمال الأول وهو جعل الظرف لغوا متعلقا بفأتوا (قوله : قلت لأنه) أى : كون الضمير راجعا لما نزلنا مع جعل الظرف لغوا متعلقا بفأتوا يقتضى إلخ ؛ وذلك لأن المعنى عليه فأتوا مما هو مماثل لما نزلناه من الكلام البليغ بسورة ، ولا شك أن هذا يقتضى ثبوت مثل للقرآن فى البلاغة وعلو الطبقة ، وهذا غير صحيح ؛ لأن القرآن لا مثل له.

(قوله : بشهادة الذوق) متعلق بيقتضى أى أن ذلك الاقتضاء المذكور هو المفهوم من هذا الكلام عرفا كما يشهد بذلك الذوق السليم ، فإنك إذا قلت : ائتنى ببيت

٤١٠

إذ التعجيز إنما يكون عن المأتى به ، فكأن مثل القرآن ثابت لكنهم عجزوا عن أن يأتوا منه بسورة ، بخلاف ما إذا كان وصفا للسورة فإن المعجوز عنه هو السورة الموصوفة باعتبار انتفاء الوصف ، ...

______________________________________________________

من الحماسة : وهى ديوان الشعر المتعلق بالشجاعة أفاد وجود الحماسة عرفا بشهادة الذوق ، وحمله على مثل معنى ائتنى برجل أو جناح من العنقاء على معنى أن العنقاء لم توجد فلا يوجد رجلها ولا جناحها : احتمال عقلى لا يرتكب فى تراكيب البلغاء بشهادة الذوق والاستعمال ، فلهذا تعين أن يكون الضمير على تقدير كون الظرف لغوا عائدا لعبدنا لا لما نزلنا ولا يخفى أن هذا إنما يتم بناء على أن إعجاز القرآن لكونه خارجا عن طوق البشر ، وأما إن قلنا إنه فى طوقهم وصرفوا عنه لم يفتقر لهذا (قوله : إذ التعجيز) أى : على هذا الاحتمال إنما يكون عن المأتى به أى : وهو السورة أى : عن الإتيان بها مع وجود المأتى منه وهو المثل وهذا علة للاقتضاء (قوله : أن يأتوا منه) أى : من المثل الذى فرض موجودا (قوله : بخلاف ما إذا كان) أى : الظرف (قوله : فإن المعجوز عنه هو السورة الموصوفة) أى : فيكون الوصف فى حيز المأتى به فيكون معجوزا عنه (قوله : باعتبار انتفاء الوصف) متعلق بالمعجوز أى : أن السورة الموصوفة معجوز عنها باعتبار انتفاء وصفها وعدم وجوده ، فإن وصفها هو كونها من مثل المترل والمترل لا مثل له ، وإذا انتفى الوصف انتفى الموصوف من حيث هو موصوف ، والحاصل أن المعنى عند جعل الظرف صفة لسورة أنهم عاجزون عن الإتيان بسورة متصفة بكونها من مثل القرآن لكون هذا الوصف غير ثابت لسورة ما فى الواقع ، وانتفاء ذلك الوصف فى الواقع لانتفاء المثل ، وحينئذ فليس ذلك العجز إلا لانتفاء المثل من أصله ، إذ لو ثبت لثبت الوصف لسورة منه ، وقد يقال : إن العجز عن الإتيان بالسورة الموصوفة صادق بأن يكون لعدم قدرة على الموصوف مع وجوده بوصفه وصادق بما إذا كان لعدم القدرة على الموصوف لانتفاء وصفه ، وحينئذ فلا وجه لاقتصار الشارح على كون العجز باعتبار انتفاء الوصف ، اللهم إلا أن يقال اقتصار الشارح على ذلك ؛ لأنه الواقع ، لا لأن العجز منحصر فيه ، والحاصل أنه إذا كان المعنى : فأتوا من مثل ما نزلنا بسورة

٤١١

فإن قلت : فليكن التعجيز باعتبار انتفاء المأتى به منه قلنا احتمال عقلى لا يسبق إلى الفهم ، ولا يوجد له مساغ فى اعتبارات البلغاء واستعمالاتهم ؛ فلا اعتداد به ، ولبعضهم هنا كلام طويل لا طائل تحته (والتسخير ، ...

______________________________________________________

لزم وجود المثل للقرآن لوقوع المثل فى حيز المأتى منه ، والعرف قاض بذلك الاستعمال ، وإن كان المعنى فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلنا فلا يقتضى وجود المثل للقرآن لوقوع المثل فى حيز المأتى به المعجوز عنه ، فإذا قلت ائتنى من مثل العنقاء بجناح اقتضى ذلك ثبوت مثلها بخلاف لو قلت : ائتنى بجناح من مثل العنقاء ، فإنه لا يقتضى ثبوته والذوق السليم شاهد صدق بذلك (قوله : فإن قلت فليكن إلخ) أى : فإن قلت عند جعل الظرف لغوا متعلقا بفأتوا ، وترجيع الضمير لما نزلنا لا يجعل التعجيز باعتبار المأتى به حتى يلزم ثبوت المثل للقرآن ، بل يجعل التعجيز باعتبار انتفاء المأتى منه وهو المثل بأن يكون لهم قدرة على الإتيان بسورة من مثله ، إلا أن المثل منتف فهم قادرون على الإتيان بسورة ، إلا أنه لا مثل له حتى يأتوا منه بسورة ، وحينئذ فلا يقتضى ثبوت المثل ولا ينتفى عجزهم باعتبار المأتى به ، وحاصل الجواب أن الاستقراء دل على أن مثل هذا التركيب يفهم منه الذوق أن التعجيز باعتبار المأتى به لا باعتبار المأتى منه ، وحينئذ فيفيد ثبوت المثل فقوله قلنا احتمال إلخ أى : قلنا جعل التعجيز باعتبار المأتى منه احتمال عقلى بخلاف كون التعجيز باعتبار انتفاء الوصف فإنه شائع ؛ لأن القيود محط القصد (قوله : ولبعضهم إلخ) أراد به الطيبى فى حواشى الكشاف.

(قوله : والتسخير) أى : جعل الشىء مسخرا منقادا لما أمر به يعنى أن صيغة الأمر تستعمل للتسخير ، وذلك فى مقام يكون المأمور به منقادا للأمر والعلاقة بين الطلب وبينه السببية ؛ وذلك لأن إيجاب شىء لا قدرة للمخاطب عليه بحيث يحصل بسرعة من غير توقف يتسبب عنه تسخيره لذلك أى : جعله مسخرا منقادا لما أمر به ، وما ذكرناه فى معنى التسخير ـ هو ما ذكره عبد الحكيم ، وذكر العلامة اليعقوبى : أن التسخير هو تبديل الشىء من حالة إلى حالة أخرى فيها مهانة ومذلة وقد كان موجودا ، وذكر أيضا أن الفرق بينه وبين التكوين أن التسخير تبديل من حالة إلى حالة

٤١٢

نحو : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(١) والإهانة ، ...

______________________________________________________

أخرى أخس من الأولى ، والتكوين : الإنشاء من العدم إلى الوجود ، ويوجد استعمال صيغة الأمر فيه كقوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ)(٢) والتعبير عن الإيجاد بكن إيماء إلى أنه يكون فى أسرع لحظة ، وأنه طائع لما يراد ، فكأنه إذا أمر ائتمر ويحتمل أن يكون التكوين أعم بأن يراد به مطلق التبديل إلى حالة لم تكن ويراد بالتسخير ما تقدم أى : التبديل من حالة إلى أخرى فيها مهانة ومذلة. اه كلامه.

وعلى هذا فالعلاقة بين الطلب والتسخير المشابهة فى مطلق الإلزام ، فإن الوجوب إلزام المأمور والتسخير إلزام الذل والهوان (قوله : (خاسِئِينَ)) أى : صاغرين مطرودين عن ساحة القرب والعز ووصف القردة به لتأكيد ما تضمنه معناه ، ويصح أن يكون خاسئين خبرا بعد خبر لكان أى : كونوا جامعين بين القردة ، والخسء أى : الصغار والطرود ، ولا يرد على هذا أن المبتدأ لا يقتضى أكثر من خبر واحد من غير عطف إلا بشرط أن يكون الخبران فى معنى خبر واحد نحو : هذا حلو حامض ، وقردة خاسئين : ليس من هذا ؛ لأن كل واحد منهما مستقل بإفادة الصغار والذل ، فالذى يفهم من مجموعهما يفهم من كل واحد منهما ؛ لأنا نقول الحق أن الأخبار المتعددة إذا لم تكن فى معنى الخبر الواحد يجوز فيها العطف وعدمه ومنه وهو الغفور الودود الآية ، ويصح أن يكون خاسئين حالا من اسم كان ، ولا يراد على هذا أن كان لا تعمل إلا فى المبتدأ والخبر ؛ لأن عدم عمل كان فى الحال مبنى على عدم دلالتها على الحدث ، والصحيح دلالتها عليه ، واعلم أن صيغة الأمر إذا استعملت فى التسخير أو فى الإهانة الآتية يحتمل أن تكون إنشاء أى : إظهار لمعناها وهو الذلة والحقارة ، ويحتمل أن تكون إخبارا بالحقارة والمذلة فكأنه قيل على هذا هم بحيث يقال فيهم إنهم أذلاء محتقرون ممسوخون وكونها للإخبار فى الإهانة أظهر منه فى التسخير (قوله : والإهانة) وهى إظهار ما فيه تصغير المهان وقلة المبالاة به ، وحاصله أن صيغة الأمر ترد للإهانة وذلك إذا استعملت فى مقام عدم الاعتداد بشأن المأمور على أى وجه كان والعلاقة بين الأمر

__________________

(١) البقرة : ٦٥.

(٢) يس : ٨٢.

٤١٣

نحو : (كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً)(١) إذ ليس الغرض أن يطلب منهم كونهم قردة أو حجارة لعدم قدرتهم على ذلك ، لكن فى التسخير يحصل الفعل ؛ أعنى : صيرورتهم قردة ، وفى الإهانة لا يحصل ؛ إذ المقصود قلة المبالاة بهم.

______________________________________________________

والإهانة اللزوم ؛ لأن طلب الشىء من غير قصد حصوله لعدم القدرة عليه مع كونه من الأحوال الخسيسة يستلزم الإهانة أو العلاقة المشابهة فى مطلق الإلزام ؛ لأن الوجوب إلزام المأمور والإهانة إلزام الذل والهوان ـ تأمل.

(قوله : نحو (كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً)) أى : ونحو : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)(٢) لأنه ليس المراد الأمر بذوقه العذاب ؛ لأن الكافر حال الخطاب بالصيغة فى غصص المذوق ومحنه.

(قوله : إذ ليس إلخ) علة لمحذوف أى : فالغرض من الأمرين التسخير والإهانة ، لا الطلب إذ ليس إلخ (قوله : لكن فى التسخير) لما أفاد اشتراك التسخير والإهانة فى عدم القدرة فربما يتوهم عدم الفرق بينهما ، وحينئذ فلا وجه لكون الأمر فى المثال الأول للتسخير ، وفى الثانى : للإهانة ، فاستدرك على ذلك ببيان الفرق ، وحاصل ما ذكره من الفرق بين التسخير والإهانة اللذين دلت على إرادتهما القرائن فى الأمرين أن التسخير يحصل فيه الفعل حال إيجاد الصيغة ، فإن كونهم قردة أى : مسخهم وتبديلهم بحال القردة واقع حال إيجاد الصيغة والإهانة لا يحصل فيها الفعل أصلا ؛ لأن المقصود فيها تحقير المخاطبين وقلة المبالاة بهم لا حصول الفعل فقول الشارح ، لكن فى التسخير يحصل الفعل أى : حال إيجاد الصيغة وقوله وفى الإهانة لا يحصل أى : الفعل أصلا وقوله ، إذ المقصود أى : من الإهانة قلة المبالاة بهم أى : لا حصول الفعل ، واعلم أن التحقير قريب من الإهانة وقد استعملت صيغة الأمر فيه فى قوله تعالى حكاية عن موسى ألقوا ما أنتم ملقون أى : إن ما جئتم به من السحر حقير بالنسبة للمعجزة ، وإنما قلنا : إنه قريب منها ؛ لأن كل محتقر فى الاعتقاد ، أو فى الظاهر فهو مهان فى ذلك الاعتقاد ، أو الظاهر وإن كانت الإهانة إنما تكون بالقول أو بالفعل والاحتقار كثيرا ما يقع فى الاعتقاد ، والحاصل

__________________

(١) الإسراء : ٥٠.

(٢) الدخان : ٤٩.

٤١٤

(والتسوية نحو : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا)(١)) ففى الإباحة كأن المخاطب توهم أن الفعل محظور عليه فأذن له فى الفعل مع عدم الحرج فى الترك ، وفى التسوية كأنه توهم أن أحد الطرفين من الفعل والترك أنفع له وأرجح بالنسبة إليه فدفع ذلك وسوى بينهما.

______________________________________________________

أنه إن شرط فى الإهانة وهى التصغير إظهار ذلك قولا أو فعلا كما قلنا كانت أخص من مطلق التحقير ، وإن لم يشترط فيها ذلك كانا شيئا واحدا (قوله : والتسوية) يعنى صيغة الأمر تستعمل للتسوية بين شيئين وذلك فى مقام توهم أن أحدهما أرجح من الآخر ، كقوله تعالى (أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ)(٢) فإنه ربما يتوهم أن الإنفاق طوعا مقبول دون الإكراه فسوى بينهما فى عدم القبول وكقوله تعالى : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) فإنه ربما يتوهم أن الصبر نافع ، فدفع ذلك بالتسوية بين الصبر وعدمه ، فليس المراد بالصيغة فى المحلين الأمر بالإنفاق ولا الأمر بالصبر ، بل المراد كما دلت عليه القرائن التسوية بين الأمرين كما قلنا ، والعلاقة بينها وبين الأمر التضاد ؛ لأن التسوية بين الفعل والترك تضاد إيجاب أحدهما هذا ، واعترض بعضهم كون صيغة الأمر تستعمل للتسوية بأن التسوية قد تستفاد من التركيب الذى فيه النهى كما فى الآية الثانية ، فيلزم أن يكون النهى للتسوية ، ولم يقل بذلك أحد ، فالظاهر أن التسوية لأو لا لصيغة الأمر ورد ذلك بأنهم صرحوا بأن النهى يكون للتسوية أيضا وجعلوا منه قوله تعالى أو لا تصبروا ، وبأن أو لأحد الشيئين أو الأشياء ، فلا دلالة لها على التسوية ـ تأمل. اه غنيمى.

(قوله : ففى الاباحة إلخ) هذا شروع فى الفرق بين الإباحة المتقدمة والتسوية المذكورة هنا ، وكأن سائلا سأله وقال له أحدهما لازم للآخر فما الفرق ، وحاصل الفرق بينهما أن الإباحة يخاطب بها من هو بصدد أن يتوهم المنع من الفعل فيخاطب ، بالإذن فى الفعل مع عدم الحرج فى الترك كما فى قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(٣) والتسوية

__________________

(١) الطور : ١٦.

(٢) التوبة : ٣٥.

(٣) المائدة : ٢.

٤١٥

(والتمنى ، نحو :

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلى)

بصبح وما الإصباح منك بأمثل (١)

إذ ليس الغرض طلب الانجلاء من الليل ؛ إذ ليس ذلك ...

______________________________________________________

يخاطب بها من هو بصدد أن يتوهم أن أحد الطرفين المذكورين فى محلهما من الفعل ومقابله أرجح من الآخر وأنفع منه ، فيدفع ذلك ويسوى بينهما ، والأقرب كما قال العلامة اليعقوبى أن الصيغة فى التسوية إخبار دون الإباحة ، ويحتمل أنها لإنشاء التسوية والإخبار بالإباحة على بعد (قوله : والتمنى) أى : تستعمل صيغة الأمر فى التمنى وهو طلب الأمر المحبوب الذى لا طماعية فيه ، والعلاقة بين الأمر وبينه الإطلاق والتقييد ؛ لأن الأمر طلب على وجه الاستعلاء فأطلق عن قيده ، ثم قيد بالمحبوب الذى لا طماعية فيه أو السببية ؛ لأن طلب وجود الشىء الذى لا إمكان له سبب فى تمنيه (قوله : نحو ألا أيها إلخ) هذا البيت من معلقة امرئ القيس المشهورة التى أولها قفا نبك إلخ ، وقبل البيت المذكور :

وليل كموج البحر أرخى سدوله

علىّ بأنواع الهموم ليبتلى

فقلت له لما تمطّى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلى

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فيا لك من ليل كأنّ نجومه

بكل مغار الفتل شدّت بيذبل.

(قوله : ألا انجلى) الياء فيه ثابتة لإشباع الكسرة ، لا أنها من أصل الكلمة كقوله : ألم يأتيك والأنباء تنمى.

كذا ذكر بعضهم ، وفى الأطول : لا يبعد أن يقال الياء ترد لما هو أصل ، إذ الضرورة ترد الكلمة إلى أصلها وليست للإشباع ، وإلا لما رسمت ، وقال بعض الأفاضل : الياء فى انجلى ثابتة فى كل النسخ لكن ليست للإشباع ، بل ياء الفاعلة ، وحينئذ ، فالمراد من الليل الليلة ولو كانت للإشباع ما رسمت وربما كان فى قول الشارح ولاستطالته تلك

__________________

(١) البيت من الطويل ؛ وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص ١٨ ، والأزهية ص ٢٧١ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٢٦ ، ٣٢٧ ، ولسان العرب شلل ، وبلا نسبة فى جواهر الأدب ص ٧٨. ص ٧٨.

٤١٦

فى وسعه ، لكنه يتمنى ذلك تخلصا عما عرض له فى الليل من تباريح الجوى ولاستطالته تلك الليلة كأنه لا طماعية له فى انجلائها ؛ فلهذا يحمل على التمنى دون الترجى.

(والدعاء) أى : الطلب على سبيل التضرع (نحو : (رَبِّ اغْفِرْ لِي)(١) ،

______________________________________________________

الليلة إشارة إليه ، والمراد بالانجلاء : الانكشاف ، وبالإصباح : ظهور ضوء الصبح وهو الفجر وأول النهار ، فكأنه يقول : انكشف أيها الليل الطويل طولا لا يرجى معه الانكشاف ، وقوله : وما الإصباح منك بأمثل أى : بأفضل كلام تقديرى ، كأنه يقول هذا الليل لا طماعية فى زواله لطوله طولا لا يرجى معه الانكشاف وعلى تقدير الانكشاف ، فالإصباح لا يكون أفضل منه عندى لمقاساتى الهموم والأحزان فيه كما أقاسيها فى الليل ، فالليل قد شارك النهار فى مقاساة الهموم لاشتراكهما فى علتها وهى فراق الحبيب فطلب النهار ليس لخلوه عنها ، بل لأن بعض الشر أهون من بعض (قوله : فى وسعه) أى : وسع الليل وقد يقال : إنه يجوز التكليف بما ليس فى الوسع ؛ لأن التكليف بالمحال جائز فيمكن أن يكون هذا منه ، فالأحسن فى التعليل أن يقول ؛ لأن الليل ليس مما يؤمر ويخاطب ؛ لأنه ينبغى أن يكون المكلف عاقلا يفهم الخطاب (قوله : يتمنى ذلك) أى : الانجلاء فكأنه يقول ليتك تنجلى (قوله : من تباريح الجوى) التباريح بالحاء المهملة الشدائد جمع تبريح بمعنى الشدة والجوى بالجيم الحرقة وشدة الوجد من حزن أو عشق (قوله : ولاستطالته إلخ) علة مقدمة على المعلول وهو قوله كأنه لا طماعية أى : وكأنه لا طماعية له فى انجلاء تلك الليلة لاستطالتها أى : لعدها طويلة جدا وهو عطف على طوله إذ ليس فى وسعه فهو دليل آخر على أنه ليس الغرض طلب الانجلاء فكان للتعليل (قوله : فلهذا) أى : فلأجل عدم الطماعية فى الانجلاء والانكشاف حمل الأمر على التمنى ليناسب حال التشكى من الأحزان والهموم وشدتها ؛ لأنه لا يناسبها إلا عدم الطماعية فى انجلاء الليل ؛ وذلك لأنها لكثرتها ولزومها لليل يعد الليل معها مما لا يزول ، ولذا جرت العادة بأن من وقع فى ورطة وشدة يتسارع بالإياس ويتشكى منها مظهرا لبعد النجاة وما لو كانت مرجوة الانكشاف لم تستحق التشكى من ليلها الملازمة له (قوله : والدعاء) هو كما قال الشارح الطلب

__________________

(١) الأعراف : ١٥١.

٤١٧

والالتماس ؛ كقولك لمن يساويك رتبة : افعل ؛ بدون الاستعلاء) والتضرع ، فإن قيل : أى حاجة إلى قوله : بدون الاستعلاء مع قولك : لمن يساويك رتبة قلت : قد سبق أن الاستعلاء لا يستلزم العلو ...

______________________________________________________

على سبيل التضرع أى : التذلل والخضوع ، سواء كان الطالب أدنى أو أعلى أو مساويا فى الرتبة ، وعلى هذا لو قال العبد لسيده على وجه الغلظة : أعتقنى كان أمرا ، ولذلك يعد الأمر من العبد سوء أدب ؛ لأن الأمر لا يكون إلا مع استعلاء كما تقدم ، والعلاقة بينه وبين الأمر : الإطلاق والتقييد ، وكذا يقال فى الالتماس الآتى (قوله : والالتماس) ويقال له السؤال (قوله : لمن يساويك رتبة) أى : فى الرتبة وانظر هل المراد المساواة فى نفس الأمر ، أو ولو بحسب زعم المتكلم ، ولعل الثانى هو الظاهر (قوله : بدون الاستعلاء) أى : حال كون ذلك القول كائنا بدون الاستعلاء أى : إظهار العلو المعتبر فى الأمر أى : وبدون التضرع المعتبر فى الدعاء فقوله بدون الاستعلاء قيد فى الالتماس ، ولا يتأتى فى الدعاء ، ثم إن ظاهر ما تقرر أن مناط الأمرية فى الطلب هو الاستعلاء ولو من الأدنى ومناط الدعاء فى الطلب التضرع والخضوع ولو من الأعلى كالسيد مع عبده ، ومناط الالتماس فى الطلب هو التساوى مع نفى التضرع والاستعلاء ، وعلى هذا إذا صدر الطلب من الأعلى للأدنى فى الرتبة : كالسيد مع عبده ، أو صدر من الأدنى للأعلى رتبة من غير استعلاء ولا تخضع لم يسم بواحد من هذه الثلاثة وهو بعيد ، والظاهر أنه التماس ، وحينئذ فالمدار فيه على نفى الاستعلاء والتضرع ، سواء صدر من الأعلى أو من الأدنى رتبة أو من الشخص لمساويه ، وحينئذ فلا مفهوم لقول المصنف لمن يساويك كما هو المستفاد من كلامهم ، ولعل المصنف إنما خص المساوى بالذكر نظرا للشأن ؛ لأن الطلب بدون استعلاء وتخضّع شأنه أن يكون من المساوى ـ كذا قرر شيخنا العدوى.

(قوله : أى حاجة إلى قوله بدون الاستعلاء مع قوله لمن يساويك رتبة) مع أن المساواة تستلزم عدم الاستعلاء (قوله : قد سبق أن الاستعلاء لا يستلزم العلو) أى : لا يكون لازما للعلو ، بل قد يوجد العلو بدون استعلاء ، وقد يوجد الاستعلاء بدون علو ؛ لأن الاستعلاء كما مر عد الآمر نفسه عاليا بأن يكون الطلب الصادر منه على وجه

٤١٨

فيجوز أن يتحقق من المساوى ، بل من الأدنى أيضا.

(ثم الأمر قال السكاكى : حقه الفور لأنه الظاهر من الطلب) عند الإنصاف كما فى الاستفهام والنداء (ولتبادر الفهم ...

______________________________________________________

الغلظة ، وهذا المعنى أى : جعل الآمر نفسه عاليا فى أمره يصح من المساوى فى نفس الأمر ومن الأدنى ، لأن دعاوى النفس أكثر من أن تحصى ، وحينئذ فيحتاج لقوله بدون استعلاء مع قوله لمن يساويك لإخراج الأمر (قوله : فيجوز أن يتحقق) أى الاستعلاء من المساوى ؛ لأن المنافى للمساواة إنما هو العلو لا الاستعلاء.

(قوله : ثم الأمر) أى : صيغته (قوله : قال السكاكى حقه الفور) أى : حقه أن يدل على وجوب حصول الفعل المأمور به عقيب ورود الأمر فى أول أوقات الإمكان وجواز التراخى مفوض إلى القرينة وهذا مذهب بعض الأصوليين أيضا فإذا قيل افعل معناه : افعل فورا ، ولا يدل على التراخى إلا بالقرينة ، ومتى انتفت انصرف للفور ومن جملة ما رد به على ذلك القول أنه لو كان مدلول الأمر الفور لغة لاحتيج لزيادة الفور فى حده ومقابل هذا القول يقول : إن صيغة الأمر مدلولها طلب ماهية الفعل مطلقا لا بقيد المرة أو التكرار ولا بقيد الفورية أو التراخى فيكون المأمور ممتثلا للأمر بالإتيان بالفعل المأمور به على سبيل الفور أو التراخى ولا يتعين أحدهما فى مدلولها إلا بقرينة (قوله : لأنه الظاهر من الطلب) أى : إنما كانت صيغة الأمر حقها الفور ؛ لأن كون الفعل المطلوب بها مطلوبا على الفور هو الظاهر من الطلب ؛ لأن مقتضى الطبع فى كون الشىء مطلوبا أنه لا يطلب حتى يحتاج لوقوعه فى الحين ، كما إذا قلت اسقنى فالمراد طلب السقى حينئذ ، وهذا شأن الطلب فى الجملة عند الإنصاف وكل ما يعرض من غير هذا فليس من مقتضى الطلب ، ولا يخفى أن بيان كون الفور والظاهر بما ذكر مشتمل على إثبات اللغة بالعقل ، مع أنها لا تثبت إلا بالنقل ، وأيضا استفادة فور السقى إنما هى لقرينة العطش (قوله : عند الإنصاف) أى : عند إنصاف النفس لا عند الحمية والجدال (قوله : كما فى الاستفهام والنداء) فإنه لا خفاء أنهما يقتضيان الفور ، فالأول : يقتضى فورية الجواب عن المستفهم عنه ، والثانى : يقتضى فورية إقبال المنادى ولا يظهر لاقتضائهما

٤١٩

عند الأمر بشىء بعد الأمر بخلافه إلى تغيير) الأمر (الأول دون الجمع) بين الأمرين (وإرادة التراخى) فإن المولى إذا قال لعبده قم ، ثم قال له قبل أن يقوم : اضطجع حتى المساء يتبادر الفهم إلى أنه غير الأمر بالقيام إلى الأمر بالاضطجاع ، ولم يرد الجمع بين القيام والاضطجاع ...

______________________________________________________

الفورية سبب سوى كونهما للطلب مع اشتراط إمكان المطلوب والأمر كذلك ، فيشاركهما فى اقتضاء الفورية ، ولا يقال : إن هذا قياس فى اللغة ، واللغة لا تثبت بالقياس على التحقيق ؛ لأنا نقول ليس المراد القياس به ، بل المراد أن هذا قرينة مقوية على أن حقه الفور ـ كذا ذكره الشيخ يس ، واعترضه العلامة اليعقوبى : بأن الأمر إن لم يكن مقيسا عليهما. فلا معنى لدلالتهما على أن الأمر يعتبر فيه ما يعتبر فيهما.

(قوله : عند الأمر بشىء) أى : بفعل من الأفعال (قوله : بخلافه) أى : بضده كما يظهر من تمثيل الشارح ، وقوله بعد الأمر بخلافه أى : وقبل فعل ذلك الخلاف (قوله : إلى تغيير الأمر الأول) متعلق بتبادر أى : يتبادر الفهم فيما ذكر إلى تغيير المتكلم بالصيغة الأمر الأول بالأمر الثانى (قوله : دون الجمع وإرادة التراخى) أى : من غير أن يتبادر أن المتكلم أراد الجمع بين الفعلين المأمور بهما ومن غير أن يتبادر أن المتكلم أراد جواز التراخى فى أحد الأمرين حتى يمكن الجمع بينهما ، وبهذا تعلم أن الجمع والتراخى متقاربان ؛ لأنه متى جاز التراخى أمكن الجمع ؛ لأن أحد الأمرين أو كلاهما على التراخى ، ويلزم من تغيير الأول كونه على الفور حيث غيره بما يعقبه فيثبت به المطلوب من كونه على الفور ـ كذا قرر ابن يعقوب ، ومقتضى كلام الشارح أن المعنى من غير أن يتبادر أن المتكلم أراد الجمع بين الأمرين مع إرادة تراخى أحدهما (قوله : حتى المساء) أى : إلى المساء فهى غاية والغاية لا بد لها من مبدأ والمناسب هنا أن مبدأها عقب ورود الصيغة أى : اضطجع زمانا طويلا من هذا الوقت إلى المساء ، وإنما قيد بذلك ليتحقق التراخى ، فإنه إذا قال : قم ، ثم قال : اضطجع ، وفعل العبد كليهما على التعاقب يكون ممتثلا على الفور ، بخلاف ما إذا أمره بعد الأمر بالقيام بالاضطجاع زمانا ، فإنه يفهم منه أنه غير الأمر الأول بالأمر الثانى ، ويلزم من تغيير الأول أنه على الفور حيث غيره بما ينفيه.

٤٢٠