منع تدوين الحديث

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-635-4
الصفحات: ٧٩
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة



السبب الثاني :

ما نقل عن الخليفة عمر بن الخطاب

وينحصر تعليل الخليفة بأمرين :

الأول : الخوف من ترك القرآن والاشتغال بغيره.

الثاني : الخوف من اختلاط الحديث بالقرآن.

أما الأول ، فبعضه صحيح وبعضه باطل ، لأن ترك القرآن حرام ، وكذا الاشتغال بسواه المؤدي إلى تركه ، فهذا صحيح.

أما اعتبار الاشتغال هو مما يؤديّ إلى ترك القرآن فهذا باطل ، لأنا لا يمكننا فهم القرآن إلاّ بالسنة ، لأن رسول الله هو المكلّف بتبيين الأحكام للناس ، لقوله تعالى : ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ).

نعم الاشتغال بسواه ، كالأخذ عن التوراة والانجيل المحرفتين هو المنهي عنه ، وقد نهى رسول الله عمر بن الخطاب عن ذلك.

٢١

فجاء في النهاية لابن الأثير : أن عمر بن الخطاب قال للنبي : إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا ! أفترى أن نكتبها ؟

فقال النبي : « أمتهوّكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى ؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية » (١).

وفي الاسماء المبهمة ومجمع الزوائد وغيره : أن عمر جاء بجوامع من التوراة إلى النبي فقال : مررت على أخٍ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة أفلا أعرض عليك ؟

فتغير وجه رسول الله ، فقال الأنصاري : أما ترى ما بوجه رسول الله ؟ قال عمر : رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً ، فذهب ما بوجه رسول الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « والذي نفسي بيده لو أن موسى أصبح فيكم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم أنتم حظي من الأمم وأنا حظكم في النبيين » (٢).

وهناك نصوص أخرى مختلفة في المتن والسند تدل على ما قلناه ، يمكن للباحث أن يراجعها.

_________________

(١) النهاية لابن الأثير ٥ / ٢٨٢ ، لسان العرب ١٢ / ٤٠٠.

(٢) مجمع الزوائد ١ / ١٧٤ ، ونحوه المصنف الرزاق ١٠ / ٣١٣ رقم ١٩٢١٣ ، وتقييد العلم : ٥٢.

٢٢

مما يحتمل في الأمر أم يكون الخليفة قد حدثت في نفسه هزة عنيفة من جراء هذا النهي ، فمثله مثل أسامة بن زيد الذي قتل امرءاً مسلماً ظناً منه أنه أسلم خوفاً من السيف ، وحين نزلت الآية : ( وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا ) (١) خاف أسامة بعد ذلك وصار وجلاً وامتنع من الخروج والقتال مع علي بن أبي طالب ضد الناكثين والقاسطين والمارقين ، متذرعاً أنّه لا يقتل المسلمين ، متناسياً أوامر الباري في لزوم مقاتلة الباغين والمارقين و ...

ويؤيد ما احتملناه هو ما جاء في تقييد العلم في خبر خالد بن عرفطة : أن رجلاً من عبد قيس مسكنه السوس جاء إلى عمر بن الخطاب ، فسأله عمر : أنت فلان بن فلان العبدي ؟

قال : نعم.

قال : أنت النازل بالسوس ؟

قال : نعم.

فضربه ثم تلا عليه الآيات الثلاث الأول من سورة يوسف.

_________________

(١) النساء : ٩٤.

وانظر تفسير الفخرالرازي ١١ / ٣ ، والكشاف ١ / ٥٢٢ ، وتفسير ابن كثير ١ / ٨٥١.

٢٣

فقال : لم ضربتني ؟

فقال : ألم تكن الذي دوّن كتاب دانيال ؟

قال : نعم.

قال : إذهب وامحه بالحميم والصوف الأبيض ثم لا تقرأه ولا تقريه أحداً من الناس ، ولو سمعت بذلك لأنهكتك عقوبة.

ثم حكى له حكايته مع رسول الله وكتابته جوامع من التوراة وغضب الرسول عليه (١).

فمما يحتمل في الأمر أن يكون الخليفة قد تأثر بهذا النهي واستفاد منه لاحقاً لتطبيق ما يهدف إليه.

مع الإشارة إلى أن عمر بن الخطاب كان أول من أطلق لفظ ( المشناة ) على السنة النبوية ، وأنتم تعلمون أن اليهود كانت لهم توراة ومشناة ، فالتوراة هو الكتاب المكتوب عندهم ، أما المشناة فهو كلمات وأقوال الأخبار والرهبان.

فمما يمكن احتماله هنا كذلك هو أن الخليفة قد تصور ـ والعياذ بالله ـ أن أقوال الرسول هي ككلمات الرهبان والأحبار ـ المسببة لانحراف اليهود ـ فأراد أن يبعد الأمة عن هذا الانحراف بنهيه تدوين

__________________

(١) تقييد العلم : ٥٢.

٢٤

كلام رسول الله ـ العياذ بالله ـ.

وأنت تعرف أن هناك فرق واضح بين الأمرين ، فكلام الرسول ليس يشبه كلام الرهبان في شيء ، فكلام الرسول هو المبين لأحكام الله ، أما كلام الرهبان وموقفهم فهم الذين حرفوا كلام الله.

أما التعليل الثاني ، وهو الخوف من الاختلاط بالقرآن ، فهو الآخر باطل ، لأن الأسلوب القرآني يختلف عن الأسلوب الحديثي ، لأن الحديث ما هو إلاّ توضيح وتفسير لكلام الله وما أراده الوحي ، ولم يلحظ فيه الجانب البلاغي بقدر ما لوحظ الجانب التفسيري وأُريد منه ، فحمل أحد الأمرين على الآخر باطل ، لأن القرآن جاء على نحو الاعجاز والبلاغة ، وقد عرفه مشركوا قريش حتى قالوا عنه : ( سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ) (١).

ولأجل هذا نرى إمكان تصور الكذب على رسول الله وعدم إمكان ذلك في القرآن ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار ) (٢) أو : ( ستكثر القالة عليّ ) ، أما إمكان تصوّر ذلك في القرآن فمحال ، لقوله تعالى : ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن

__________________

(١) القمر : ٢.

(٢) مسند أحمد ١ / ١٦٥ و ٢ / ١٩٥ و ٣ / ٣٩.

٢٥

دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (١) ، وفي آخر : ( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٢).

إذاً لا يمكن افتراض الكذب في القرآن ، لأنّه جاء على سبيل التحدي والاعجاز ، لقوله تعالى : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (٣) ، هذا أولاً.

وثانيا : أن هذا القول يستلزم منه اتهام الصحابة بفقدانهم القدرة على التمييز بين كلام الله وكلام رسوله.

ولو احتملنا إمكان حصول التباسه على البعض منهم لكان على الخليفة أن يطلب شاهداً آخر كي يثبت أنها من القرآن.

وعليه ، فهذا التعليل غير مقنع ، لامكان علاجه بالتثبت من الآية ، ولا يحتاج إلى تعطيل السنة النبوية من أجله ، ولأجله لم نر الخليفة الأول يتخذ هذا التعليل في المنع ، بل ذهب إلى تعليل آخر ، لكونه واهياً حسب نظره.

_________________

(١) البقرة : ٢٣.

(٢) هود : ١٣.

(٣) الاسراء : ٨٨.

٢٦

وثالثا : أن المسلمين كانوا قد عرفوا القرآن وحفظوه ، فكانوا لا يمسونه بدون طهارة ، لقوله تعالى : ( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (١) ، وكانوا يتهادون آياته ويرتلونها آناء الليل وأطراف النهار.

فلو كانت عنايتهم بالقرآن إلى هذا الحد ، فهل يمكن التخوف عليه واحتمال اختلاطه بالسنة ؟!

والآن لنطرح سؤالاً طالما سمعناه من الأعلام في كلماتهم وأقوالهم ، إذ قال ابن حزم وغيره : ( وهذا ما لا يحل لمسلم أن يظنه بمن دون عمر من عامة المسلمين فكيف يعمر ... ).

واستبعد آخرون هذا الأمر كذلك وضعفوا تلك الأخبار ، لعدم إمكان تطابقها مع مقام الخليفة.

والآن لنبحث عن إمكان تطابق هذا الخبر معه أولا ، وهل أن منع تدوين الحديث هو نبوي أم جاء من قبل الخلفاء لظروف مرّوا بها ؟! وأن هذا المنع يتجانس مع أيّ الاتجاهين ؟!

للاجابة عن هذا السؤال وغيره لابد من تقديم مقدمة ، وهي : أنا نعلم بأن البحث الاسنادي لا يكفي وحده في الدراسات ، بل يلزم دراسة المتن معه كذلك ، لأن الأسانيد قد خضعت للاهواء ، فترى ابن

__________________

(١) الواقعة : ٧٩.

٢٧

معين وأحمد بن صالح مثلاً يجرحون الإمام الشافعي ، وفي تاريخ بغداد ج ١٣ اسم أكثر من ٣٥ شخصاً طعنوا في الإمام أبي حنيفة ، وفي المجلد الأول منه أسماء الذين طعنوا في الإمام مالك ، وقد جرح الحافظ العراقي ( شيخ ابن حجر ) في الإمام أحمد بن حنبل ، وقد طعن البخاري والنسائي وغيرهم كذلك.

وقال ابن خلدون في مقدمته : ( وكثيراً ما وقع للمورخين والمفسرين وأئمّة النقل من المغالِط في الحكايات والوقائع ، لاعتمادهم فيها على مرد النقل غثاً أو سميناً ، لم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار ، فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ) (١).

وقال الشريف المرتضى من علماء الإمامية في جواب ما روي في الكافي عن الصادق في قدرة الله : ( اعلم أنه لا يجب الاقرار بما تضمنه الروايات ، فان الحديث المروي في كتب الشيعة وكتب جميع مخالفينا يتضمن ضروب الخطأ وصنوف الباطل من محال لا يجوز أن يتصور ومن باطل قد دل الدليل على فساده كالتشبيه و ... ).

_________________

(١) مقدمة ابن خلدون : ١٦ / المقدمة.

٢٨

فنحن لو أردنا التوقف وقبول ما صحت روايته سند للزمنا القبول بحديث أبي هريرة عن خلقة العالم والمخالف لصريح القرآن في سبع آيات من سبع سور منه بأنّه عزّوجلّ خلق العالم في ستة أيام ، إذ جاء عن أبي هريرة عن رسول الله أنّه قال : « خلق الله التربة يوم السبت وخلق منها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين » ، وأخذ يعدد خلق الأشياء في سبعة أيام.

وعليه ، فلا يمكن اعتبار السند هو الضابط الأول والأخير لمعرفة الضعيف والصحيح من الأخبار ، بل يجب عرض الخبر على الأصول الثابتة والأخبار المتواترة ولحاظ تطابق ذلك معها أولا.

وبعد هذه المقدمة نأتي لتوضيح وإجابة ما طرحناه ، وهل أن المنع هو نبوي أم جاء من قبل الشيخين ، وأن ذلك يتوافق مع أي الاتجاهين ؟

الجواب :

نحن نعلم أن الإسلام يمدح العلم ويدعو إلى التفقه في الدين ، وأنّه قد بدأ ب‍ : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) (١) وختم ب‍ : « ائتوني

__________________

(١) العلق : ١.

٢٩

بالدواة والكتف » (١) ، أي أنّه كان يدعو إلى التحديث والتدوين.

وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن العزيز داعية إلى الكتابة والقراءة ، كقوله تعالى : ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) (٢) وقوله : ( فَاكْتُبُوهُ ) (٣) أو : ( لَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ) (٤) ، وغيرها.

وقد أحصى الشيخ محمد عزت دروز الآيات التي تتعلّق بالكتابة وأدواتها من قلم وسجل وصحف فوجدها ثلاثمائة آية ، كما أحصى كلمات القراءة ومشتقاتها فوجدها قد وردت تسعين مرة.

وأن السنة كانت قد دعت إلى ذلك ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من كتب عني علماً » ، و : « اكتبوا هذا العلم » ، و : « استعن على حفظك بيمناك » ، و : « قيدوا » ، و : « اكتب ولا حرج » ، وغيرها.

وقد جرت السنة العملية عند رسول الله على ذلك ، إذ كان له كتّاب يكتبون له الوحي ويراسل بواسطتهم الملوك والروساء.

_________________

(١) انظر : صحيح البخاري كتاب العلم ١ / ٣٩ وكتاب المغازي باب مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ٦ / ١١ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ / ٢١ ، مسند أحمد ١ / ٣٣٦ ، المصنف لعبدالرزاق ٥ / ٤٣٨.

(٢) القلم : ١.

(٣) البقرة : ٢٨٢.

(٤) البقرة : ٢٨٢.

٣٠

وجاء عنه أنه أمر بكتابة الأحكام التي قالها يوم فتح مكة لأبي شاد اليمني بطلب منه ، وأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بكتابة الفرائض والأحكام فدوّنت وكانت عند أبي بكر بن عمرو بن حزم.

وقد جعل رسول الله عبدالله بن سعيد بن العاص يعلم الراغبين بالكتابة والخط في مسجده صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وكان قد جعل فداء أسرى بدر تعليم كل واحد منهم عشرة من المسلمين الكتابة والخط.

وروى حذيفة عن رسول الله أنه قال له : « اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام » ، فكتبنا له ألفاً وخمسمائة رجل.

فلو كان الإسلام ينهى عن الكتابة فما هذه المواقف عن الله ورسوله فيها ؟

ولو صح النهي عن تدوين الحديث وكان المنع نبوياً فلم دوّن الخليفة أبو بكر أحاديثه الخمسمائة ؟!

ولم جمع عمر الصحابة عنده واستشارهم ، وكيف بهم يشيرون عليه بالكتابة ؟!

ألم تدل كل هذه المواقف عن تخلف هؤلاء عن أوامر الله ورسوله ! ولو صح النهي عن رسول الله فلم لا يجعل الشيخان هذا

٣١

دليلاً في المنع ؟ فترى كل واحد منهما يأتي بتعليل يختلف عن الآخر ، ألم يعلم الشيخان وغيرهما أن النبي كان يبعث أعيان الصحابة معلمين ومنذرين وكان يأمر بعضهم بالكتابة ؟

نعم ، إن عرب الجزيرة كانوا بعيدين عن الكتابة ، وصرح سبحانه بذلك بقوله : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ ) (١) ، وجاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا » ، وقال ابن قتيبة : كان الصحابة أميين لا يكتب منهم إلاّ الواحد والاثنان ، وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي.

وجاء في المعجم الصغير ومجمع الزوائد : أن رسول الله أرسل إلى قبيلة بكر بن وائل برسالة فلم يجدوا فيها قارئاً ، فأرسلوه إلى رجل من بني صبعة ليقرأها ، فهم يسمون بني الكاتب لوجود من كان قد قرأ الكتاب عندهم.

فمما يحتمل في الأمر أن يكون الخليفة قد استغل هذا الوضع الجاهلي عند العرب لتطبيق نهيه عن الحديث لاحقاً ، لأن الإسلام سعى لرفع مستوى العلم ودعا إلى الكتابة والتحديث ، وقد عرفت أن عرب الجزيرة كانوا لا يعرفون الكتابة ، فمن المحتمل القوي أن يكون

__________________

(١) الجمعة : ٢.

٣٢

الخليفة قد استغل هذا الأمر لتطبيق ما يريده لاحقاً.

وقد عرفت مواقف عمر في عهد رسول الله ثم من بعده ، ونهيه عن الكتاب والتحديث ، كنهيه رسول الله من كتابة الكتاب الذي أراده حين مرضه ، وتمزيقه لكتاب الخليفة الأول والذي أعطاه للمؤلفة قلوبهم ، وحرقه لمدونات الصحابة الذين أتوه بكتبهم كي يرى أعدلها وأقومها على طلبه.

ولو لم يكن الشيخان هما الناهين عن الكتابة فمن هو الناهي إذاً ؟ ولماذا نرى الخلفاء يمنعون من الكتابة لاحقاً ؟ حتى استقر أمر التدوين في عهد عمر بن عبدالعزيز ؟

هل تطبيقاً لأمر النبي أم دفاعاً عن قرار الخليفة ؟!

فنحن حينما نقف على وحدة التعليل عند الخليفة وما جاء عن الصحابة في النهي عن الحديث نعرف أن هناك اتجاه يدعم رأي الخليفة.

ومن أراد المزيد فليراجع كتابنا ( منع تدوين الحديث ) و ( السنة بعد الرسول ).

٣٣
٣٤



السبب الثالث :

ما ذهب إليه ابن قتيبة وابن حجر

وقد أرجع هؤلاء سبب إهمال الحديث إلى قلّة الكتّاب وندرة أدوات الكتابة عند العرب لا غير (١).

وقد أجاب الأعلام ـ كالشيخ عبدالخالق عبدالغني في حجيّة السنة (٢) ، وصبحي الصالح في علوم الحديث (٣) ، والدكتور مصطفى الأعظمي في كتابه دراسات في الحديث النبوي (٤) ، والعجاج الخطيب في السنة قبل التدوين (٥) ، وغيرهم ـ عن هذه الشبهة ، وملخّص أجوبتهم هو :

أن جملة « لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن » بنفسها دالة على

__________________

(١) تأويل مختلف الحديث : ٣٦٦ ، هدى الساري : ٤.

(٢) حجيّة السنة : ٤٣٠ و ٤٤٤.

(٣) علوم الحديث ومصطلحه : ٦.

(٤) دراسات في الحديث النبوي : ٧٣.

(٥) السنة قبل التدوين : ٣٠١.

٣٥

وجود المؤهل للكتابة عند العرب ، بل وجود الكتبة عندهم ، إذ لا يعقل أن يخاطب الرسول جمعاً ليس لهم قدرة الكتابة بقوله : « لا تكتبوا ».

وقد ثبت في التاريخ وجود كتّاب ، كزيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن عمرو بن العاص وأبي بكر بن عمرو بن حزم وغيرهم ، ونحن قد أوصلنا عدد هؤلاء الكتبة في كتابنا وضوء النبي المجلد الثاني إلى ٥٤ شخصاً ، وعليه فالكتابة كانت موجودة عند العرب ، ويضاف إليه وجود نيف وثلاثين كاتباً ـ وفي آخر أربعين كاتباً ـ للرسول يحسنون الكتابة ، وقد كتبوا إلى الروساء والملوك ، وأن الإسلام كان يدعو إلى الكتابة وتعلّمها.

إذن ، الكتابة كانت في حالة ازدياد ، فلا يمكن عزو إهمال الحديث إلى قلّة الكتّاب ، لأن الكتبة كانوا في حالة ازدياد لا نقصان !

أما ندر أدوات الكتابة ، فهو الآخر لم يكن بالشيء القليل ، فالذين كتبوا ودوّنوا القرآن كان يمكنهم أن يكتبوا الحديث في تلك الأدوات التي كتبوا فيها القرآن ، كالعسب والقتاب والأكتاف وقطع الأديم وما شابه ذلك.

وبهذا فقد عرفنا عدم إمكان قبول تعليل ابن قتيبة وابن حجر.

٣٦

ونحن نترك الكلام عن الأسباب الأخرى (١) من أجل ضيق

__________________

(١) لما قرّر المركز طبع هذه المحاضرة رأينا من الضروري أن نطلب من سماحة السيّد الاشارة إلى الأسباب الأخرى التي تركها لضيق الوقت مختصراً ، ليتكامل البحث ولا يحس المطالع بالاخلال فيه ، فقال :

السبب الرابع :

ما ذهبل إليه السمعاني والقاضي عياض

قال السمعاني : كانوا يكرهون الكتابة أيضاً ، لكي لا يعتمد العالم على الكتاب ، بل يحفظه ... فلما طالت الأسانيد وقصرت الهمم رخصت الكتابة.

وقال مثله القاضي عياض في ( الالماغ في أصول الرواية وتقييد السماع ).

أما الشيخ أبو زهو والشيخ عبدالخالق عبدالغني فقد أرجعا الأمر ونسباه إلى رسول الله وقالا : إن رسول الله ـ وحفاظاً على ملكة الحفظ عند العرب ـ نهاهم عن الكتابة ، لأنّهم لو كتبوا لاتكلوا على المكتوب وأهملوا الحفظ فتضيع ملكاتهم بمرور الزمن [ الحديث والمحدّثون : ١٢٣ ، حجيّة السنة : ٤٢٨ ].

وهذا الكلام باطل صغرىً وكبرىً :

أما الصغرى ، فلوجود عدة من الصحابة لا يملكون هذه المقدرة ، كما جاء عن المتشددين في الحديث الذين لا يرتضون التحديث ، أمثال سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن مسعود وغيرهما ، خوفاً من أن يزيدوا أو ينقصوا.

وجاء عن زيد قوله : كبرنا ونسينا والحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شديد ، وهذه النصوص تؤكد لنا سقم المدعى.

ويضاف إليه أنّه جاء عن عمر أنّه حفظ سورة البقرة في اثني عشر عاماً ولما

٣٧

_________________

حفظها نحر جزورا [ الدرّ المنثور ١ / ٢١ ، سيرة عمر لابن الوزي : ١٦٥ ] ، وهذا لا يتفق مع ما قيل عن ملكة الحفظ عند العربي ، ولو صح هذا لما أتىٰ أصحاب الجرح والتعديل بأسماء الذين خلطوا من الصحابة.

وقال الأستاذ يوسف العشي : فذاكرة أكثر الناس أضعف من أن تتناول مادة العلم بأجمعه فتحفظها من الضياع وتقيها من الشرود ، ومهما قويت عند أناس فلابد أن تهون عند آخرين فتخونهم وتضعف معارفهم [ مقدمة تقييد العلم : ٨ ].

إذن ، ما قيل عن حافظة العربي لا يتفق مع هذه الأقوال ، وخصوصاً حينما نقف على كلام الإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة وعند إشارته إلى أسباب اختلاف النقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « ورجل سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يحمله على وجهه ووهم فيه ولم يتعمد كذباً ... ».

وأمّا الكُبرى ، فالملائكة هم أكمل من بني الإنسان وأقدر منه على الحفظ ، فَلِمَ يكلفهم عزّوجلّ بالكتابة ويقول : ( كِرَامًا كَاتِبِينَ ) [ الانفطار : ١١ ] ؟ ولو كان للحفظ هذه المنزلة فلماذا لا نجد معشار الآيات التي نزلت في الكتابة قد نزلت في الحفظ ؟ ولو كان الحفظ واجباً لكانت الكتابة منهياً عنها ومحرمة ، فلماذا نراهم يدوّنون القرآن ولا يدوّنون الحديث ؟ ولو صح هذا التعليل فلماذا يكون حكراً على العرب ؟ وكيف يفعل الفرس والأتراك لو أرادوا التدوين ؟ ألم تكن الشريعة عامة للجميع ؟ وماذا نفعل بقوة الحافظة لو مات الصحابي الحافظ إن لم نسجل كلامه ؟! ألا يعني هذا أن منع التدوين بدافع

٣٨

_________________

المحافظة على الحديث أشبه شيء بالتناقص ؟ وكيف يتصور أن يحث المعلم تلاميذه على العلم ويحرضهم على صون محفوظاتهم من النسيان ثم يوصيهم ألاّ يدوّنونها ولا يتدارسونها ؟ أليس صون العلم والمحافظة عليه بالكتابة والتدوين أولى وأجدى من حفظه واستظهاره ؟ ولو كان ما كتب قر وما حفظ فر فلم التأكيد على حفظ الحديث وتجويزه من قبل الحفاظ والقول أن منع الكتابة جاء للمحافظة على الذاكرة ؟!

السبب الخامس :

ما ذهب إليه الخطيب البغدادي وابن عبدالبرّ

وملخصه هو أن الخليفة فعل ذلك احتياطاً للدين وخوفاً من أن يعملوا بالأخبار على ظاهرها والحديث فيه المجمل والمفصل ، فخشي عمر أن يحمل الحديث على غير وجهه أو يؤخذ بظاهر لفظه [ شرف أصحاب الحديث : ٩٧ ـ ٩٨ ، السنة قبل التدوين : ١٠٦ ].

ويجاب عليه :

هل الخليفة أحرص من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على دين الله ؟ وما معنى خوفه واحتياطه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « حدِّث ولا حرج » ، وفي آخر : « اكتبوا ولا حرج » ؟

فكيف يحتاط الخليفة ولا يحتاط أبو ذر الغفاري الذي قال عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما أظلت الخضراء ولا أقلّت الغبراء عن ذي لهجة أصدق من أبي ذر » ؟ وكيف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرسل الصحابة إلى القبائل والمدن المبشرين والمنذرين

٣٩

_________________

والخليفة يجمع الصحابة من أمثال أبي ذر وابن مسعود وأبو مسعود عنده وينهاهم من التحديث ؟

وكيف نرفع هذه الازدواجية ؟ وهل جاء هذا حرصا على الإسلام والمسلمين ؟

وما معنىٰ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « رحم الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فبلغها عني فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه » ؟ ألم يعنِ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سمح بنقل قوله على ما هو عليه إلى من هو أفقه منه ؟

ولو لاحظت سيرة الخليفة لرأيته لا يحتاط ، فقد أخذ برداء رسول الله حين صلاته على المنافق ثم ندم ، واقترح على الرسول في الحكم بن كيسان أن يضرب عنقه لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أطال في وعظه ولم يفد ثم ندم لاسلام الحكم وحسن إسلامه وشهادته في آخر الأمر [ طبقات ابن سعد ٤ / ١٣٧ ].

ولاحتياط يخالف التسرع والاجتهاد ، وقد ثبت عن الخليفة أنّه كان يجتهد ، والعجيب أنّهم يدعون أن المنع جاء احتياطاً للدين ، ويفوت عليهم أن منع المنع هو الاحتياط ، لأن المنع معناه الضياع ، أما التحديث وإن كان عرضة للخطأ والتصحيف لكنه أعود على المسلمين من بقائهم في الجهل وعدم المعرفة.

ولو كان فعل عمر هو الاحتياط في الدين فلم لم يعمل بمشورة الصحابة حينما ذهبوا إلى تدوين السنة ؟

نعم انفرد برأيه وأحرق المدونات ومنع من التدوين وهو عين الاجتهاد ؟!

٤٠