منع تدوين الحديث

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-635-4
الصفحات: ٧٩
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

رأيه جمع من الصحابة ، ولم يرتضه آخرون ، فصار هناك اتجاهان :

أحدهما : يستوحي شريعته من النصوص ( القرآن والسنة ).

والآخر : يعطي لاجتهاد الشيخين الشرعية باعتقاد أنهما أعلم من غيرهما !

وهذا الانقسام أخذ يزداد شيئاً فشيئاً بمرور الأيام ، في حين لم نر

__________________

السؤال عن واحد كما كان ذلك لرسول الله لم يكن الاختلاف.

وجاء في تفسير العياشي ٢ / ٣٣١ : ... فظن هؤلاء الذين يدّعون أنهم فقهاء علماء قد أثبتوا جميع الفقه والدين مما تحتاج إليه الأمة !! وليس كل علم رسول الله علموه ولا صار إليهم من رسول الله ولا عرفوه ، وذلك أن الشيء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيسألون عنه ولا يكون عندهم فيه أثر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويستحيون أن ينسبهم الناس إلى الجهل ويكرهون أن يسألوا فلا يجيبون فيطلب العلم من معدنه ، فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين الله وتركوا الاثار ودانوا بالبدع وقد قال رسول الله : كل بدعة ضلالة ، فلو أنهم إذا سئلوا عن الشيء من دين الله فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول الله ردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمد ....

وجاء عن رسول الله قوله : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهّالاً فسئلو فافتوا بغير علم فضلوا واضلوا.

( انظر : جامع المسانيد والسنن لابن كثير ٢٦ / ٣٠٩ و ٣٣١ ).

وجاء عن الإمام علي مثل هذا ( راجع : نهج البلاغة ١ / ٩٥ الخطبة ٤٩ ).

٦١

له هذه الشدة في أوائل عهد الشيخين.

فلو صح قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اقتدوا بالذين من بعدي أبا بكر وعمر » ، فلمَ نراهم يعترضون على الخليفة ولا يرتضون الأخذ منه ؟! وهذا يوضح أنهما لم يكونا يعتقدان بهذا الأصل ، بل يعرفان لزوم رجوعهما إلى القرآن والسنة لا غير ، لأنهما كثيراً ما سألا عن وجود آية أو حديث نبوي في الوقائع التي سئلوا عنها.

بلى ، إن الخليفة كان يسأل الصحابة عما لا يعرفه ويتراجع حينما كان يذكّر بالصحيح عن رسول ، لكنه بمرور الأيام صار داعياً إلى اتباع رأيه وسيرته ، فيجيب عن المسائل بمفرده دون أن يستشير أحداً من الصحابة ، ويختلف النقل عنه في الواقعة الواحدة ، فتراه يقول : تلك على ما قضينا وهذه على ما قضينا (١).

وبذلك صار عند المسلمين نهجين :

١ ـ فقه النصوص.

٢ ـ فقه الرجال.

أي : أنّهم بعد أن دعوا إلى الأخذ بسيرة الشيخين جاء عثمان وأضاف سيرته إليهما ، فرووا : حديث التفاضيل ( أبو بكر ، عمر ،

__________________

(١) السنن الكبرى ٦ / ٢٥٥.

٦٢

عثمان ) وليس في ذلك اسم علي بن أبي طالب ، ثم أدرجوا اسمه وعدوه من الخلفاء الراشدين ، ورووا : عليكم بسنّتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي (١) ، وقد رووا حديث العشرة المبشرة ، ثم أصحابي كالنجوم ، أي : أن فقه الرجال بدأ باثنين ثم ثلاثة ثم أربعة ثم عشرة ثم إلى جميع الصحابة ، أي أنهم شرعوا التعددية في حين نرى الله سبحانه يؤكد على الوحدوية بقوله : ( أَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ) (٢) ، وإخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله بافتراق أمته إلى نيف وسبعين فرقه ، فرقه ناجية والباقي في النار.

فشرعوا الاختلاف في الرأي ودعوا إلى حجيته ، في حين أن الإمام علي كان لا يرتضي ذلك ويذهب إلى وجود جميع الأحكام في الكتاب العزيز والسنة النبوية ، فلا داعي للأخذ بالرأي منها ، وصرح بعدم جواز الأخذ بقول الرجال والرأي ، بقوله : « إعرف الحق تعرف أهله » (٣).

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ١٢٦.

(٢) الأنعام : ١٥٣.

(٣) أمالي المفيد : ٥ ح ٣ ، روضة الواعظين : ٣٩ ، مجمع البيان ١ / ٢١١.

٦٣

٦٤



خاتمة المطاف

فتلخّص : بأنّ منع التدوين مرّ بثلاث مراحل :

الأولى : فترة الشيخين.

الثانية : فترة من سار على نهجهما ، كعثمان ومعاوية.

الثالثة : فترة الحكم الأموي بعد معاوية وحتى عصر التدوين الحكومي.

أما المرحلة الأولى : فجاءت بعد تسليم كون طمس الفضائل دخيلاً في المنع ، لعجزهما الفقهي وعدم إحاطتهما بجميع أحاديث رسول الله ، إذ قلنا بأنّ مقام الخلافة يستوجب العلم بما حكم به رسول الله ، والخليفة لم يعرف جميع الأحكام الصادرة عنه ، فواجه مشكلة عظيمة ، وهي مخالفة فتاواه لأقوال رسول الله ، مما يسبب تخطئة الصحابة إياه حتّى ربات الحجال له ، وهذا هو الذي دعاه ليمنع تدوين الحديث حسب التفصيل الذي قلناه.

٦٥

وأما المرحلة الثانية : فجاءت لدعم موقف الشيخين ، إذ جاء عن عثمان ابن عفان ومعاوية بن أبي سفيان أنهما نهيا عن التحديث عن رسول الله إلاّ بما عمل به على عهد الشيخين.

وأما المرحلة الثالثة : فهي مرحلة الخلفاء الذين حكموا بعد معاوية إلى عصر التدوين الحكومي ، حيث إن هؤلاء استغلّوا الأفكار السائدة في العهد الأول والثاني لطمس فضائل أهل البيت ، ولترسيخ ما يبغون من أهداف.

فاتضح لك أن أسباب منع تدوين الحديث ، اختلفت بين فترة وأُخرى :

إذ كان المنع في العصر الإسلامي الأول ـ على عهد الشيخين ـ لسدّ العجز الفقهي عند الخليفة وتحكيم ركائز حكمهم ودفع خصمهم.

وأما في العهد الثاني فجاء لتحكيم ما سُنّ على عهد الشيخين وعدم الأخذ بغيرهما.

وأما في العهد الأموي فكان بشكل مفضوح ، للمخالفة مع علي بن أبي طالب وأهل بيته.

وقد فصلنا الحديث عن هذه المراحل وغيرها في كتابنا المزبور ،

٦٦

فمن شاء المزيد فليراجعه.

وبعد هذا ، فلا يمكن حصر سبب منع تدوين الحديث في المخالفة مع فضائل أهل البيت في جميع العصور بعدما عرفت احتياجات العهود الثلاثة السابقة :

بعد هذا التلخيص نأتي لنستلهم من هذا البحث العلمي موضوعاً مهماً ، ألا وهو تقييم السنة عند الفريقين « الشيعة الإمامية وأهل السنة والجماعة » ، إذ السنة النبوية قد مرت عند أهل السنة والجماعة بمراحل :

١ ـ مرحلة منع تدوين حديث رسول الله.

٢ ـ مرحلة تشريع اجتهاد الصحابي ، أي سيرة الشيخين أولاً ثمّ تطويرها إلى تحكيم اجتهادات جميع الصحابة و ...

٣ ـ جمع موقوفات الصحابة مع مرفوعات الرسول في مدونات ، وذلك على عهد المروانيين ، الذين كان زمانهم أشدّ الأزمنة عداوة لأهل البيت ، وهذا يعني أنّهم منعوا تدوين حديث رسول الله ، ثمّ شرّعوا الرأي في دائرة الفراغ ، ثمّ اختلطت سنة رسول الله بآراء واجتهادات الصحابة ، وبعد مائة عام دوّنوا تلك الأحاديث مع اجتهادات الصحابة ، وعلى ضوء المحفوظات لا المدوّنات ، وفي

٦٧

زمن غلبت فيه العصبية والقبلية ، فصارت هذه الأحاديث شريعة يأخذ بها كثير من المسلمين.

وأمّا الحديث عند الشيعة فلم يمرّ إلاّ بمرحلة واحدة ، وهي التدوين فقط والأخذ عن رسول الله وما كتبه علي بن أبي طالب « من فيه صلّى الله عليه وآله وسلم ليده » فكان لجميع أهل البيت صحف وكتب (١).

فأهل البيت لم يكونوا يفتون بالرأي ، بل يحكّمون النص وكتاب علي في كلماتهم وأقوالهم واستدلالاتهم على الخصم.

ومن هنا صار عند المسلمين اتجاهان :

أحدهما : يعتبر الرأي.

والآخر : يستقي من النص لا غير.

وبما أنّ أهل البيت كانت عندهم صحف ومدونات ( ومنها كتاب علي ) ، وأنّهم كانوا لا يفتون بالرأي والقياس ، فقد أمروا أصحابهم

__________________

(١) لعلي بن أبي طالب عدة كتب منها : الصحيفة ، الكتاب ، الجامعة ، .... وقد جمع أخبار صحيفة علي بن أبي طالب عن رسول الله الأستاذ فوزي عبدالمطلب في كتاب وطبع في حلب عن دار السلام.

ولو أردت أن تنظر قسما آخر من صحف أهل البيت ، فراجع كتاب منع تدوين الحديث للمحاضر : ٣٩٧ ـ ٤٦٥.

٦٨

بتدوين ما قالوه ، فصارت عند أصحاب الأئمة مدوّنات وأصول يستقون منها الأحكام ، وقد سميت هذه الأصول ب‍ ( الأصول الأربعمائة ) ، تمثلت بالكتب الأربعة الشيعية التي أُخذت عن الأصول الأربعمائة.

فما هذه الأصول الأربعمائة إلاّ مدوّنات لأقوال الأئمّة الذين كانوا لا يقولون بالرأي ، بل يتحدّثون بالنص عن رسول الله طبق الصحف والمدوّنات عندهم عن رسول الله.

وعليه فالأحاديث عند الشيعة الإماميّة هي أقرب إلى سنة رسول الله ، لأنّها لم تمرّ بمراحل متعدّدة متأثّرة بالظروف والحكومات ، بل مرّت بمرحلة واحدة ، وهي التدوين فقط ، ولم يحكّم فيها الاجتهاد والرأي.

وأمّا الأحاديث عند أهل السنّة والجماعة فقد مرّت بمراحل.

١ ـ المنع.

٢ ـ تشريع الرأي والاجتهاد المخالف للنصوص في كثير من الأحيان.

جمع موقوفات الصحابة مع مرفوعات الرسول في مدونات في عصر يغلب عليه العصبية والقبلية.

٦٩

٣ ـ تعميم ذلك للأمصار وإجماع الأمة عليها من بعد ذلك بمرور الأزمان وتعاقب الحكومات.

وبهذا ، فإنّ البحث عن منع تدوين الحديث لم يكن بحثاً علمياً مجرداً بقدر ما هو بيان لآثار قد انعكست على واقع المسلمين إلى هذا اليوم ، وإنّ الاختلاف في الفقه بنظرنا يرجع إلى اختلاف آراء الصحابة وما شرّع جراء المنع ، حتّى في الأصول كان بسبب الروايات المستقاة عند الطرفين.

وأنت حينما تعرف تاريخ السنّة المطهرة وملابساتها وما منيت به من تحريفات ، تعرف كل شيء وتتجلى لك صورة الأمر وبشكل آخر.

وهناك نتائج توصلنا إليها في كتابنا الكبير عن ( منع تدوين الحديث ) نذكرها لتعميم الفائدة :

١ ـ انقسام المسلمين إلى اتّجاهين فكريّين ، صارا من بعد مدرستين مستقلّتين ، لكلّ منهما أفكار وأُصول ومبانٍ خاصّة بها.

٢ ـ تحكيم مفاهيم أتباع منع التدوين في الثقافة الإسلاميّة ، وبروز تعاليل شتّى ومبرّرات مختلفة لذلك المنع المُحَكَّم.

٣ ـ طرح مقولة ( حسبنا كتاب الله ) و (بيننا وبينكم كتاب الله ) كخطوة أُولى لإبعاد العترة وللتغطية على العجز الفقهيّ عن الإلمام

٧٠

بسنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ تخطّيهم عمّا رسموه ، كما هو المشاهد في نزاع الخليفة الأوّل مع الزهراء واستشهادها بالقرآن عليه ، وتخطّي الخليفة الثاني عن الأخذ بصريح القرآن في الطلاق ثلاثاً والمؤلّفة قلوبهم و ... ، وأخيرا استغلال بعض المغرضين هذه المقولة ، لإِنكار ما عدا القرآن.

٤ ـ منع الخلفاء من التدوين لخنق انتشار الأحاديث النبويّة المفسَّرة التي تبيّن أحقية أهل البيت بالخلافة ، بعد محاولة غلق باب التفسير البياني الذي يصبّ في نفس المعصبّ ، متذرعين في ذلك بأوهن الذرائع.

٥ ـ فتح باب الاجتهاد لسدّ الثغرة الحاصلة عن منع التدوين ، وذلك عبر مراحل متعدّدة ، هي :

أ ـ وجود بوادر أوّليّة في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عند من استلموا من بعده السلطة الفعليّة ، فكانوا يخالفون النبيّ ويجتهدون ويذرون ما يأتي به صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ب ـ تطبيق الخليفة الثاني أوسع الأبواب لتطبيق اجتهاداته وآرائه كما هو الملحوظ في المؤلّفة قلوبهم والطلاق ثلاثاً والمتعة و ...

٦ ـ ظهور مفهوم ( رأي رأيته ) و ( تأوَّل فأخطأ ) في مرحلة مبكّرة من زمن حكومة المنع ، وانجرارها إلى رسم أُصول جديدة ، كالقياس

٧١

والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها.

٧ ـ تأثير منع التدوين وفتح الاجتهاد بشكل جدّي في حدوث اتضاربات والاختلافات في فتاوى وآراء الصحابة ، بل في فتاوى وآراء الصحابيّ الواحد ، ممّا أنتج :

أ ـ القول بمشروعيّة الاختلاف وتعدّديّة الآراء عند الصحابة ، وبالتالي حجّيّتها جميعاً والقول بعدالة الصحابة.

ب ـ القول بالتصويب في الأحكام الشرعيّة ، أي أنَّ الله يُثَبِّت أحكامه في اللوح المحفوظ طبق فتاوى المجتهدين.

ج ـ القول باجتهاد النبيّ وأنَّه بشر يُخطئ ويُصيب ، ويقول في الرضا ما لا يقوله عند الغضب ، كي يعذروا الشيخين.

د ـ تفسير أحاديث رسول الله بما يعجبهم ، كما هو المشاهد في ( اختلاف أُمَّني رحمة ) وغيره.

٨ ـ طرح الخليفة الثاني لفكرة أعلميّة ، بعد أن كان لا يدّعي ذلك لنفسه ، وتطوُّر هذه الفكرة إلى فكرة ( أعلميّة الخلفاء ) بالأحكام ، وأنّهم أولى مَن يتصدّر للإِفتاء ، وبناءً على ذلك ساغ :

أ ـ ضرب الخليفة مَن يُحدِّث بخلاف آرائه ، أو مَن يسأله عمّا لا يُريد.

٧٢

ب ـ حبس أجلاّء الصحابة بسبب إكثار الحديث.

ج ـ لزوم انتظار الصحابيّ أمر الخليفة في الأحكام وغيرها.

٩ ـ ظهور أفكار جديدة في حياة المسلمين ، منها : لزوم اتّباع الحاكم لقولهم ( وقد قال فيه ولاة الأمر ) و ( الخلاف شرّ ) و ( اتِّبعْهُ وإن ضرب ظهرك ) وعدم اشتراط العدالة في كثير من القضايا ، كالقضاء وغيره ، وحتّى العبادات فقد أجازوا الصلاة خلف كلّ برّ وفاجر وغيرها من الأفكار والآراء.

١٠ ـ اتّخاذ اجتهاد الصحابيّ أو سيرة الشيخين كأصل ثالث في التشريع ، وعدّه قسيما لكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد تبيّن هذا بأجلى صوره يوم الشورى.

١١ ـ فشل محاولة حصر الاجتهاد بالشيخين ، وقَصْر العمل بما رأياه ، وذلك لتوفّر الظروف والشروط الموضوعيّة لشمول الاجتهاد وعموميّته عند باقي الخلفاء ، وفي ذلك نرى توسّع آراء عثمان ومعاوية ومَن بعدهما ، حتّى أنَّ المسلمين ضاقوا ذرعاً بإحداثات عثمان ، ولمّا أحسّ ببوادر الثورة عليه سخژر سعيد بن زيد بن نفيل (١)

__________________

(١) انظر الاحتجاج ١ : ٧٢٣٧ الكافئة : ٢٥ ، وجاء في صحيح البخاريّ

٧٣

لوضع حديث العشرة المبشّرة بالجنّة دفعاً لاعتراضات المسلمين دون جدوى ، لكنّها سرعان ما استغلَّت من بعد أيّما استغلال فأثّرت في عقائد وفقه المسلمين.

١٢ ـ اختصاص المدوّنات المتأخّرة زمنيّاً بقسط كبير من آراء أتباع الاجتهاد عموماً ، وتركيزها الأكيد على تدوين سيرة الشيخين خصوصاً ، ممّا أضفى على آرائهما المدوّنة ميزة وأرجحيّة على باقي الآراء ، وهذا معناه أنَّ محاولة حصر الاجتهاد وإن كانت قد فشلت في الحصر التامّ ، إلاّ أنّها نجحت في إضفاء هالة من القدسيّة والأولويّة على سيرتهما دون غيرهما.

١٣ ـ تسليط الأضواء على فقه المخالفين للتدوين والتعبّد ، ورفض فقه المدوّنين المتعبّدين ، وتقوية مكانة القرشيين ومتأخّري

__________________

٥ : ٢٠٩٥ ٧ كتاب الذبائح ، باب ما ذبح على النصب والأصنام ، ح ١٨٠ عن سالم أنّه سمع عبدالله يحدّث عن رسول الله أنّه لقي زيد بن عمر بن نفيل بأسفل بَلْدَح وذلك قبل أن ينزل على رسول الله الوحي فقدّم إليه رسول الله سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها ثمّ قال : إنّي لا آكل ممّا تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلاّ ممّا ذكر اسم الله عليه !. فلاحظ ما أُضفي من هالة على والد واضِعِ حديث العشرة المبشرة.

٧٤

الصحبة ـ من هم ليسوا من عَلِيَّة الصحابة ـ وإعطاؤهم الأدوار المهمّة سياسيّاً وتشريعيّاً.

١٤ ـ إبعاد الأمّة عن المدوّنين والمدوّنات ، وعلى رأسهم أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومدوّناتهم ، وقد برزت في هذا المحور عدّة خطوات ، منها :

أ ـ تبنّي الرؤية القائلة بعدم اجتماع النبوّة والخلافة في بني هاشم.

ب ـ وضع الأحاديث في فضائل المانعين ، واختلاق الهفوات للمدوّنين ومن ثمّ الدعوة للأخذ بمسلك المانعين الفقهيّ.

ج ـ صنع فكرة أفضليّة الشيخين على سائر الناس ، وإضافة عثمان ثالثاً من بعد ، وإبقاء عليّ بن أبي طالب في محلّ يساوى به سائر الناس.

د ـ نسبة جلّ الآراء الفقهيّة الناتجة عن المنع إلى المدوّنين الذين ثبتت عنهم نقولات أُخرى ثابتة صحيحة نابعة عن منهج التدوين.

١٥ ـ خفاء الكثير من الأحكام ، وضياع قسم منها ، نتيجة للنهي عن التدوين لمدّة قرن من الزمن ، حتّى أصبحت سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منسيّة أو كالمنسيّة ، وتطاول أمد المنع حتّى إذا فُتِحَ التدوين ، كان تدويناً

٧٥

حكوميّاً ناقصاً خليطاً مملوءاً بالاجتهادات والآراء.

١٦ ـ خلق المبرّرات للاّحقين لتشريع ما يعجبهم والأخذ به وفرضه على المسلمين ، وترك ما لا يعجبهم ، وسهّل على الانتهازيّين طرق التمحّل والاستدلال انتظارا لما يريده الحكّام ، فكان أن نتج :

١ ـ السماح بالاجتهاد مطلقاً ، فيما ورد فيه النصّ ، وفيما لا نصّ فيه.

ب ـ تحكيم المصلحة المدّعاة ـ لا الواقعيّة ـ على النصوص.

ج ـ عدم لزوم عرض أقوال الصحابة على كتاب الله ، بل اعتبر البعض ما يقوله الصحابيّ حجّة مطلقة وأنَّ يخصّص كتاب الله.

١٧ ـ إنَّ المنع أوجب اختلاف الحديث عن رسول الله نظراً للاتّجاهات والآراء.

١٨ ـ إنَّ إبعاد الأمّة عن أهل البيت فقهيّاً وسياسيّاً ألزم أئمّة أهل البيت في الإصرار على التدوين وحفظ ما ورثوه عن آبائهم خوفاً من الضياع. وهو ممّا جعل التراث الحديثيّ عند الشيعة أكثر ممّا عند أهل السنّة والجماعة ، لأنّا نعلم أن سنن النسائيّ يمتاز على بقيّة السنن في اشتماله على أحاديث الأحكام لقول مؤلّفه في رسالته لأهل مكّة : فهذه الأحاديث ( أحاديث السنن ) كلّها في الأحكام ، فأمّا أحاديث

٧٦

كثيرة في الزهد والفضائل وغير هذا فلم أخرجها.

وبلغت أحاديث هذه المجموعة (٥٢٧٤) حديثاً ، فلو قيست هذه إلى أحاديث الأحكام في وسائل الشيعة (٣٥٨٥٠) ومستدرك الوسائل (٢٣٠٠٠) لكانت لا شيء بالنسبة إليها ، وقد ثبت عند المحقّقين بأنَّ مرويّات الشيعة تعادل ضعفي ما في الصحاح والسنن العاميّة من أحاديث.

١٩ ـ انعدام قدسيّة الرسول الأكرم في نفوس الخلفاء بنسب متفاوتة شدّة وضعفاً ، ابتداءً من مناداته من وراء الحجرات وجرّهم إزاره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومروراً ب‍ ( أنَّ الرجل ليهجر ) و ( متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أُحرَّمهما وأُعاقب عليهما ) وقول معاوية لمن ذكَّره بنهي النبيّ عن الربا ( لا أرى بأساً بذلك ) ، وانتهاءً بتمثّل يزيد بن معاوية بأبيات ابن الزبعرى ، وتمزيف الوليد بن يزيد لكتاب الله المجيد.

٢٠ ـ من كلّ ذلك كان اختلال النتائج والحصائل الفقهيّة والعقائدية ملحوظا ولا سبيل لإنكاره في تاريخ التشريع الإسلاميّ ، فلم يستطع التدوين المتأخّر ردم هذه الهوّة ، بل زاد الأمر تعقيداً وحيرة بتدوينه مختلف الآراء والاجتهادات مخلوطةً بالصحيح الوارد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلذا يعسر التوفيق بين المذاهب في أكثر المسائل الفقهيّة.

٧٧

٢١ ـ نسبة منع التدوين إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لتبرِئة ساحة المانعين الحقيقيّين ، وإلقاء التبعة على رسول الدين ، ومحاولة الموازنة والمقارنة بين روايات المنع والتدوين ، مع أنَّ روايات المنع كلّها ضعاف وغير ناهضة لذلك ، وإنَّما اختُلِقَتْ في وقت متأخّر لتبرير منع الشيخين ومن حذا حذوهما للتدوين والتحديث.

٢٢ ـ صيرورة منع التدوين ذريعة بيد المستشرقين للنيل من الإسلام ، والطعن على الفكر الإسلاميّ والثقافة الأصيلة ، بادّعاء أنَّ الدين هو مبعث التخلّف ومنع الشعوب من الرقيّ الحضاريّ.

٢٣ ـ تمحّل الكتّاب وأرباب القلم المؤيّدين لمدرسة الخلفاء ، وسعيهم الدؤوب لخلق المبرّرات المختلفة لتبِرئة الخليفة من تبعات المنع ، وعدم امتلاكهم الشجاعة الكافية للتصريح بخطأ الخليفة وبيان الحقائق في هذا السياق.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

٧٨

دليل الكتاب :



مقدمة الناشر ...........................................................  ٥

السبب الأوّل ما نقل عن الخليفة أبي بكر ..................................  ٧

السبب الثاني ما نقل عن الخليفة عمر بن الخطاب .........................  ٢١

السبب الثالث ما ذهب إليه ابن قتيبة وابن حجر .........................  ٣٥

السبب الرابع ما ذهب إليه السمعاني والقاضي عياض .....................  ٣٧

السبب الخامس ما ذهب إليه الخطيب البغدادي وابن عبدالبر ...............  ٣٩

السبب السادس ما ذهب إليه بعض المستشرقين ..........................  ٤١

السبب السابع ما ذهب إليه غالب كتّاب الشيعة .........................  ٤٣

مراحل المنع ...........................................................  ٤٧

السبب الثامن بيان ما توصلنا إليه .......................................  ٥٧

خاتمة المطاف .........................................................  ٦٥

٧٩