حاشية الدسوقي - ج ١

محمّد بن عرفة الدسوقي

حاشية الدسوقي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عرفة الدسوقي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-744-1
ISBN الدورة:
9953-34-744-1

الصفحات: ٧٥٤

البلاغة

الداخل فى البلاغة دون العرضى الخارج ؛ لحصوله بالمحسنات البديعية (فمقتضى الحال هو الاعتبار المناسب) للحال والمقام يعنى : إذا علم أن ليس ارتفاع شأن الكلام الفصيح فى الحسن الذاتى إلا بمطابقته للاعتبار المناسب ـ ...

______________________________________________________

الحاصل بالبلاغة ، ولا شك أن ارتفاعه إنما هو بالمطابقة المذكورة ، لا الحسن العرضى الذى يحصل بالمحسنات البديعية.

واعلم أن المحسنات البديعية إنما يكون تحسينها عرضيا إذا اعتبرت من حيث إنها محسنة ، وهى من هذه الجهة يبحث عنها فى علم البديع ، وأما إذا اعتبرت من حيث إنها مطابقة لمقتضى الحال لكون الحال اقتضاها كانت موجبة للحسن الذاتي ، ومن هذه الجهة يبحث عنها فى علم المعاني ، ولهذا ذكر المصنف فيه الالتفات الذى هو من المحسنات البديعية.

(قوله : الداخل فى البلاغة) أى : فى بابها فيشمل الحسن الناشىء من الفصاحة والناشىء من البلاغة ، فلا ينافى قوله الداخل فى البلاغة ثبوت أصل الحسن للذات بالفصاحة كما يفيده جواب الشارح عن الاعتراض على مقدمتى المصنف كما مر (قوله : هو الاعتبار المناسب) (هو) ضمير فصل مفيد للحصر أى : هو الاعتبار المناسب لا غير ، وقوله الاعتبار المناسب للحال والمقام أى : كالتأكيد والتنكير والإطلاق والذكر والحذف إلخ ، أو الكلام الكلى المكيف بما ذكر فى الذهن بناء على ما مر للشارح من التقريرين ، والأول هو صريح كلام المفتاح.

(قوله : يعنى إلخ) فى هذه العناية إشارة لشيئين :

الأول منهما : أن الفاء للتفريع على ما سبق فى قوله : وارتفاع إلخ ، وعلى مقدمة معلومة فيما بينهم ، وليست معلومة من كلام المصنف ، فحذفها للعلم بها ، وإنما لم يجعلها للتعليل بحيث يكون ما بعدها علة لما قبلها لأمرين :

الأول : أن مجيئها للتفريع أكثر من مجيئها للتعليل. الأمر الثاني : أن المناسب حينئذ قلب العبارة بأن يقول : فالاعتبار المناسب هو مقتضى الحال ، فيجعل الاعتبار المناسب هو المحكوم عليه ، ومقتضى الحال هو المحكوم به ؛ لأن الاعتبار المناسب هو المحدث

٢٤١

على ما تفيده إضافة المصدر ، ...

______________________________________________________

عنه ، ولأجل أن تكون هذه العلة ردا لما ورد على المقدمة الأولى : أعنى قوله : وارتفاع شأن الكلام إلخ ، من أنه مخالف لما ذكره القوم من أن الارتفاع بالمطابقة لمقتضى الحال.

الشىء الثاني : أن قوله فمقتضى الحال : نتيجة لقياس من الشكل الثالث مركب من مقدمتين ، صغراهما معلومة من كلام القوم ، تركها المصنف للعلم بها ، وكبراهما مذكورة فى كلامه ، وتقريره أن يقال : ارتفاع شأن الكلام بمطابقته لمقتضى الحال ، وارتفاع شأن الكلام بمطابقته للاعتبار المناسب ينتج المطابقة لمقتضى الحال هى المطابقة للاعتبار المناسب ـ كذا قيل ، لكن هذا لا ينتج عين المدعى ، وإن كان يستلزمه ، وهو أن مقتضى الحال هو عين الاعتبار المناسب (١) ، والذى ينبغى أن يجعل كلام الشارح إشارة إلى قياس من الشكل الأول أشير إلى صغراه بالمقدمة المعلومة ، لا أنها عينها ، وإلى كبراه بما قاله المصنف ، لا أنه عينها ، ونظمه مقتضى الحال شىء يرتفع بمطابقته الكلام ، وكل شىء يرتفع بمطابقته الكلام اعتبار مناسب للحال ينتج مقتضى الحال ، وهو الاعتبار المناسب ، وفائدة هذا التفريع التنبيه على أن مقتضى الحال معناه مناسب الحال ، لا موجبه الذى يمتنع أن يتخلف عنه كما يقتضيه لفظ مقتضى ، وإنما أطلق عليه لفظ المقتضى للتنبيه على أن المناسب للمقام فى نظر البلغاء كالمقتضى الذى يمتنع انفكاكه.

(قوله : على ما تفيده) أى : بناء على ما تفيده ، وهذا جواب عما يقال الحصر المذكور غير معلوم من كلام المصنف ، بل المعلوم منه أن الارتفاع يحصل بالمطابقة ، وأما حصوله بغيرها وعدم حصوله فهو مسكوت عنه ، وحاصل الجواب أنا لا نسلم أنه غير معلوم من كلامه ، بل هو معلوم منه من إضافة المصدر وهو ارتفاع لما بعده ، وذلك لأنه مفرد مضاف لمعرفة فيعم ، والعموم فى هذا المقام يستلزم الحصر ؛ لأن المعنى كل ارتفاع فهو بالمطابقة ، وإذا كان كل ارتفاع حاصلا بالمطابقة فلا يمكن ارتفاع بدونها ، إذ لو حصل ارتفاع بغيرها لما صدق أن كل ارتفاع حاصل بها ، ثم اعلم أن إفادة العموم للحصر هنا لا تظهر إلا إذا كانت الباء فى قوله : وارتفاع شأن الكلام بمطابقته للسببية

__________________

(١) وهذا الذى يسميه الشيخ عبد القاهر فى دلائل الإعجاز بالنظم.

٢٤٢

ومعلوم أنه إنما يرتفع بالبلاغة التى هى عبارة عن مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال ـ فقد علم أن المراد بالاعتبار المناسب ومقتضى الحال واحد ...

______________________________________________________

القريبة بأن يكون مدخولها سببا تاما ليس معه سبب آخر ؛ لأن السبب القريب لا يتعدد ، وأما لو كانت لمطلق السببية بأن لا يكون هناك سبب آخر ، فإن كان الحصر حقيقيا بمعنى : أن الارتفاع يحصل بهذا السبب لا بغيره أصلا فاستلزام العموم للحصر باطل ؛ لأن الفرض أن الباء لمطلق السببية المقتضى لوجود سبب آخر ، وإن كان الحصر إضافيا بمعنى أن الارتفاع يحصل بهذا السبب الذى هو المطابقة لا بعدمه أى : عند انتفائه ، فلا ينافى أنها تحصل بسبب آخر صح استلزام العموم للحصر ، ولكن لا يستلزم الاتحاد ولا المساواة بين مقتضى الحال والاعتبار المناسب ، بل يصح الحصران مع التباين بين السببين من غير تناقض (قوله : ومعلوم) أى : من كلامهم من خارج ، وهذه صغرى القياس التى حذفها المصنف للعلم بها ، وقوله فقد علم جواب إذا أى : فقد علم من هاتين المقدمتين المعلومة من كلامهم ، وهى ارتفاع شأن الكلام بمطابقته لمقتضى الحال ، والتى ذكرها المصنف وهى ارتفاع شأن الكلام بمطابقته للاعتبار المناسب ، فالتفريع عليهما ، وهذا التفريع هو عين نتيجة القياس كما تقدم ، ثم إن قول الشارح : فقد علم أن المراد بالاعتبار المناسب ومقتضى الحال واحد يحتمل أن المراد اتحادهما فى المصداق وفى المفهوم ، فمفهوم كل منهما الخصوصيات ، أو الكلام الكلى المكيف فى الذهن بالخصوصيات ، وحينئذ فيكونان مترادفين كالإنسان والبشر ، ويحتمل أن المراد اتحادهما فى الماصدق فقط ، وحينئذ فيكونان متساويين : كالإنسان والكاتب ، وعلى كل من الاحتمالين يصدق الحصران ، نظير قولك : لا ناطق إلا الإنسان ، ولا ناطق إلا البشر ، فالحصران صحيحان لوجود الترادف بين الإنسان والبشر ، وكذلك إذا قلت : لا ناطق إلا الإنسان ، ولا ناطق إلا الكاتب ، ولا ناطق إلا البشر ، فالحصران صحيحان لوجود الترادف بين الإنسان والبشر ، وكذلك إذا قلت : لا ناطق إلا الإنسان ، ولا ناطق إلا الكاتب ، فالحصران صحيحان لوجود التساوى بين الإنسان والكاتب ، فالحاصل أن صدق المقدمتين يحصل بأحد الأمرين اتحاد الاعتبار المناسب ، ومقتضى الحال أو تساويهما ،

٢٤٣

وإلا لما صدق أنه لا يرتفع إلا بالمطابقة للاعتبار المناسب ، ولا يرتفع إلا بالمطابقة لمقتضى الحال ؛ ...

______________________________________________________

فحمل الاتحاد على تعيين واحد ليس بلازم (قوله : وإلا لما صدق إلخ) فى قوة قوله وإلا لما صدق الحصران أى : وإلا بأن لم يكن بينهما اتحاد ، بل كان بينهما تباين كلى كالإنسان والفرس ، أو تباين جزئى وهو العموم والخصوص الوجهى : كالإنسان والأبيض ، أو عموم وخصوص مطلق : كالإنسان والحيوان لما صدق الحصران أى : قولنا لا ارتفاع إلا بالمطابقة لمقتضى الحال ، وقولنا : لا ارتفاع إلا بالمطابقة للاعتبار المناسب ، بل لا بد من كذب أحدهما على تقدير العموم والخصوص المطلق ؛ لأنه يكون الحصر فى الأخص فاسدا ، والحصر فى الأعم صادقا ، بيان ذلك أن كل حصر محتو على جزأين إيجابى وسلبى ، والأول ينحل إلى قضية موجبة ، والثانى لقضية سالبة ، والجزء الإيجابى فى كل حصر مقرر عند القوم ؛ لأنه المعتبر أولا فى الحكم والمنظور له ابتداء ، والمعرض للابطال هو الجزء السلبى ، فإذا كان بين الحصرين عموم وخصوص مطلق كان الجزء الإيجابى للحصر فى الأعم منافيا للجزء السلبى للحصر فى الأخص ، والجزء الإيجابى للحصر فى الأخص لا ينافى الجزء السلبى للحصر فى الأعم حتى يتطرق للحصر فى الأعم البطلان ، فلذلك كان الباطل الحصر فى الأخص على تقدير أن يكون بين الحصرين العموم والخصوص المطلق ، يوضح ذلك قولك : لا يباع إلا الحيوان ، فهذه قضية كلية عامة ، ولا يباع إلا الإنسان ، فهو فى قوة كل فرد ، فرد من أفراد الإنسان يباع ولا يباع غيره ، ولا ش ك أن هذه السالبة أعنى : لا يباع غيره ، تكذبها القضية الكلية العامة القائلة : كل فرد من أفراد الحيوان يباع لإفادتها بيع غير الإنسان من الحيوان كالفرس ، والموجبة المذكورة معلومة الصدق فما خالفها يكون كاذبا ، وما استلزم الكاذب من حصر الأخص فهو كاذب ، ويكذب الحصران معا إذا كان بينهما تباين كلى ؛ لأن القضية الموجبة المأخوذة من أحدهما تناقض السالبة المأخوذة من الآخر ، مثلا إذا قلت لا يباع إلا الحمار هذا فى قوة كل فرد ، فرد من أفراد الحمار يباع ولا يباع الفرس ولا غيره ، وإذا قلت : لا يباع إلا الفرس فهو فى قوة كل فرد من أفراد الفرس يباع ولا يباع

٢٤٤

فليتأمل (١).

______________________________________________________

الحمار ولا غيره ، فالموجبة من كل تنافى السالبة من الأخرى ، وما نافى الصادق كاذب ، فما تضمنه واستلزمه من الحصر كاذب وكذا يكذب الحصران معا إذا كان بينهما تباين جزئي ، فإن الأخص ينافى الأعم وكل منهما أخص من جهة ، فإن قلت : لا يباع إلا الحيوان كان فى قوة كل فرد من أفراد الحيوان يباع ولا يباع فرد من غيره ولو كان أبيض ، وإذا قلت لا يباع إلا الأبيض كان فى قوة كل فرد من أفراد الأبيض يباع ولو غير حيوان ولا يباع غيره ولو حيوانا ، فسالبة الأول تنافى موجبة الثانى وكذلك العكس ، وما نافى الصادق كاذب ، فكذلك ما استلزمه من الحصر ، أفاد ذلك شيخنا العلامة العدوى ، عليه سحائب الرحمة والرضوان.

(قوله : لما صدق الحصران) أى : لكن التالى باطل ؛ لأن الغرض صدقها فبطل المقدم وهو عدم ثبوت اتحادهما فثبت نقيضه وهو ثبوت اتحادهما وهو المطلوب.

وفى كلام الشارح تسمح حيث أدخل اللام فى جواب إن ، وهى إنما تدخل على جواب (لو) ، فكأنه أعطى (إن) حكم (لو) ؛ لأنها أختها فى التعليق وقد وقع له ذلك كثيرا ولغيره من المصنفين (قوله : فيتأمل) أمر بالتأمل لإمكان أن يقال إن قوله : وإلا لما صدق الحصران فيه نظر ، بل قد يصدق الحصران مع عدم اتحادهما ، كما لو كان بينهما عموم وخصوص مطلق ؛ لأن الحصر فى العام لا يستلزم ثبوت الحكم لجميع الأفراد ، بل غاية ما يفيد أن هذا الحكم لا يخرج عن هذا العام وعدم خروج الحكم عن العام لا يقتضى عموم الحكم لجميع الأفراد ، مثلا إذا قيل : لا يباع إلا الحيوان ، يمكن أن يراد بالحيوان : الجنس المتحقق فى الإنسان ، ولا يراد كل فرد من أفراد الحيوان ، وحينئذ فلا يكون هذا منافيا لقولنا : لا يباع إلا الإنسان ، وكذلك لو كان بينهما تباين جزئى قد يصدق الحصران ؛ لأنه لا يلزم عموم الحكم لجميع الأفراد فى الحصر ، فيجوز أن يتحقق الحصران فى فرد هو محل الاجتماع ، بأن يراد الحيوان فى قولنا : لا يباع إلا الحيوان إنسان أبيض ، ويراد بالأبيض فى قولنا : لا يباع إلا الأبيض ، إنسان أبيض ، وليس

__________________

(١) انظر دلائل الإعجاز ص ١٦٣.

٢٤٥

(فالبلاغة) صفة (راجعة إلى اللفظ) ...

______________________________________________________

بلازم أن يراد بالحيوان وبالأبيض جميع أفرادهما ، وقد يجاب بأن الملحوظ فى الحصرين وهما ، لا ارتفاع لشأن الكلام إلا بالمطابقة لمقتضى الحال ، ولا ارتفاع له إلا بمطابقته للاعتبار المناسب ثبوت الحكم لكل فرد ، وأن المعنى كل فرد من أفراد الارتفاع لا يكون إلا بالمطابقة المذكورة ، لا أن الملحوظ عدم خروج الحكم عن العام ، وحينئذ إن لم يتحد الحصران يبطل أحدهما أو كلاهما ، وإنما كان الملحوظ فيهما ثبوت الحكم لكل فرد من أفراد العام ، لما علمت سابقا من أن اسم الجنس المفرد إذا أضيف لمعرفة ولم تقم قرينة على تخصيصه ببعض ما يصدق عليه كان لاستغراق أفراد الجنس ، ولا شك أن كلا من الحصرين محتو على مصدرين : الارتفاع والمطابقة مضافين ، فيكون المعنى أن كلا من الارتفاعين لا يحصل إلا بكل من المطابقة للاعتبار والمقتضى.

(قوله : فالبلاغة راجعة إلخ) هذا تفريع على تعريف البلاغة السابق أى : إذا علمت ما تقدم لك من التعريف ظهر لك أن البلاغة صفة راجعة للفظ ؛ لأنها على ما علم من التعريف مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، وظاهر أن المطابقة صفة المطابق فتكون المطابقة راجعة للكلام من رجوع الصفة للموصوف ، لكن رجوعها له ليس مع قطع النظر عن معناه ، بل رجوعها له باعتبار إفادته المعنى الحاصل بسبب التركيب وهو المعنى الثانى الذى يعتبره البلغاء ويقصدونه ، وهى الخصوصيات التى يقتضيها الحال الزائدة على أصل المراد ؛ لأنه لو كانت البلاغة صفة راجعة له مع قطع النظر عن المعنى المقصود إفادته ، الذى هو المعنى الثانى وهو مقتضى الحال ، لتصور معنى البلاغة بدون اعتبار مقتضى الحال ، وهو محال.

وغرض المصنف بهذا التفريع دفع ما يتوهم من التناقض فى كلام الشيخ عبد القاهر فى دلائل الإعجاز ؛ لأنه تارة يصف اللفظ بالبلاغة ، وتارة يصف المعنى بها ، وتارة ينفيها عن اللفظ ، وتارة ينفيها عن المعنى ، وحاصل دفع التناقض أن وصفه المعنى بها مراده المعنى الثانى باعتبار أن المقصود من اللفظ إفادته ، ووصفه اللفظ بها باعتبار إفادته ذلك المعنى المقصود ، ونفيها عن اللفظ مراده اللفظ المجرد عن المعنى والخصوصيات ،

٢٤٦

يعنى أنه يقال كلام بليغ ، لكن لا من حيث أنه لفظ وصوت ، بل (باعتبار إفادته المعنى) أى : الغرض المصوغ له الكلام ، (بالتركيب) متعلق بإفادته ؛ وذلك لأن البلاغة كما مر ...

______________________________________________________

ونفيها عن المعنى مراده المعنى الأول للفظ الذى هو مجرد ثبوت المحكوم به للمحكوم عليه ، وحينئذ فلا تناقض فى كلام الشيخ (قوله : يعنى أنه يقال إلخ) حمل الشارح كونها صفة للفظ على معنى كونها محمولة عليه حمل اشتقاق ولم يحمله على معنى كونها قائمة به ؛ لأنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، والمطابقة قائمة بالمطابق ؛ لأن الحمل على ذلك المعنى لا يناسب قول المصنف باعتبار إلخ ؛ لأنه لا حاجة مع قولنا : إن المطابقة لمقتضى الحال معنى قائم بالكلام إلى كون قيامه باعتبار ما ذكر فتأمل.

(قوله : لا من حيث إنه لفظ) أى : ولا من حيث إفادته المعنى الأول الذى هو مجرد النسبة بين الطرفين على أى وجه كان ، فإن هذا المعنى مطروح فى الطريق يتناوله الأعرابى والأعجمى والبدوى والقروى فلا ينظر إليه البليغ ، وحينئذ فلا يوصف اللفظ من أجل الدلالة عليه بالبلاغة ، بل إنما يوصف بها باعتبار إفادته المعنى الثاني ، وهو الخصوصية التى تناسب المقام ويتعلق بها الغرض لاقتضاء المقام لها : كالتأكيد بالنسبة للإنكار ، وكالإيجاز بالنسبة للضجر ، والإطناب بالنسبة للمحبوبية ، وكإطلاق الحكم بالنسبة لخلو الذهن ، وغير ذلك من الاعتبارات الزائدة على أصل المراد (قوله : وصوت) عطف عام على خاص ، فاللفظ أخص ؛ لأنه صوت معتمد على مخرج (قوله : باعتبار) متعلق براجعة والباء للسببية ، وقوله إفادته المعنى أى : المعنى الثانى (قوله : أى الغرض المصوغ له الكلام) أى : الغرض الذى صيغ الكلام أى : ذكر لأجل إفادته وهو الخصوصيات التى يقتضيها الحال ، وهذا تفسير للمعنى الثاني ، وإنما سمى ذلك الغرض معنى ثانيا ؛ لأن البلغاء ينظرون إليه ويغنونه ويقصدونه ثانيا بعد المعنى المراد.

(قوله : بالتركيب) بيان للواقع لا للاحتراز عن شىء ، لاستحالة إفادة معنى يحسن السكوت عليه بدون التركيب (قوله : متعلق بإفادته) أى : باعتبار إفادته بالتركيب المعنى الثانى (قوله : وذلك) أى : وبيان ذلك أى : كون البلاغة صفة راجعة للفظ باعتبار

٢٤٧

عبارة عن مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال ، وظاهر أن اعتبار المطابقة وعدمها إنما يكون باعتبار المعانى والأغراض التى يصاغ لها الكلام ، لا باعتبار الألفاظ المفردة والكلم المجردة (وكثيرا ما) ...

______________________________________________________

إفادة المعنى بالتركيب ، فقوله : لأن البلاغة علة راجعة للفظ ، وقوله : وظاهر إلخ ، علة لقوله باعتبار المعنى (قوله : عبارة عن مطابقة الكلام) أى : فقد أضيفت المطابقة التى هى البلاغة إلى الكلام الذى هو اللفظ ، فثبت أنها راجعة للفظ (قوله : وظاهر أن اعتبار المطابقة إلخ) أما المطابقة فظاهر ، وأما عدمها ؛ فلأنه لا يسلب شىء عن شىء إلا إذا كان الشىء المسلوب يصح أن يتصف به المسلوب عنه ، إذ لا يقال فى الحائط إنها لا تبصر ، فظهر أن الكلام لا يتصف بكونه غير مطابق إلا باعتبار المعانى (قوله : وعدمها) أى : وأن عدمها فهو عطف على اعتبار والضمير راجع لاعتبار المطابقة ، وحينئذ فكان الظاهر أن يقول : وعدمه بتذكير الضمير إلا أن يقال إنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه مع صحة حذفه ، ويصح أن يكون عطفا على المطابقة فالتأنيث حينئذ ظاهر.

(قوله : باعتبار المعاني) أى : الثانوية ، وعطف الأغراض على ما قبله مرادف ، والمراد بالأغراض التى يصاغ الكلام لها مقتضيات الأحوال وهى الخصوصيات الزائدة على أصل المراد ، وقوله باعتبار المعانى أى : وجودا وعدما ليطابق قوله : اعتبار المطابقة وعدمها (قوله : المفردة) أى : عن اعتبار إفادة المعانى وليس المراد الغير المركبة ؛ لأن المطابقة ليست من حيث ذات اللفظ مطلقا مفردا كان أو مركبا ، وقوله المجردة

أى : عن اعتبار المعنى الثاني ، الزائد على أصل المراد ، وهذا لا ينافى دلالتها على المعانى الأولية ، وحاصل كلامه أن الكلام من حيث إنه ألفاظ مفردة أى : مجردة عن إفادة المعنى الثانوى الحاصل عند التركيب لا يتصف بكونه مطابقا لمقتضى الحال ولا بعدم المطابقة ، وأما من حيث اعتبار إفادته لذلك المعنى فيتصف بكونه مطابقا ، فقول الشارح : وظاهر أن اعتبار المطابقة وعدمها أى : وظاهر أن اعتبار المطابقة ، وأن اعتبار عدم المطابقة إنما يكون إلخ أى : فإن اعتبرناه والتفتنا له من حيث إفادته للمعانى والخصوصيات صح وصفه بكونه مطابقا أو غير مطابق ، (وقوله لا اعتبار إلخ) أى : وأما إذا نظرنا إليه من

٢٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

حيث كونه ألفاظا ، ولم نلتفت له من حيث إفادته للخصوصيات فلا يوصف بالمطابقة ولا بعدمها.

إن قلت : يلزم حينئذ ارتفاع النقيضين أعنى : ارتفاع المطابقة وعدمها وهو محال ، قلت : المراد أنه لا يوصف بالمطابقة ولا بعدمها عما من شأنه ذلك ، وليس المراد بعدم المطابقة مطلقا ، ثم اعلم أن ما ذكرناه من أن المعنى الأول هو ثبوت المحكوم للمحكوم عليه ، وأن المعنى الثانى الذى يكون الكلام باعتباره بليغا ، ويصاغ لأجله هو : مقتضى الحال أعنى : الخصوصيات والمزايا ، هو ما أفاده ابن قاسم (١) ، وابن يعقوب ، والشيخ يس ، وكذلك هو فى تجريد شيخنا الحفنى (٢) ، وقرره أستاذنا العدوى ، والذى ذكره عبد الحكيم ، وبعض حواشى المطول : أن المعنى الأول : هو ما يفهم من اللفظ بحسب التركيب ، وهو أصل المعنى مع الخصوصيات من : تعريف وتنكير وتقديم وتأخير وحذف وإضمار ، والمعنى الثاني : الأغراض التى يقصدها المتكلم ويصوغ الكلام لأجل إفادتها ، وهى أحوال المخاطب التى يورد المتكلم الخصوصيات لأجلها من إشارة لمعهود وتعظيم وتحقير وضجر ومحبوبية وإنكار وشك وغير ذلك ، هذا بالنسبة لعلم المعاني ، وأما بالنسبة لعلم البيان فالمعانى الأول هى : المدلولات المطابقية مع رعاية مقتضى الحال ، والمعانى الثواني : هى المعانى المجازية ، أو الكنائية ، وذكروا أن دلالة اللفظ على المعنى الأول قد تكون وضعية ، وقد تكون عقلية ، ودلالته على المعنى الثانى عقلية قطعا ، وذلك لأن اللفظ دال على المقتضيات والخصوصيات ، وهى آثار للأغراض والآثار تدل على المؤثر دلالة عقلية وبالعرف والعادة ، فالدال على المعنى الثاني : هو اللفظ ، لكن بتوسط

__________________

(١) هو محمد بن قاسم بن محمد بن محمد أبو عبد الله شمس الدين الغزى ويعرف بابن قاسم ـ فقيه شافعى من مصنفاته" فتح القريب المجيب فى شرح ألفاظ التقريب" ، و" حاشية على شرح التقريب" وحاشية على شرح التصريف (مخطوط) علق بها على شرح السعد التفتازانى للتصريف العربى ، و" حواشى على حاشية الخيالى" توفى سنة ٩١٨ ه‍ (وانظر الأعلام ٧ / ٥).

(٢) هو يوسف بن سالم بن أحمد الحفنى فاضل. شاعر من فقهاء الشافعية من مصنفاته : رسالة فى" علم الآداب" و" شرحها" و" حاشية على مختصر السعد" ، و" حاشية على شرح الرسالة العضدية" وحاشية على" شرح آداب البحث" وغيرها. توفى سنة ١١٧٦ ه‍.

٢٤٩

نصب على الظرفية ؛ لأنه من صفة الأحيان ...

______________________________________________________

دلالة المعنى الأول ، وهذا هو المأخوذ من كلام الشيخ فى دلائل الإعجاز ، كما بسطه فى المطول ، ويمكن أن يقرر كلام شارحنا بذلك ، فيقال قوله بل باعتبار إفادته المعنى أى : الثانوى ، وقوله أى الغرض المصوغ له الكلام أى : وهى أحوال المخاطب من إشارة لمعهود وتعظيم وإنكار وشك ، وقوله بعد إنما يكون باعتبار المعانى والأغراض مراده بالمعاني : الخصوصيات ، ومراده بالأغراض : الأحوال.

وقوله إنما يكون إلخ أى : لأنه يتسبب عن الأحوال الخصوصيات المتوقف عليها المطابقة ، وقوله بعد ذلك المفردة والمجردة أى : عن إفادة المعنى الثاني ، وهى الأغراض السابقة الحاصلة عند التركيب (قوله : نصب) أى : هو منصوب ، أو ذو نصب ، أو يقرأ فعلا مبنيا للمفعول (قوله : على الظرفية) أى : لأجل الظرفية أى لأجل كونه ظرفا والمراد زمانيا (قوله : لأنه) أى : هنا من صفة الأحيان أى : الأزمان ، وكما أن اسم الزمن ينصب على الظرفية ، فكذا صفته ، ثم لا يخفى عليك أنه ليس المراد أن موصوفه الأحيان مقدرا أى : أحيانا كثيرا ؛ لأن التأنيث حينئذ واجب ، بل المراد أنه كان فى الأصل صفة للأحيان ، ثم أقيم مقامها بعد حذفها وصار بمعناها ونصب نصبها ، فمعنى وكثيرا : وأحيانا كثيرة ، وكان الظاهر أن يقول : من صفة الحين ، وعلى هذا فيكون الحين الموصوف مقدرا ، وتذكير الوصف حينئذ ظاهر ، والمعنى وزمنا كثيرا أى : ويسمى ذلك الوصف فصاحة فى زمن كثير ، فهو مثل قوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)(١) أى تشكرون فى زمن قليل ، ثم إن قوله لأنه من صفة إلخ : إن أراد الاستدلال على مجرد صحة النصب على الظرفية فمسلم ، وإن أراد الاستدلال على وجوبه فممنوع ؛ لأنه يمكن أن يكون كثيرا نصبا على المفعولية المطلقة أى : وتسميته كثيرا ، إن قلت : إن التسمية وضع الاسم على المسمى وهو شىء واحد لا تعدد فيه ولا تكثر ، وحينئذ فلا يصح وصفها بالكثرة ، أجيب بأنه على هذا الوجه يراد بالتسمية الإطلاق والاستعمال وهو يتعدد ، فصح الوصف بالكثرة ، إن قلت على هذا كان مقتضى

__________________

(١) المؤمنون : ٧٨ ، السجدة : ٩ ، الملك : ٢٣.

٢٥٠

و (ما) لتأكيد معنى الكثرة ، والعامل فيه قوله : (يسمى ذلك) الوصف المذكور (فصاحة أيضا) كما يسمى بلاغة فحيث يقال : إن إعجاز القرآن من جهة كونه فى أعلى طبقات الفصاحة يراد بها هذا المعنى (ولها) أى : لبلاغة الكلام (طرفان : أعلى وهو حد الإعجاز) ...

______________________________________________________

الظاهر أن يقول : كثيرة ، فالجواب : أن صفة المصدر لا يجب تأنيثها لتأنيثه ؛ لأنه مؤول بأن والفعل ، أو ما والفعل ، والفعل لا يؤنث ، أو أن التسمية لما كانت بمعنى الإطلاق ذكر الصفة نظرا لذلك ، ولعل الشارح إنما ترك التنبيه على ذلك الوجه لما ورد عليه مما علمت أو أن الانتصاب على الوصفية فى مثله معروف لا يحتاج إلى تعرض ، فلهذا أشار إلى وجه آخر من الإعراب (قوله : لتأكيد معنى الكثرة) أى : فهى زائدة للتأكيد (قوله : والعامل فيه) أى : فى الظرف (قوله : ذلك الوصف المذكور) أى : وهو المطابقة لمقتضى الحال.

(قوله : هذا المعنى) أى : المطابقة لمقتضى الحال ، ولا يرد على هذا أن بعض الآيات أعلى طبقات من بعض ؛ لأن أعلى طبقات البلاغة أيضا متفاوت (قوله : ولها طرفان) هذا إشارة إلى أن البلاغة تتفاوت باعتبار مراعاة تمام الخصائص المناسبة فى كل مقام وعدم مراعاة تمامها ، وأن لها بهذا الاعتبار مراتب ثلاثة فقوله ولها طرفان أى : مرتبتان.

إحداهما فى غاية الكمال ، والأخرى فى غاية النقصان.

ويلزم من ذلك أن يكون هناك مرتبة متوسطة بينهما ، والحاصل أن البلاغة أمر كلى لها ثلاث مراتب :

مرتبة عليا ، ولها فردان وسفلى وهى : فرد واحد ووسطى ، ولها أفراد ، وتعبير المصنف بالطرفين لتشبيهها بشىء ممتد له طرفان : استعارة بالكناية ، وقوله طرفان تخييل ، فعلم أنه ليس المراد حقيقة الطرفين ، وإلا لزم أن لا يكون الإنسان بليغا إلا بالإتيان بالطرفين مع أن ذلك لا يمكن لما يلزم عليه من التناقض (قوله : وهو حد الإعجاز) أى : مرتبته وإضافته للبيان ، ولا بد فى الكلام من تقدير مضاف أى : وهو ذو الإعجاز ؛ لأن

٢٥١

وهو أن يرتقى الكلام فى بلاغته إلى أن يخرج عن طوق البشر ويعجزهم عن معارضته (وما يقرب منه) ...

______________________________________________________

الأعلى فرد من البلاغة التى هى المطابقة لا الإعجاز (قوله : وهو) أى : الإعجاز عند علماء البلاغة : ارتقاء الكلام فى بلاغته إلخ ، وإنما قلنا عند علماء البلاغة ؛ لأن الإعجاز عند غيرهم : ارتفاع الكلام بالبلاغة أو غيرها إلى أن يخرج عن طوق البشر (قوله : أن يرتقى الكلام) أى : يرتفع شأنه ، وقوله فى بلاغته أى : بسبب بلاغته إلى أن يخرج عن طوق البشر أى : طاقتهم وقدرتهم لا بإخباره عن المغيبات ، ولا بأسلوبه الغريب ، ولا بصرف العقول عن معارضته ، ويصح أن تكون (في) باقية على حالها ، ويكون شبه ما يراعى فى البلاغة من الخصوصيات بمدارج يرتقى فيها الكلام ، فإذا بلغ الحد الأعلى فى تلك المدارج كان إعجازا على طريق المكنية والارتقاء تخييل ، والمعنى وهو أن يرتقى الكلام فى الخصوصيات التى تراعى فى بلاغته إلى أن يخرج عن طاقة البشر وقدرتهم.

وذكر البشر ؛ لأنهم المشتهرون بالبلاغة والمتصدون للمعارضة ، وإلا فالعجز ما يكون خارجا عن طوق جميع المخلوقات من الجن والإنس والملائكة (قوله : ويعجزهم عن معارضته) أى : يصيرهم عاجزين عن معارضته ، فالهمزة فى الإعجاز للتصيير ، وهو عطف لازم على ملزوم ، فإن قيل ما ذكرتموه ـ من أن الكلام يرتقى ببلاغته إلى أن يخرج عن طوق البشر ويعجزهم ـ ممنوع ، إذ ليست البلاغة سوى المطابقة لمقتضى الحال مع الفصاحة ، والعلم الذى له مزيد اختصاص بالبلاغة ـ أعنى المعانى والبيان ـ متكفل بالإتيان بهذين الأمرين على وجه التمام ؛ لأن علم المعانى كافل للمطابقة ، وعلم البيان كافل للخلوص من التعقيد المعنوى ، وحينئذ فمن أتقن هذين العلمين وأحاط بهما ، لم لا يجوز أن يراعى هذين الأمرين حق الرعاية ، فيأتى بكلام هو فى الطرف الأعلى من البلاغة ، ولو بقدر أقصر سورة من القرآن ، فكيف يمكن ارتقاء الكلام إلى أن يخرج عن طوق البشر بسبب بلاغته ، وأجيب بأن تكفل علم البلاغة بهذين الأمرين ممنوع ، إذ لا يعرف بهذا العلم إلا أن هذا الحال يقتضى ذلك الاعتبار مثلا ، وأما الاطلاع على كمية الأحوال أى : معرفة عددها وكيفيتها فى الشدة والضعف ورعاية الاعتبارات بحسب

٢٥٢

عطف على قوله : هو ، والضمير فى منه عائد إلى أعلى ؛ يعنى : أن الأعلى مع ما يقرب منه ؛ كلاهما حد الإعجاز ؛ وهذا هو الموافق لما فى المفتاح ...

______________________________________________________

المقامات التى يتوقف عليها الإتيان بكلام هو فى الطرف الأعلى فأمر آخر لا يتعلق بعلم البلاغة ولا يستفاد منه.

سلمنا أن علم البلاغة متكفل بالاطلاع المذكور ، فلا نسلم أن من أتقن علم البلاغة يحيط به ؛ لأن الإحاطة بهذا العلم لغير علام الغيوب ممنوعة ، سلمنا الإحاطة به ، فلا نسلم أن من أتقن علم البلاغة وأحاط به يجوز أن يراعى هذين الأمرين حق الرعاية ، إذ كثير من مهرة هذا الفن تراه لا يقدر على تأليف كلام بليغ ، فضلا عما هو فى الطرف الأعلى كالقرآن (قوله : عطف على قوله هو) أى : من عطف المفردات (قوله : مع ما يقرب منه) جعل الواو بمعنى : مع ، وهو حل معنى لا حل إعراب ، وإلا نافى كونها عاطفة ، وفى إيراد كلمة مع موقع الواو إشارة إلى اعتبار العطف مقدما على الإخبار ليصير المحكوم عليه بحد الإعجاز كليهما لا كل واحد منهما ؛ لأن المقصود تعيين مرتبة الإعجاز فى نفسه لا بيان ما يصدق عليه.

(قوله : كلاهما حد الإعجاز) أتى بقوله كلاهما جوابا عما يقال : إن حد مفرد ، فلا يصح الإخبار به عن الأعلى وما يقرب منه ، وحاصل الجواب أن قوله حد الإعجاز : خبر عن محذوف تقديره كلاهما ، والجملة خبر عن الأعلى وما يقرب منه (قوله : وهذا) أى : الإعراب هو الموافق لما فى المفتاح من أن البلاغة تتزايد إلى أن تبلغ إلى حد الإعجاز ، وهو الطرف الأعلى وما يقرب منه أى : من الطرف الأعلى ، فإنه وما يقرب منه كلاهما حد الإعجاز ، لا هو وحده. كذا فى شرحه ، وموافق أيضا لما فى نهاية الإعجاز للرازى من أن الطرف الأعلى وما يقرب منه هو المعجز ، ولا يخفى أن بعض الآيات أعلى طبقة من البعض ، وإن كان الجميع مشتركا فى امتناع معارضته ، ولا شك أن هذا تصريح بما ذكره الشارح من الإعراب الذى ألهمه بين النوم واليقظة ، كما فى المطول ، واعترض على هذا الإعراب من جهة اللفظ ومن جهة المعنى ، أما الاعتراض من جهة اللفظ : فبأنه يلزم عليه توسط المعمول بين أجزاء عامله إذ الصحيح أن المبتدأ عامل

٢٥٣

وزعم بعضهم أنه عطف على الإعجاز ، والضمير فى منه عائد إليه ؛ يعنى : أن الطرف الأعلى هو حد الإعجاز ، وما يقرب من حد الإعجاز ؛ وفيه نظر ؛ لأن القريب من حد الإعجاز ...

______________________________________________________

فى خبره ، والمبتدأ هنا : هو مجموع هو وما يقرب منه ، والخبر : هو حد الإعجاز وقد تقدم وهو ، وتأخر ما يقرب منه : وهو جزء أيضا ، وتوسط المعمول : وهو حد الإعجاز ، ويلزم على هذا عند تحمل الخبر للضمير عود ضمير واحد على متقدم ومتأخر فى آن واحد ، وذلك محل نظر ، فالأقرب أن يجعل قوله وما يقرب منه مبتدأ ، والخبر محذوف أى : كذلك ، أى : هو الإعجاز ، والجملة عطف على الجملة قبلها ، وحذف الخبر بعد قيام القرينة عليه شائع ذائع ، وأجاب عن هذا الدنوشرى (١) : بأنه لا مانع من تقديم المعمول على بعض عامله إذ هو أهون من تقديمه على عامله بأسره ، وسهل ذلك كون العامل كلمتين أو كلمات متفاصلة ، وأما عود ضمير واحد على متقدم ومتأخر فهو أسهل من عوده على متأخر ، لا سيما وهذا الجزء المتأخر فى نية التقديم ، وأما الاعتراض من جهة المعنى : فحاصله أنه على هذا الإعراب يفوت المقصود من تعريف الأعلى ، فإن سوق الكلام يدل على أن مراده بقوله : وهو حد الإعجاز : بيان للطرف الأعلى ، كما أن قوله فى الطرف الأسفل وهو ما إذا غير إلخ : وبيان الطرف الأسفل ، وعلى كلام الشارح يفوت هذا المقصود ؛ لأنه إنما يفيد أن حد الإعجاز هو الطرف الأعلى وما يقرب منه ، وأجيب بأن المراد بالطرف الأعلى الجزئى الأعلى حقيقة ، وهذا لا يحتاج لبيان ؛ لأنه انتهاء الحقيقة ، والمقصود تعيين حد الإعجاز ومرتبته فى نفسه بخلاف الطرف الأسفل ، فإنه يحتاج للبيان ، والحاصل أن المراد على إعراب الشارح بالأعلى : الأعلى الحقيقى ، وبحد الإعجاز : مرتبته ، والإضافة بيانية ، وأما على زعم بعضهم الآتى ، فالمراد بالأعلى النوع الذى يحصل به الإعجاز ، وإن كان تنظير الشارح فيه مبنيا على أن المراد به فى كلام هذا البعض الأعلى الحقيقى أى : الفرد الذى لا فرد فوقه ، وبحد الإعجاز : نهايته ، والإضافية لامة (قوله : وزعم بعضهم)

__________________

(١) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الدنوشرى الشافعى ـ عارف باللغة والنحو له" حاشية على شرح التوضيح للشيخ خالد" فى النحو ـ وله" رسائل" وتعليقات ونظم توفى رحمه‌الله سنة ١٠٢٥ ه‍.

٢٥٤

لا يكون من الطرف الأعلى ؛ وقد أوضحنا ذلك فى الشرح.

______________________________________________________

هو عكس الأول ؛ لأن الأول يفيد أن حد الإعجاز نوع له فردان : الأعلى وما يقرب منه ، وهذا يفيد أن الطرف الأعلى نوع تحته فردان : حد الإعجاز وما يقرب منه ، وهذا الزعم لبعض شراح الإيضاح ، حيث قال : إن قوله وما يقرب منه : عطف على حد الإعجاز ، والمراد بحد الإعجاز : البلاغة فى أقصر سورة ، وبما يقرب منه : البلاغة فى مقدار آية أو آيتين ، فكأنه قال : ولها طرفان : أعلى ، وهو البلاغة القرآنية ، أو المراد بحد الإعجاز : كلام يعجز البشر عن الإتيان بمثله : كالقرآن ، والقريب من حد الإعجاز أن لا يعجز الكلام البشر ولكن يعجزهم مقدار أقصر سورة عن الإتيان بمثله (قوله : لا يكون من الطرف الأعلى) أى : الذى تنتهى إليه البلاغة ؛ وذلك لأن ما يقرب من حد الإعجاز من المراتب العلية فقط ، ولا وجه لجعل تلك المراتب العلية من الطرف الأعلى الذى تنتهى إليه البلاغة ؛ لأنه فرد جزئى على أنه حيث كان الطرف الأعلى أمرا واحدا شخصيا لا انقسام له فى جهة. كما هو الأصل فى الطرف ، وذلك كالنقطة التى هى طرف الخط ، فإنها لا انقسام لها فى جهة لو كان ما يقرب من حد الإعجاز من ذلك الأعلى لزم عليه انقسام ما لا يقبل القسمة ، والإخبار عن الواحد بمتعدد وكلاهما باطل ، فإن قلت : يعتبر الطرف الأعلى واحدا نوعيا من أنواع البلاغة متعدد الأفراد ، ومن جملة أفراد ذلك النوع : حد الإعجاز وما يقرب منه ، وحينئذ فيصح أن يكون القريب من حد الإعجاز من الطرف الأعلى ، قلنا هذا لا يصح لأمور.

الأمر الأول : أنه لا بد من وجه تتحقق به نوعيته الشاملة لأفراده ، وبه صار جميع الأفراد أعلى ، والنوعية بالإعجاز تخرج ما يقرب من حد الإعجاز ، فلا يصح الإخبار حينئذ ، والنوعية بغيره لم تتبين.

الأمر الثاني : أن التعبير عن النوع إنما يصح بجميع الأفراد لا ببعضها ، وهذان الفردان أعنى : حد الإعجاز وما يقرب منه بعض أفراد النوع ، إذ الطرف الأعلى : هو مرتبة الإعجاز ، وحده : نهايته ، والقريب من نهايته إنما يتناول ما هو أقرب من غيره لتلك النهاية ، فلا يتناول مبدأ الإعجاز أى : أول مرتبته ووسط تلك المرتبة مع شمول ذلك

٢٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

النوع الذى هو الأعلى لها ؛ لأن المراد منه طبيعة الإعجاز ، وهى تتناول جميع مراتبه ، فيكون قد عبر عن النوع ببعض أفراده مثلا ، إذا فرضنا أن الإعجاز مرتبة تحتها أفراد سبعة ، فالمبتدأ : هو الأول ، والنهاية : هو الآخر ، والوسط : الخمسة الباقية ، والقريب من النهاية : الذى هو بعض أفراد الوسط لا يتناول جميعها ، وإنما يتناول بعضها : كالخامس والسادس ، فقوله أعلى : هذا إشارة للنوع الذى هو طبيعة الإعجاز ، وقوله حد الإعجاز : إشارة للفرد الأعلى ، وقوله وما يقرب منه : إشارة للفرد الخامس والسادس فقط ، فيكون قد عبر عن النوع ببعض أفراده لا بجميعها وهذا لا يصح ، ورد هذا العلامة اليعقوبى (١) بقوله : لك أن تقول إن نوع الأعلى يشمل نوعين : حد الإعجاز ، وما يقرب منه ، وحينئذ فيكون تعبيرا عن النوع بجميع أفراده ، فالإخبار صحيح كما يقال الإنسان زنجى وغيره ، وما قاله ذلك العلامة مبنى على أن المراد بالحد فى كلام المصنف المرتبة ، وأن الإضافة بيانية أى : مرتبة هى الإعجاز كما مر ، فعلى هذا ما يقرب منه ليس معجزا ، فيجعل الإعجاز بسائر مراتبه مع ما يقرب منه نفس ذلك النوع ، وأما ما قلناه من لزوم التعبير عن الجنس ببعض أفراده ، فمبنى على أن الإضافة حقيقة ، وأن المراد بحد الإعجاز نهايته. أى : المرتبة العليا من مراتبه ، لا المرتبة المتسعة الشاملة لعدة مراتب.

الأمر الثالث : أن التعبير بالأفراد عن النوع لا يصح هنا ، ولو سلمنا أن هنا تعبيرا عن الجنس بجميع أفراده ، لأن الطرفية من الأحكام الخاصة بالطبيعة التى هى الماهية ؛ لأن الطرفية إنما تثبت لطبيعة الإعجاز من حيث هى ؛ لأن الوحدة لازمة للطرف ، وهى إنما تثبت لطبيعته من حيث هى ، إذ عند ملاحظة الأفراد يثبت التعدد لا الطرفية ، نظير ذلك النوعية الخاصة بماهية الإنسان ، فكما أنه لا يصح أن يقال : النوع

__________________

(١) هو سليم بن حسن اليعقوبي ؛ أبو الإقبال شاعر ، كثير النظم له علم بالفقه والأدب من مصنفاته" حسنات اليراع" و" المنهج الرفيع فى المعانى والبيان والبديع" و" حسان بن ثابت : وغير ذلك توفى سنة ١٣٥٩ ه‍.

٢٥٦

(وأسفل وهو ما إذا غير) الكلام (عنه إلى ما دونه) أى : إلى مرتبة هى أدنى منه وأنزل (التحق) الكلام ـ ...

______________________________________________________

زيد وعمرو وغيرهما من الأفراد ، لا يصح أن يقال : هنا الطرف الأعلى حد الإعجاز وما يقرب منه ، وهذا بخلاف الجسمية الثابتة للإنسان ، فإنها ليست من أحكام الطبيعة ، بل من أحكام أفراده ، فيصح حمل الأفراد عليها ، فيقال : الجسم زيد وعمرو وغيرهما ، وذلك لأن الأحكام الثابتة للطبيعة قسمان ، الأول : ما يثبت لها فى ضمن الأفراد ، ويسمى ذلك أحكام الأفراد : كالجسمية الثابتة للإنسان ، فهذا القسم يصدق على الطبيعة والأفراد جميعا.

والثاني : ما يثبت لها فى نفسها ، لا فى ضمن الأفراد : كالنوعية للإنسانية ، ويسمى أحكام الطبيعة ، وهذا القسم إنما يصدق على الطبيعة والطرفية من القسم الثانى لاستلزامها الوحدة ومنافاتها الكثرة اللازمة للأفراد ، فلا يصح ثبوت الطرفية لأفراد الطرف ، فتحصل من هذا كله : أن جعل الطرف واحد بالنوع المترتب عليه صحة هذا الزعم لم يتم ، فعطل ذلك الزعم (قوله : وأسفل) أى : وطرف أسفل أى : ومرتبة سفلى فى غاية النقصان (قوله : وهو ما) أى : وهو مرتبة إذا غير الكلام أى : انحط ونزل عنها ، بأن لم تراع تلك المرتبة فى الكلام ، فضمن غير معنى نزل أو انحط ، فلذا عداه بعن (قوله : إلى مادونه) أى : إلى مرتبة أنزل من تلك المرتبة السفلى وهى الخبر من الخصوصيات (قوله : التحق) أى : ذلك الكلام المغير عن تلك المرتبة السفلى بأصوات إلخ ، وأورد على هذا التعريف أنه غير مانع ؛ لأنه شامل للطرف الأعلى والوسط ، فإن كل واحد منهما يصدق عليه أنه مرتبة إذا غير الكلام عنها إلى مادونها التحق بأصوات الحيوانات ؛ لأن ما كان دون الأسفل وأنزل منه يصدق عليه أنه دون بالنسبة للأعلى والأوسط ، وأجيب بأن هذا الإيراد يدفعه ما فى (ما) من معنى العموم ؛ لأن المعنى وهو ما إذا غير إلى أى مرتبة دونه التحق إلخ ، فخرج الأعلى والأوسط فإنهما ليسا كذلك إذ من جملة دون الأعلى الأوسط والأسفل ، ومن جملة ما دون الأوسط الأسفل وتغيره إلى واحد منها لا يلحقه بأصوات الحيوانات ، ثم إن هذا الاعتراض إنما يرد بناء على أن المراد

٢٥٧

وإن كان صحيح الإعراب (عند البلغاء ـ بأصوات الحيوانات) التى تصدر عن محالها بحسب ما يتفق من غير اعتبار اللطائف والخواص الزائدة على أصل المراد (وبينهما) أى : بين الطرفين (مراتب كثيرة) متفاوتة بعضها أعلى من بعض بحسب تفاوت المقامات ، ...

______________________________________________________

بالدون ما كان أنزل ولو بواسطة ، وأما لو أردنا به ما كان تحته ملاصقا له فلا يرد. تأمل ، وعرف الحيوانات إشارة إلى أن المراد بها غير الإنسان.

(قوله : وإن كان صحيح الإعراب) لو قال وإن كان فصيحا لكان أحسن ليعلم منه ما ذكره بالطريق الأولى ؛ لأنه إذا التحق بأصوات الحيوانات مع الفصاحة فأحرى أن يلتحق بها عند عدم الفصاحة مع صحة الإعراب بخلاف ما ذكره ، فإنه ربما يوهم أنه إذا كان فصيحا لا يلتحق بأصوات الحيوانات ؛ لأن الفصاحة أرقى إن قلت : إنه إنما ذكر ذلك ليلائم قوله فيما سبق له فى قول المصنف : وارتفاع شأن الكلام إلخ ، حيث قال : وأراد بالكلام : الكلام الفصيح ، فإنه يقتضى أن فيه حسنا فلا يلتحق بأصوات الحيوانات. قلت المراد هنا بالتحاق الكلام بتلك الأصوات من جهة عدم مراعاة اللطائف والخصوصيات ، وهذا صادق مع ثبوت الحسن بالفصاحة. فتأمل.

(قوله : التى تصدر عن محالها) أى : أصحابها ، وهى الحيوانات (قوله : بحسب ما يتفق) ما مصدرية ، وقوله بحسب متعلق بتصدر أى : التى تصدر من أصحابها بحسب اتفاق الأصوات وحصولها بلا علة مقتضية لها ، أو موصولة أى : بحسب ما يتفق معها من الأمور التى لا تقتضيها ، وقوله من غير اعتبار اللطائف بيان للصدور بحسب الاتفاق فهو على حذف أى : التفسيرية ، وعطف الخواص على ما قبله مرادف ، وليس من ذلك أى : من الكلام الملحق بأصوات الحيوانات ترك مراعاة اللطائف فى مخاطبة البليد الذى لا يفهمها ، بل ذلك الترك مما يجب على البليغ مراعاته ؛ لأن ترك اللطائف حينئذ من اللطائف.

(قوله : متفاوتة) أى : فى البلاغة (قوله : بعضها أعلى من بعض) بيان للتفاوت ، وقوله بحسب : متعلق بمتفاوتة ، ثم إن تفاوت المقامات يتناول التفاوت بحسب الكم أى :

٢٥٨

ورعاية الاعتبارات ، ...

______________________________________________________

العدد ، كما إذا كان لشخص أحوال عشرة ، ولآخر أحوال تسعة ، ولآخر أحوال ثمانية.

وهكذا ، وكل حال يقتضى خصوصية فالإتيان للأول بعشر خصوصيات طرف أعلى ، والإتيان للأخير بخصوصية طرف أسفل ، وما بينهما مراتب متوسطة متفاوتة بحسب تفاوت الأحوال فى الكم ، وكذا يتناول التفاوت بحسب الكيف والمقدار ، كما إذا كان لشخص إنكار شديد القوة ، ولآخر إنكار قوى غير شديد القوة ، ولآخر إنكار ضعيف ، فالمقامات متفاوتة بحسب الكيف فقط ، فالإتيان للأول بثلاث مؤكدات طرف أعلى ، وللأخير بمؤكد طرف أسفل ، وللثانى بمؤكدين مرتبة وسطى فقد صدق أن مراتب البلاغة متفاوتة بحسب تفاوت المقامات فى الكيف.

(قوله : ورعاية الاعتبارات) أى : قصد الخصوصيات المعتبرات ، فرعاية خصوصيتين أعلى من رعاية خصوصية ، ورعاية ثلاث أعلى من رعاية اثنتين لمقام واحد ، وفيه إشكال ؛ لأنه إذا اعتبرت خصوصية واحدة مثلا ، فإن كان رعاية الأكثر يقتضيه الحال ، فالبلاغة لا توجد بدونه ، وإن كان لا يقتضيه الحال ، فالبلاغة لا تتوقف عليه ولا تحصل باعتباره ، فمراعاته لا تقتضى زيادة البلاغة ؛ لأنها مطابقة الكلام لجميع مقتضى الحال ، وهذا ليس مقتضى حال ، فكيف تتفاوت البلاغة بحسب رعاية الاعتبارات؟ وأجاب السيد عيسى الصفوى (١) : بأن هذا الإيراد مبنى على أن البلاغة مطابقة الكلام لجميع ما يقتضيه الحال وهو ممنوع ، بل هى مطابقة الكلام لمقتضى الحال فى الجملة ، فإذا اقتضى الحال شيئين ، فروعى أحدهما دون الآخر كان الكلام بليغا من هذا الوجه ، وإن لم يكن بليغا مطلقا ، وحينئذ فإذا اقتضى الحال شيئين تحققت البلاغة بمراعاة أحدهما فقط ، لكن مراعاتهما أزيد بلاغة وأعلى. قاله يس ، لكن قد تقدم لنا عن عبد الحكيم : أن الحق أن البلاغة مطابقة الكلام لجميع ما يقتضيه الحال ، لكن بقدر الطاقة ،

__________________

(١) هو عيسى بن محمد بن عبيد الله أبو الخير ـ قطب الدين الحسنى الحسينى الإيجى ـ المعروف بالصفوى من مصنفاته" شرح الكافية لابن الحاجب" و" شرح الحديث الأول من الجامع الصحيح للبخارى" وغيرها ـ قال ابن العماد : كان من أعاجيب الزمان. توفى سنة ٩٥٣ ه‍ وانظر الأعلام (٥ / ١٠٨).

٢٥٩

والبعد عن أسباب الإخلال بالفصاحة (ويتبعها) أى : بلاغة الكلام (وجوه أخر) سوى المطابقة والفصاحة (تورث الكلام حسنا) وفى قوله : يتبعها إشارة إلى أن تحسين هذه الوجوه للكلام عرضى ...

______________________________________________________

وحينئذ فإذا كان المقام يقتضى عشر خصوصيات ، وأتى بواحدة لكونه لم يطلع إلا عليها أى : لم يعلم أن المناسب للحال إلا تلك الخصوصية كان هذا مرتبة ، أو اطلع على خصوصيتين كان ذلك مرتبة ثانية ، وهكذا وكل مرتبة أعلى من الأخرى برعاية الاعتبارات ، أو كان حال المخاطب يقتضى ثلاث خصوصيات مثلا ، وهذا خاطبه بخصوصية لكونه لم يطلع إلا عليها ، وآخر خاطبه بخصوصيتين لكونه اطلع عليهما ، وآخر خاطبه بثلاث خصوصيات لكونه اطلع عليها ، والحاصل أن التفاوت بحسب رعاية الاعتبارات : إما باعتبار تفاوت الكلامين فى الاشتمال على المقتضيات فى القلة والكثرة ، وإما باعتبار تفاوت اقتدار المتكلم فى الرعاية. فتأمل ذلك.

(وقوله ورعاية الاعتبارات) ليس هذا لازما لما قبله ؛ لأنه لا يلزم من تفاوت المقامات رعاية الاعتبارات ؛ فإن المقام قد يقتضى ثلاث مؤكدات ويؤتى له بمؤكد نعم ، هو عطف مسبب على سبب ، وأتى بذلك إشارة إلى أن تفاوت درجات البلاغة ليس بتفاوت المقامات ، بل بتفاوت رعاية الاعتبارات (قوله : والبعد إلخ) عطف على تفاوت ، كما لو كان كلام مطابق لمقتضى الحال. وانتفى عنه الثقل بالكلية وهناك كلام آخر مطابق ، لكن فيه شىء يسير من الثقل لا يخرجه عن الفصاحة ، فالأول أعلى بلاغة من الثانى (قوله : ويتبعها) أى : فى التحسين ، وقوله وجوه أخر أى : وهى المحسنات البديعية ، وقوله : تورث الكلام حسنا أى : حسنا عرضيا زائدا على الحسن الذاتى الحاصل بالفصاحة والمطابقة.

(قوله : سوى المطابقة والفصاحة) هو غير متعرف بالإضافة ولذا وقع صفة للوجوه وفى هذا التفسير إشارة إلى أن آخرية تلك الوجوه ومغايرتها بالنظر للمطابقة والفصاحة ، فإن قلت قول المصنف : أخر المفسر بما ذكره الشارح مستغنى عنه ولا فائدة

٢٦٠