المتعة

السيّد علي الحسيني الميلاني

المتعة

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-265-2
الصفحات: ٥٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الفقيه الكبير الحنفي في كتابه المبسوط في فقه الحنفيّة في مبحث المتعة (١) ومنهم أيضاً من ينصّ على ثبوت هذا الخبر ، كابن قيّم الجوزيّة في زاد المعاد ، وسنقرأ عبارته.

صريح الأخبار : أنّ هذا التحريم من عمر ـ كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما ـ كان في أواخر أيّام حياته ، ومن الأخبار الدالّة على ذلك : ما عن عطاء عن جابر قال : استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر ، حتّى إذا كان في آخر خلافة عمر ، استمتع عمرو بن حريث بامرأة سمّاها جابر فنسيتها ، فحملت المرأة ، فبلغ ذلك عمر ، فذلك حين نهى عنها.

في أواخر حياته ، حتّى إذا كان في آخر خلافة عمر ، هذا نصّ الحديث.

وهو في المصنّف لعبد الرزّاق (٢) ، وفي صحيح مسلم (٣) ، وفي مسند أحمد (٤) ، وفي سنن البيهقي (٥).

وأمّا هذا التحريم فلم يكن تحريماً بسيطاً ، لم يكن تحريماً

__________________

(١) المبسوط في فقه الحنفية ٥ / ١٥٣.

(٢) المصنف لعبد الرزاق بن همام ٧ / ٤٦٩.

(٣) صحيح مسلم بشرح النووي على هامش القسطلاني ٦ / ١٢٧.

(٤) مسند أحمد بن حنبل ٣ / ٣٠٤.

(٥) السنن الكبرى ٧ / ٢٣٧.

٢١

كسائر التحريمات ، وإنّما تحريم وعقاب ، تحريم مع تهديد بالرجم.

لاحظوا أنّه قال : لو أنّي بلغني أنّ أحداً فعل كذا ومات لأرجمنّ قبره.

وأيّ المحرّمات يكون هكذا ؟

وفي بعض الروايات أنّه هدّد برجم من يفعل ، ففي المبسوط للسرخسي : لو أُوتى برجل تزوّج امرأة إلى أجل إلاّ رجمته ، ولو أدركته ميّتاً لرجمت قبره (١).

وحينئذ نرى بأنّ هذا التحريم لم يكن من أحد ، ولم يصدر قبل عمر من أحد ، وكان هذا التحريم منه ، وهذا من أوّليّات عمر بن الخطّاب.

ويقال بأنّه جاء رجل من الشام ، فمكث مع امرأة ما شاء الله أن يمكث ، ثمّ إنّه خرج ، فأخبر بذلك عمر بن الخطّاب ، فأرسل إليه فقال : ما حملك على الذي فعلته ؟ قال : فعلته مع رسول الله ثمّ لم ينهانا عنه حتّى قبضه الله ، ثمّ مع أبي بكر فلم ينهانا حتّى قبضه الله ، ثمّ معك فلم تحدث لنا فيه نهياً ، فقال عمر : أما والذي نفسي بيده لو كنت تقدّمت في نهي لرجمتك (٢).

__________________

(١) المبسوط في فقه الحنفية ٥ / ١٥٣.

(٢) كنز العمال ٨ / ٢٩٨.

٢٢

فإلى هذه اللحظة لم يكن نهي ، من هنا يبدأ النهي والتحريم.

ولذا نرى أنّ الحديث والتاريخ وكلمات العلماء كلّها تنسب التحريم إلى عمر ، وتضيفه إليه مباشرة.

فعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقي.

هذا في المصنّف لعبد الرزّاق (١) ، وتفسير الطبري (٢) ، والدر المنثور (٣) ، وتفسير الرازي (٤).

وعن ابن عبّاس : ما كانت المتعة إلاّ رحمة من الله تعالى رحم بها عباده ، ولولا نهي عمر ما زنى إلاّ شقي.

هذا في تفسير القرطبي (٥).

وفي بعض كتب اللغة يذكرون هذه الكلمة عن ابن عبّاس أو عن أمير المؤمنين ، لكن ليست الكلمة : إلاّ شقي ، بل : إلاّ شفى ، ويفسرون الكلمة بمعنى القليل ، يعني لولا نهي عمر لما زنى إلاّ قليل.

__________________

(١) المصنف لعبد الرزاق ٧ / ٥٠٠.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ١٧.

(٣) الدر المنثور ٢ / ٤٠.

(٤) تفسير الرازي ٣ / ٢٠٠.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ٥ / ١٣٠.

٢٣

ولم أحقّق الموضوع أنّ اختلاف النسخة هذا من أين ، ولم أتقصد ذلك ، ولم يهمّني كثيراً.

المهم أنّ تحريم المتعة من أوّليات عمر بن الخطّاب في كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي (١).

فإلى هنا رأينا الجواز بأصل الشرع ، بالكتاب والسنّة والإجماع ، وإلى آخره ، ورأينا التحريم من عمر بن الخطّاب وفي آخر أيّام خلافته إلى الآن ، ولا بد أنّ بعض الصحابة اتّبعوه في هذا التحريم ، وفي مقابله كبار الصحابة وعلى رأسهم أمير المؤمنين سلام الله عليه ، إذ كان موقف هؤلاء موقفاً صارماً واضحاً في هذه المسألة.

أمّا كلمة أمير المؤمنين فقرأناها : لولا نهي عمر لما زنى إلاّ شقي.

ويقول ابن حزم : وقد ثبت على تحليلها بعد رسول الله جماعة من السلف ، منهم ـ من الصحابة ـ :

١ ـ أسماء بنت أبي بكر.

٢ ـ جابر بن عبد الله.

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ١٣٧.

٢٤

٣ ـ وابن مسعود.

٤ ـ وابن عبّاس.

٥ ـ ومعاوية بن أبي سفيان.

٦ ـ وعمرو بن حريث.

٧ ـ وأبو سعيد الخدري.

٨ و ٩ ـ وسلمة ومعبد ابنا أُميّة بن خلف.

ورواه جابر عن جميع الصحابة مدّة رسول الله [ عبارة عامّة مطلقة : ورواه جابر عن جميع الصحابة مدّة رسول الله ] ومدّة أبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر.

هذه عبارة ابن حزم ويقول : ومن التابعين :

١ ـ طاووس.

٢ ـ وعطاء.

٣ ـ وسعيد بن جبير.

٤ ـ ... وسائر فقهاء مكّة أعزّها الله (١).

أمّا القرطبي ، فذكر بعض الصحابة منهم : عمران بن حصين ، وذكر عن ابن عبد البر أنّ أصحاب ابن عبّاس من أهل مكّة واليمن

__________________

(١) المحلّى في الفقه ٩ / ٥١٩.

٢٥

كلّهم يرون المتعة حلالاً على مذهب ابن عبّاس (١).

إذن ، ظهر الخلاف ، ومن هنا يبدأ التحقيق في القضيّة ، ولنا الحق في تحقيق هذه القضيّة أو لا ؟ وتحقيقنا ليس إلاّ نقل نصوص وكلمات لا أكثر كما ذكرنا من قبل.

ولننظر في تلك الأحاديث والكلمات ، لنرى أنّ الحقّ مع من ؟

كان شيء حلالاً في الشريعة الإسلامية ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يحرّمه ، وأبو بكر لم يحرّمه ، والصحابة لم يحرّموه ، وعمر أيضاً لم يحرّمه إلى أواخر أيّام حياته ، وقد عملوا بهذا الحكم الشرعي ، وطبّقوه في جميع هذه الأدوار ، فماذا يقول العلماء في هذه القضيّة ؟

أمّا علماء الإماميّة فيجعلون هذه القضيّة في جملة الموانع من صلاحيّة عمر بن الخطّاب للخلافة بعد رسول الله ، لأنّ وظيفة الخليفة أن يكون حافظاً للشريعة لا مبدّلاً ومغيّراً لها.

وقد قرأنا في كتاب المواقف وشرح المواقف وغير هذين الكتابين : أنّ من أهمّ وظائف الخليفة والإمام بعد رسول الله المحافظة على الدين من الزيادة والنقصان ، ودفع الشبه والإشكالات الواردة عن الآخرين في هذا الدين.

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٥ / ١٣٣.

٢٦

فيقول الإماميّة بأنّ هذه القضيّة من جملة ما يستدلّ بها على عدم صلاحيّة هذا الصحابي للخلافة بعد رسول الله.

أمّا علماء أهل السنّة القائلون بخلافته وإمامته بعد أبي بكر ، فلا بد وأن يجيبوا عن هذا الإشكال ، فلنحقق في أجوبة القوم عن هذا الإشكال الموجّه إلى خليفتهم.

٢٧
٢٨

النظر في أدلّة تحريم المتعة

لقد ذكروا في الدفاع عن عمر بن الخطاب وعن تحريمه للمتعة ثلاثة وجوه ، ولم أجد أكثر من هذه الوجوه.

الوجه الأوّل :

إنّ المحرّم لمتعة النساء هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالمتعة كانت في حياته الكريمة محرّمة ، إلاّ أنّه لم يقل بهذا الحكم الشرعي للناس ولم يعلنه ، وإنّما أعلم به عمر بن الخطّاب فقط ، فلمّا تولّى عمر الأمر ـ أي أمر الخلافة ـ أعلن عن هذا الحكم.

هذا ما ينتهي إليه الفخر الرازي (١) بعد أنْ يحقّق في المسألة ، ويشرّق ويغرّب ، لاحظوا نصّ عبارته : فلم يبق إلاّ أن يقال : ـ أي الأقوال الاُخرى والوجوه الاُخرى كلّها مردودة في نظره ـ كان

__________________

(١) تفسير الرازي ٢ / ١٦٧.

٢٩

مراده ـ أي مراد عمر ـ أنّ المتعة كانت مباحة في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهى عنها ، لما ثبت عندي أنّه ـ أي النبي ـ نسخها.

والأصرح من عبارته عبارة النووي (١) في توجيه هذا التحريم يقول : محمول ـ أي تحريمه للمتعة ـ على أنّ الذي استمتع على عهد أبي بكر وعمر لم يبلغه النسخ ، وإنّما بلغ النسخ عمر بن الخطّاب فقط.

وكأنّ رسول الله همس في أُذن عمر بن الخطّاب بهذا الحكم الشرعي ، وبقي هذا الحكم عنده وحده إلى أن أعلن عنه في أواخر أيّام حياته.

مناقشة الوجه الأوّل :

أوّلاً : إنّه يقول : وأنا أنهى عنهما ، ولا يقول بأنّ رسول الله نسخ هذا الحكم وحرّمه وإنّي أُحرّم المتعة لتحريم رسول الله ، يقول : أنا أنهى عنهما واُعاقب عليهما.

وثانياً : هل يرتضي الفخر الرازي ويرتضي النووي ـ لاسيّما الفخر الرازي الذي يقول : لم يبق إلاّ أن يقال ، الفخر الرازي الذي

__________________

(١) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ، على هامش القسطلاني ٦ / ١٢٨.

٣٠

يعترف بعدم تماميّة الوجوه الاُخرى وأنّ الوجه الصحيح عنده هذا الوجه ، ولا طريق آخر لحلّ المشكلة ـ أن يكون الحكم الشرعي هذا لم يبلغ أحداً من الصحابة ، ولم يبلّغه رسول الله إلى أحد منهم ، وإنّما باح صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به إلى عمر بن الخطّاب فقط ، وبقي عنده ، وحتّى أنّ عمر نفسه لم ينقل هذا الخبر عن رسول الله في تمام هذه المدّة ؟ وما الحكمة في إخفاء هذا الحكم عن الامّة إلاّ عن عمر ، حتى أظهره في أُخريات أيّامه ؟

مضافاً ، إلى أنّ رجلاً اسمه عمران بن سواده ، يخبر عن عمر بن الخطّاب عمّا يقول الناس فيه ، أي عن اعتراضات الناس وانتقاداتهم على عمر ، يبلّغه بتلك الاُمور ، يقول له : عابت أُمّتك منك أربعاً : ... وذكروا أنّك حرّمت متعة النساء وقد كانت رخصة من الله ، نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث.

فالناس كلّهم كانوا يتكلّمون فيه ، وقد أبلغ هذا الرجل كلام الناس إليه ، فانظروا إلى جوابه :

قال عمر : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحلّها في زمان ضرورة ثمّ رجع الناس إلى سعة.

فكان رأياً منه ولم يكن رأياً من رسول الله حتّى يقول الفخر الرازي بأنّ هذا الحكم الشرعي ما سمع به إلاّ هذا الشخص وبقي

٣١

عنده حتّى أعلن عنه.

هذه الرواية في تاريخ الطبري في حوادث سنة ٢٣ ه‍ (١).

ولكن الاُمّة لم تقبل هذا العذر من عمر الذي قال بأنّ رسول الله أحلّها في زمان ضرورة ثمّ رجع الناس إلى سعة ، لم تقبل الاُمّة هذا العذر من عمر ، وبقي الاختلاف على حاله إلى يومنا هذا.

الوجه الثاني :

إنّ التحريم كان من عمر نفسه وليس من رسول الله ، هذا التحريم كان منه ، وهو مقتضى نصّ عبارته : وأنا أنهى عنهما.

ولكن تحريم عمر يجب اتّباعه وامتثاله وإطاعته وتطبيقه ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ ». هذا حديث نبوي ، وينطبق هذا الحديث على فعل عمر ، وحينئذ يجب إطاعة عمر فيما قال وفعل ، فيما نهى وأمر.

يقول ابن القيّم : فإن قيل : فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله وأبي بكر ، حتّى نهى عنها عمر في شأن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٢٢٥.

٣٢

عمرو بن حريث ، وفيما ثبت عن عمر أنّه قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله ؟

قيل في الجواب : الناس في هذا طائفتان ، طائفة تقول : إنّ عمر هو الذي حرّمها ونهى عنها ، وقد أمر رسول الله باتّباع ما سنّه الخلفاء الراشدون [ إشارة إلى الحديث الذي ذكرته ] ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سمرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح ، فإنّه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سمرة عن أبيه عن جدّه ، وقد تكلّم فيه ابن معين ، ولم ير البخاري إخراج حديثه في صحيحه مع شدّة الحاجة إليه.

يقول ابن القيّم : إنّ هذه الطائفة لم تعتبر هذا الحديث والبخاري لم يخرّجه في صحيحه ، وتكلّم فيه ابن معين ، لو كان صحيحاً لأخرجه البخاري مع شدّة الحاجة إليه وكونه أصلاً من أصول الإسلام ، ولو صحّ عنده ـ عند البخاري ـ لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به ، قالوا : ولو صحّ هذا الحديث لم يخف على ابن مسعود ، حتّى يروي أنّهم فعلوها ويحتج بالاية [ الآية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا ... ) ] وأيضاً لو صحّ لم يقل عمر إنّها كانت على عهد رسول الله وأنا أنهى عنها وأُعاقب ، بل كان يقول : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرّمها ونهى عنها. قالوا : ولو صحّ لم تفعل على عهد

٣٣

الصدّيق وهو عهد خلافة النبوّة حقّاً.

فظهر أنّ هذا القول ـ أي القول بأنّ التحريم منه لا من الرسول ـ قول طائفة من العلماء ، وهؤلاء لا يعتبرون الأحاديث الدالّة على تحريم رسول الله المتعة في بعض المواطن ، كما سنقرأ تلك الأحاديث في القول الثالث ، وقالوا بأنّ المحرِّم هو عمر ، لكنّ تحريمه لا مانع منه وأنّه سائِغ وجائز ، بل هو سنّة ، ورسول الله أمر باتّباع سنّة الخلفاء الراشدين من بعده وهو منهم.

مناقشة الوجه الثاني :

في هذا الوجه اعتراف وإقرار بما يدلّ عليه كلام عمر حيث يقول : وأنا أنهى ، وليس فيه أيّ تمحّل وتكلّف ، أخذ بظاهر عبارته الصريحة في معناها ، لكن في مقام التوجيه لا بدّ وأن ينتهي الأمر إلى رسول الله ، وقد انتهى الأمر إلى رسول الله على ضوء الحديث المذكور.

فرسول الله يقول : كلّ ما سنّه الخلفاء من بعده ، فتلك السنّة واجبة الإتّباع ، واجبة الامتثال والتطبيق ، فحينئذ يتمّ التحريم ، إذ أنّه ينتهي إلى التشريع ، إلى الله والرسول.

لكن يتوقف هذا الاستدلال على تماميّة حديث : « عليكم

٣٤

بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي » أنْ يتمّ هذا الحديث سنداً ودلالة.

أمّا سنداً ، فلابدّ أن يتمّ سنده ويكون معتبراً وتوثّق رجاله على أساس كلمات علماء الجرح والتعديل من أهل السنّة على الأقل.

وأمّا دلالةً ، فلا بد وأن يراد من الخلفاء الراشدين المهديين في الحديث ، أن يراد الأربعة من بعده ، أو الخمسة من بعده الذين يسمّونهم بالخلفاء الراشدين وهم : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز أو الحسن المجتبى على خلاف بينهم.

إذا كان المراد من هذا الحديث هؤلاء ، فحينئذ يتمّ الاستدلال بعد تماميّة السند.

ولكنّي وُفّقت ـ ولله الحمد ـ بتحرير رسالة مفردة (١) في هذا الحديث ، وأثبتّ أنّه من الأحاديث الموضوعة في زمن معاوية ، هذا أوّلاً.

وثانياً : هذا الحديث إنْ تمّ سنده على فرض التنزّل عن المناقشة سنداً ، فإنّ المراد من الخلفاء في هذا الحديث هم الأئمّة الإثنا عشر في الحديث المعروف المشهور المتفق عليه بين

__________________

(١) مطبوعة ضمن ( الرسائل العشر في الأحاديث الموضوعة في كتب السنّة ).

٣٥

المسلمين ، وعليكم بمراجعة تلك الرسالة ، ولو كان لنا وقت ومجال لوسّعت الكلام في هذا الحديث ، ولكن أُحيلكم إلى تلك الرسالة.

الوجه الثالث :

إنّ التحريم كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا شيء أعلنه رسول الله وأبلغه رسول الله إلى الناس ، إلاّ أنّ الذين قالوا بجوازه وبقوا على حليّته لم يبلغهم تحريم رسول الله ...

إنّ رسول الله أعلن عن هذا الحكم الشرعي ، إلاّ أنّ عليّاً لم يدرِ بهذا الحكم ، وابن عباس وابن مسعود وأُبي بن كعب وجابر بن عبد الله الأنصاري وغيرهم ، كلّ هؤلاء لم يطّلعوا على هذا التحريم من رسول الله ، وأيضاً : عمر يقول : أُحرّمهما ، وقد كان عليه أن يقول رسول الله حرّم ، لكن أصحاب هذا القول يقولون بأنّ رسول الله هو الذي حرّم المتعة.

يقول ابن القيّم ـ بعد الكلام السابق الذي أوردناه ـ : الطائفة الثانية رأت صحّة حديث سمرة ، ولو لم يصح فقد صحّ حديث علي أنّ رسول الله حرّم متعة النساء ، فوجب حمل حديث جابر على أنّ الذي أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم ، ولم يكن قد اشتهر ، حتّى كان زمن عمر ، فلمّا وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر.

٣٦

يقول ابن القيّم : وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة في المتعة (١).

وخلاصة هذا القول : أنّ رسول الله هو الذي حرّم ، وقول عمر : أنا أُحرّمهما ، غير ثابت ، والحال أنّه ثابت عند ابن القيّم ، وقد نصَّ على ذلك ، هذا والصحابة القائلون بالحليّة بعد رسول الله لم يبلغهم التحريم.

مناقشة الوجه الثالث :

لنرى متى حرّم رسول الله المتعة ؟ ومتى أعلن عن نسخ هذا الحكم الثابت في الشريعة ؟

هنا أقوال كثيرة.

القول الأوّل : إنه كان عام حجة الوداع.

فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرّم المتعة عام حجّة الوداع ، والناس لم يعلموا ، أي القائلون بالحليّة لم يعلموا ولم يطّلعوا على هذا التحريم ، فكان شيء حلالاً في الشريعة بالكتاب والسنّة ثم إنّ رسول الله نسخ هذا الحكم في حجّة الوداع.

هذا هو القول الأوّل.

__________________

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد ٢ / ١٨٤.

٣٧

يقول ابن القيّم : هو وَهمٌ من بعض الرواة.

فهذا القول غلط.

القول الثاني : إنّه حرّم المتعة في حنين.

قال ابن القيّم : هذا في الحقيقة هو القول بكونه كان عام الفتح ، لاتصال غزاة حنين بالفتح.

إذن ، ينتفي القول بتحريم رسول الله المتعة في عام حنين ، هذا القول الثاني.

القول الثالث : إنّه كان في غزوة أوطاس.

يقول السهيلي الحافظ الكبير : من قال من الرواة كان في غزوة أوطاس فهو موافق لمن قال عام الفتح.

فانتفى هذا العنوان ، عنوان أنّ التحريم كان في أوطاس. تجدون هذه الكلمة في فتح الباري لابن حجر (١).

القول الرابع : قيل في عمرة القضاء.

قال السهيلي : أرغب ما روي في ذلك ـ أي في التحريم ـ رواية من قال في غزوة تبوك ، ثمّ رواية الحسن إنّ ذلك كان في عمرة القضاء ، هذا أرغب ما قيل.

__________________

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٩ / ١٣٨.

٣٨

ذكر هذا الكلام الحافظ ابن حجر في شرح البخاري وقال : أمّا عمرة القضاء فلا يصحّ الأثر فيها ، لكونه من مرسل الحسن [ الحسن البصري ] ومراسيله ضعيفة ، لأنّه كان يأخذ عن كلّ أحد ، وعلى تقدير ثبوته ، لعلّه ـ أي الحسن ـ أراد أيّام خيبر ، لانّهما كانا في سنة واحدة كما في الفتح وأوطاس سواء (١).

فهذه أربعة أقوال بطلت بتصريحاتهم.

فمتى ؟ وأين حرّم رسول الله المتعة ؟ هذا التحريم الذي لم يبلغ أمير المؤمنين وغيره من كبار الأصحاب ؟

القول الخامس : إنّه في عام الفتح.

وهذا القول اختاره ابن القيّم ، واختاره ابن حجر ، ونسبه السهيلي إلى المشهور ، فلاحظوا زاد المعاد (٢) ، وفتح الباري (٣).

يقول ابن حجر الطريقة التي أخرجها مسلم مصرّحة بأنّها في زمن الفتح أرجح ، فتعيّن المصير إليها.

فإذا كان رسول الله قد حرّم في عام الفتح ، إذن المتعة حرام وإنْ لم يعلم بذلك علي ولا غيره من الصحابة ، وعلم بها عمر ومن تبعه.

__________________

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٩ / ١٣٨.

(٢) زاد المعاد في هدي خير العباد ٢ / ١٨٤.

(٣) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٩ / ١٣٨.

٣٩

قال ابن حجر بعد ذكر أدلّة الأقوال الاُخرى : فلم يبق من المواطن كما قلنا صحيحاً صريحاً سوى غزوة خيبر وغزوة الفتح ، وفي غزوة خيبر من كلام أهل العلم ما تقدّم.

إذن ، إنحصر الأمر في موطنين ، إمّا في الفتح وإمّا في خيبر ، لكن في غزوة خيبر يعارضه كلام أهل العلم فهذا أيضاً يبطل ، ويبقى القول بأنّه في عام الفتح.

وسنقرأ كلمات أهل العلم في غزوة خيبر.

أقول : دليل كون التحريم في غزوة الفتح ما هو ؟ هو ذاك الحديث الذي لم يخرّجه البخاري ، هو الحديث الذي أبطله ابن معين ، هو الحديث الذي قال النووي وقال ابن قيّم وغيرهما : بأنّ هذا الحديث غير معتبر وإنْ أخرجه مسلم في صحيحه.

لاحظوا تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني بترجمة عبد الملك بن الربيع يقول : قال أبو خيثمة سئل يحيى بن معين عن أحاديث عبد الملك ابن الربيع عن أبيه عن جدّه فقال : ضعاف. وحكى ابن الجوزي عن ابن معين أنّه قال : عبد الملك ضعيف. وقال أبو الحسن ابن القطان : لم تثبت عدالته وإنْ كان مسلم أخرج له فغير محتجّ به [ يعني إنّ مسلماً أخرج هذا الحديث عن هذا الرجل ، إلاّ أنّه لا يحتجّ مسلم به ، لماذا ؟ ] لأنّه أخرجه متابعة.

٤٠