منع تدوين الحديث

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-635-4
الصفحات: ٧٩
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

_________________

إن الاحتياط في أن يوافق الخليفة رأي أكثر الصحابة ، لقوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) ، ولايمانه هو بمبدأ الشورى ، فمخالفة الخليفة للصحابة يعد نقضاً للاحتياط وهدماً لمبدأ الشورىٰ الذي اتخذه عمر بن الخطاب.

وبعد هذا يتجلىٰ ضعف هذا الرأي كذلك وعدم صموده أمام النقد.

السبب السادس :

ما ذهب إليه بعض المستشرقين

ذهب شبر نجر إلى أن عمر لم يهدف إلى تعليم العرب البدو فحسب ، بل تمنى أن يحافظ على شجاعتهم وإيمانهم الديني القوي ليجعلهم حكاماً للعالم ، والكتابة واتساع المعرفة لا تتناسب مع الهدف الذي سعى من أجله [ تدوين السنة الشريفة : ٥٣ ، عن دلائل التوثيق المبكّر : ١٣٠ ـ ٢٣١ ].

ويضيف شاخت أن ليس بين الأحاديث المروية عند المسلمين حديث فقهي صحيح ، بل إنها وضعت بعدئذ في اطار المصالح المذهبية [ أنظر : دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه للأعظمي ، وكتاب (شاخت) :

[ The origin of Muhammadanjuripradenee

ويمضي جولدتسهر إلى أن صدور الروايات في التدوين جميعها موضوعه ، وأن الكتب المؤلفة الجامعة للحديث المنسوبة إلى العصر الأول مفتعلة.

/ من بحوثه Muhammadaniche tudiee : باللغة الألمانية /

ويذهب إسماعيل بن أدهم في رسالته المطبوعة سنة ١٣٥٣ إلى أن

٤١

الوقت ، ونكتفى با الإشارة إلى ما قاله غالب كتّاب الشيعة وما توصلنا إليه.

__________________

الأحاديث الصحاح ليست ثابتة الأصول والدعائم ، بل هي مشكوك فيها ويغلب عليها صفة الوضع [ دراسات في الحديث النبوي : ٢٧ ، عن السنة ومكانتها للسباعي : ٢١٣ ].

ومن أراد المزيد في دراسة أقوال المستشرقين فليراجع : كتاب السنة ومكانتها للسباعي ، ودراسات في الحديث النبوي للأعظمي ، والحديث والمحدثون لأبي زهو.

٤٢



السبب السابع :

ما ذهب إليه غالب كتّاب الشيعة

أما ما قاله غالب الشيعة فملخصه : أن النهي جاء للحدّ من نشر فضائل أهل البيت عليهم‌السلام ، واستنتج هؤلاء رأيهم من هيكلية النظام السياسي والاجتماعي ، وأن العمل الثقافي ليس بأجنبي عن العمل السياسي ، وحيث أن الخليفة لا يرتضي إعطاء أهل البيت والهاشميين مكاناً في النظام السياسي الجديد ، بل سعى لسلب كل ما يتكئون عليه ، فلا يبعد أن تكون قرارات عمر في منع التدوين قد شرعت لهذا الغرض.

وذهبوا إلى أن ابن مسعود كان منحرفاً عن علي (١) ، وأنّه كان

__________________

(١) لما أخرجه الخطيب البغدادي عن عبدالرحمن بن الأسود عن أبيه قال : جاء علقمة بكتاب من مكة أو اليمن ، صحيفة فيها أحاديث في أهل بيت

٤٣

يخالف التحديث والتدوين ، ونحن قد ذكرنا في كتابنا منع تدوين الحديث أنّه كان من المحدثين (١) والمدوّنين (٢) وجئنا بشواهد على ذلك.

أما ما قيل عن تخلفه عن أهل البيت ، فهذا لا يصح ، لقول أبي

__________________

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاستأذنّا على عبدالله فدخلنا عليه ، قال : فدفعنا إليه الصحيفة ، قال : فدعا الجارية ثم دعا بطست فيه ماء ، فقلنا له : يا أبا عبدالرحمن أنظر فيها فان فيها أحاديث حساناً ، قال : فجعل يميثها فيها ويقول ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ... ) [ يوسف : ٣ ] الخبر [ تقييد العلم : ٥٤ ].

إذن المنع جاء لما في الصحيفة من أحاديث حسان في أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله !!

(١) لما رواه عبدالله بن الزبير قال : قلت لوالدي : مالي لا أسمعك تحدث عن رسول الله كما أسمع ابن مسعود وفلاناً وفلاناً [ سنن ابن ماجه : ١٤ ].

وروى عمرو بن ميمون قال : ما أخطاني ابن مسعود عشية خميس إلاّ أتيته [ سنن ابن ماجه : ٤٢١ ].

وعن الشعبي : ... وكان أصحاب عبدالله يقرأون الناس ويعلمونهم السنة كعلقمة ومسروق ... [ جامع بيان العلم ١ / ٩٤ ].

(٢) فقد جاء عن معن قوله : أخرج عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود كتاباً وحلف له أنّه خط أبيه بيده [ جامع بيان العلم وفضله ١ / ٧٢ ].

وروى الطبراني عن عامر بن عبدالله بن مسعود : أنّه كتب بعض الأحاديث النبوية وفقه ابن مسعود وأرسل ذلك إلى يحيى بن كثير [ المعجم الكبير للطبراني ٥ / ٩٧ ، كما في دراسات في الحديث النبوي للاعظمي ١٥٤ ].

٤٤

موسى : قدمت أنا وأخي من اليمن وما نرى ابن مسعود إلاّ أنّه رجل من أهل بيت النبي ، لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وفي نص آخر : والله لقد رأيت عبدالله وما أراه عبد آل محمد (٢).

فكيف يمكن القول بأن المتخلف عن بيعة أبي بكر (٣) ، والشاهد دفن الزهراء عليها‌السلام ، والراوي فضائل أصحاب الكساء كعلي (٤) والزهراء (٥) والحسن (٦) والحسين (٧) والخلفاء بعدي اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل (٨) وفي آخر : الأئمّة بعدي اثنا عشر تسعة من صلب الحسين تاسعهم المهدي (٩) ، أن يكون من المنحرفين عن علي بن أبي

__________________

(١) الاصابة ٢ / ٣٦٩ ، وشرح النووي لصحيح مسلم ١٥ ـ ١٦ : ٢٤٧ ـ ٢٢ ح ٢٤٦٠ ، وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير ، والترمذي في سننه.

(٢) سير أعلام النبلاء ١ / ٤٦٨ ، المعرفة والتاريخ ٢ / ٥٤١ ـ ٥٤٢.

(٣) أنظر : الخصال ٢ / ٤٦٤ في أبواب الاثني عشر.

(٤) كروايته : ( برز الايمان كله إلى الشرك كله ) و ( النظر إلى وجه علي عباده ) و ( قسّمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي علي تسعة أجزاء والناس جزءاً واحداً ) و ( علي أعلم بالواحد منهم ).

(٥) كروايته : ( ان فاطمة أحصنت فرجها فحرّم الله ذريتها على النار ) و ...

(٦) (٤) أنظر : مجمع الزوائد ٩ / ١٧٩ ، كامل الزيارات ٥١ ب ١٤ ح ٤ ـ ٨.

(٧) تنقيح المقال ٢ / ٢١٥.

(٩) كفاية الأثر ٢ / ١٩.

٤٥

طالب وأهل البيت عليهم‌السلام ؟!

وعليه ، فنحن لا نقبل أن يكون ما علّله كتّاب الشيعة هو السبب الأساس في ذلك ، لمجيء روايات الفضائل عن الشيخين في علي ، فلو كان المنع لهذا السبب وحده لما وصلتنا هذه الروايات الكثيرة الدالة على إمامة علي وأهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

نعم إن الشيخين قد رويا في فضائل علي وأهل بيت الرسول ، وقد عقد محب الدين الطبري باباً بعنوان ( ذكر ما رواه أبو بكر في فضائل علي ) وباب ( ذكر ما رواه عمر في علي ) ، فلو كانا من رواة فضائل علي فهل يصح أن تكون الفضائل هي السبب الأساس في المنع ؟!

٤٦

مراحل المنع

وإليك الآن توضيح المراحل الثمان الفكرية التي مر بها منع تدوين الحديث :

١ ـ شيوع ظاهرة كثرة الحديث

لمّا كثرت اجتهادات الشيخين ـ ومن على نمطهما الفكريّ من الصحابة ـ وظهر التخالف بين أقوال المجتهدين وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان من البديهيّ أن يكثر التحديث عن النبيّ باعتباره أمراً ضروريّاً للوصول إلى الحكم الشرعيّ الصحيح بأنقى صوره ، ولكون تلك الاجتهادات قد تميّزت تميُّزاً واضحاً عن مسيرة التحديث بشكل عامّ ، حيث أَلِفَ الصحابة التحديث وكانت مسألة طبيعيّة عندهم ، فمن المحتمل ـ بعد هذا ـ أن يكون قول الخليفة الأوّل ( إنّكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً ) إشارة إلى تعدّد الاتّجاهات في عهده ، وتبنّي كلّ واحد من الصحابة وجهة نظر خاصّة ، وهذا هو ممّا يسبب توسيع رقعة الاختلاف بين

٤٧

المسلمين فيما بعد ، وعلى كل حال فالتحديث كان تيّاراً قويّاً في زمن أبي بكر ، واستحكم وجوده من بعد مقابل التيار الاجتهادي المنفلت ، وهذا ما ظهر على لسان الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب ، لقوله لهم : ( أكثرتم الحديث عن رسول الله ) ، وفي الطبقات الكبرى : ( إنَّ الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطّاب ) ، وفي تقييد العلم : ( إنَّ عمر بلغه أنّه قد ظهر في أيدي الناس كتب ) ... ، وما سواها الكثير.

٢ ـ منع أبي بكر من التحديث وإحراقه مدوّنته

بعد أن كثر التحديث عن رسول الله وصار مدّاً عارماً ، أمر الخليفة أبو بكر الصحابة بعدم التحديث عن النبيّ ، فقال : ( لا تحدّثوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله ... ) ثمّ أعقب ذلك بحرق مدوّنته الحديثيّة ، حينما قال لابنته عائشة : ( أي بُنيّة ! هلمّي الأحاديث التي عندكِ ) فلمّا جاءته بها ( دعا بنار فحرقها ) إلى آخر الخبر.

٣ ـ امر عمر الصحابة بالإقلال من الحديث

نظراً لاستمرار ظاهرة التحديث والإكثار منه ـ على عهد الخليفة

٤٨

عمر بن الخطّاب ـ وعدم انصياع المحدّثين لما كان يتوخّاه أبو بكر ، راح الخليفة عمر يواصل سيرة أبي بكر بإلحاح أكثر وإصرار متزايد ، فشايع وفد الصحابة إلى الكوفة ـ إلى موضع صرار قرب المدينة ـ لأجل أن يقول لهم ( أقلّوا الرواية عن رول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا شريككم ) ، وقوله ( أقلّوا الرواية عن رسول الله إلاّ فيما يعمل به ) أو (كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله ظاهراً ) و ...

٤ ـ جمع عمر مدوّنات الصحابة وإحراقها

إنَّ النهي عن التحديث وإحراق الخليفة الأوّل لمدوّنته لم يُقابَلْ ـ من قِبَلِ الصحابة ـ بما يسرّ الشيخين ، فقد بقيت هناك مدوّنات عند كثير من الصحابة ، ومع وجود المدوّنات والمدوّنين لا يتأتّى للخليفة ما يريده ، فكان أن اتّخذ عمر بن الخطّاب خطوة جمع فيها المدوّنات عِبْرَ قوله لهم : ( فلا يبقيّن أحدٌ عنده كتاباً إلاّ أتاني به ) وقد كانوا يظنّون أنّه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، لكنّهم فوجئوا بإحراقه لها لقول الراوي : ( فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار ).

وقد كان هذا الإحراق بسبب كون النصوص المدوّنة بمنزلة الوثائق الرسميّة ـ لتخطئة الخليفة ـ بِيَدِ الصحابة ، والخليفة لا يريد أن

٤٩

تبقى هذه الوثائق بيدهم لئلاّ تكون عليه أُمور لا يَحْمَدُ عقباها.

ولأنَّ المدوَّن المكتوب في الصدر الأوّل وبقلم صحابيّ له من القيمة ما يجعله قادراً على نقض رأي الخليفة ، بخلاف التحديث إذ يمكن معارضة الحديث بحديث آخر يوضع في الآن وعلى البديهة ، أمّا المدوّنة فلا يمكن رسم بديلها على البديهة ، ولأجله نراهم يسمحون بالتحديث ويمنعون التدوين !

واحتمل بعض الكتّاب أن يكون السماح بالتحديث والمنع من التدوين جاء لاعتقاد فرقة من اليهود بالكتابة ؛ خلافاً لأخرى داعية إلى الحفظ.

وبما أنَّ كعب الأحبار ووهب بن منبّه كانا ممّن يستشيرهم الخليفة عمر ، فمن المحتمل أن يكون قد تأثّر برأيهما في السماح بالتحديث والمنع من التدوين ، لأنّه كان يحتاج إلى تحديد بعض النقول عن رسول الله ، والتفكيك بينهما خير علاج للقضيّة ، فجاء عن عمر أنّه سأل كعب الأخبار عن الشعر فأجابه : بأنَّ قوماً من ولد إسماعيل أناجيلهم في صدورهم ينطقون بالحكمة (١) ، وفي آخر عن وهب أنّه قال : إنَّ موسى قال : يا ربّ ! إنّي أجد في التوراة أُمّة أناجيلهم في

__________________

(١) العمدة في معرفة صناعة الشعر لابن رشيق ١ : ٢٥.

٥٠

صدورهم يقرؤونها وكان مَنْ قَبْلَهُمْ يقرؤون في كتبهم نظراً ولا يحفظونها فاجعلهم أُمّتي ، قال : تلك أُمّة أحمد (١).

وجاء في ( الفكر الدينيّ الإسرائيليّ ) للدكتور حسن ظأظأ : ٧٩ عن التلمود حيطين ٦٠ ب ـ تمورا ـ ١٤ ب ( أنَّ الأمّة التي تروي مشافهة ليس لك الحقّ في إثباتها بالكتابة ) (٢).

٥ ـ حبسه بعض الصحابة وامره الجميع بترك التحديث والتدوين

مع كلّ الخطوات المتواصلة ، والتدابير المتضافرة ، بقي بعض كبار الصحابة يحدّث ويروي ما سمعه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غير عابئٍ برأي الخليفة.

وحيال هذه الحالة لم يقف عمر مكتوف الأيدي ، بل أصدر قرارات صارمة تمنع منعاً باتاً عن التحديث والتدوين ، وذلك في قوله

__________________

(١) تاريخ دمشق ٣ : ٣٩٥ ، البداية والنهاية ٦ : ٦٢ ، سبل الهدى والرشاد ١٠ : ٣٥٩.

(٢) انظر بحوث مع أهل السنّة والسلفيّة للروحانيّ : ٩٧ ، تاريخ التشريع الإسلاميّ للفضليّ : ٤٠ ، والصحيح من سيرة النبيّ للعامليّ.

٥١

في خطبة له أوردها ابن شبّة في منع عمر للصحابة من التحديث : ( إنَّ حديثكم هو شرّ الحديث ، وإنّ كلامكم هو شرّ الكلام ، من قام منكم فليقم بكتاب الله وإلاّ فليجلس ) (١) ، وفي مثل تهديداته لناقلي حديث رسول الله ، كما مرَّ في قضيّة عمّار بن ياسر وأبي موسى الأشعريّ وغيرهما وعباراته التهديديّة في المنع لهم.

واستكمالاً للمنع أقدم الخليفة عمر بن الخطّاب على حبس الصحابة المحدّثين في المدينة المنوّرة كي يكونوا تحت نظره وإشرافه ولئلاً يحدّثوا بما يخالف رأيه ، فجاء النصّ يقول :

إنّ عمر بن الخطّاب حبس بعض أصحاب النبيّ ... ، وفي آخر عن عبدالرحمن بن عوف قوله : ( ما مات عمر بن الخطّاب حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله من الآفاق ... وقال : أقيموا عندي ، لا والله لا تفارقوني ما عشتُ ، فما فارقوه حتّى مات ) وغيرها من النصوص المتقدّمة.

٦ ـ حصر العمل بكتاب الله

وكبديل عن الحديث النبويّ ، أو كتعليل للمنع ، طرح الخليفتان

__________________

(١) أخبار المدينة المنوّرة ٣ : ٨٠٠.

٥٢

مفهوم ( بيننا وبينكم كتاب الله ) و ( حسبنا كتاب الله ) و ( لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً ) لما فيه من تهرّب من التعبّد بنصوص السنّة وجعل العمل في دائرة أوسع وهو القرآن الكريم الذي يعتقد به الجميع ويقدّسونه.

٧ ـ سماح الخليفة عمر للصحابة بالاجتهاد والقياس

لمّا رأى الخليفة كثرة المسائل الواردة عليه ـ التي لا يرى نصوص شرعيّة فيها ـ رأى من الضرورة السماح بالاجتهاد لنفسه وللصحابة ، وليكون القياس والمصلحة وغيرهما مبانيَ أساسيّة في التشريع الإسلاميّ.

٨ ـ محاولة حصر الاجتهاد

ثمّ إنَّ الاجتهاد ـ بوسعته هذه ـ أخذ مأخذه عند الصحابة ، فتضاربت الآراء واختلفت ، وصار من الصعب ترجيح رأي على آخر ، وهذا هو الذي دعا الخليفة أن يصعد المنبر ويحذّر الصحابة من اختلافهم ، وهو أيضاً جعله يقول لمن جمعهم عنده : ( نحن أعلم منكم ، نأخذ عنكم ونردّ عليكم ) وغيرها.

٥٣

إنَّ التأكيد على سيرة الشيخين في الشورى ، وسماح عثمان ومعاوية في الاكتفاء بالأحاديث التي عُمِل بها في عهد عمر لا غير ، وقرار الخليفة عمر بن عبدالعزيز حصره التدوين ( بسنّة صاحبيه ، أمّا غيرهما فنرجئهما ) (١) وغيرها من النصوص آنفة الذكر.

تدلّ هذه المراحل على أنَّ آراءَها أصبحت سنّة يُعمَل بها ، وأنَّ اجتهادهما صار أصلاً ثالثاً في التشريع الإسلاميّ لم يكن يدّعيه ـ الشيخان ـ من قبل.

وبهذا يتبيّن أنّ ما ذهب إليه إسماعيل أدهم وتوفيق صدقي ورشيد رضا (٢) ومنكرو السنّة في الباكستان القائلين بلزوم الاكتفاء بالقرآن ، إنّما كان كلامهم نتيجة حتميّة لمنع الشيخين من كتابة وتدوين حديث رسول الله.

واستبان لك كذلك عدم صحّة ما علّل به الشيخان في المنع ، وما علّله به الآخرون من الكتّاب ، شيعةً وسنّة ، مستشرقين ومسلمين ،

__________________

(١) فعن حاجب بن خليفة البرجمي قال : شهدت عمر بن عبدالعزيز يخطب النّاس وهو خليفة فقال في خطبته : ألا إن ما سن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه وما سن سواهما فإنا نرجئه. حلية الأولياء ٥ : ٢٩٨ ، تاريخ الخلفاء ١ : ٢٤١.

(٢) انظر دراسات في الحديث النبويّ للدكتور الأعظميّ : ٣٢.

٥٤

ذلك لأنّ المنع جاء لظروف خاصّة طرأت على رموز الخلافة ولقناعات سابقة ودوافع شخصيّة كانت عند الخليفة عمر بن الخطّاب ، وعند أبي بكر قبله ، وعند عثمان والأمويين وو ... بعده.

٥٥
٥٦



السبب الثامن :

بيان ما توصلنا إليه

أما الآن فلنشرح ما نذهب إليه :

نحن نعلم بأن مكانة الخليفة كانت تستدعي امتلاكه قدرتين :

الأولى : العلم بالأحكام.

الثانية : قدرته السياسية لإدارة الأمور.

وهذا ما كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك ، حيث كان من وظائفه صلى‌الله‌عليه‌وآله تبيين الأحكام ، كما كان له إدارة أمور البلاد ، وبفرق واحد : أن رسول الله كان مشرّعاً ، أما الخليفة فيلزم عليه أن يكون محدِّثاً ، وحيث لم يعرف أحاديث رسول الله ، فقد واجه المشكلة مع الصحابة ، إذ كانوا يخطئونه المرة تلو الأخرى (١) بأحاديث الرسول وآيات الذكر الحكيم.

_________________

(١) اُنظر : منع تدوين الحديث : ١١٤ ـ ١٢٥.

٥٧

وإن تكرار هذه الحالة كانت تؤدي إلى التشكيك في قدراته العلمية ، ومنه التشكيك في صلاحيته للخلافة ، وفي المقابل تقوية الجناح المقابل له برجوع الناس إليهم.

فكان عليه أن يحدّد التشريع بنفسه ، فقام أولاً بسدّ باب التحديث عن رسول الله ، وجمع الصحابة عنده (١) وأمرهم بأن يأتوه بمدوناتهم (٢) فأحرقها بالنار ، ومعه شرّع الاجتهاد لنفسه وللصحابة ، ثم جاء ليحدّد التشريع بنفسه والخلفاء من بعده ، فقال للصحابة : أنا أعلم منكم آخذ منكم وأرد عليكم ، وجاء عنه أنه خطب واعترض على الصحابة لاختلافهم وقوله لهم : من أي فتياكم يصدر المسلمون.

نعم إن الخليفة حدّد الفتيا لنفسه ثم لكل أمير من بعده.

فعن أبي موسى الأشعري أنّه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك ببعض فتياك ، فانك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك حتى يفتيه ، فسألته ، فقال عمر : قد علمت أن النبي قد فعله وأصحابه ولكنّي كرهت أن يظلوا معرّسين بهن في الاراك ثم

__________________

(١) اُنظر : تذكرة الحفاظ ١ / ٧ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ١١٠ ، مختصر تاريخ دمشق ١٧ / ١٠١ ، حجية السنة : ٣٩٥.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ١ / ١٤٠ ، حجية السنة : ٣٩٥.

٥٨

يروحون في الحج تقطر رؤوسهم (١).

وقد أنكر عمر بن الخطاب على البعض لافتائه من عند نفسه بقوله : كيف تفتي الناس ولست أميراً ؟ وَلِيَ حارّها من وَلِيَ قارّها (٢).

إذن ، الحديث كان هو السبب الأول للوقوف أمام الخليفة ، والمحدثون كانوا هم ممن يزيدون في الطين بلة والاختلاف شدة ـ حسب نظر الخليفة ـ ولأجل هذا ترى الخليفة يصرح بجرمهم ـ حين أراد حبسهم عنده في المدينة ـ بأنهم أكثروا الحديث عن رسول الله أو أفشوا الحديث عن رسول الله ، فاكثار الحديث وإفشائه يساوي التوعية عند الناس ، والخليفة لا يريد أن يعرف الناس أحاديث رسول الله كي يقفوا بوجهه ويخطئوه فيما يقوله ، لأن ذلك سيؤثر على قوام خلافته ، أما تناقل الأحاديث التي يعرفها الخليفة فلا خوف في تناقلها.

بلى ، إن الناس كانوا يريدون الوقوف على سنة رسول الله لا سنة الشيخين ، والخليفة لا يعرفها جميعاً ، فبدا يواجه مشكلة جديدة

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ / ٨٩٦ / ١٥٧ ، مسند أحمد ١ / ٥٠ ، سنن النسائي ٥ / ١٥٣ ، السنن الكبرى ٥ / ٢٠ ، تيسير الوصول ١ / ٣٤٠ ، سنن ابن ماجة ٣ : ٩٩٢.

(٢) سنن الدارمي ١ / ٦١ ، الطبقات الكبرى لابن سعد ٦ / ١٧٩ و ٢٥٨ ، المصنف للصنعاني ٨ / ٣٠١ و ١١ / ٣٢٨ ، جامع بيان العلم ٢ / ١٧٥ و ٢٠٣ و ١٩٤ و ١٧٤ ، كنز العمال ١ / ١٨٥ و ١٨٩.

٥٩

ينبغي أن يضع لها الحل ، لأن المحدثين من الصحابة وبنقلهم الأحاديث عن رسول الله سيوقفون الناس على وهن رأي الخليفة وبُعده عن الشريعة ، وهذا سيسبب التشكيك في خلافته.

ومن أجل هذا رأى أن لا محيص من أن يمنع من التحديث أولاً ثم يشرع الاجتهاد والرأي ، كي يكون أصلاً ثالثاً في التشريع الإسلامي (١) ، وقد اتبع

__________________

(١) جاء في كنز العمال ٢ / ٣٣٣ ح ٤١٦٧ : عن إبراهيم التيمي أنّه قال : خلا عمر بن الخطاب ذات يوم فجعل يحدث نفسه ، فأرسل إلى ابن عباس فقال : كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد ونبيها واحد وقبلتها واحدة ؟ فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين إنّا أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيما نزل ، وأنّه يكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن لا يعرفون فيم نزل ، فيكون لكل قوم رأي ، فإذا كان لكل قوم رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا ، فزجره عمر ( انتهره ) وانصرف ابن عباس ، ثم دعاه بعد ، فعرف الذي قال ثم قال : أيها أعد.

وحكى القاضي نعمان المغربي في شرح الأخبار ( / ٩٠ ) : أن سائلاً سأل الصادق فقال : يا ابن رسول الله من أين اختلفت هذه الأمة فيما اختلفت فيه من القضايا والأحكام ( من الحلال والحرام ) ودينهم واحد ونبيهم واحد ؟ فقال عليه‌السلام : هل علمت أنهم اختلفوا في ذلك أيام حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال : لا ، وكيف يختلفون وهم يردّون إليه ما جهلوه واختلفوا منه ؟ فقال : وكذلك ، لو أقاموا فيه بعده من أمرهم بالأخذ عنه لم يختلفوا ، ولكنهم أقاموا فيه من لم يعرف كل ما ورد عليه فردوه إلى الصحابة يسألونهم عنه فاختلفوا في الجواب فكان سبب الاختلاف ، ولو كان الجواب عن واحد والقصد في

٦٠