حاشية الدسوقي - ج ١

محمّد بن عرفة الدسوقي

حاشية الدسوقي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عرفة الدسوقي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-744-1
ISBN الدورة:
9953-34-744-1

الصفحات: ٧٥٤

البلاغة

فلا يريدون فى هذا المقام الصدق الذى هو بمراحل عن اعتقادهم ، ولو قال : لأنهم اعتقدوا عدم صدقه لكان أظهر ، ...

______________________________________________________

لأن العاقل إنما يريد ما يعتقده أو يجوزه ، فالدليل الصحيح اعتقادهم عدم صدقه ، وأجيب بأن المراد بعدم اعتقادهم صدقه أنهم يبعدون عن تصديقه غاية البعد بحيث لا يجوزونه أصلا ، ولا يخطر ببالهم كما أشار له الشارح بقوله الذى هو بمراحل عن اعتقادهم ، ولا معنى لكونه بعيدا عن اعتقادهم غاية البعد إلا اعتقاد عدمه ، فقد رجع ذلك إلى قولنا لاعتقادهم عدم صدقه ولا مكان الجواب عن المصنف بما ذكر قال الشارح أظهر.

(قوله : فلا يريدون إلخ) من عطف المعلول على العلة ، وقوله فى هذا المقام أى مقام الإنكار عليه (قوله : الذى هو بمراحل إلخ) فى معنى التعليل لقوله فلا يريدون إلخ ، لأن الموصول وصلته فى حكم المشتق المؤذن تعليق الحكم بالعلية ، وفى هذا التعليل إشارة إلى أن المراد بقوله لأنهم لم يعتقدوه نفى اعتقادهم الصدق على الوجه الأبلغ فيقدم عدم تجويزهم لصدقه وعدم خطور صدقه ببالهم.

(قوله : لكان أظهر) أى : فى الدلالة على المدعى ، وهو أن المراد بالثانى غير الصدق ، وهذا يفيد أن هذا أظهر مما ذكره المصنف ، وما ذكره المصنف ظاهر أيضا.

أما الأول : فبيانه أن اعتقاد عدم الصدق مستلزم لذلك المدعى من غير واسطة ؛ لأن اعتقاد عدم الصدق إنما يصدق بنفى الصدق ولا يصدق بتجويزه ، وحينئذ فلا يوجب أن يراد بالثانى غير الصدق لصحة إرادة الصدق بناء على تجويزه كما مر.

وأما الثاني : فلما علمت أن مراد المصنف بقوله : لعدم اعتقادهم صدقة : أن الصدق بعيد عن اعتقادهم غاية البعد بحيث لا يجوزونه ، وحينئذ فلا يصح أن يراد بالثانى من شقى الترديد الصدق ، فكلام المصنف وإن أفاد المدعى بهذه المعونة إلا أن الذى قاله الشارح أظهر فى إفادة المدعى ؛ لأن أخذ هذا المعنى الذى قلناه من عبارة المصنف فيه نوع خفاء قال العلامة عبد الحكيم : لك أن تقول إن قول المصنف : لأنهم لم يعتقدوه قضية معدولة أى : إنهم موصوفون بعدم اعتقاد صدقه لاعتقادهم عدمه ، وحينئذ

٣٤١

فمرادهم بكونه أخبر حال الجنة غير الصدق وغير الكذب ، وهم عقلاء من أهل اللسان عارفون باللغة فيجب أن يكون من الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب حتى يكون هذا منه بزعمهم ، وعلى هذا لا يتوجه ما قيل أنه لا يلزم من عدم اعتقاد الصدق عدم الصدق ؛ ...

______________________________________________________

فيؤول إلى الأظهر الذى قاله الشارح ، وإن كان المتبادر منه السالبة (قوله : فمرادهم إلخ) هذا حاصل لكلام المصنف السابق (قوله : وهم عقلاء إلخ) جواب عما يقال إنما ألزمت الواسطة من قول هؤلاء وهم كفار فلا اعتبار بهم ، فأجاب بأن المعول فى مثل هذا على اللسان واللغة ، لا على الإخبار ، وهؤلاء من أهل اللسان واللغة فيعول عليهم فى مثله ؛ لأنهم لا يخطئون فيه (قوله : اللسان) أى : اللغة ، فقوله عارفون باللغة : تفسير لما قبله.

(قوله : فيجب إلخ) هذا تفريع على قوله فمرادهم إلخ (قوله : حتى يكون إلخ) حتى تعليلية ، وقوله هذا أى الإخبار حال الجنة ، وقوله منه أى : مما ليس بصادق ولا كاذب ، وقوله : بزعمهم أى : وإن كانت جميع أخباره ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صادقة فى نفس الأمر ولا جنة ، وقد يقال : هذا الدليل وإن نفى الحصر وأثبتت الواسطة إلا أنه إنما أثبت قسما واحدا من أقسام الواسطة الأربعة ، وحينئذ فلا يكون منتجا لتمام المدعى ، وقد يجاب بأن مراد الجاحظ إبطال مذهب غيره وإثبات مذهبه فى الجملة.

(قوله : وعلى هذا) أى : ولأجل هذا الذى قررناه بعد قول المصنف وغير الصدق إلخ ، وهو قوله : فلا يريدون فى هذا المقام الصدق إلخ ، قوله بعد ذلك فمرادهم بكونه أخبر حال الجنة غير الصدق وغير الكذب ، فإن هذا يقتضى أن قول المصنف ؛ لأنهم لم يعتقدوه علة لكون المراد بالثانى غير الصدق ، وأن قول المصنف وغير الصدق عطف على قوله غير الكذب فينحل المعنى ، ولا شك أن مراد الكفار بالثانى غير الكذب ، ومرادهم به أيضا غير الصدق ، وإنما كان مرادهم بالثانى غير الصدق ؛ لأنهم لم يعتقدوه (قوله : لا يتوجه ما قيل) أى : ما قاله الخلخالى اعتراضا على المصنف ، وحاصله أنه فهم أن قول المصنف وغير الصدق : خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير وهو أى : الثانى غير الصدق فى الواقع ، وإنما كان الثانى غير الصدق ؛ لأنهم لم يعتقدوا صدقه ، فجعل عدم

٣٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

اعتقاد الصدق علة لكون الثانى غير الصدق ، واعترض بأنه لا يلزم من عدم اعتقاد الصدق الذى قاله المصنف عدم الصدق فى الواقع لجواز أن يثبت الصدق مع عدم اعتقاد الصدق ، ألا ترى أن الكفار لا يعتقدون صدق النبى وهو صادق فى نفس الأمر ، وحينئذ فلا يتم هذا التعليل ، وحاصل الرد عليه أن هذا الاعتراض لا يتوجه على المصنف إلا لو كان جعل قوله لأنهم لم يعتقدوه : علة لعدم الصدق أى : لكون الثانى غير الصدق ، والمصنف إنما جعله علة لعدم إرادتهم بالثانى الصدق ، والحاصل أن الاعتراض مبنى على أن المعلل عدم الصدق ، ونحن نجعل المعلل عدم إرادة الصدق ، ولا شك أنه يلزم من عدم اعتقاد الصدق عدم إرادة الصدق ؛ فتم التعليل. أفاد ذلك شيخنا العلامة العدوى ، فثبت أن من الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب.

وأجيب عنه بأن الافتراء هو الكذب عن عمد فهو نوع من الكذب ، فلا يمتنع أن يكون الإخبار حال الجنون كذبا أيضا لجواز أن يكون نوعا آخر من الكذب وهو الكذب لا عن عمد ، فيكون التقسيم للخبر الكاذب لا للخبر مطلقا ، والمعنى أفترى أو لم يفتر ، وعبر عن الثانى بقوله : أم به جنة ؛ لأن المجنون لا افتراء له.

تنبيه آخر : وهو مما يجب أن يكون على ذكر الطالب لهذا العلم قال السكاكى (١) : ليس من الواجب فى صناعة وإن كان المرجع فى أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل أن يكون الدخيل فيها كالناشئ عليها فى استفادة الذوق منها ، فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى تحكمات وضعية واعتبارات إلفية؟ فلا على الدخيل فى صناعة علم المعانى أن يقلد صاحبه فى بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق ، وكثيرا ما يشير الشيخ عبد القاهر فى دلائل الإعجاز (٢) إلى هذا كما ذكر فى موضع ما تلخيصه هذا.

__________________

(١) المفتاح ص ٩٠.

(٢) دلائل الإعجاز ص ١٩٠ ، ١٩١.

٣٤٣

لأنه لم يجعله دليلا على عدم الصدق بل على عدم إرادة الصدق ؛ فليتأمل (ورد) هذا الاستدلال (بأن المعنى) أى : معنى (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) (أم لم يفتر ...

______________________________________________________

اعلم أنه لا يصادف القول فى هذا الباب موقعا من السامع ولا يجد لديه قبولا حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة ومن تحدثه نفسه بأن (لما) تومئ إليه من الحسن أصلا ، فيختلف الحال عليه عند تأمل الكلام فيجد أريحية تارة ويعرى منها أخرى ، وإذا عجبته تعجب وإذا نبهته لموضع المزية انتبه ، فأما من كانت الحالات عنده على سواء وكان لا يتفقد من أمر النظم إلا الصحة المطلقة ، وإلا إعرابا ظاهرا ، فليكن عندك بمنزلة من عدم الطبع الذى يدرك به وزن الشعر ، ويميز به مزاحفه من سالمه ، فى أنك لا تتصدى لتعريفه لعلمك أنه قد عدم الأداة التى بها يعرف.

واعلم أن هؤلاء وإن كانوا هم الآفة العظمى فى هذا الباب ، فإن من الآفة أيضا من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة فى شىء مما تعرفه المزية فيه ، ولا يعلم إلا أن له موقعا من النفس وحظا من القبول ، فهذا بتوانيه فى حكم القائل الأول.

واعلم أنه ليس إذا لم يمكن معرفة الكل وجب ترك النظر فى الكل ؛ ولأن تعرف العلة فى بعض الصور فتجعله شاهدا فى غيره أحرى من أن تسد باب المعرفة على نفسك وتعودها الكسل والهوينا.

قال الجاحظ : وكلام كثير جرى على ألسنة الناس وله مضرة.

(قوله : لأنه) أى : المصنف لم يجعله أى : لم يجعل قوله : لأنهم لم يعتقدوه دليلا على عدم الصدق أى : كما فهم المعترض (قوله : فليتأمل) أمر بالتأمل للإشارة إلى أنه يمكن أن يقال : إن عدم الاعتقاد أى : الجزم لا يستلزم عدم الإرادة ؛ لأن الشاك المتردد ليس عنده اعتقاد وجزم وعنده إرادة للأمر المشكوك فيه للتردد بينه وبين غيره ، وحينئذ فلا يصح جعل عدم اعتقاد الصدق دليلا لعدم الإرادة ، والجواب أن المراد بقوله ؛ لأنهم لم يعتقدوه : نفى اعتقادهم صدقة من حيث ذاته وإمكانه ، والشاك معتقد لإمكان الشىء وإن كان غير معتقد له من حيث ذاته.

(قوله : ورد) حاصله على ما يشير إليه الشارح ، منع أن المراد بالثانى غير الكذب ، ومنع أنه قسيم للكذب ، وبيانه أنا نختار أن المراد بالثانى الكذب ، وقوله أنه

٣٤٤

فعبر عنه) أى : عن عدم الافتراء (بالجنة لأن المجنون لا افتراء له) لأنه الكذب عن عمد ، ولا عمد للمجنون ، فالثانى ليس قسيما للكذب بل لما هو أخص منه ؛ أعنى : الافتراء فيكون حصرا للخبر الكاذب بزعمهم فى نوعيه ؛ أعنى : الكذب عن عمد والكذب لا عن عمد.

(أحوال الإسناد الخبرى):

______________________________________________________

قسيمه : إن أراد أنه قسيم مطلق الكذب كما هو المتبادر فممنوع ، بل هو قسيم الكذب العمد خاصة ، وإن أراد أنه قسيمه الكذب عن عمد فمسلم ، ولكن لا يلزم منه أن يكون المراد من الثانى غير الكذب إذ لا يلزم من كون الشىء قسيما للأخص أن يكون قسيما للأعم. (قوله : فعبر عنه إلخ) أى : على طريق المجاز المرسل من إطلاق اسم الملزوم على اللازم ؛ لأن من لوازم الإخبار حال الجنة عدم الافتراء ، وحاصل هذا الرد أنا لا نسلم أن الإخبار حال الجنة واسطة ، بل المراد منه عدم الافتراء ، وهو من أفراد الكذب ، فقصدهم حصر خبر النبى الكاذب بزعمهم فى نوعية الافتراء وعدمه ، وليس قصدهم حصر خبره من حيث هو فى الكذب وغيره (قوله : فعبر عنه إلخ) أى : فحاصل المعنى على هذا الجواب ، أقصد الكذب على الله أم لم يقصد لكونه حصل منه ذلك حال الجنون المنافى للقصد ، فمرادهم ـ لعنة الله عليهم ـ أن أخباره ليست عن الله على كل حال ، بل إما أنه اختلق ذلك بالقصد ، أو وقع منه ذلك بلا قصد (قوله : فالثاني) أى : وهو الإخبار حال الجنة (قوله : ليس قسيما للكذب) أى : لمطلق الكذب (قوله : بل لما هو إلخ) أى : بل هو قسيم لما هو أخص من الكذب وهو الافتراء ؛ وذلك لأن الافتراء هو الكذب عن عمد وهو أخص من مطلق كذب (قوله : فيكون حصرا إلخ) وحينئذ فالثانى كذب أيضا فلا واسطة.

أحوال الإسناد الخبرى :

خبر لمبتدأ محذوف أى : الباب الأول أحوال الإسناد الخبرى ، وفيه أن أحوال الإسناد عبارة عن الأمور العارضة له من التأكيد وعدمه ، وكونه حقيقة عقلية أو مجازا

٣٤٥

وهو ضم كلمة أو ما يجرى مجراها إلى أخرى ...

______________________________________________________

عقليا ، وهذه غير الباب الأول ؛ لأنه ألفاظ ، وحينئذ فالحمل غير صحيح لعدم المطابقة بين المبتدأ والخبر ، والجواب أن فى الكلام حذف مضاف أى : مباحث أو عبارات أحوال الإسناد ، وأورد على المصنف أن الأمور العارضة للإسناد المسماة بأحواله من الحقيقة العقلية ، والمجاز العقلى والتأكيد وعدمه يمكن إجراؤها فى الإنشاء كما إن قلت لشخص : ابن لى قصرا ، فإن كان ذلك الشخص أهلا للبناء بنفسه فالإسناد حقيقة عقلية ، وإلا فمجاز عقلى كما سيأتى من أن المجاز العقلى لا يختص بالخبر ، وإذا كان المخاطب قريب الامتثال قيل له : اضرب من غير تأكيد ، وإن كان شديد البعد عن الامتثال قيل له : اضربنّ بالتأكيد بالنون المشددة ، وإذا كان غير شديد البعد قيل له : اضربن بالنون الخفيفة ، وحينئذ فلا وجه لتقييد الإسناد بالخبرى ، وأجيب بأن وجه التقييد أن الخبر أصل للإنشاء إما باشتقاق : كالأمر ، فإنه مشتق من الماضى عند الكوفيين وكذلك المضارع ، أو بنقل كصيغ العقود ونعم وبئس أو بزيادة كالاستقبال والتمنى والترجى ، وكما فى لتضرب ولا تضرب ؛ ولأن المزايا والخواص المعتبرة عند البلغاء حصولها فيه أكثر من الإنشاء ، وبالجملة فالخبر هو المقصود الأعظم فى نظر البلغاء ، فلذا قيد به وهذا لا ينافى أن الأحوال العارضة للإسناد الذى فيه تعرض للإسناد الذى فى الإنشاء ، ثم إن الإسناد من أوصاف الشخص ؛ لأنه مصدر فيؤول بالإسناد الذى هو وصف للطرفين أعنى : انضمام أحدهما للآخر (قوله : وهو ضم كلمة) أى : انضمام كلمة ، فأطلق المصدر وأراد الأثر الناشئ عنه وهو الانضمام ؛ لأنه الذى يتصف به اللفظ. كذا فى خسرو ، والمراد بالكلمة : المسند.

(قوله : أو ما يجرى مجراها) أى : كالجملة الحالة محل مفرد نحو : زيد قائم أبوه ، والمركبات الإضافية والتقييدية (قوله : إلى أخرى) لم يقل أو ما يجرى مجراها فظاهره أن المسند إليه دائما لا يكون إلا كلمة منفردة ، وينقص هذا بمثل : (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة) (١) وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا)(٢) إلا أن يقال

__________________

(١) أخرجاه فى الصحيحين.

(٢) العنكبوت : ٥١.

٣٤٦

بحيث يفيد الحكم بأن مفهوم إحداهما ثابت ...

______________________________________________________

حذفه من الثانى لدلالة الأول ، ومثل هذا شائع ، أو يقال : إنما لم يزد ذلك لقلة وقوعه فى المسند إليه.

كذا قيل ، وقد يقال لا حاجة لذلك كله ؛ لأن الكلمة فى قوله : ضم كلمة شاملة للمسند والمسند إليه ، فالمسند قسمان كلمة وما جرى مجراها ، والمسند إليه كذلك ، فالأقسام أربعة ، فمثال المسند والمسند إليه إذا كانا كلمتين : زيد قائم ، ومثال المسند إليه الجارى مجرى الكلمة قولهم : (تسمع بالمعيدى خير من أن تراه) (١) ومثال المسند الجارى مجراه : زيد قام أبوه ، ومثال ما إذا كان كل منهما جاريا مجرى الكلمة : لا إله إلا الله ينجو قائلها من النار ، ولا يأتى ورود الاعتراض على الشارح إلا لو قال ضم كلمة مسندة أو ما جرى مجراها إلى أخرى.

(قوله : بحيث إلخ) الباء للملابسة متعلقة بمحذوف وفاعل يفيد ضمير يعود على الضم أى : ضما ملتبسا بحالة ، وهى أن يفيدك ذلك الضم الحكم بأن إلخ ، أى : يدل على أن المتكلم حكم بأن إلخ ، وعلى هذا فالمراد بالحكم الحكم بالمعنى اللغوى وهو القضاء وهذا القيد مخرج لضم اسم الفاعل لفاعله ، ويصح أن يراد به الوقوع أو اللاوقوع ، وعلى هذا فقوله بأن إلخ : متعلق بالحكم على أنه تفسير له ، فالباء : للتصوير ، والمعنى ضما ملتبسا بحالة ، وهى أن يفيد ذلك الضم الحكم المصور بثبوت مفهوم إحداهما لمفهوم الأخرى وذلك فى القضية الموجبة ، وقوله أو منفى عنه أى : أو منتف عنه وذلك فى القضية السالبة ، فإن المحكوم به فيها الانتفاء ولا يصح أن يراد بالحكيم الإيقاع والانتزاع ؛ لأن ذلك الضم لا يدل على أن المتكلم أدرك أن ثبوت مفهوم إحداهما لمفهوم الأخرى مطابق أو غير مطابق ، ولو قال الشارح وهو ضم كلمة أو ما يجرى مجراها إلى أخرى بحيث يفيد ثبوت مفهوم إحداهما للأخرى : كان أوضح (قوله : مفهوم إحداهما)

__________________

(١) أورده أبو هلال العسكرى فى جمهرة أمثال العرب (١ / ٢١٥) وكذلك أورده فى لسان العرب (٦ / ٤٢٣٠) مادة (معد) وقال يضرب مثلا لمن خبره خير من مرآته.

٣٤٧

لمفهوم الأخرى أو منفى عنه ، ...

______________________________________________________

أعنى : المحكوم به ، والمراد المفهوم المطابقى أو التضمنى للقطع بأن الثابت في : ضرب زيد ، أو زيد ضارب إنما هو الحدث الذى هو جزء المفهوم ، والثابت فى قولك : الإنسان حيوان ناطق المفهوم المطابقى.

(قوله : لمفهوم الأخرى) أعنى : المسند إليه ، واعترض بأن الأولى أن يقول لما صدق لأخرى ؛ لأن الموضوع يراد منه الماصدق ، والمحمول يراد منه المفهوم أعنى الوصف الكلى ، وأجيب بأن ما عبر به أولى ؛ لأنه لو عبر بالماصدق لخرجت القضايا الطبيعية ، فإن المراد من الموضوع فيها المفهوم الكلى أعنى : الحقيقة ، فمراد الشارح بالمفهوم ما فهم من اللفظ كان حقيقة أو أفراد ، وليس المراد بالمفهوم ما قابل الذات والماصدق حتى يرد الاعتراض ، ثم إن ما ذكره الشارح من أن الإسناد عبارة عن : الضم المذكور طريقة لبعضهم ، قال السكاكى : الإسناد هو الحكم أعنى : النسبة ، ولذا عرفه بقوله : الحكم بثبوت مفهوم لمفهوم أو انتفائه عنه ، وكل من الطريقتين صحيح ؛ وذلك لأن الأمور المعتبرة فى الإسناد من التأكيد والتجريد عنه والحقيقة العقلية والمجاز العقلى كما يوصف بها الحكم يوصف بها ضم إحدى الكلمتين للأخرى على وجه يفيد الحكم بلا ترجيح ، إلا أنهما يختلفان من جهة أنه إذا أطلق الإسناد على الحكم كان المسند والمسند إليه من صفات المعاني ، ويوصف بهما الألفاظ الدالة على تلك المعانى تبعا ، وإذا أطلق الإسناد على الضم المذكور كان الأمر بالعكس ، كذا ذكره القرمى.

نعم تعريف الإسناد بما قاله الشارح أولى مما عرف به السكاكى من جهة المسند والمسند إليه فى عرفهم من أوصاف الألفاظ ؛ لأن الأحوال المبحوث عنها إنما تعرض للألفاظ كالذكر والحذف وكونه معرفة ضميرا أو اسم إشارة أو علما أو نكرة ، وكذلك كون المسند اسما أو فعلا أو جملة اسمية أو فعلية أو ظرفية ، وقولهم الفصل : لتخصيص المسند إليه بالمسند من باب إجراء المدلول على الدال ، فالمراد بالمسند إليه والمسند هو اللفظ ، وقول السكاكى فى التعريف الحكم بثبوت مفهوم لمفهوم يقتضى أن المسند والمسند إليه من أوصاف المعانى ، ولا يقال : إن الخواص والمزايا إنما تعتبر أولا فى

٣٤٨

وإنما قدم بحث الخبر لعظم شأنه وكثرة مباحثه ، ثم قدم أحوال الإسناد على أحوال المسند إليه والمسند مع تأخر النسبة عن الطرفين ؛ لأن البحث فى علم المعانى إنما هو عن أحوال اللفظ ...

______________________________________________________

المعاني ، فاللائق باصطلاح أهل المعانى أن يعتبر المسند إليه والمسند من أوصاف المعاني ؛ لأنا نقول هذا لا يتم لاستلزامه أن لا يكون علم المعانى باحثا عن أحوال اللفظ فتأمل (قوله : وإنما قدم بحث الخبر) أى : المذكور فى هذا الباب والأبواب الأربعة بعده على بحث الإنشاء مع أن تلك الأبحاث لا تختص بالخبر (قوله : لعظم شأنه) أى : شرعا ؛ لأن الاعتقاديات كلها أخبار ولغة فإن أكثر المحاورات أخبار (قوله : وكثرة مباحثه) عطف مسبب على سبب ، وإنما كثرت مباحثه بسبب أن المزايا والخواص المعتبرة عند البلغاء أكثر وقوعها فيه (قوله : ثم قدم أحوال الإسناد) أى : ثم قدم من مباحث الخبر أحوال الإسناد و [ثمّ] للترتيب الإخبارى (قوله : مع تأخر النسبة) أى : التى هى مرادة بالإسناد على ما مر من الطريقتين ، وفيه أن المحل للضمير فكان المناسب أن يقول : مع تأخره أى : الإسناد ، إلا أن يقال أظهر فى محل الإضمار إشارة إلى أن مراد المصنف بالإسناد النسبة كذا قرر بعضهم ؛ لكن أنت خبير بأن هذا الكلام إنما يتم على طريقة السكاكى ، من أن المراد بالإسناد الحكم لا على طريقة الشارح من أن الإسناد ضم كلمة لأخرى ، إذ الضم غير النسبة ، فالأولى للشارح أن يقول : مع تأخر الإسناد ؛ لأن الكلام فيه لا فى النسبة اللهم إلا أن يقال : إنه أراد بالنسبة الإسناد من إطلاق اسم اللازم على الملزوم ، أو يقدر مضاف فى قوله سابقا ضم كلمة إلخ أى : أثر ضم إلخ أو لازم ضم والأثر هو النسبة وكذلك اللازم ، ويراد بالحكم فى قوله بحيث يفيد الحكم إلخ : الحكم اللغوى وهو القضاء ، وحينئذ فيكون كلام الشارح موافقا للسكاكى فى أن الإسناد هو النسبة الكلامية : قرر ذلك شيخنا العدوى.

(قوله لأن البحث فى علم المعانى إنما هو إلخ) (إنما) هنا لمجرد التوكيد ، أو يقال : إن الحصر إضافى أى : إن البحث فى علم المعانى إنما هو عن الطرفين من حيث وصفهما بالمسند إليه والمسند لا من حيث ذاتهما ، وحينئذ فلا ينافى أنه يبحث فى علم المعانى عن

٣٤٩

الموصوف بكونه مسندا إليه أو مسندا وهذا الوصف إنما يتحقق بعد تحقق الإسناد والمتقدم على النسبة إنما هو ذات الطرفين ، ولا بحث لنا عنها (لا شك أن قصد المخبر) ؛ أى : من يكون بصدد الإخبار والإعلام ، ...

______________________________________________________

متعلقات الفعل وعن القصر وعن الفصل والوصل (قوله : الموصوف إلخ) أى : فالبحث عنه من حيث وصفه بالإسناد (قوله : وهذا الوصف) أى : كونه مسندا إليه أو مسندا (قوله : وهذا الوصف إنما يتحقق) أى : يتعقل فى الذهن (قوله : بعد تحقق الإسناد) أى : لأنه ما لم يسند أحد الطرفين للآخر لم يصر أحدهما مسندا إليه والآخر مسندا ، والحاصل أن المعترض يلاحظ ذات الطرفين ، ويقول : إن الإسناد متأخر عنهما فى الوجود طبعا ، فالمناسب تأخير الكلام على أحواله وضعا ، وحاصل الرد عليه : أنه ليس المنظور له ذات الطرفين حتى يرد ما قلت ، بل المنظور له وصفهما بالإسناد ، ولا يعقل الوصف إلا بعد وجود الإسناد فهو متقدم طبعا ، وحينئذ فينبغى أن يقدم الكلام على أحواله وضعا ليوافق الطبع (قوله : لا شك إلخ) من هنا لقوله فينبغى إلخ : تمهيد لبيان أحوال الإسناد.

(قوله : إن قصد إلخ) أى : مقصود وفى الكلام حذف حرف الجر أى : فى أن المقصود (قوله : أى من يكون بصدد الإخبار) أى : من يكون قاصد الإخبار والإعلام لا الآتى بالجملة الخبرية مطلقا ، بدليل قوله : وإلا فالجملة إلخ ، وهذا إشارة للجواب عن اعتراض خطيب اليمن على المصنف حين ألف هذا الكتاب ورآه الخطيب المذكور ، فقال معترضا عليه قوله : لا شك إلخ ، فى حصر قصد المخبر فيما ذكر نظر إذ يرد عليه قول أم مريم (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى)(١) فإنه ليس قصدها إعلام الله بالفائدة ولا بلازمها ، إذ المولى عالم بأنها وضعت أنثى وعالم بأنها تعلم أنها وضعت أنثى ، وحاصل الجواب أن قول المصنف : إن قصد المخبر بكسر الباء من الإخبار وهو له معنيان لغوى واصطلاحى ، فالأول : الإعلام ، والثاني : التلفظ بالجملة الخبرية مرادا بها إفادة معناها ، وإن لم يحصل بها العلم ، ولذا يعتق كل العبيد فيما إذ قال كل من أخبرنى بقدوم زيد

__________________

(١) آل عمران : ٣٦.

٣٥٠

وإلا فالجملة الخبرية كثيرا ما تورد لأغراض أخر غير إفادة الحكم أو لازمه مثل : التحسر ، والتحزن فى قوله تعالى ـ حكاية عن امرأة عمران : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى)(١) ...

______________________________________________________

فهو حر ، فأخبروه على التعاقب والمخبر هنا بالمعنى اللغوى أى : المعلم ، فقول الشارح والإعلام عطف تفسير لا بالمعنى العرفى أى : الآتى بالجملة الخبرية إلا أنه ليس المراد بالمخبر المعلم بالفعل ، وإلا لما صح الترديد الآتى بقوله : فإن كان المخاطب خالى الذهن استغنى عن المؤكدات ؛ لأنه حيثما أعلمه بالفعل كيف يكون خالى الذهن فتعين أن يكون المراد بالمخبر من كان بصدد الأخبار والإعلام (قوله : وإلا فالجملة إلخ) أى : وإلا نقل المراد بالمخبر من ذكر ، بل المراد به الآتى بالجملة الخبرية مرادا بها معناها ، فلا يصح حصر مقصوده فى الأمرين اللذين ذكرهما المصنف ؛ لأن الجملة الخبرية إلخ (قوله : مثل التحسر) مما دخل تحت مثل إظهار الضعف كما فى قوله تعالى حكاية عن نبيه زكريا : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي)(٢) وإظهار الفرح كما فى قولك : قرأت الدرس ، وحضرنى الأفاضل ، وتذكير ما بين المراتب من التفاوت العظيم كما فى قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٣) إلخ ، فإن اللفظ مستعمل فى معناه ، لكن لا للإعلام بالحكم أو لازمه ؛ لأن النبى وأصحابه عالمون بالحكم وهو عدم الاستواء ، ويعلمونه بأن المولى عالم بعلمهم ذلك ، بل لتذكير ما بين الرتبتين من التفاوت العظيم ؛ لأجل أن يتباعد القاعد ويرفع نفسه عن انحطاط مرتبته.

(قوله : فى قوله تعالى حكاية إلخ) أى : فإن اللفظ مستعمل فى معناه ، لكن لا للإعلام بالحكم أو لازمه ؛ لأن المخاطب وهو المولى عالم بكل منهما ، بل لإظهار التحسر على خيبة رجائها والتحزن إلى ربها ؛ لأنها كانت ترجو وتقدر إنها تلد ذكرا ، فأخبرت أنها ولدت أنثى ، ولا شك أن إظهار خلاف ما يرجوه الإنسان يلزمه التحسر ، فظهر لك من هذا أن استفادة التحسر من الآية بطريق الإشارة والتلويح على ما هو مفاد

__________________

(١) آل عمران : ٣٦.

(٢) مريم : ٤.

(٣) النساء : ٩٥.

٣٥١

وما أشبه ذلك (بخبره) متعلق بقصد ...

______________________________________________________

عبد الحكيم ، وأما قول بعضهم استعمال الكلام فى إظهار التحسر والتحزن والضعف مجاز مركب ، وتحقيقه أن الهيئة التركيبية فى مثله موضوعة للإخبار ، فإذا استعمل ذلك المركب فى غير ما وضع له ، فإن كانت العلاقة المشابهة : فاستعارة وإلا فمجاز مرسل ، والآية من قبيل الثاني ؛ لأن الإنسان إذا أخبر عن نفسه بوقوع ضد ما يرجوه يلزمه إظهار التحسر فهو من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم أ. ه كلامه.

ففيه نظر إذ يلزم عليه أن الآية إنشاء معنى ، وحينئذ لا تصلح شاهدا للشارح ، إذ هو بصدد التمثيل لما إذا كان خبر المخبر لم يفد المخاطب الحكم ولا لازمه (قوله :

وما أشبه ذلك) أى : من أفراد أمثلة التحسر كقوله : (١)

هواى مع الرّكب اليمانين مصعد

جنيب وجثمانى بمكّة موثق

وكما فى قوله خطابا لامرأة اسمها أميمة تلومه على عدم الانتقام والأخذ بثأر أخيه :

قومى هم قتلوا أميم أخى

فإذا رميت يصيبنى سهمى (٢)

فلئن عفوت لأعفون جللا

ولئن سطوت لأوهنن عظمى

أى : قومى يا أميمة هم الذين فجعونى بقتل أخى ، فلو حاولت الانتقام منهم عاد ذلك على بالمضرة ؛ لأن عز الرجل بعشيرته ، فإن عفوت عنهم بالصفح والتجاوز عفوت عن أمر عظيم وخطب جزيل وأظهرت الإحسان الكامل لهم ، وإن قهرتهم بالانتقام عاد الأمر إلى توهين حالى ، فلذا تركت الانتقام ، فأميمة المخاطبة عالمة بأن القاتلين لأخيه قومه وتعلم بأنه عالم بذلك ، وحينئذ فالقصد إظهار التفجع والتحزن على

__________________

(١) هو لجعفر بن علبة الحارثى وهو من الطويل وقد ورد فى تاج العروس بلا نسبة وانظر المعجم المفصل فى شواهد اللغة العربية (٥ / ١٤١).

(٢) البيتان من الطويل وهما للحارث بن وعلة الذهلى. وانظر شواهد المغنى (١ / ٣٦٣) والمعجم المفصل فى شواهد اللغة العربية (٧ / ٣٨٥) ولسان العرب (١ / ٦٦٣) (مادة جلل).

٣٥٢

(إفادة المخاطب :) خبر أن (إما الحكم ،) مفعول الإفادة (أو كونه) أى : كون المخبر (عالما به) أى : بالحكم ، ...

______________________________________________________

موت أخيه ، فقوله : وما أشبه ذلك ليس مستدركا مع قوله أولا مثل التحسر ؛ لأن الإتيان بمثل لإدخال الأنواع : كالضعف والفرح ، وقوله وما أشبه ذلك لإدخال أفراد أمثلة التحسر كما علمت (قوله : إفادة المخاطب) لو قال إفادة إما الحكم وحذف المخاطب لكان أخصر وشاملا لما إذا وجه الكلام إلى شخص وأريد إفادة غيره (قوله : إما الحكم) أى : سواء كان مدلولا حقيقيا للخبر أو مجازيا أو كنائيا (قوله : مفعول الإفادة) أى : الثانى والأول ، قوله : المخاطب والفاعل محذوف أى : إفادة المخاطب إما الحكم (قوله : أو كونه إلخ) أورد على المصنف أن إفادة الحكم ملزوم وإفادة كون المخبر عالما به لازم ولا يصدق الانفصال بينهما لا حقيقيا ولا مانع جمع وهو ظاهر ولا مانع جمع وهو ظاهر ولا مانع خلو ؛ لأنهم صرحوا بأن نقيض كل من الطرفين فى مانعة الخلو يجب أن يستلزم عين الآخر ونقيض اللازم لا يستلزم عين الملزوم ، بل نقيضه نعم لو كانت أداة الانفصال داخلة على نفس القصد ، كأن يقال الثابت فى الخبر إما قصد إفادة الحكم أو قصد إفادة لازمة لم يرد ذلك ، إذ لا تلازم بين القصدين ، ولا يجوز انتفاؤهما ممن يكون بصدد الإخبار ، وأجيب بأن ما ذكر من وجوب الاستلزام المذكور فى مانعه الخلو إذا كانت القضية منفصلة لزومية ، والقضية فيما نحن فيه اتفاقية فلا يشترط فيهما ما ذكر ، فالحاصل أن القضية هنا اتفاقية مانعة خلو فيجوز الجمع (قوله : أى كون المخبر عالما به) المراد بالعلم هنا التصديق بالنسبة جزما أو ظنا لا مجرد التصور ، إن قلت : الكون المذكور حكم من الأحكام اللازمة للحكم الأصلى الذى هو الوقوع ، أو اللاوقوع المفهومة من القضية بطريق المجاز ؛ لأن دلالة اللفظ على لازم معناه مجاز ، وهذه الأحكام اللازمة كثيرة ككون المتكلم حيا أو موجودا ، فما وجه تخصيص هذا الحكم اللازم بالذكر دون غيره من الأحكام اللازمة؟ قلت : لما كان هذا الحكم اللازم مقصودا للمخبر ؛ لأن المخبر يقصد إيقاعه فى بعض الأحيان ، وذلك فيما إذا كان المخاطب عالما بأصل الحكم دون غيره من الأحكام اللازمة

٣٥٣

والمراد بالحكم هنا وقوع النسبة أو لا وقوعها ، ...

______________________________________________________

خص بالذكر ؛ لأنه لا يوجد هذا المعنى فى غير ذلك اللازم وإن قصد ذلك الغير ، كما إذا قال شخص توهمه المخاطب ميتا : السماء فوقنا ؛ ليفيد حياته فهو نادر ، ولا ينافى هذا أن المقصود هو الحكم الذى هو الوقوع أو اللاوقوع ؛ لأنه المقصود الأصلى.

(قوله : والمراد بالحكم هنا) أى فى كلام المصنف.

اعلم أنه قد تقرر أن الحكم يطلق على النسبة الكلامية أى : المفهومة من الكلام ، وهى ثبوت المحكوم به للمحكوم عليه ، أو انتفاؤه عنه فى الواقع وهو المتعارف بين أرباب العربية ، وهذا المعنى هو المعنى بوقوع النسبة أو لا وقوعها أى : النسبة الواقعة أى : المتحققة فى الخارج أو غير المتحققة فيه ، ويطلق على المحكوم به ويطلق على إذعان النسبة أى : إدراك أنها واقعة أو ليست بواقعة وهو المعبر عنه فيما بين أرباب المعقول بالإيقاع والانتزاع ، ويطلق على خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير على ما هو عرف الأصوليين وعلى ما ثبت بالخطاب : كالوجوب ونحوه على ما هو عرف الفقهاء ، ولا خفاء أن المقصود بالإعلام هو إفادة وقوع النسبة أى : تحققها أو لا وقوعها فى الخارج ، فإذا قال لك شخص : قام زيد كان قصده إفادتك أن ثبوت القيام لزيد حصل وتحقق فى الخارج ، وليس قصده إفادتك أنه أدرك أن ثبوت القيام مطابق للواقع ، وحيث كان المقصود بالإعلام إنما هو إفادة وقوع النسبة فيكون هو المراد بالحكم هنا ؛ فقول الشارح وقوع النسبة أى : النسبة الواقعة أى : المتحققة فى الواقع والخارج ، وهذا فى القضية الموجبة ، وقوله أولا وقوعها أى : والنسبة الغير الواقعة أى : الغير المتحققة فى الواقع وهذا فى القضية السالبة.

قال الشارح ـ فى المطول ـ : ولا يصح أن يراد بالحكم هنا الإيقاع والانتزاع لظهور أنه ليس قصد المخبر إفادة أنه أوقع النسبة أى : أدرك أنها مطابقة للواقع أو لا ، ولا أنه عالم بأنه أوقعها ، وأيضا الإدراك من أوصاف الشخص ، فلو أريد لما كان لإنكار الحكم معنى ، إذ لا يصح أن يقول المخاطب للمتكلم : أنت لم توقع النسبة ، فإن قلت : جعل المقصود الأصلى من الخبر إفادة المخاطب وقوع النسبة أو لا وقوعها لا الإيقاع

٣٥٤

وكونه مقصودا للمخبر بخبره لا يستلزم تحققه فى الواقع ؛ ...

______________________________________________________

والانتزاع ، هذا إنما يظهر على القول بأن مدلول الخبر النسبة لا الإذعان بها ، وهذا خلاف ما عليه الأكثر ، إذ الذى عليه الأكثر كالإمام الرازى وابن السبكى (١) والعلامة السيد وغيرهم : أن مدلول الخبر إذعان النسبة أعنى : الإيقاع والانتزاع ، قلت : أجاب العلامة عبد الحكيم : بأن الإيقاع والانتزاع وإن كان مدلولا للخبر على قول الأكثر إلا أنه ليس مقصودا بالإفادة ، بل وسيلة لما قصد إفادته بالخبر وهو وقوع النسبة أو لا وقوعها ؛ وذلك لأن المخاطب يستفيد الإيقاع والانتزاع من الخبر ، ثم ينتقل منه إلى متعلقه الذى هو المقصود بالإعلام وهو وقوع النسبة أو لا وقوعها ، ويدل لذلك ما هو الحق عندهم من أن الألفاظ لا دلالة لها فى نفسها على ما فى الخارج ، بل دلالتها على الصور الذهنية أولا ، وبالذات وبواسطتها على ما فى الخارج لما بينهما من الارتباط ، فظهر لك أن كون الخبر مدلوله الإيقاع والانتزاع لا ينافى أن المقصود بالإعلام إفادة وقوع النسبة أو لا وقوعها فتأمل ذلك.

(قوله : وكونه) أى : الحكم بمعنى وقوع النسبة أو لا وقوعها مقصود للمخبر بخبره إلخ) وهذا توطئة لقوله : وهذا مراد إلخ (قوله : لا يستلزم) أى : ذلك الكون تحققه أو ثبوته فى الواقع وضمير تحققه للحكم بمعنى النسبة ، وحاصله أن قصد المخبر بخبره إفادة وقوع النسبة أى : كون النسبة واقعة لا يستلزم تحقيقها فى الواقع ؛ لأن دلالة الألفاظ على معانيها وضعية يجوز تخلفها وليست عقلية تقتضى استلزام الدليل للمدلول استلزاما عقليا : كدلالة الأثر على المؤثر ، فإذا قلت : زيد قائم دل على ثبوت القيام لزيد فى الواقع ، ودلالته على ذلك لا تستلزم أن يكون ثبوت القيام متحققا فى الواقع لجواز أن يكون الخبر كذبا (قوله : وهذا) أى : كونه لا يستلزم تحققه فى الواقع.

__________________

(١) هو أبو حامد أحمد بن على بن عبد الكافى بهاء الدين السبكى ، فاضل ، له" عروس الأفراح شرح تلخيص المفتاح" ولى قضاء العسكر وقبله قضاء الشام وكثرت رحلاته ومات مجاورا بمكة سنة ٧٦٣ ه‍. (وانظر الأعلام للزركلى ١ / ١٧٦).

٣٥٥

وهذا مراد من قال : إن الخبر لا يدل على ثبوت المعنى أو انتفائه ، وإلا فلا يخفى أن مدلول قولنا : زيد قائم ومفهومه ـ أن القيام ثابت لزيد ، وعدم ثبوته له احتمال عقلى لا مدلول ولا مفهوم للفظ ؛ فليفهم.

(ويسمى الأول) أى : الحكم الذى يقصد بالخبر إفادته (فائدة الخبر ، والثانى) أى : كون المخبر عالما به (لازمها) أى : لازم فائدة الخبر ؛ لأنه كل ما أفاد الحكم أفاد أنه عالم به ...

______________________________________________________

(قوله : مراد من قال إن الخبر لا يدل على ثبوت المعنى) أى : الحكم أو انتفائه أى :فليس مراد ذلك القائل نفى دلالة الخبر على ثبوت الحكم كالقيام أو انتفائه كما هو ظاهره ، بل مراده أنه لا يستلزم تحققه وثبوته فى الواقع لجواز أن يكون كذبا ، والحاصل أن الخبر يدل على ثبوت المعنى أى : الحكم أو انتفائه فى الواقع قطعا فكيف يقول هذا القائل : إن الخبر لا يدل على ثبوت المعنى أو انتفائه فى الواقع؟ فأجاب الشارح بأن مراده بنفى الدلالة على الثبوت أو الانتفاء أنه لا يستلزم تحققه فى الواقع أو انتفاؤه فيه وهذا لا ينافى أنه يقول بدلالة الخبر على ثبوت المعنى الذى هو الحكم أو انتفائه فى الواقع.

(قوله : وإلا فلا يخفى إلخ) أى : وإلا نقل هذا مراده ، بل بهذا الكلام أن الخبر لا يدل على أصل ثبوت المعنى ولا على انتفائه فلا يصح كلامه ؛ لأنه لا يخفى إلخ (قوله : إن مدلول قولنا إلخ) أى : مدلوله الوضعى (قوله : ومفهومه) عطف على مدلول مرادف له ، وقوله أن القيام ثابت لزيد ، الأنسب ثبوت القيام لزيد فى الواقع (قوله : وعدم ثبوته له) أى : فى الواقع ، وقوله احتمال عقلى نشأ من كون دلالة الخبر : وضعية يجوز فيها تخلف المدلول عن الدال (قوله : ويسمى الأول فائدة الخبر) أشار بلفظ التسمية إلى أنه اصطلاح لأهل الفن ، ولا مشاحة فى الاصطلاح ، فلا يرد عليه أن فائدة الشىء ما يترتب عليه ، والمترتب على الخبر علم المخاطب بالحكم لا نفس الحكم (قوله : أى الحكم) أى : لا إفادة الحكم ، وقوله الذى يقصد بالخبر أى : الذى يقصد المتكلم إفادته للمخاطب بالخبر ، فلا ينافى أنه قد لا يقصد إفادته كما فى صورة قصد إفادة اللازم (قوله : لأنه) أى : الحال والشأن ، وهذا دليل على كون الثانى لازما للفائدة (قوله : كل ما أفاد)

٣٥٦

وليس كل ما أفاد أنه عالم بالحكم أفاد نفس الحكم ؛ لجواز أن يكون الحكم معلوما قبل الإخبار ؛ ...

______________________________________________________

أى : كل خبر أفاد المخاطب الحكم أفاد أنه أى : المخبر عالم به أى : بذلك الحكم ، وأشار الشارح بهذا إلى أن اللزوم ليس باعتبار ذات العلم وذات الحكم ؛ لأنه لا تلازم بينهما ، إذ قد يتحقق الحكم ولا يعتقده المتكلم ، بل باعتبار الإفادة بمعنى أن إفادة الأول لازمة لإفادة الثاني ، لا من حيث ذاتهما ، إذ لا تلازم بينهما ، وأورد على هذه الكلية أنها منقوضة بخبر الله تعالى ، فإنه يفيد الحكم ولا يفيد أنه عالم به ؛ لأن كونه عالما معلوم لنا قبل الخبر فلم نستفده من الخبر ، وجوابه أن المعلوم لنا قبل الخبر ، وجوابه أن المعلوم لنا قبل الخبر هو العلم الذى يسمى مثله عندنا تصورا وليس هو المقصود ، بل المقصود إفادته بالخبر العلم الذى يسمى نظيره عندنا تصديقا ولا يستفاد إلا من الخبر ؛ لأنه تعالى لا يعلم جميع الأشياء على الوجه الذى نسميه تصديقا بدليل الكواذب فإنه يعلمها ، وليست على هذا الوجه قطعا فعلمه بالشىء على وجه نسميه تصديقا لا نعلمه إلا من خبره.

بقى شىء آخر وهو أنه قد يمنع اللزوم مطلقا ؛ لأن المخاطب قد يغفل عن كون المتكلم عالما أو يخبر بالحكم وهو شاك أو جاهل ، فلم تكن إفادة أنه عالم لازمة لإفادة نفس الحكم ، والجواب أن المراد اللزوم فى الجملة أى : أن ذلك اللزوم بالنظر للغالب والجارى على العرف ؛ لأنه عند سماع الخبر الشأن حصوله فهو فى حكم المعلوم بالضرورة (قوله : وليس كل ما أفاد إلخ) أى : ليس كل خبر أفاد أن المتكلم عالم بالحكم ، وفى هذا إشارة إلى أن اللزوم ليس من الجانبين ، وحينئذ فهو لازم أعم : كلزوم الضوء للشمس ، فيلزم من وجود الملزوم وجوده ولا يلزم من وجوده وجود الملزوم ، وهذا بخلاف اللازم المساوى : كقبول العلم وصنعة الكتابة (قوله : لجواز أن يكون الحكم معلوما قبل الإخبار) أى : فالخبر حينئذ إنما أفاد لازم الفائدة ولم يفد الفائدة. إن قلت : إن الفائدة تحضر فى ذهن المخاطب حال إفادة اللازم ، فإفادة اللازم تستلزم إفادة الفائدة أيضا ـ أجيب بأن حضورها حال إفادة اللازم المجهول ليس بعلم جديد ، بل هو

٣٥٧

كما فى قولنا لمن حفظ التوراة : قد حفظت التوراة. وتسمية مثل هذا الحكم فائدة الخبر بناء على أنه من شأنه أن يقصد بالخبر ويستفاد منه. والمراد بكونه عالما بالحكم ...

______________________________________________________

تذكار فلا يعتبر (قوله : كما فى قولنا لمن حفظ التوراة) أى : والحال أنه يعلم أن ما حفظه هو التوراة فلا بد من هذا لصحة التمثيل بهذا المثال ، وإلا فيمكن أن يحفظها من لا يعلم أنها التوراة ، ولعل الشارح لم يقيد بقوله : لمن علم أن ما حفظه هو التوراة إشعارا بأن حفظها لا ينفك عادة عن العلم بها ، من حيث إنه توراة ، وإن جاز فى المحقرات الانفكاك.

(قوله : وتسمية إلخ) حيث قيل لازم فائدة الخبر وقوله مثل هذا الحكم أى : تسمية هذا الحكم وما ماثله ، والمراد بهذا الحكم الحكم بحفظ المخاطب التوراة والمراد بما ماثله كل حكم يكون معلوما قبل الإخبار ، وأشار بهذا للجواب عما يقال : إن حفظ التوراة معلوم للمخاطب لم يستفد من الخبر ولم يقصد به ، فكيف يسمى فائدة؟ وحاصل الجواب أنه ليس المراد بالفائدة ما يستفاد من الخبر بالفعل ، بل شأنه أن يستفاد منه.

(قوله : والمراد بكونه) أى : المخبر المذكور فى قوله : كل ما أفاد الحكم أفاد أنه عالم به ، ولو قال : والمراد بعلمه لكان أنسب بقوله حصول صورة إلخ ، وهذا جواب عن المنع الوارد على الملازمة فى قوله : كل ما أفاد الحكم أفاد أنه عالم به ، وتقرير المنع لا نسلم الملازمة أى : لا نسلم أنه كل ما أفاد الحكم أفاد أنه عالم به لجواز أن يكون المخبر أخبر بشىء عالما بخلافه ، أو شاكا فيه مترددا ، أو ظانا له ، أو متوهما ، وحاصل الجواب : أن هذا المنع لا يرد إلا إذا قلنا المراد بالعلم الاعتقاد الجازم المطابق وليس كذلك ، بل المراد بالعلم حصول صورة هذا الحكم فى ذهن المخبر ، وهذا ضرورى فى كل عاقل تصدى للإخبار سواء كان معتقدا له اعتقادا جازما أو غير جازم أو غير معتقد أصلا أو معتقدا لخلافه ، فكل مخبر بخبر تحصل صورة الحكم فى ذهنه وإن كانت تلك الصورة قد لا تطابق الواقع وهذه الصورة تسمى علما وإطلاق العلم عليها اصطلاح الحكماء ومشتهر بين الناس (قوله : والمراد بكونه عالما) أى : فى قولنا كل ما أفاد الحكم أفاد أنه عالم بالحكم.

٣٥٨

حصول صورة الحكم فى ذهنه ، وهاهنا أبحاث شريفة سمحنا بها فى الشرح.

(وقد ينزل) المخاطب (العالم بهما) أى : بفائدة الخبر ولازمها (منزلة الجاهل) فيلقى إليه الخبر ...

______________________________________________________

(قوله : حصول صورة الحكم) أى : صورة الحكم الحاصلة فى ذهنه ، وحينئذ فالمعنى : كل خبر أفاد الحكم أفاد أن صورة ذلك الحكم حاصلة فى ذهن المخبر ، فعلم أن المراد بالعلم هنا : العلم بالمعنى المصطلح عليه عند المناطقة ، وهو الصورة الحاصلة فى الذهن ، سواء كانت موافقة للواقع أو لا ، كانت معتقدة للمتكلم اعتقادا جازما أو غير جازم ، أو غير معتقدة لا الاعتقاد الجازم المطابق للواقع كما هو المعنى المصطلح عليه عند الأصوليين والمتكلمين ، وعلى الأول : فالعلم عين المعلوم وغيره على الثاني ، وإنما قال الشارح حصول صورة الحكم ، ولم يقل الصورة الحاصلة ؛ ليفيد أن العلم هو الصورة من حيث حصولها فى الذهن (قوله : سمحنا بها فى الشرح) أى : جدنا بها فيه ، والمراد ذكرناها فيه ، ولا يخفى ما فى الكلام من الاستعارة التبعية (قوله : وقد ينزل إلخ) أى : وقد ينزل المتكلم المخاطب العالم بهما منزلة الجاهل لعدم جرى المخاطب على مقتضى علمه ، واعترض على المصنف بأن هذا تخريج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر ، والكلام هنا فى إخراج الكلام على مقتضى الظاهر ، وحينئذ فالأولى عدم ذكر ذلك هنا وذكره فيما يأتى فى الكلام على التخريج على خلاف مقتضى الظاهر المشار له بقوله : وكثيرا ما يخرج الكلام على خلافه ، وأجيب بأنه إنما ذكره هنا جوابا عن سؤال وارد على الكلام السابق ، وحاصله أنه لو كان قصد المخبر منحصرا فى الأمرين لما صح إلقاء الخبر للعالم بهما ، فأجاب بما ذكر ، وحاصله إنه إنما صح إلقاء الخبر للعالم بهما لتنزيله منزلة الجاهل فأولا قرر الأصل ودفع ما يرد عليه ، ثم تكلم بعد ذلك على الفرع أعنى التخريج على خلاف مقتضى الظاهر. (قوله : العلم بهما) اعلم أن التنزيل المذكور يكون فيما إذا علم المخاطب الفائدة ولازمها معا أو إحداهما ، وكلام المصنف ظاهر فى الأول ، ويمكن تأويله بحيث يكون محتملا للوجوه الثلاثة : علم الفائدة ، وعلم اللازم ، وعلم الفائدة واللازم.

٣٥٩

وإن كان عالما بالفائدتين (لعدم جريه على موجب العلم) فإن من لا يجرى على موجب علمه هو والجاهل سواء ؛ كما يقال للعالم التارك للصلاة : الصلاة واجبة. وتنزيل العالم بالشىء منزلة الجاهل به ...

______________________________________________________

بأن يرجع الضمير فى قوله بهما : لمجموع الأمرين ، وهو يصدق بالبعض والجميع فالأول كقولك لتارك الصلاة العالم بوجوبها : الصلاة واجبة ، والثانى وهو المخاطب العالم باللازم قولك : ضربت زيدا لمن يعلم أنك تعرف أنه ضرب زيدا ، لكنه يناجى غيرك بضربه عندك ، كأنه يخفى منك ، والثالث كقولك ـ لإنسان مؤمن ويعلم أنك تعلم أنه مؤمن إلا أنه آذاك أذية لا يباشر بها إلا من يعتقد مؤذيه كفره ، ولا يعلم الله ورسوله ـ : الله ربنا ، ومحمد رسولنا.

(قوله : وإن كان عالما) الواو للحال ، وقوله بالفائدتين : فيه تغليب (قوله : على موجب) بفتح الجيم أى : على مقتضى (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)(١) وقوله تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)(٢) هذا لفظه وفيه إيهام أن الآية الأولى من أمثلة تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما وليست بهما وليست منها ، بل هى من أمثلة تنزيل العالم بالشىء منزلة الجاهل به لعلم جريه على موجب العلم ، والفرق بينهما ظاهر (قوله : والجاهل سواء) أى : كالمستويين من حيث إن الثمرة والمقصود بالذات من العلم وهو العمل به قد انتفى عنهما معا ، وإنما جاز تنزيل العالم منزلة الجاهل عند انتفاء جريه على موجب العلم تعييرا له وتقبيحا لحاله ؛ لأنه إذا كان عالما بوجوب الصلاة وكان تاركا لها وقيل له : الصلاة واجبة كان إلقاء الخبر إليه إشارة إلى أنه هو والجاهل سواء ؛ لأنه يتصور تركها إلا من الجاهل ، وفى هذا من التوبيخ مالا يخفى (قوله : كما يقال للعالم) أى : بفائدة الخبر.

(قوله : الصلاة واجبة) أى : فإنه لما ترك الصلاة مع علمه بوجوبها نزل منزلة الجاهل الخالى الذهن ، فألقى له الخطاب من غير تأكيد (قوله : وتنزيل العالم بالشىء)

__________________

(١) الأنفال : ١٧.

(٢) التوبة : ١٢.

٣٦٠