كتاب السرائر - ج ١

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٧٦

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : وأمّا المصدود ، فهو الذي يصدّه العدو عن الدخول إلى مكة ، أو الوقوف بالموقفين ، فإذا كان ذلك ، ذبح هديه في المكان الذي صد فيه ، سواء كان في الحرم ، أو خارجه ، لأنّ الرسول عليه‌السلام صدّه المشركون بالحديبية ، والحديبية اسم بئر ، وهي خارج الحرم ، يقال : الحديبية بالتخفيف والتثقيل ، وسألت ابن العصّار (١) اللغوي ، فقال : أهل اللغة يقولونها بالتخفيف ، وأصحاب الحديث يقولونها بالتشديد ، وخطّه عندي بذلك ، وكان إمام اللغة ببغداد ، ولا ينتظر في إحلاله ، بلوغ الهدي محله ، ولا يراعي زمانا ، ولا مكانا في إجلاله ، فإذا كان قد ساق هديا ، ذبحه ، وإن كان لم يسق هديا ، فان كان اشترط في إحرامه ، إن عرض له عارض يحلّه (٢). حيث حبسه ، فليحل ، ولا هدي عليه ، وإن لم يشترط ، فلا بدّ من الهدي ، وبعضهم يخص وجوب الهدي بالمحصور ، لا بالمصدود ، وهو الأظهر ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، ولقوله تعالى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) (٣) أراد به المرض ، لأنّه يقال أحصره المرض ، وحصره العدو ، ويحل من كلّ شي‌ء أحرم منه ، من النساء ، وغيره ، أعني المصدود بالعدوّ.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : والمحصور إن كان قد أحصر ، وقد أحرم بالحج قارنا ، فليس له أن يحج في المستقبل متمتعا ، بل يدخل بمثل ما خرج منه (٤).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : وليس على ما قاله رحمه‌الله دليل من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، بل الأصل براءة الذمة ، وبما شاء يحرم في المستقبل.

وقال رحمه‌الله في النهاية : ومن أراد أن يبعث بهدي تطوّعا ، فليبعثه ، ويواعد أصحابه يوما بعينه ، ثم ليجتنب جميع ما يجتنبه المحرم ، من الثياب ، والنساء ، والطيب ، وغيره ، إلّا أنّه لا يلبّي ، فإن فعل شيئا ممّا يحرم عليه ، كانت

__________________

(١) في ط : العصار الفوهي

(٢) ج : فحلّه

(٣) البقرة : ١٩٦

(٤) النهاية : كتاب الحج ، باب الحصور والمصدور.

٦٤١

عليه الكفارة ، كما يجب على المحرم سواء ، فإذا كان اليوم الذي واعدهم ، أحلّ. وإن بعث بالهدي من أفق من الآفاق ، يواعدهم يوما بعينه ، بإشعاره وتقليده ، فإذا كان ذلك اليوم اجتنب ما يجتنبه المحرم ، إلى أن يبلغ الهدي محلّه ، ثمّ إنّه أحلّ من كلّ شي‌ء أحرم منه (١).

قال محمّد بن إدريس : هذا غير واضح ، وهذه أخبار آحاد لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، وهذه أمور شرعيّة ، يحتاج مثبتها ومدعيها إلى أدلّة شرعية ، ولا دلالة له من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، فأصحابنا لا يوردون هذا في كتبهم ، ولا يودعونه في تصانيفهم ، وانّما أورده ، شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في كتابه النهاية ، إيرادا ، لا اعتقادا ، لأنّ الكتاب المذكور ، كتاب خبر ، لا كتاب بحث ونظر ، كثيرا ما يورد فيه أشياء غير معمول عليها ، والأصل براءة الذمة من التكاليف الشرعيّة.

والمصدود بالعدو إذا منع من الوصول إلى البيت ، كان له أن يتحلّل ، لعموم الآية ، ثم ينظر ، فإن لم يكن له طريق إلا الذي صدفيه ، فله أن يتحلّل بلا خلاف ، وإن كان له طريق آخر ، فإن كان ذلك الطريق ، مثل الذي صدّ عنه ، لم يكن له التحلّل ، لأنّه لا فرق بين الطريق الأوّل والثاني ، وإن كان الطريق الآخر ، أطول من الطريق الذي صدّ عنه ، فإن لم يكن له نفقة تمكنه أن يقطع بها الطريق الآخر ، فله أن يتحلّل ، لأنّه مصدود عن الأول ، وإن كان معه نفقة تمكنه قطع الطريق الأطول ، إلا أنّه يخاف إذا سلك ذلك الطريق ، فاته الحج ، لم يكن له التحلّل ، لأنّ التحلّل انّما يجوز بالصد ، لا بخوف الفوات ، وهذا غير مصدود هاهنا ، فإنّه يجب أن يمضي على إحرامه في ذلك الطريق ، فإن أدرك الحج جاز ، وإن فاته الحج لزمه القضاء ، إن كانت حجّة الإسلام ، أو

__________________

(١) النهاية : كتاب الحج ، باب المحصور والمصدود.

٦٤٢

نذرا في الذمة ، لا معيّنا بتلك السنة ، وإن كانت تطوعا ، كان بالخيار ، هذا في الحصر والصدّ العام.

فأمّا الصد الخاص ، وهو أن يحبس بدين عليه ، أو غير ذلك ، فلا يخلو أنّ يحبس بحق ، أو بغير حق. فإن حبس بحقّ ، بأن يكون عليه دين يقدر على قضائه ، فلم يقضه ، لم يكن له أن يتحلّل ، لأنّه متمكن من الخلاص ، فهو حابس نفسه باختياره ، وإن حبس ظلما ، أو بدين لا يقدر على أدائه ، كان له أن يتحلّل ، لعموم الآية (١) ، والأخبار (٢).

ومن صدّ عن البيت ، وقد وقف بعرفة ، والمشعر الحرام ، وعن الرمي أيّام التشريق ، فإنّه يتحلّل ، فإن لحق أيام الرمي ، رمى ، وحلق ، وذبح ، وإن لم يلحق ، أمر من ينوب عنه في ذلك ، فإذا تمكن أتى مكة ، وطاف طواف الحج ، وسعى سعيه ، وقد تمّ حجّه ، ولا قضاء عليه ، هذا إذا طاف ، وسعى ، في ذي الحجّة.

فأمّا إذا أهل المحرم ، ولم يكن قد طاف ، وسعى ، كان عليه الحج ، من قابل ، لأنّه لم يستوف أركان الحج ، من الطواف والسعي ، فأما إذا طاف ، وسعى ، ومنع من المبيت ، والرمي ، فقد تمّ حجّة ، لأنّ ذلك من المفروضات التي ليست أركانا.

وإن كان متمكنا من المبيت ، ومصدودا عن الوقوف بالموقفين ، أو عن أحدهما ، جاز له التحلّل ، لعموم الآية (٣) ، والأخبار (٤).

فإن لم يتحلّل ، وأقام على إحرامه ، حتّى فاته الوقوف ، فقد فاته الحج ، وعليه أن يتحلّل ، بعمل عمرة ، ولا يلزمه دم ، لفوات الحج ، ويلزمه القضاء ، إن كانت الحجّة واجبة على ما قدّمناه ، وإن كانت تطوّعا ، كان بالخيار.

إذا صد فأفسد حجّه ، فله التحلّل ، وكذلك إن أفسد حجّه ، ثمّ صد ، كان له التحلّل ، لعموم الآية (٥) والأخبار (٦) ، ويلزمه الدم بالتحلّل ، عند بعض

__________________

(١) البقرة : ١٩٦

(٢) الوسائل : الباب ٦ من أبواب الإحصار والصد ، ح ١.

(٣) البقرة : ١٩٦

(٤) الوسائل : الباب ٦ من أبواب الإحصار والصد ، ح ١.

(٥) البقرة : ١٩٦

(٦) الوسائل : الباب ٦ من أبواب الإحصار والصد ، ح ١.

٦٤٣

أصحابنا ، وبدنة بالإفساد ، والقضاء في المستقبل ، سواء كان الحج واجبا ، أو مندوبا.

فإن انكشف العدو ، وكان الوقت واسعا ، وأمكنه الحج ، قضى من سنته ، وليس هاهنا حجة فاسدة يقضي في سنتها ، إلا هذه ، فإن ضاق الوقت ، قضى من قابل ، وإن لم يتحلّل من الفاسدة.

فإن زال الصد ، والحج لم يفت ، مضى في الفاسدة ، وتحلّل ، وإن فاته ، تحلّل بعمل عمرة ، وتلزمه بدنة للإفساد ، ولا شي‌ء عليه للفوات ، والقضاء عليه من قابل ، على ما بيّناه.

وإن كان العدو باقيا ، فله التحلل ، فإذا تحلّل ، لزمه دم ، عند بعض أصحابنا ، للتحلّل ، وبدنة للإفساد ، والقضاء من قابل ، وليس عليه أكثر من قضاء واحد.

وإذا أراد التحلّل من صدّ العدو ، فلا بدّ من نية التحلّل ، مثل الدخول فيه ، وكذلك إذا أحصر بالمرض.

باب في الزيادات من فقه الحج

من أحدث حدثا في غير الحرم ، فالتجأ إلى الحرم ، ضيّق عليه في المطعم ، والمشرب ، حتى يخرج ، فيقام عليه الحدّ ، فإن أحدث في الحرم ما يجب عليه الحدّ ، أقيم عليه فيه.

ولا ينبغي أن يمنع الحاج خصوصا شيئا من دور مكة ، ومنازلها ، للإجماع على ذلك ، فأمّا الاستشهاد بالآية (١) فضعيف ، بل إجماع أصحابنا منعقد ، وأخبارهم متواترة (٢) ، فإن لم تكن متواترة ، فهي متلقاة بالقبول ، لم يدفعها أحد منهم ، فالإجماع هو الدليل القاطع على ذلك ، دون غيره.

__________________

(١) الحج : ٢٥

(٢) الوسائل : الباب ٣٢ من أبواب مقدمات الطواف وما يتبعها.

٦٤٤

فأمّا الآية وهو قوله تعالى : ( سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ) (١) فإنّ الضمير ، راجع إلى ما تقدّم ، وهو نفس المسجد الحرام ، دون مكة جميعها ، وأيضا قوله تعالى : ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا ) (٢) فحظر علينا عزوجل دخول غير بيوتنا ، فأمّا من قال لا يجوز بيع رباع مكة ، ولا إجارتها ، فصحيح ، إن أراد نفس الأرض ، لأنّ مكة أخذت عنوة بالسيف ، فهي لجميع المسلمين ، لاتباع ، ولا توقف ، ولا تستأجر ، فأمّا التصرف ، والتحجير ، والآثار ، فيجوز بيع ذلك ، وإجارته ، كما يجوز بيع سواد العراق المفتتحة عنوة ، فيحمل ما ورد في ذلك على نفس الأرض ، دون التصرف ، لئلّا تتناقض الأدلة ، فليلحظ ذلك ، ويتأمل.

ولا ينبغي لأحد ، أن يرفع بناء فوق الكعبة.

ومن وجد شيئا في الحرم ، لا يجوز له أخذه ، فإن أخذه عرّفه سنة ، فإن جاء صاحبه ، وإلا كان مخيرا بين شيئين ، أحدهما يتصدق به عن صاحبه بشرط الضمان ، إن لم يرض بذلك صاحبه والآخر أن يحفظه على صاحبه ، حفظ أمانة ، وليس له أن يتملكه ، ولا يكون كسبيل ماله.

وإن وجده في غير الحرم ، عرّفه سنة ، ثم هو مخير بين شيئين ، أحدهما التصدق به ، بشرط الضمان إن لم يرض صاحبه ، والآخر أن يجعله كسبيل ماله. وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مبسوطة : ثم هو مخير بين ثلاثة أشياء ، يعني في لقطة غير الحرم ، بعد تعريفه سنة ، بين أن يحفظه على صاحبه أمانة ، وبين أن يتصدق عنه بشرط الضمان ، وبين أن يتملكه لنفسه ، وعليه ضمانه (٣) والصحيح أنّه يكون بين خيرتين ، فحسب ، لأنّ إجماع أصحابنا منعقد ، أنّه يكون بعد السنة وتعريفه فيها ، كسبيل ماله ، وانّما الشافعي يخيّره بين ثلاثة أشياء ،

__________________

(١) الحج : ٢٥

(٢) النور : ٢٧.

(٣) المبسوط : كتاب الحج ، فصل في الزيادات من فقه الحج.

٦٤٥

وإلى ما اخترناه وحررناه ، ذهب شيخنا أبو جعفر ، في نهايته (١).

وتكره الصلاة في طريق مكة ، في أربعة مواضع ، البيداء ، وقد فسّرناها في كتاب الصلاة ، وذات الصلاصل ، وضجنان ، ووادي الشقرة.

ويستحب الإتمام في الحرمين ، مكة والمدينة ، ما دام مقيما ، وإن لم ينو المقام عشرة أيّام ، وإن قصّر فلا شي‌ء عليه.

وكذلك يستحب الإتمام في مسجد الكوفة ، وفي مشهد الحسين عليه‌السلام ، هذا على قول بعض أصحابنا ، والأظهر الأكثر عند المحصّلين ، أن لا يجوز الإتمام من غير نية المقام عشرة أيّام للمسافر ، إلا في نفس المسجدين فحسب ، دون مكة جميعها ، ودون المدينة جميعها ، لأنّ الإجماع حاصل على ذلك ، والخلاف فيما عداه ، والأصل التقصير للمسافر ، فأخرجنا ما أخرجنا بدليل الإجماع ، بقي ما عداه على ما كان ، وكذلك نفس مسجد الكوفة ، دون الكوفة ، وكذلك في نفس مشهد الحسين عليه‌السلام ، دون ما عدا المسجد الذي لا يجوز للجنب الجلوس فيه ، ولا تقريبه النجاسات.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في كتاب الإستبصار ، في الجزء الثاني ، إلى جواز الإتمام في مكة ، والمدينة ، والكوفة ، وقال : أخص ما ورد من الأخبار ، بالإتمام في نفس المساجد ، دون ما عداها بالذكر ، تعظيما لها (٢) ، ثمّ ذكر في الأخبار الأخر ، ألفاظا يكون هذه المساجد داخلة فيها.

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : وهذا منه رحمه‌الله تعسف ، لا حاجة به إليه ، وتأويل بعيد ، وإذا كنّا لا نعمل بأخبار الآحاد ، وإجماعنا منعقد على ما ذكرناه ، من الإتمام في نفس المساجد المذكورة ، فلا يلتفت إلى ما عداه.

__________________

(١) النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج والعبارة هكذا وإذا وجد في غير الحرم فليعرّفه سنة ثم هو كسبيل ماله يعمل به ما شاء. وهذا بخلاف ما نقله ابن إدريس عنه.

(٢) الاستبصار : كتاب الحج ، الباب ٢٢٨ و ٢٢٩.

٦٤٦

وقد رجع شيخنا أبو جعفر رحمه‌الله عن هذا القول في كتب الصلاة ، في باب الصلاة في السفر ، فإنّه قال : ويستحب الإتمام في أربعة مواطن في السفر ، بمكة ، والمدينة ، ومسجد الكوفة ، والحائر على ساكنه السلام ، فخص نفس مسجد الكوفة ، دون الكوفة ، وفي الاستبصار قال : يتمم في الكوفة (١).

ويكره الحج والعمرة على الإبل الجلّالة.

ويستحب لمن حج على طريق العراق ، أن يبدأ أوّلا بزيارة النبي عليه‌السلام ، والمدينة ، فإنّه لا يأمن أن لا يتمكن من العود إليها ، فان بدأ بمكة ، فلا بد له من العود إليها على طريق الاستحباب المؤكد ، دون الفرض المحتم.

وإذا ترك الناس الحج ، وجب على الإمام أن يجبرهم على ذلك ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته (٢) : وكذلك إن تركوا زيارة النبي صلوات الله عليه كان عليه إجبارهم عليها.

قال محمد بن إدريس رحمه‌الله : إجبارهم على زيارة الرسول صلوات الله عليه لا يجوز ، لأنّها غير واجبة ، بل ذلك مؤكد الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، بغير خلاف ، وانّما إذا كان الشي‌ء شديد الاستحباب ، أتى به على لفظ الوجوب ، على ما أسلفنا القول في معناه.

ويجوز للإنسان إذا وجب عليه الحج ، أن يستدين ما يحج به ، إذا كان من ورائه ما إن مات قضى عنه ، فإن لم يكن له ذلك ، فلا يجوز له الاستدانة.

ويستحب الاجتماع يوم عرفة ، والدعاء عند المشاهد ، وفي المواضع المعظمة.

ويستحب لمن انصرف من الحج ، أن يعزم على العود إليه ، ويسأل الله تعالى ذلك.

ومن جاور بمكة ، فالطواف له أفضل من الصلاة ، ما لم يجاوز ثلاث سنين فإذا جاوزها أو كان من أهل مكة ، كانت الصلاة له أفضل.

__________________

(١) الإستبصار : كتاب الحج ، الباب ٢٢٨ و ٢٢٩.

(٢) النهاية : كتاب الحج. باب آخر من فقه الحج.

٦٤٧

ولا بأس أن يحج الإنسان عن غيره ، تطوعا ، إذا كان ميتا ، فإنّه يتفضل الله تعالى عليه ، بمثل ثوابه ، للإجماع من أصحابنا على ذلك.

وتكره المجاورة بمكة ، ويستحب إذا فرغ من مناسكه ، الخروج منها.

ومن أخرج شيئا من حصى المسجد الحرام ، كان عليه رده.

ويكره أن يخرج من الحرمين ، بعد طلوع الشمس قبل أن يصلّي الصلاتين ، فإذا صلاهما خرج إن شاء.

ولا يعرف أصحابنا كراهية أن يقال لمن لم يحج : صرورة ، بل رواياتنا وردت بذلك ، ولا أن يقال لحجة الوداع : حجة الوداع ، ولا أن يقال : شوط وأشواط ، بل ذلك كله ورد في الأخبار ، ولا يعرف أصحابنا استحبابا لشرب نبيذ السقاية.

وأشهر الحج ، قد بيّنا أنّها : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والأيّام المعلومات : عشر ذي الحجة ، والأيام المعدودات : أيّام التشريق ، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة ، ويسمّى الحادي عشر منها يوم القرّ لأنّ الناس يقرّون فيه بمنى (١) ولا يبرحونه على ما قدّمناه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : والأيّام المعلومات : أيّام التشريق ، والأيام المعدودات : هي عشر ذي الحجة (٢) والأول هو الأظهر الأصحّ ، الذي لا يجوز القول بخلافه ، وهو مذهب شيخنا المفيد في مقنعته (٣) وقد رجع الشيخ أبو جعفر ، عمّا ذكره في نهايته ، في مسائل خلافه وقال : الأيام المعدودات : أيّام التشريق بلا خلاف (٤).

وإذا أوصى الإنسان بحجة ، وكانت حجة الإسلام ، أخرجت من أصل المال ، من الموضع الذي مات فيه من بلده ، وهو الذي وردت روايات أصحابنا

__________________

(١) ج : في منى

(٢) النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.

(٣) المقنعة : كتاب الحج ، باب من الزيادات في فقه الحج ص ٤٥٢.

(٤) الخلاف : كتاب الحج ، مسألة ٣٣٢.

٦٤٨

به (١) وقال بعض أصحابنا : لا يلزم الورثة أن يخرجوا إلا إجارة من بعض المواقيت ، والأول هو المذهب ، وإليه ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته (٢) وإن كان يقول في مبسوطة بخلافه (٣).

وإن كان ما أوصى به نافلة ، أخرجت من الثلث ، فإن لم يبلغ الثلث ما يحج عنه من موضعه ، حجّ عنه من بعض الطريق ، وهذا هو الأظهر ، وبه نطقت الأخبار عن الأئمة الأطهار (٤) وهو قول شيخنا أبي جعفر أيضا في نهايته (٥).

ومن نذر أن يحج لله تعالى ، ثمّ مات قبل أن يحج ، ولم يكن أيضا قد حجّ حجة الإسلام ، أخرجت عنه حجّة الإسلام من صلب المال وكذلك الحجة المنذورة أيضا تخرج من صلب المال ، لأنّه واجب في ذمته ، ودين في رقبته ، ولا خلاف أنّ الواجبات ، والديون تخرج من صلب ماله.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويخرج ما نذر فيه من ثلثه (٦) وهذا من طريق خبر الآحاد ، أورده رحمه‌الله دون أن يكون اعتقاده ومذهبه ، فإن لم يكن المال إلا بقدر ما يحج عنه حجّة الإسلام حجّ به عنه.

ومن وجب عليه حجة الإسلام ، ولم تكن استقرّت عليه ، فخرج لأدائها ، فمات في الطريق ، فلا شي‌ء عليه ، ولا على وليّه ، ولا يخرج شي‌ء من تركته في الحج ، سواء مات قبل الإحرام ودخول الحرم ، أو بعده ، لأنّه ما فرّط في ذلك ، ولا استقرت الحجّة في ذمّته.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : ومن وجبت عليه حجة الإسلام ، فخرج لأدائها فمات في الطريق ، فإن كان قد دخل الحرم فقد أجزأ

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢ و ٣ من أبواب النيابة للحج.

(٢) النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.

(٣) المبسوط : كتاب الحج ، فصل في حقيقة الحج والعمرة وشرائط وجوبها.

(٤) الوسائل : الباب ٢ و ٣ من أبواب النيابة للحج.

(٥) النهاية : كتاب الوصية ، باب الوصية المبهمة.

(٦) النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.

٦٤٩

عنه ، وإن لم يكن قد دخل الحرم ، كان على وليّه أن يقضي عنه حجة الإسلام من تركته (١) ، وهذا غير واضح على ما قلناه.

فأمّا إن كانت الحجة وجبت عليه ، واستقرت ، بأن فرط في المضي إلى الحج ، بعد وجوبه في سنة وجوبه ، ثمّ مضى بعد تلك السنة ، ومات في الطريق ، فإن كان مات بعد الإحرام فقد أجزأت عنه ، ولا يجب على الورثة إخراج حجّة عنه ، وإن كان موته قبل الإحرام ، فما أجزأت عنه ، ويجب على الورثة ، إخراج حجّة عنه ، فهذا تحرير هذه الفتيا.

ومن اوصى أن يحج عنه كل سنة من وجه بعينه ، فلم يسع ذلك المال للحج ، في كل سنة جاز أن يجعل مال سنتين لسنة واحدة.

ومن أوصى أن يحج عنه ، ولم يذكر ، كم مرة ، ولا بكم من ماله ، وجب على الورثة ، إخراج حجة واحدة فحسب ، لأنّ بحجة واحدة ، قد امتثلوا ما وصّاهم به بغير خلاف.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : وجب أن يحج عنه ما بقي من ثلثه شي‌ء يمكن أن يحج به (٢) ، وهذا غير واضح ، لأنّه لا دليل عليه يعضده من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، وما ذهبنا إليه لا خلاف فيه ، لأنّه أقل ما يمتثل به الأمر ، والزائد على ذلك يحتاج إلى دليل ، وانّما أورده إيرادا ، من جهة الخبر الواحد ، لا اعتقادا كما أورد نظائره من قوله : الأيّام المعدودات عشر ذي الحجة ، والمعلومات أيام التشريق ، ثم قال في مسائل الخلاف : الأيام المعدودات أيّام التشريق بلا خلاف (٣).

فإن قال : حجوا عني بثلثي ، وجب أن يحج عنه مدة ما يبقى من ثلثه شي‌ء يمكن أن يحج به ، فإن قال : حجّوا عني بثلثي حجة واحدة ، حجّ عنه بجميع ثلثه حجة واحدة.

__________________

(١) النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.

(٢) النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.

(٣) الخلاف : كتاب الحج ، مسألة ٣٣٢.

٦٥٠

وإذا خرج الإنسان من مكة ، فليتوجّه إلى المدينة ، لزيارة النبي عليه‌السلام استحبابا ، لا إيجابا ، على ما قدّمناه ، فإذا بلغ إلى المعرّس ، نزله ، وصلّى فيه ركعتين استحبابا ، ليلا كان ، أو نهارا ، لأنّ المعرّس مشتق من التعريس ، والتعريس نزول القوم في السفر من آخر الليل ، يقعون فيه ، وقعة للاستراحة ، ثمّ يرتحلون ، والموضع معرّس فالموضع نزله عليه‌السلام آخر الليل ، واستراح فيه فسنّ فيه النزول اقتداء به عليه‌السلام ، سواء كان وقت التعريس ، أو لم يكن ، فلأجل ذلك قالوا ليلا كان أو نهارا ، يريدون به ذلك ، وإن لم يكن ذلك الوقت وقت التعريس ، فإن جازه ونسي ، رجع وصلّى فيه ، واضطجع قليلا.

وإذا انتهى إلى مسجد الغدير ، دخله ، وصلّى فيه ركعتين.

واعلم أنّ للمدينة حرما ، مثل حرم مكة ، وحدّه ما بين لابتيها ، واللابة : الحرة ، والحرة : الحجارة السود ، وهو من ظل عائر إلى ظل وعير ، ولا يعضد شجرها ، ولا بأس ان يؤكل صيدها ، إلا ما صيد بين الحرتين ، هكذا أورده شيخنا في نهايته بهذه العبارة (١).

والأولى أن يقال : وحدّه من ظل عائر إلى ظل وعير ، لا يعضد شجرها ، ولا بأس أن يؤكل صيدها ، إلا ما صيد بين الحرتين لأنّ الحرتين غير ظل عاير ، وظل وعير ، والحرتان ما بين الظلين ، لأنّه قال لا يعضد الشجر فيما بين الظلين ، ولا بأس ان يؤكل الصيد ، الا ما صيد بين الحرتين ، فدلّ على أنّ الحرتين داخلتان في الظلين ، وإلا كان يكون الكلام متناقضا ، فلو كانت الحرتان هما حدّ حرم المدينة الأوّل ، لما حلّ الصيد في شي‌ء من حرم المدينة.

ويستحب لمن أراد دخول المدينة أن يغتسل ، وكذلك إذا أراد دخول مسجد النبي عليه‌السلام ، فإذا دخله ، أتى قبر الرسول عليه‌السلام فزارة ، فإذا فرغ من

__________________

(١) النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.

٦٥١

زيارته أتى المنبر ، فمسحه ، ومسح رمانتيه.

ويستحب الصلاة بين القبر والمنبر ، ركعتين ، فإنّ فيه روضة من رياض الجنة ، وقد روي أنّ فاطمة عليها‌السلام مدفونة هناك (١) ، وقد روي أنّها مدفونة في بيتها (٢) وهو الأظهر في الروايات ، وعند المحصّلين من أصحابنا ، إلا أنّه لمّا زاد بنو أمية في المسجد صارت فيه ، وروي أنّها مدفونة بالبقيع (٣) ويعرف ببقيع الفرقد ، وهو شجر مثل العوسج ، وحبّه أشدّ حمرة من حبّه ، وهذه الرواية بعيدة من الصواب.

ويستحب المجاورة بالمدينة ، وإكثار الصلاة في مسجد النبي عليه‌السلام.

ويكره النوم في مسجد الرسول عليه‌السلام.

ويستحب لمن له مقام بالمدينة ، أن يصوم ثلاثة أيّام بها ، الأربعاء والخميس ، والجمعة ، ويصلّي ليلة الأربعاء عند أسطوانة أبي لبابة ، واسمه بشير بن عبد المنذر الأنصاري ، شهد بدرا ، والعقبة الأخيرة وهي أسطوانة التوبة ، وذلك أنّه تخلّف في بعض الغزوات عن الرسول عليه‌السلام فندم على ذلك ، وربط نفسه إلى هذه الأسطوانة بسلسلة ، وقال : لا يحلّني إلا رسول الله عليه‌السلام ، فلمّا قدم الرسول عليه‌السلام حلّه ، واستغفر له ، فتاب الله عليه ، فسميت أسطوانة التوبة ، ويقعد عندها يوم الأربعاء ، ويأتي ليلة الخميس الأسطوانة التي تلي مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومصلّاه ، ويصلّي عندها ، ويصلّى ليلة الجمعة عند مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويستحب أن يكون هذه الثلاثة الأيام معتكفا في المسجد ، ولا يخرج منه إلا لضرورة.

ويستحب إتيان المشاهد ، والمساجد كلّها بالمدينة ، مسجد قباء ممدود ،

__________________

(١) الوسائل : الباب ١٨ من أبواب المزار وما يناسبه ، ح ٤.

(٢) الوسائل : الباب ١٨ من أبواب المزار وما يناسبه ، ح ٤.

(٣) الوسائل : الباب ١٨ من أبواب المزار وما يناسبه ، ح ٤.

٦٥٢

ومشربة أم إبراهيم عليه‌السلام ، والمشربة الغرفة ومسجد الأحزاب وهو مسجد الفتح ، ومسجد الفضيخ ، وقيل إنّه الذي ردّت الشمس فيه لأمير المؤمنين عليه‌السلام بالمدينة ، والفضيخ شراب ، يتخذ من البسر وحده ، من غير أن تمسّه النار ، فسمّي الموضع بمسجد الفضيخ ، لأنّه كان يعمل ذلك الشراب عنده ، ويأتي قبور الشهداء كلّهم ، ويأتي قبر حمزة بأحد ، وقبور الشهداء هناك أيضا ، إلا أنّه يبدأ بقبر حمزة عليه‌السلام ولا يتركه إلا عند الضرورة إن شاء الله تعالى.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : صيد وجّ ـ وهو بلد باليمن ـ غير محرّم ولا مكروه (١) قال محمّد بن إدريس : سمعت بعض مشايخنا يصحّف ذلك ، ويجعل الكلمتين كلمة واحدة ، فيقول صيدوخ بالخاء (٢) ، فأردت إيراد المسألة لئلا تصحف.

اعلم إنّ وجّأ بالجيم المشدّدة بلد بالطائف ، لا باليمن ، وفي الحديث : آخر وطأه وطأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بوج ، يريد غزاة الطائف قال الشاعر :

فإن تسق من أعناب وجّ فاننا

لنا العين تجري من كسيس ومن خمر

الكسيس بالسّينين غير المعجمتين : نبيذ التمر.

وقال النميري في زينب بنت يوسف أخت الحجاج :

مررن بوجّ رائحات عشيّة

يلبين للرّحمن مؤتجرات

وكانت قد نذرت أن تحج من الطائف ماشية ، وبين الطائف وبين مكّة يومان ، فمشت ذلك في اثنين وأربعين يوما ، وجعلت بطن وجّ مرحلة ، وهو قدر ثلاثمائة ذراع.

__________________

(١) الخلاف : كتاب الحج ، مسألة ٣٠٩

(٢) ليس في ج : بالخاء. وفي المط : بالحاء المهملة.

٦٥٣

فصل في الزيارات

زيارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند قبره ، وكلّ واحد من الأئمة من بعده ، صلوات الله عليهم في مشاهدهم ، من السنن المؤكدة ، والعبادات المعظمة ، في كلّ جمعة ، أو كلّ شهر ، أو كلّ سنة ، إن أمكن ذلك ، وإلا فمرّة في العمر.

ويستحب لقاصد الزيارة ، بل يلزمه أن يخرج من منزله عازما عليها ، لوجهها ، مخلصا بها لله سبحانه ، فإذا انتهى إلى مسجد النبي عليه‌السلام ، أو مشهد الإمام المزور عليه‌السلام ، فليغتسل (١) قبل دخوله ، سنّة مؤكدة ، ويلبس ثيابا نظيفة طاهرة جددا بضم الدال ، لأنّها جمع جديد ، فأمّا جدد بفتح الدال ، فالطريق في الأرض ، ومنه قوله تعالى : ( وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ ) (٢) هذا مع الإمكان ، فيأت القبر ، وعليه السكينة ، والوقار ، فإذا انتهى إليه ، فليقف ممّا يلي وجه المزور عليه‌السلام وظهره إلى القبلة ، ويسلّم عليه ، ويذكره بما هو أهله ، من الألفاظ المروية عن أئمة الهدى عليهم‌السلام ، وإلا فبما نفث به صدره.

فإذا فرغ من الذكر ، فليضع خدّه الأيمن على القبر ، ويدعو الله تعالى ، ويتضرّع إليه بحقّه ، ويلحّ عليه ، ويرغب إليه أن يجعله من أهل شفاعته ، ثمّ يضع خدّه الأيسر ، ويدعو ويجتهد ، ثمّ يتحوّل إلى الرأس فيسلّم عليه ويعفّر خدّيه على القبر ، ويدعو ثمّ يصلّي ويتضرّع (٣) الركعتين عنده ، ممّا يلي الرأس ويعقّبهما بتسبيح فاطمة عليها‌السلام ، ويدعو ويتضرّع ، ثمّ يتحوّل إلى عند الرجلين ، فيسلّم ويدعو ويعفّر خدّيه على القبر ، ويودّع وينصرف.

فإذا كانت الزيارة لأبي عبد الله الحسين عليه‌السلام زار ولده عليّا الأكبر ، وأمّه ليلى ، بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفي ، وهو أوّل قتيل في الوقعة ،

__________________

(١) ج : فيغتسل

(٢) فاطر : ٢٧

(٣) في ط وج : ويدعو ثم.

٦٥٤

يوم الطف ، من آل أبي طالب عليه‌السلام ، وولد علي بن الحسين عليه‌السلام هذا في إمارة عثمان ، وقد روي ذلك عن جده علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وقد مدحه الشعراء ، وروي عن أبي عبيدة ، وخلف الأحمر ، أنّ هذه الأبيات ، قيلت في عليّ بن الحسين الأكبر ، المقتول بكربلاء :

لم تر عين نظرت مثله

من محتف يمشي ولا ناعل

يغلي نيّ‌ء اللحم حتى إذا

انضج لم يغل على الآكل

كان إذا شبت له ناره

يوقدها بالشرف القابل

كيما يراها بائس مرمل

أو فرد حيّ ليس بالآهل

اعني ابن ليلى ذا السدا والنّدا

أعني ابن بنت الحسب الفاضل

لا يؤثر الدنيا على دينه

ولا يبيع الحقّ بالباطل (١)

وقد ذهب شيخنا المفيد ، في كتاب الإرشاد ، إلى أنّ المقتول بالطف ، هو علي الأصغر ، وهو ابن الثقفية ، وانّ علي الأكبر ، هو زين العابدين عليه‌السلام ، أمّه أم ولد ، وهي شاة زنان ، بنت كسرى يزدجرد (٢).

قال محمّد بن إدريس : والأولى الرجوع إلى أهل هذه الصناعة ، وهم النسّابون ، وأصحاب السّير والأخبار والتواريخ ، مثل الزبير بن بكّار ، في كتاب أنساب قريش ، وأبي الفرج الأصفهاني ، في مقاتل الطالبيين ، والبلاذري ، والمزني ، صاحب كتاب لباب أخبار الخلفاء ، والعمري النّسابة حقّق ذلك ، في كتاب المجدي ، فإنّه قال : وزعم من لا بصيرة له ، أنّ عليا الأصغر ، هو المقتول بالطفّ ، وهذا خطأ ووهم وإلى هذا ذهب صاحب كتاب الزواجر والمواعظ ، وابن قتيبة في المعارف ، وابن جرير الطبري المحقّق لهذا الشأن ، وابن أبي الأزهر في تاريخه ، وأبو حنيفة الدينوري في الأخبار الطوال ، وصاحب كتاب الفاخر ،

__________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٥٣

(٢) الإرشاد في دفن أجسادهم المطهّرة

٦٥٥

مصنف من أصحابنا الإماميّة ، ذكره شيخنا أبو جعفر ، في فهرست المصنفين ، وأبو عليّ بن همام ، في كتاب الأنوار ، في تواريخ أهل البيت ، ومواليدهم ، وهو من جملة أصحابنا المصنفين المحقّقين ، فهؤلاء جميعا أطبقوا على هذا القول ، وهم أبصر بهذا النوع.

قال أبو عبيد (١) في كتاب الأمثال : وعند جفينة (٢) الخبر اليقين ، قال : وهذا قول الأصمعي ، وأما هشام بن الكلبي ، فإنّه أخبر أنّه جهينة ، وكان ابن الكلبي بهذا النوع البر من الأصمعي.

قال محمّد بن إدريس : نعم ما قال أبو عبيد (٣) لأنّ أهل كلّ فن ، أعلم بفنّهم من غيرهم ، وأبصر وأضبط.

وقد ذهب أيضا شيخنا المفيد في كتاب الإرشاد ، إلى أنّ عبيد الله بن النهشليّة ، قتل بكربلاء مع أخيه الحسين عليه‌السلام (٤) وهذا خطأ محض ، بلا مراء ، لأنّ عبيد الله بن النهشليّة ، كان في جيش مصعب بن الزبير ، ومن جملة أصحابه ، قتله أصحاب المختار بن أبي عبيد بالمذار ، وقبره هناك ظاهر ، الخبر بذلك متواتر ، وقد ذكره شيخنا أبو جعفر ، في الحائريات (٥) ، لمّا سأله السائل عمّا ذكره المفيد في الإرشاد ، فأجاب بأنّ عبيد الله بن النهشليّة ، قتله أصحاب المختار بالمذار ، وقبره هناك معروف ، عند أهل تلك البلاد.

ونسب شيخنا المفيد في كتاب الإرشاد ، العبّاس بن علي ، فقال : امّه أمّ البنين ، بنت حزام بن خالد بن دارم ، وهذا خطأ ، وانّما أمّ العبّاس ، المسمّى بالسقّاء ، ويسمّيه أهل النسب أبا قربة ، المقتول بكربلاء ، صاحب راية الحسين عليه‌السلام ذلك اليوم ، أمّ البنين ، بنت حزام بن خالد بن ربيعة ، وربيعة

__________________

(١) في ط وج : أبو عبيدة

(٢) في ط وج : جهينة.

(٣) في ط وج : أبو عبيدة

(٤) الإرشاد : باب ذكر أولاد أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وفي المصدر هو ابن ليلى بنت مسعود الدارمية.

(٥) لا يوجد في الحائريات.

٦٥٦

هذا ، هو أخو لبيد الشاعر ، ابن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، وليست من بني دارم التميميين.

وقال ابن حبيب النسابة ، في كتاب المنمق لما ذكر أبناء الحبشيات من قريش ، ذكر من جملتهم العبّاس بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وهذا خطأ منه ، وتغفيل ، وقلة تحصيل. وكذلك قال في أبناء السنديات من قريش ، ذكر من جملتهم ، محمّد بن عليّ بن أبي طالب بن الحنفية ، وأم علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

قال محمّد بن إدريس : وهذا جهل من ابن حبيب ، وقلّة تأمّل.

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : وأيّ غضاضة تلحقنا ، وأيّ نقص يدخل على مذهبنا إذا كان المقتول عليا الأكبر ، وكان عليا الأصغر الإمام المعصوم بعد أبيه الحسين عليهما‌السلام فإنّه كان لزين العابدين ، يوم الطف ، ثلاث وعشرون سنة ، ومحمّد ولده الباقر عليه‌السلام ، حي ، له ثلاث سنين وأشهر ، ثم بعد ذلك كلّه ، فسيّدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان أصغر ولد أبيه سنا ، ولم ينقصه ذلك.

وإذا كانت الزيارة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فليبدأ بالتسليم عليه ، ثم على آدم ، ونوح ، لكون الجميع مدفونا هناك ، على ما رواه أصحابنا (١) ، فإذا فرغ من الزيارة ، فليصل عند الرأس ، ست ركعات لزيارة كلّ حجة منهم ، ركعتان.

والمستحب أن يقرأ في الأولى منهما ، فاتحة الكتاب ، وسورة الرحمن ، وفي الثانية منهما ، فاتحة الكتاب ، وسورة يس ، ثم يتشهد ، ويسلم ، ثم يسبّح تسبيح الزهراء عليها‌السلام ويستغفر لذنوبه ، ويدعو ، ثمّ يسجد لله شكرا ، ويقول في

__________________

(١) الوسائل : باب ٢٧ من أبواب المزار وما يناسبه.

٦٥٧

سجوده : شكرا شكرا ، مائة مرّة ، ولا أرى التعفير على قبر أحد ، ولا التقبيل له ، سوى قبور الأئمة عليهم‌السلام ، لأنّ ذلك حكم شرعي ، يحتاج في استحبابه ، وإثباته إلى دليل شرعي ، ولن يجده طالبه ، ولو لا إجماع طائفتنا على التقبيل ، والتعفير ، على قبور الأئمة عليهم‌السلام عند زيارتهم ، لما جاز ذلك ، لما بيناه ، وتفصيل ما أجملناه من الزيارات ، وشرح أذكارها ، موجود في غير موضع من كتب السلف الجلّة المشيخة رضي‌الله‌عنهم ، من طلبه وجده.

ومن لم يتمكن من زيارة النبي ، والأئمة عليهم‌السلام ، بجنب قبورهم ، لبعد داره ، أو لبعض الموانع ، فليزرهم ، أو من شاء منهم ، من حيث هو ، مصحرا ، أو من علو داره أو من مصلاه ، في كلّ يوم ، أو كلّ جمعة ، أو كلّ شهر.

ومن السنة ، زيارة أهل الإيمان ، أحياء وأمواتا.

ومن زار أخاه المؤمن ، فلينزل على حكمه ، ولا يحتشمه ، ولا يكلّفه.

ومن زاره أخوه المؤمن ، فليستقبله ، ويصافحه ، ويعتنقه ، وذكر بعض أصحابنا المصنفين في تصنيفه : ويقبّل كلّ واحد منهما ، موضع سجود الآخر ، وقد روي في الأخبار ، التقبيل للقادم من الحج (١) وليكرم كلّ واحد منهما صاحبه ، وليتحف به.

وعلى المزور ، الاعتراف بحقّ زائره ، وليتحفه بما يحضره من طعام ، وشراب ، وفاكهة ، وطيب ، أو ما تيسّر من ذلك ، وأدناه شرب الماء ، أو الوضوء ، وصلاة ركعتين عنده ، والتأنيس بالحديث ، فإنّه جانب من القري ، والتشييع له عند الانصراف.

وإذا زار قبر بعض إخوانه المؤمنين ، فليستظهره ، ويجعل وجهه إلى القبلة ، بخلاف زيارة قبر الإمام المعصوم ، في الوقوف ، والكيفية ، على ما قدّمناه ، وتقرأ سورة الإخلاص سبعا ، وسورة القدر سبعا ، وتضع يدك على القبر ، وقل اللهم

__________________

(١) تحف العقول : باب ما روي عن أمير المؤمنين ، حديث أربعمائة.

٦٥٨

ارحم غربته ، وصل وحدته ، وآنس وحشته ، وأسكن إليه من رحمتك ، رحمة يستغني بها عن رحمة من سواك ، وألحقه بمن كان يتولاه ، ويستغفر الله لذنبه ، وينصرف إن شاء الله تعالى.

ثمّ الجزء الأوّل من كتاب السرائر ، الحاوي لتحرير الفتاوي ، ويتلوه الجزء الثاني إن شاء الله تعالى كتاب الجهاد ، وسيرة الإمام باب فرض الجهاد ، ومن يجب عليه ، وشرائط وجوبه ، وحكم الرباط ، وحسبنا الله ونعم الوكيل : وصلواته وتحيّاته على سيّدنا محمّد النبي وعلى آله الطاهرين الأئمة الراشدين.

كتبه وفرغ منه نسخا وتصنيفا مؤلّفه ومنشئه « محمد بن إدريس » وذلك بحلّة الجامعين ، تاريخ ذي القعدة من سنة سبع وثمانين وخمسمائة حامدا مصليا مستغفرا من الله تائبا من خطائه ولله المنة وبه الثقة (١).

__________________

(١) قد كتب كاتب نسخة الأصل هنا ما لفظه :

واتفق الفراغ من انتساخه في العشر الأوّل من ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وستمائة. وحسبنا الله ونعم الوكيل كما انه كتب في حاشية النسخة هكذا :

بلغ مقابلة بخط المصنف رضي‌الله‌عنه وصحّ الّا ما زاغ عنه النظر أو حسر عنه البصر. وكتب في ذي حجة من سنة أربعين وستمائة والله الموفق.

٦٥٩
٦٦٠