كتاب السرائر - ج ١

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٧٦

والتقصير ، سواء كان صرورة ، أو لم يكن ، لبّد شعره ، أو لم يلبّده ، وتلبيد الشعر في الإحرام ، أن يأخذ عسلا ، أو صمغا ، ويجعله في رأسه ، لئلا يقمل ، أو يتسخ ، وقال بعض أصحابنا : الصرورة لا يجزيه إلا الحلق ، وكذلك من لبّد شعره ، وإن لم يكن صرورة ، إلا أنّ الحلق أفضل ، والأول مذهب شيخنا أبي جعفر ، في الجمل والعقود (١) والثاني ذكره في نهايته (٢) ، وهو مذهب شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان (٣) والصحيح الأوّل ، وهو الأظهر بين أصحابنا ، ويعضده قوله تعالى : ( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ) (٤).

ومن ترك الحلق عامدا ، أو التقصير ، إلى أن يزور البيت ، كان عليه دم شاة ، وإن فعله ناسيا ، لم يكن عليه شي‌ء ، وكان عليه اعادة الطواف.

ومن رجل من منى قبل الحلق ، فليرجع إليها ، ولا يحلق رأسه إلا بها ، مع القدرة ، فإن لم يتمكن من الرجوع إليها ، فليحلق رأسه ، مكانه ، ويرد شعره إليها ، ويدفنه هناك ، فإن لم يتمكن من ردّ الشعر ، لم يكن عليه شي‌ء.

والمرأة ليس عليها حلق ، بل الواجب عليها التقصير.

وإذا أراد أن يحلق ، فالمستحب له أن يبدأ بناصيته ، من القرن الأيمن ، ويحلق إلى العظمين ، ويقول إذا حلق : اللهم أعطني بكلّ شعرة نورا يوم القيمة.

وإذا حلق رأسه ، فقد حلّ له كل شي‌ء أحرم منه ، إلا النساء ، والطيب ، إن كان متمتعا ، فإن كان قارنا ، أو مفردا ، حلّ له كلّ شي‌ء ، إلا النساء فحسب.

فإذا طاف المتمتع طواف الحجّ ويسمّى طواف الزيارة ، حلّ له كل شي‌ء إلا النساء ، فحسب ، فإذا طاف طوافهن ، حلّت له النساء.

__________________

(١) الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في نزول منى.

(٢) النهاية : كتاب الحج ، باب الحلق والتقصير.

(٣) قاله في المقنعة : في كتاب الحج ، في باب الحلق ص ٤١٩

(٤) الفتح : ٢٧.

٦٠١

ويستحب أن لا يلبس ثياب المخيطة ، إلا بعد الفراغ من طواف الزيارة ، وليس ذلك بمحظور ، وكذلك يستحب أن لا يمسّ الطيب ، إلا بعد الفراغ من طواف النساء ، وإن لم يكن ذلك محظورا.

وذهب شيخنا أبو جعفر ، في تبيانه (١) إلى أنّ الحلق ، أو التقصير ، مندوب ، غير واجب ، وكذلك أيام منى ، ورمي الجمار (٢).

باب زيارة البيت والرّجوع إلى منى ورمي الجمار

فإذا فرغ المستمتع من مناسكه ، يوم النحر بمنى ، وهي ثلاثة ، رمي جمرة العقبة ، فحسب ، على ما قدّمناه ، والذبح والحلق ، أو التقصير ، على جهة التخيير ، على ما ذكرناه ، ولا بأس بتقديم أيّها شاء ، على الآخر ، إلا أنّ الأفضل الترتيب ، فليتوجه إلى مكة يوم النحر ، لطواف الحج ، وسعيه.

ويستحب له أن لا يؤخره إلا لعذر ، فإن أخّره لعذر ، زار البيت من الغد.

ويستحب له أن لا يؤخّر طواف الحج ، وسعيه أكثر من ذلك ، فإن أخّره فلا بأس عليه ، وله أن يأتي بالطواف ، والسعي ، طول ذي الحجّة ، لأنّه من شهور الحجّ ، وانّما يقدّم ذلك على جهة التأكيد للمتمتع ، ولا يجوز له تأخير ذلك إلى استهلال المحرم ، فمن أخّره عامدا بطل حجّه.

ويستحب لمن أراد زيارة البيت ، أن يغتسل قبل دخوله المسجد ، والطواف بالبيت ، ويقلّم أظفاره ، ويأخذ شيئا من شاربه ، ثم يزور ، وغسله أوّل نهاره ، كاف له إلى اللّيل ، وكذلك إن اغتسل أول ليلة ، كفاه ذلك إلى النهار ، سواء نام أو لم ينم ، وقد روي أنّه إن نقضه بحدث أو نوم ، فليعد الغسل (٣). والأول

__________________

(١) في م : في نهايته

(٢) التبيان : في تفسير الآية ١٩٦ من سورة البقرة.

(٣) الوسائل : كتاب الحج ، الباب ٦ من أبواب مقدمات الطواف ..

٦٠٢

أظهر ، وهذه رواية ضعيفة.

ثمّ يدخل المسجد ، فأول ما يبدأ به إذا دخل المسجد الحرام ، الطواف بالبيت ، إلا أن يكون عليه صلاة فائتة ، فريضة ، فإنّه يبدأ بالصلاة ، أو يكون قد دخل وقت الصلاة المؤداة ، ولم يكن عليه فائتة ، فإنّه يبدأ أولا ، بالصلاة ، أو وجد الناس في الجماعة ، فإنّه يدخل معهم فيها ، وكذلك إن خاف فوت صلاة الليل ، أو فوت ركعتي الفجر ، فإنّه يبدأ بذلك أولا.

فإذا فرغ منه ، بدأ بالطواف ، فإذا شرع في الطواف ، ابتدأه من الحجر الأسود.

والمستحب ، استلامه بجميع بدنه ، فإن لم يمكنه إلا ببعضه ، جاز ذلك ، فإن لم يقدر استلمه بيده ، فإن لم يقدر أشار إليه ، واستقبله ، وكبّر وقال ما قاله حين طاف بالبيت ، طواف العمرة المتمتع بها ، وقد ذكرناه فيما مضى ، ثمّ يطوف بالبيت أسبوعا ، كما قدّمنا وصفه ، إلا أنّه ينوي بهذا الطواف ، طواف الحجّ ، ويصلّي عند المقام ركعتين.

ثمّ يستحب له ، أن يرجع إلى الحجر الأسود ، فيقبّله إن استطاع ، ثم ليخرج إلى الصفا ، فيصنع عنده ما صنع يوم دخل مكة ، ثمّ يأتي المروة ، ويطوف بينهما سبعة أشواط ، يبدأ بالصفا ، ويختم بالمروة ، وجوبا ، فإذا فعل ذلك ، فقد حلّ له كلّ شي‌ء أحرم منه ، إلا النساء.

هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر وذهب في نهايته (١) إليه ، إلا أنّه رجع عنه ، في استبصاره ، وقال : إذا طاف طواف الحجّ فحسب ، حلّ له كل شي‌ء ، إلا النساء (٢) وإلى هذا يذهب السيد المرتضى ، في انتصاره (٣) ، وهو الذي أعمل عليه ، وافتي به ، وليس عليه هاهنا بعد السعي ، حلق ، ولا تقصير.

__________________

(١) النهاية : كتاب الحج ، باب زيارة البيت.

(٢) الاستبصار : كتاب الحج ، باب انّه إذا طاف طواف الزيارة رقم الباب ١٩٩.

(٣) الانتصار : كتاب الحج ، مسألة ٢٠.

٦٠٣

ثمّ ليرجع إلى البيت ، ويطوف طواف النساء أسبوعا ، ويصلّي عند المقام ركعتين وجوبا ، وليس عليه سعي ، بعد طواف النساء ، لأنّ كل طواف واجب لا بدّ له من سعي واجب ، إلا طواف النساء ، لا سعي بعده.

وكل إحرام لا بدّ له من طواف النساء ، لتحلّ له ، إلا إحرام العمرة المتمتع بها إلى الحجّ ، لا طواف نساء فيها ، وتحلّ من دونه.

واعلم أنّ طواف النساء ، فريضة في الحجّ ، وفي العمرة المبتولة ، وليس بواجب في العمرة المتمتع بها (١) إلى الحجّ ، على ما قدّمناه ، وإن مات من وجب عليه طواف النساء ، كان على وليه القضاء ، عنه ، وإن تركه وهو حي ، كان عليه قضاؤه ، فإن لم يتمكن من الرجوع إلى مكة ، جاز له أن يأمر من ينوب عنه فيه ، فإذا طاف النائب عنه ، حلّت له النساء ، ولا تحل له النساء ، إلا بعد العلم بأنّه قد طاف عنه ، وهو واجب على النساء ، والرجال ، والشيوخ ، والخصيان ، لا يجوز لهم تركه وإن لم يريدوا وطء النساء.

وإذا فرغ الإنسان من الطواف ، فليرجع إلى منى ، ولا يبيت ليالي التشريق ، إلا بها ، فإن بات في غيرها ، كان عليه دم شاة ، وقد روي (٢) أنّه إن بات بمكة ، مشتغلا بالعبادة والطواف ، لم يكن عليه شي‌ء ، وإن لم يكن مشتغلا بهما ، كان عليه ما ذكرناه ، والأول أظهر.

وإن خرج من منى بعد نصف الليل ، جاز له أن يبيت بغيرها ، غير أنّه لا يدخل مكة ، إلا بعد طلوع الفجر ، على ما روي في الأخبار (٣) وإن تمكن أن لا يخرج منها إلا بعد طلوع الفجر ، كان أفضل على تلك الرواية.

ومن بات الثلاث ليال بغير منى ، متعمدا ، كان عليه ثلاث من الغنم ،

__________________

(١) ج : في العمرة التي يتمتع بها.

(٢) الوسائل : كتاب الحج ، الباب ١ من أبواب العود إلى منى.

(٣) الوسائل : كتاب الحج ، الباب ١ من أبواب العود إلى منى.

٦٠٤

وقال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة : من بات عن منى ليلة ، كان عليه دم شاة ، على ما قدّمناه ، فإن بات عنها ليلتين ، كان عليه دمان ، فإن بات ليلة الثالثة ، لا يلزمه شي‌ء ، لأنّ له النفر في الأول ، والنفر الأول يوم الثاني من أيام التشريق بلا خلاف ، والنفر الثاني يوم الثالث من أيام التشريق ، وقد روي في بعض الأخبار ، (١) أنّ من بات ثلاث ليال عن منى ، فعليه ثلاثة دماء (٢) وذلك محمول على الاستحباب ، أو على من لم ينفر في النفر الأول ، حتى غابت الشمس ، فإنّه إذا غابت ، ليس له أن ينفر ، فإن نفر فعليه دم ، والأول مذهبه في نهايته (٣) وهو الصحيح ، لأنّ التخريج الذي خرجه ، لا يستقيم له ، وذلك أنّ من عليه كفارة ، لا يجوز له أن ينفر ، في النفر الأول ، بغير خلاف ، فقوله رحمه‌الله : له أن ينفر في النفر الأول ، غير مسلّم ، لأنّ عليه كفارة لأجل إخلاله بالمبيت ليلتين.

والأفضل أن لا يبرح الإنسان أيام التشريق من منى ، طول نهاره ، وإذا أراد أن يأتي مكة للطواف بالبيت تطوعا ، جاز له ذلك ، غير أن الأفضل ما قدّمناه.

وإذا رجع الإنسان إلى منى ، لرمي الجمار ، كان عليه وجوبا ، أن يرمي ثلاثة أيام ، الثاني من النحر ، والثالث ، والرابع ، كل يوم بإحدى وعشرين حصاة ، ويكون ذلك عند الزوال ، فإنّه الأفضل ، فإن رماها ما بين طلوع الشمس إلى غروب الشمس ، لم يكن به بأس ، وقال شيخنا في مسائل الخلاف : ولا يجوز الرمي أيام التشريق ، إلا بعد الزوال ، وقد روي رخصة ، قبل الزوال ، في الأيام كلها (٤) ، وما ذكره في نهايته (٥) ومبسوطة (٦) هو الأظهر ، الأصح ، عند بعض أصحابنا ، وما ذكره في مسائل خلافه ، مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة.

__________________

(١) الوسائل : كتاب الحج ، الباب ١ من أبواب العود إلى منى.

(٢) المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر نزول منى بعد الإفاضة من المشعر.

(٣) النهاية : كتاب الحج ، باب زيارة البيت والرجوع الى منى ورمي الجمار.

(٤) الخلاف : كتاب الحج ، مسألة ١٧٦.

(٥) النهاية : كتاب الحج ، باب زيارة البيت والرجوع الى منى ورمي الجمار.

(٦) المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر نزول منى بعد الإفاضة من المشعر.

٦٠٥

وهل رمي الجمار واجب ، أو مسنون؟ لا خلاف بين أصحابنا في كونه واجبا ، ولا أظن أحدا من المسلمين ، يخالف في ذلك ، وقد يشتبه على بعض أصحابنا ، ويعتقد أنّه مسنون ، غير واجب ، لما يجده من كلام بعض المصنفين ، وعبارة موهمة ، أوردها في كتبه ، ويقلّد المسطور بغير فكر ، ولا نظر ، وهذا غاية الخطأ ، وضدّ الصواب. فانّ شيخنا أبا جعفر الطوسي رحمه‌الله ، قال في الجمل والعقود : والرمي مسنون (١) فيظن من يقف على هذه العبارة ، أنّه مندوب ، وانّما أراد الشيخ بقوله مسنون ، أنّ فرضه عرف من جهة السنة ، لأنّ القرآن لا يدل على ذلك ، والدليل على صحّة هذا الاعتبار والقول ، ما اعتذر شيخنا أبو جعفر الطوسي في كتابه الاستبصار ، وتأوّل لفظ بعض الاخبار ، فقال الراوي في الخبر ، في باب وجوب غسل الميّت ، وغسل من غسل ميتا ، فأورد الأخبار بوجوب الغسل ، على من غسل ميتا ، ثم أورد خبرا عن ابن أبي نجران ، يتضمن أن الغسل من الجنابة فريضة ، وغسل الميت سنة ، فقال شيخنا أبو جعفر ، فما تضمن هذا الخبر ، من أن غسل الميّت سنة ، لا يعترض (٢) ما قلناه من وجوه ، أحدها أنّ هذا الخبر مرسل ، لأنّ ابن أبي نجران ، قال عن رجل ، ولم يذكر من هو ، ولا يمتنع أن يكون غير موثوق به ، ولو سلم ، لكان المراد في إضافة هذا الغسل ، إلى السنة ، أنّ فرضه عرف من جهة السنة ، لأنّ القرآن ، لا يدل على ذلك ، وانّما علمناه بالسنة (٣). هذا أخر كلام شيخنا أبي جعفر في الاستبصار.

وإذا احتمل قوله في الجمل والعقود ما ذكرناه ، كان موافقا لقوله في مبسوطة ، ونهايته ، لئلا يتناقض قولاه ، فإنّه قال في نهايته : وإذا رجع الإنسان إلى منى ، لرمي الجمار ، كان عليه أن يرمي ثلاثة أيام (٤) فأتى بلفظ يقتضي

__________________

(١) الجمل والعقود : كتاب الحج ، باب ٩ فصل في نزول منى.

(٢) ج : لا يعارض

(٣) الاستبصار : كتاب الطهارة : باب ٦٠ ، ح ٩.

(٤) النهاية : كتاب الحج ، باب زيارة البيت والرجوع الى منى ورمي الجمار.

٦٠٦

الوجوب ، بغير خلاف في عرف الشريعة وقال في مبسوطة مصرحا : والواجب عليه ، أن يرمي ثلاثة أيام التشريق ، الثاني من النحر ، والثالث والرابع ، كل يوم بإحدى وعشرين حصاة ، ثلاث جمار ، كل جمرة منها ، بسبع حصيات وإلى الوجوب يذهب في مسائل الخلاف ، ويلوح به ، ويدل عليه.

ثم الأخبار التي أوردها في تهذيب الأحكام (١) متناصرة بالوجوب ، عامة الألفاظ ، وكذلك الأخبار المتواترة دالة على الوجوب ، ثم فعل الرسول والأئمة عليهم‌السلام يدل على ما اخترناه ، وشرحناه ، لأنّ الحجّ في القرآن مجمل ، وفعله عليه‌السلام ، إذا كان بيانا المجمل ، جرى مجرى قوله ، والبيان في حكم المبيّن ، ولا خلاف أنّه عليه‌السلام ، رمى الجمار ، وقال : خذوا عنّي مناسككم ، فقد أمرنا بالأخذ ، والأمر يقتضي الوجوب عندنا ، والفور ، دون التراخي.

وأيضا دليل الاحتياط يقتضيه ، لأنّه لا خلاف بين الأمّة ، أنّ من رمى الجمار ، برئت ذمّته من جميع أفعال الحجّ ، والخلاف حاصل إذا لم يرم الجمار.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في استبصاره ، في كتاب الحجّ ، في باب من نسي رمي الجمار حتى يأتي مكة ، أورد أخبارا تتضمن الرجوع ، والأمر بالرمي ، ثم أورد خبرا عن معاوية بن عمار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ، رجل نسي رمي الجمار ، قال : يرجع ويرميها ، قلت : فإنّه نسيها أو جهلها حتى فاته ، وخرج ، قال : ليس عليه ان يعيد.

فقال شيخنا : قال محمد بن الحسن ، يعنى نفسه ، قوله عليه‌السلام ، ليس عليه أن يعيد ، معناه ليس عليه أن يعيد في هذه السنة ، وإن كان يجب عليه إعادته في السنة المقبلة ، إمّا بنفسه مع التمكن ، أو يأمر من ينوب عنه ، وانّما كان كذلك ، لأنّ أيام الرمي ، هي أيّام التشريق ، فإذا فاتته ، لم يلزمه شي‌ء ،

__________________

(١) التهذيب : كتاب الحج ، باب ١٩ باب الرجوع الى منى ورمي الجمار.

٦٠٧

إلا في العام المقبل ، في مثل هذه الأيام (١) هذا آخر كلام الشيخ أبي جعفر في استبصاره.

قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : فلو كان الرمي مندوبا عند شيخنا ، لما قال يجب عليه إعادته في السنة المقبلة ، إمّا بنفسه مع التمكن ، أو يأمر من ينوب عنه ، لأنّ المندوب ، لا يجب على تاركه إعادته.

فإن أراد رمي الجمار ، في أيام التشريق ، فليبدأ بالجمرة التي تلي المشعر الحرام ، وليرمها عن يسارها ، من بطن المسيل ، بسبع حصيات ، يرميهن خذفا ، وقد بيّنا لغته ، على ما قال الجوهري في كتاب الصحاح ، وهو أن قال : فإنّ الخذف بالحصى ، الرمي منه بالأصابع.

ويكبّر مع كل حصاة استحبابا ، ويدعو بالدعاء الذي قدّمناه ، ثم يقوم عن يسار الطريق ، ويستقبل القبلة ، ويحمد الله تعالى ، ويثني عليه ، ويصلّي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم ليتقدّم قليلا ، ويدعو ، ويسأله أن يتقبل منه.

فإن رماها بالسبع الحصيات في دفعة واحدة ، لا يجزيه بغير خلاف بيننا ثم يتقدّم أيضا ، ويرمي الجمرة الثانية ، ويصنع عندها كما صنع عند الاولى ، ويقف ويدعو بعد الحصاة السابعة ، ثم يمضي إلى الثالثة ، وهي جمرة العقبة ، تكون الأخيرة ، بها يختم الرمي ، في جميع أيام التشريق ، وانّما يحصل لها مزية ، بالرمي عليها وحدها يوم النحر فحسب ، فيرميها كما رمى الأوليين ، ولا يقف عندها.

فإذا غابت الشمس ، ولم يكن قد رمى بعد ، فلا يجوز له أن يرمي ، إلا في الغد ، فإذا كان من الغد ، رمى ليومه مرة ومرة قضاء لما فاته ، ويفصل بينهما بساعة.

وينبغي أن يكون الذي يرمي لأمسه بكرة ، والذي ليومه عند الزوال ،

__________________

(١) الاستبصار : الباب ٢٠٤ ح ٢ مع اختلاف في المتن.

٦٠٨

ومعنى قولنا بكرة ، المراد به بعد طلوع الشمس ، أول ذلك ، لأنّا قد بيّنا أنّ الرمي ما بين طلوع الشمس إلى غروبها ، والباكورة من الفاكهة : أوائلها ، وقد أورد شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في كتاب المصباح لفظا يشتبه على غير المتأمل ، وهو أن قال في صلاة يوم الجمعة : يصلي ست ركعات بكرة (١) والمراد بذلك عند انبساط الشمس في أول ذلك ، يدل على ذلك ما أورده في نهايته ، وهو أن قال : يصلّي ست ركعات ، عند انبساط الشمس (٢) فيظن من يقف على ما قاله في مصباحه ، أنّ المراد بقوله رحمه‌الله بكرة ، عند طلوع الفجر ، وهذا بعيد من قائله.

فإن فاته رمي يومين ، رماها كلها يوم النفر ، وليس عليه شي‌ء.

ولا يجوز الرمي بالليل ، وقد رخص للعليل ، والخائف ، والرعاة ، والعبيد ، في الرمي بالليل.

ومن نسي رمي الجمار ، إلى أن أتى مكة ، فإنّه يجب عليه العود إلى منى ورميها ، وليس عليه كفّارة ، إذا كانت أيّام التشريق لم يخرج ، فإن ذكرها بعد خروج أيام التشريق ، فالواجب عليه تركها إلى القابل ، ورميها في أيام التشريق ، إن تمكن من العود ، وإلا استناب من يرميها عنه.

وحكم المرأة في جميع ما ذكرناه ، حكم الرجل سواء.

والترتيب واجب في الرمي ، يجب أن يبدأ بالجمرة التي تلي المشعر ، وبعض أصحابنا يسميها العظمى ، ثمّ الوسطى ، ثمّ جمرة العقبة ، فمن خالف شيئا منها أو رماها منكوسة ، كان عليه الإعادة.

ومن بدأ بجمرة العقبة ، ثم الوسطى ثم الأولى ، أعاد على الوسطى ، ثم جمرة العقبة.

فإن نسي ، فرمى الجمرة الأولى ، بثلاث حصيات ، ورمى الجمرتين

__________________

(١) المصباح : نوافل الجمعة ، ص ٣٠٩ الطبع الحديث.

(٢) النهاية : كتاب الصلاة ، باب الجمعة وأحكامها.

٦٠٩

الأخريين على التمام ، كان عليه أن يعيد عليها كلّها.

وإن كان قد رمي الجمرة الأولى ، بأربع حصيات ، ثمّ رمى الجمرتين على التمام ، كان عليه أن يعيد على الاولى ، بثلاث حصيات ، وكذلك إن كان قد رمى من الوسطى أقل من أربع حصيات ، أعاد عليها ، وعلى ما بعدها ، وإن رماها بأربع ، تمّمها ، وليس عليه الإعادة على ما بعدها.

فالاعتبار بحصول رمي أربع حصيات ، فإذا كان كذلك ، تمّمها ولا يجب عليه الإعادة على ما بعدها ، فإن كان قد رمى أقل من أربع حصيات ، على إحدى الجمرات تممها ، وأعاد مستأنفا على ما بعدها.

ومن رمى جمرة بست حصيات ، وضاعت واحدة ، أعاد عليها بالحصاة ، وإن كان من الغد.

ولا يجوز أن يأخذ من حصى الجمار الذي قد رمى به ، فيرمي بها.

ومن علم أنّه قد نقص حصاة واحدة ، ولم يعلم من أيّ الجمار هي ، أعاد على كلّ واحدة منها بحصاة.

فإن رمى بحصاة ، فوقعت في محمله ، أعاد مكانها حصاة أخرى.

فإن أصابت إنسانا ، أو دابة ، ثم وقعت على الجمرة ، فقد أجزأه إذا وقعت باعتماده.

ويجوز أن يرمي راكبا ، وماشيا.

ويجوز الرمي عن العليل ، والمبطون ، والصبي ، ولا بدّ من إذنه إذا كان عقله ثابتا.

ويستحب أن يترك الحصى في كفه ، ثم يؤخذ ويرمي به.

وينبغي أن يكبّر الإنسان بمنى ، عقيب خمس عشرة صلاة ، من الفرائض ، يبدأ بالتكبير يوم النحر بعد الظهر إلى صلاة الفجر ، من اليوم الثالث ، وفي الأمصار عقيب عشر صلوات ، يبدأ عقيب الظهر من يوم النحر ، إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني ، من أيام التشريق ، ويقول في التكبير : « الله أكبر ، الله

٦١٠

أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر على ما هدانا ، والحمد لله على ما أولانا ورزقنا من بهيمة الأنعام ».

ومن أصحابنا ، من قال : إنّ التكبير واجب ، ومنهم من قال : إنّه مسنون ، وهو الأظهر الأصح ، لأنّ الأصل براءة الذمة من العبادات ، فمن شغلها بشي‌ء يحتاج إلى دليل ، من كتاب أو سنّة ، متواترة ، أو إجماع ، والإجماع ، غير حاصل ، لأنّ بين أصحابنا خلافا في ذلك ، على ما بيّناه ، والكتاب خال من ذلك ، وكذلك السنة المتواترة ، بقي معنا ، الأصل براءة الذمة.

وإلى هذا القول ، ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله ، في مبسوطة (١) ، وذهب في جمله وعقوده (٢) ، إلى أنّه واجب ، وكذلك في استبصاره (٣) وإلى الوجوب ، ذهب السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه.

ولا يكبر عندنا عقيب النوافل ، ولا في الطرقات ، والشوارع لأجل هذه الأيام ، خصوصا ، ولا يكبّر أيضا ، قبل يوم النحر ، في شي‌ء من أيام العشر بحال.

باب النفر من منى ودخول الكعبة ووداع البيت

ولا بأس أن ينفر الإنسان من منى ، اليوم الثاني من أيام التشريق ، وهو اليوم الثالث من يوم النحر ، فإن أقام إلى النفر الأخير ، وهو اليوم الثالث من أيام التشريق ، والرابع من يوم النحر ، كان أفضل ، ويوم الحادي عشر ، يسمّى يوم القرّ ، لأنّ الناس يقرون فيه بمنى ، لا يبرحونه ، والثاني عشر ، يوم النفر الأول ، والثالث عشر ، يوم النفر الثاني ، وليلته تسمّى ليلة التحصيب ، لأنّه النفر الأخير.

__________________

(١) المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر نزول منى.

(٢) الجمل والعقود : كتاب الحج ، باب ٩ فصل في نزول منى وقضاء المناسك بها.

(٣) الاستبصار : كتاب الحج ، باب ٢٠٦ ان التكبير أيام التشريق عقيب الصلوات المفروضات واجب.

٦١١

والتحصيب يستحب لمن نفر في النفر الثاني ، دون الأول على ما قدّمناه ، وقال شيخنا في مبسوطة : وليلة الرابع ، ليلة التحصيب (١) فإن أراد رحمه‌الله ، الرابع من يوم النحر ، فصحيح ، وإن أراد الرابع عشر ، فغير واضح ، لأنّ التحصيب ، لا يكون إلا لمن نفر في النفر الأخير ، والنفر الأخير ، بلا خلاف من الأمة ، هو اليوم الثالث عشر ، من ذي الحجة ، فإن كان ممن أصاب النساء ، في إحرامه ، أو صيدا ، لم يجز له أن ينفر في النفر الأول ، ويجب عليه المقام إلى النفر الأخير.

وإن أراد أن ينفر في النفر الأول ، فلا ينفر ، إلا بعد الزوال ، إلا أن تدعوه ضرورة إليه ، من خوف ، وغيره ، فإنه لا بأس أن ينفر قبل الزوال ، وله أن ينفر ما بينه وبين الزوال ، وما بينه وبين غروب الشمس ، فإذا غابت الشمس لم يجز له النفر والبيت بمنى إلى الغد.

وإذا نفر في النفر الأخير ، جاز له أن ينفر من بعد طلوع الشمس ، أيّ وقت شاء ، فإن لم ينفر ، وأراد المقام بمنى ، جاز له ذلك ، إلا الإمام خاصة ، فإنّ عليه أن يصلّي الظهر بمكة.

ومن نفر من منى ، وكان قد قضى مناسكه كلها ، جاز له أن لا يدخل مكة ، وإن كان قد بقي عليه شي‌ء من المناسك ، فلا بدّ له من الرجوع إليها ، والأفضل على كل حال ، الرجوع لتوديع البيت ، وطواف الوداع.

ويستحب أن يصلّي الإنسان بمسجد منى ، وهو مسجد الخيف ، والخيف سفح الجبل ، لأنّ كل سفح جبل عند أهل اللسان ، يسمّى خيفا ، فلما كان هذا المسجد في سفح الجبل ، سمّي مسجد الخيف ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يسجد عند المنارة ، التي في وسط المسجد ، وفوقها إلى القبلة ، نحوا من

__________________

(١) المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر الإحرام بالحج ونزول منى.

٦١٢

ثلاثين ذراعا ، وعن يمينها ، ويسارها ، مثل ذلك ، فإن استطعت أن يكون مصلاك فيه ، فافعل ، ويستحب أن يصلّي فيه ست ركعات.

فإذا خرج من منى ، وبلغ مسجد الحصباء ، وهو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فليدخله ، وليسترح فيه قليلا ، وليستلق على قفاه ، وليس لهذا المسجد المذكور في الكتب أثر اليوم.

وانّما المستحب التحصيب ، وهو نزول الموضع ، والاستراحة فيه ، اقتداء. بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما تقدّم ذكرنا له ، وهو انّما يستحب لمن نفر في النفر الثاني ، دون الأول ، وهو الثالث عشر من ذي الحجة ، على ما قدّمناه وحققناه ، قال الثوري : سألت أبا عبيدة عن اليوم الثاني من النحر ، ما كانت العرب تسمّيه؟ فقال : ليس عندي من ذلك علم ، ولقيت ابن مناذر ، وأخبرته بذلك ، فعجب وقال : أسقط مثل هذا على أبي عبيدة ، وهي أربعة أيام متواليات ، كلها على الراء ، يوم النحر ، والثاني يوم القر ، والثالث يوم النفر والرابع يوم الصدر (١) فحدثت أبا عبيدة ، فكتبه عني ، عن ابن مناذر.

قال محمّد بن إدريس : وقد يوجد في بعض نسخ المبسوط ، أنّ يوم الحادي عشر ، يوم النفر ، وهذا خطأ من الكتّاب ، والنسّاخ ، إن كانوا غيّروا ذلك ، أو إغفال في التصنيف ، فما المعصوم ، إلا من عصمه الله ، وابن مناذر هذا شاعر ، لغوي ، بصري ، صاحب القصيدة الدالية الطويلة :

كلّ حي لاقى الحمام فمودي

فإذا جاء إلى مكة ، فليدخل الكعبة ، إن تمكن من ذلك ، سنّة واستحبابا ، دون أن يكون ذلك فرضا وإيجابا ، سواء كان الإنسان صرورة ، أو غير صرورة ، إلا انّه يتأكد في حقّ الصرورة.

__________________

(١) الصدر بفتحتين ، رجوع المسافر من مقصده ورجوع الحاج عن الحج ويوم الرابع من يوم النحر.

٦١٣

فإذا أراد دخول الكعبة ، فليغتسل قبل دخولها سنّة مؤكدة ، فإذا دخلها فلا يمتخط فيها ، ولا يبصق ، ولا يجوز دخولها بحذاء على ما روي (١) ، وانّما هو على تغليظ الكراهة ، ويقول إذا دخلها : اللهم انّك قلت « وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً » فآمني من عذابك ، عذاب القبر.

ثم يصلّي بين الأسطوانتين ، على الرخامة الحمراء ، ركعتين ، يقرأ في الأولى منهما ، حم السجدة ، وفي الثانية عدد آياتها ، ثم ليصلّ في زوايا البيت كلها ، ثم يقول : اللهم من تهيّأ وتعبّأ إلى آخر الدعاء.

فإذا صلّى عند الرخامة الحمراء ، على ما قدّمناه ، وفي زوايا البيت ، قام فاستقبل الحائط ، بين الركن اليماني والغربي ، يرفع يديه عليه ، ويلتصق به ، ويدعو ، ثم يتحوّل إلى الركن اليماني ، فيفعل به مثل ذلك ، ثمّ يفعل مثل ذلك بباقي الأركان ، ثمّ ليخرج.

ويكره أن يصلّي الإنسان الفريضة جوف الكعبة ، مع الاختيار ، فإن اضطر إلى ذلك ، لم يكن عليه بأس ، فأمّا النوافل ، فمرغّب الصلاة فيها شديد الاستحباب.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته في هذا الباب : ولا يجوز أن يصلّي الإنسان الفريضة جوف الكعبة (٢) وإليه يذهب في مسائل خلافه (٣) والصحيح أنّه مكروه ، غير محظور ، وقد ذهب إلى الكراهة ، في جمله وعقوده (٤) ، وهو الأظهر بين أصحابنا ، وما ورد من لفظ لا يجوز ، نحمله على تغليظ الكراهة ، دون الحظر ، لأنّ الشي‌ء إذا كان عندهم شديد الكراهة ، قالوا لا يجوز ، وقد ذكرنا ذلك ، وأشبعنا القول فيه ، فيما مضى ، من كتاب الصلاة.

__________________

(١) الوسائل : كتاب الحج ، الباب ٣٦ من أبواب مقدمات الطواف ، ح ١.

(٢) النهاية : كتاب الحج ، باب النفر من منى ودخول الكعبة.

(٣) الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة ١٦٨.

(٤) الجمل والعقود : كتاب الصلاة ، فصل فيما يجوز الصلاة عليه من المكان.

٦١٤

فإذا خرج من البيت ، عاد ، فاستقبله ، وصلّى عن يمينه ركعتين.

ويستحب له أن يلح بالدعاء ، عند الحطيم ، فإنّه أشرف بقعة على وجه الأرض ، والحطيم ما بين الحجر الأسود ، وباب الكعبة ، وسمّي حطيما ، لأنّ ذنوب بني آدم ، تنحطم عنده ، على ما روي في الأخبار (١).

فإذا أراد الخروج من مكة ، جاء الى البيت ، فطاف به ، أسبوعا ، طواف الوداع ، سنّة مؤكدة ، فإن استطاع أن يستلم الحجر ، والركن ، في كل شوط ، فعل ، وإن لم يتمكن ، فعل ذلك في ابتداء طوافه ، وانتهائه ، ثمّ يأتي المستجار ، فيصنع عنده ، كما صنع يوم قدم مكة ، ويتخير لنفسه من الدعاء ، ما أراد ، ثم يستلم الحجر الأسود ، ثمّ يودع البيت ، فيقول : اللهم لا تجعله آخر العهد من بيتك ، ثمّ ليأت زمزم ، فيشرب من مائها ، وبئر زمزم ، بئر لا غير (٢) ، حكمها حكم الآبار ينجسها ، ما ينجس الآبار ، ويطهّرها ، ما يطهّر الآبار ، وسمّيت بهذا الاسم قال أبو الحسن ، علي بن الحسين المسعودي ، في كتابه المترجم بمروج الذهب ومعادن الجوهر ، في التاريخ ، وغيره ـ وهو كتاب حسن كثير ، (٣) الفوائد ، وهذا الرجل من مصنّفي أصحابنا ، معتقد للحق ، له كتاب المقالات ـ قال ، وقد كانت أسلاف الفرس تقصد البيت الحرام ، وتطوف به ، تعظيما لجدّها إبراهيم ، وتمسّكا بدينه ، وحفظا لأنسابها ، وكان آخر من حج منهم ، ساسان بن بابك ، جد أردشير بن بابك ، أول ملوك ساسان كان وأبوهم ، الذي يرجعون إليه ، كرجوع الملوك المروانية ، إلى مروان بن الحكم ، وخلفاء العبّاسين ، إلى العبّاس بن عبد المطلب ، فكان ساسان إذا أتى البيت ، طاف به ، وزمزم على بئر إسماعيل ، فقيل : انّما سمّيت زمزم ، لزمزمته عليها ، هو وغيره ، من فارس ، وهذا يدل على كثرة ترادف هذا الفعل منهم ، على هذه البئر ، وفي ذلك يقول الشاعر على قديم الزمان :

__________________

(١) الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب ٢٩ ، ح ١٤

(٢) في ط وج

(٣) في ط وج : حسن كبير.

٦١٥

زمزمت الفرس على زمزم

وذاك من سالفها الأقدم

ثم ليخرج ويقول : آئبون ، تائبون ، عابدون ، لربنا حامدون ، إلى ربنا راغبون إلى ربّنا راجعون.

فإذا خرج من باب المسجد ، فليكن خروجه ، من باب الحنّاطين ، وهي باب بني جمح ، قبيلة من قبائل قريش ، وهي بإزاء الركن الشامي ، من أبواب المسجد الحرام ، على التقريب ، فيخر ساجدا ، ويقوم مستقبل الكعبة ، فيقول : اللهم انّي أنقلب على لا إله إلا الله.

ومن لم يتمكن من طواف الوداع ، أو شغله شاغل عن ذلك حتى خرج ، لم يكن عليه شي‌ء.

وإذا أراد الخروج من مكة ، فالمستحب له أن يشتري بدرهم تمرا ، يتصدق به ، على ما وردت الأخبار بذلك (١).

باب فرائض الحجّ وتفصيل ذلك

قد ذكرنا فرائض الحج ، فيما تقدّم ، في اختلاف ضروب الحج ، وفرّقنا بين الأركان ، وما ليس بركن ، ونحن الآن ، نذكر تفصيل أحكامها ، إن شاء الله أمّا النية ، فهي ركن ، في الأنواع الثلاثة ، من تركها فلا حج له ، عامدا كان ، أو ناسيا ، إذا كان من أهل النية ، فإن لم يكن من أهلها ، أجزأت فيه نية غيره عنه ، وذلك مثل الصبي ، يحرم عنه وليه ، وينوي ، وينعقد إحرامه عندنا ، فعلى هذا إذا فقد النية ، لكونه سكران ، وإن حضر المشاهد ، وقضى المناسك ، لم يصح حجه بحال.

ثم الإحرام من الميقات ، وهو ركن ، من تركه متعمدا ، فلا حج له ، وإن

__________________

(١) الوسائل : كتاب الحج ، الباب ٢٠ من أبواب العود إلى منى.

٦١٦

نسيه ثم ذكر ، وعليه وقت ، رجع وأحرم منه ، فإن لم يمكنه ، أحرم من الموضع الذي انتهى إليه ، فإن لم يذكر حتى قضى المناسك كلّها ، روي في بعض الأخبار (١) أنّه لا شي‌ء عليه وتم حجه.

والتلبيات الأربع ، فريضة ، وقال بعض أصحابنا : هي ركن ، وقال بعضهم : انّها غير ركن ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي في مبسوطة (٢) إلا أنّه قال : إن تركها متعمدا ، فلا حجّ له ، إذا كان قادرا عليها ، وكذلك قال في نهايته (٣).

قال محمّد بن إدريس : فهذا حدّ الركن ، إن تركه متعمدا ، بطل حجّه ، بخلاف طواف النساء ، لأنّ طواف النساء فرض ، وليس بركن ، لا يجب على من أخل به متعمدا ، اعادة الحج ، بغير خلاف.

ثم قال شيخنا أبو جعفر : وإن تركها ناسيا ، لبّى حين ذكر ، ولا شي‌ء عليه (٤).

قال محمّد بن إدريس : إحرامه ما انعقد ، إذا لم يلبّ ، فيكون قد ترك الإحرام ناسيا ، لا أنّه أحرم ، ونسي التلبية ، بل إحرامه ما انعقد ، إذا كان متمتعا ، أو مفردا.

والطواف بالبيت ، إن كان متمتعا ثلاثة أطواف ، أولها : طواف العمرة المتمتع بها إلى الحج ، وهو ركن فيها ، فإن تركه متعمدا ، بطلت متعته ، وإن تركه ناسيا أعاد.

والثاني : طواف الزيارة ، الذي هو طواف الحجّ ، إن تركه متعمدا فلا حج له ، فإن تركه ناسيا ، أعاده على ما مضى القول فيه.

والثالث : طواف النساء ، فهو فرض ، وليس بركن ، فإن تركه متعمدا ، لم

__________________

(١) الوسائل : كتاب الحج ، الباب ٢٠ من أبواب المواقيت.

(٢) المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر تفصيل فرائض الحج.

(٣) النهاية : كتاب الحج ، باب فرائض الحج.

(٤) المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر تفصيل فرائض الحج.

٦١٧

تحل له النساء ، حتى يقضيه ، ولا يبطل حجه ، وإن تركه ناسيا ، قضاه (١) ، أو يستنيب فيه.

وإن كان قارنا أو مفردا ، طوافان ، طواف الحج ، وطواف النساء ، وحكمهما ما قلناه في المتمتع.

ويجب مع كل طواف ، ركعتان ، على الصحيح من الأقوال ، عند المقام ، وهما فرضان ، فإن تركهما متعمدا ، قضاهما في ذلك المقام ، فإن خرج ، سأل من ينوب عنه فيهما ، ولا يبطل حجه.

فإن قال قائل : أصحابكم يقولون في كتبهم ، الحاج المتمتع يجب عليه ثلاثة أطواف ، والقارن والمفرد طوافان ، ولو قالوا : يجب على القارن والمفرد أربعة أطواف ، والمتمتع ثلاثة أطواف ، كان هو الصواب ، لأنّ القارن والمفرد ، عليهما مع طوافيهما الذين ذكرتموهما ، طوافان آخران ، أحدهما طواف العمرة المبتولة ، والآخر طواف النساء لها ، فكيف الجواب؟

قلنا : قول أصحابنا سديد في موضعه ، لأنّهم قالوا يجب على الحاج القارن ، والمفرد ، ويذكرون فرائض الحج ، والمعتمر عمرة مبتولة ، ليس بحاج ، ولا العمرة المبتولة حج ، وانّما هي مقطوعة عن الحج ، فلهذا قالوا مبتولة ، أي مقطوعة ، لأنّ البتل القطع ، وليس كذلك العمرة المتمتع بها إلى الحج ، لأنّها حج ، وحكمها حكم الحج ، على ما قدّمناه ، ولقوله عليه‌السلام : دخلت العمرة في الحج هكذا ، وشبّك بين أصابعه (٢).

والسعي بين الصفا والمروة ركن ، فإن كان متمتعا يلزمه سعيان ، أحدهما للعمرة ، والآخر للحج ، وإن كان مفردا ، أو قارنا ، سعي واحد للحج ، فإن تركه متعمدا ، فلا حج له ، وإن تركه ناسيا ، قضاه أيّ وقت ذكره ، إذا كان ذلك في أشهر الحج.

__________________

(١) ج ، ط : قضاه ، ولا تحل له أيضا النساء ، حتى يقضيه.

(٢) الوسائل : كتاب الحج ، الباب ٣ من أبواب أقسام الحج ، ح ١٢١.

٦١٨

والوقوف بالموقفين ، عرفات ، والمشعر الحرام ، ركنان ، من تركهما ، أو واحدا منهما ، متعمدا فلا حج له ، فإن ترك الوقوف بعرفات ناسيا ، وجب عليه أن يعود ، فيقف بها ، ما بينه وبين طلوع الفجر ، من يوم النحر ، فإن لم يذكر إلا بعد طلوع الفجر ، وكان قد وقف بالمشعر ، فقد تم حجه ، ولا شي‌ء عليه ، وإن لم يكن وقف بالمشعر في وقته ، وجب عليه اعادة الحج ، لأنّه لم يحصل له أحد الموقفين في وقته.

وإذا ورد الحاج ليلا ، وعلم أنّه إن مضى إلى عرفات ، وقف (١) بها ، وإن كان قليلا ، ثم عاد إلى المشعر ، قبل طلوع الشمس ، وجب عليه المضي إليها ، والوقوف بها ، ثم يعود إلى المشعر ، فإن غلب في ظنّه ، أنّه إن مضى إلى عرفات ، لم يلحق المشعر ، قبل طلوع الشمس ، اقتصر على الوقوف بالمشعر ، وقد تمّ حجه ، ولا شي‌ء عليه.

ومن أدرك المشعر ، قبل طلوع الشمس ، فقد أدرك الحج ، فإن أدركه بعد طلوعها ، فقد فاته الحج.

ومن وقف بعرفات ، ثمّ قصد المشعر ، فعاقه في الطريق عائق ، فلم يلحق إلى قرب الزوال ، فقد تمّ حجّه ، لأنّه حصل له الوقوف بأحد الموقفين في وقته.

ومن لم يكن وقف بعرفات ، وأدرك المشعر بعد طلوع الشمس ، فقد فاته الحج ، لأنّه لم يلحق أحد الموقفين في وقته.

وذهب السيد المرتضى في انتصاره (٢) إلى أنّ وقته ، جميع اليوم من يوم العيد ، فمن أدرك المشعر ، قبل غروب الشمس من يوم العيد ، فقد أدرك المشعر.

ومن فاته الحج ، أقام على إحرامه ، إلى انقضاء أيام التشريق ، ثم يجي‌ء إلى مكة ، فيطوف بالبيت ، ويسعى ، ويتحلل بعمرة ، وإن كان قد ساق معه هديا ، نحره بمكة ، وعليه الحج من قابل ، إن كانت حجة الإسلام ، وإن كانت تطوعا ،

__________________

(١) في ط وج : ووقف

(٢) الانتصار : كتاب الحج ، مسألة ٢.

٦١٩

كان بالخيار ، إن شاء حج ، وإن شاء لم يحج ، ولا يلزمه لمكان الفوات ، حجة أخرى ، لأنّه لم يفسدها.

ومن فاته الحج ، سقطت عنه توابعه ، من الرمي ، وغير ذلك ، وانّما عليه المقام بمنى استحبابا ، وليس عليه بها حلق ، ولا تقصير ، ولا ذبح ، وانّما يقصّر إذا تحلل بعمرة ، بعد الطواف والسعي ، ولا يلزمه دم ، لمكان الفوات.

ومن كان متمتعا ، ففاته الحجّ ، فإن كانت حجّة الإسلام ، فلا يقضيها ، إلا متمتعا ، لأنّ ذلك فرضه ، ولا يجوز غيره ، ويحتاج إلى أن يعيد العمرة ، في أشهر الحج ، في السنة المقبلة ، فإن لم تكن حجة الإسلام ، أو كان من أهل مكة وحاضريها ، جاز أن يقضيها مفردا ، أو قارنا.

وإن فاته القران ، أو الإفراد ، جاز أن يقضيه متمتعا ، لأنّه أفضل ، بعد أن يكون قد حجّ حجة الإسلام متمتعا ، إن كان فرضه التمتع.

والمواضع التي يجب أن يكون الإنسان فيها مفيقا ، حتى يجزيه ، أربعة : الإحرام ، والوقوف بالموقفين ، والطواف ، والسعي. وإن كان مجنونا أو مغلوبا على عقله ، لم ينعقد إحرامه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مبسوطة : وما عدا ذلك ، يصح منه (١) والأولى عندي ، أنّه لا يصح منه شي‌ء من العبادات ، والمناسك ، إذا كان مجنونا ، لأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الأعمال بالنيات ، وانّما لامرئ ما نوى (٢) والنية لا تصح منه ، وقال تعالى : ( وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ) (٣) فنفى تعالى أن يجزي أحدا بعمله ، إلا ما أريد وطلب به وجه ربه الأعلى ، والمجنون لا إرادة له.

__________________

(١) المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر تفصيل فرائض الحج.

(٢) الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب ٥ من أبواب مقدمة العبادات

(٣) الليل : ١٩.

٦٢٠