كتاب السرائر - ج ١

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٧٦

والسهم الثاني المذكور المضاف إلى الرسول عليه‌السلام ، له بصريح الكلام ، وهذان السهمان معا للرسول عليه‌السلام في حياته ، ولخليفته القائم مقامه بعده.

فأمّا المضاف إلى ذي القربى ، فإنّما عنى به ولي الأمر من بعده ، لأنّه القريب إليه ، الخصيص به.

والثلاثة أسهم الباقية ، ليتامى آل محمّد عليهم‌السلام ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، وهم بنو هاشم خاصة ، دون غيرهم.

وإذا غنم المسلمون شيئا من دار الكفر ، بالسيف ، قسمه الإمام على خمسة أسهم ، فجعل أربعة منها بين من قاتل عليه ، وجعل السهم الخامس على ستة أسهم ، وهي التي قدّمنا بيانها ، ثلاثة منها ، له عليه‌السلام ، وثلاثة للثلاثة الأصناف من أهله ، من أيتامهم ، ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، والحجة في ذلك إجماع الفرقة المحقة عليه ، وعملهم به.

فإن قيل : هذا تخصيص لعموم الكتاب ، لأنّ الله تعالى يقول ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (١) فأطلق ، وعمّ ، وأنتم جعلتم المراد بذي القربى واحدا ، ثمّ قال ( وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) وهذا عموم ، فكيف خصّصتموه ببني هاشم خاصّة؟.

فالجواب عن ذلك ، أنّ العموم قد يخصّ بالدليل القاطع ، وإذا كانت الفرقة المحقة ، قد أجمعت على الحكم الذي ذكرناه خصّصنا بإجماعهم ، الذي هو غير محتمل الظاهر المحتمل ، على أنّه لا خلاف بين الأمّة ، في تخصيص هذه الظواهر ، لأنّ إطلاق قوله تعالى : « ذي القربى » يقتضي عمومه ، قرابة النبي عليه‌السلام ، وغيره ، فإذا خصّ به قرابة النبيّ عليه‌السلام ، فقد عدل عن الظاهر ، وكذلك

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

٥٠١

إطلاق لفظة اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل تقتضي دخول من كان بهذه الصفة ، من مسلم ، وذمي ، وغني ، وفقير ، ولا خلاف في أنّ عموم ذلك ، غير مراد ، وأنّه مخصوص على كل حال (١) هذا آخر كلام السيد المرتضى لا زيادة فيه ولا نقصان.

قال محمّد بن إدريس : فهل ترى أرشدك الله ، خللا في كلام السيد ، أو أنّه أعطى مال ابن الحسن لغيره ، أو تمّم لشركائه عليه‌السلام من سهمه ، إذا نقص سهمهم عن كفايتهم ، بل قسّمه على ما قسمه الله سبحانه ، وأعطى كل ذي حقّ حقّه ، ولم يلتفت إلى خبر شاذ ، وقول سخيف ، ومذهب ضعيف ، وإلى هذا القول ذهب رحمه‌الله في كتابه كتاب الانتصار (٢).

وأمّا شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان رحمه‌الله ، فقد قال في مقنعته : وقد اختلف قوم من أصحابنا في ذلك ، عند الغيبة ، وذهب كل فريق منهم إلى مقال ، فمنهم من يسقط (٣) فرض إخراجه لغيبة الإمام ، وما تقدّم من الرخص فيه ، من الاخبار ، وبعضهم يوجب كنزه ، ويتأوّل خبرا (٤) ورد أنّ الأرض تظهر كنوزها ، عند ظهور القائم ، مهدي الأنام عليه‌السلام ، وأنّه عليه‌السلام إذا قام ، دلّه الله سبحانه على الكنوز ، فيأخذها من كل مكان ، وبعضهم يرى صلة الذرية به ، وفقراء الشيعة على طريق الاستحباب ، ولست أدفع قرب هذا القول من الصواب ، وبعضهم يرى عزله لصاحب الأمر عليه‌السلام ، فإن (٥) خشي إدراك المنية قبل ظهوره ، وصّى به إلى من يثق به ، في عقله وديانته ، ليسلمه إلى الإمام عليه‌السلام ، إن أدرك قيامه ، وإلا وصّى به إلى من يقوم مقامه ، في

__________________

(١) المجموعة الاولى من رسائل الشريف ، ص ٨ ـ ٢٢٦. راجعها.

(٢) الانتصار : كتاب الزكاة ، في بيان أواخر مسائل الكتاب.

(٣) ج : وط : أسقط وفي نسخة المقنعة يسقط.

(٤) الإرشاد للمفيد رحمه‌الله فصل في سيرته عليه‌السلام عند قيامه.

(٥) ج : فإذا.

٥٠٢

الثقة والديانة ، ثم على هذا الشرط إلى أن يظهر إمام الزمان عليه‌السلام. وهذا القول عندي أوضح من جميع ما تقدم ، لأنّ الخمس حقّ واجب ، لغائب لم يرسم قبل غيبته رسما يجب الانتهاء إليه ، فوجب حفظه عليه ، إلى وقت إيابه ، أو التمكن من إيصاله إليه ، أو وجود من انتقل بالحق إليه ، وجرى أيضا مجرى الزكاة التي يعدم عند حلولها مستحقها فلا يجب عند عدمه سقوطها ، ولا يحل التصرف فيها ، على حسب التصرف في الأملاك ، ويجب حفظها بالنفس ، والوصيّة بها إلى من يقوم بإيصالها إلى مستحقها ، من أهل الزكاة من الأصناف ، وإن ذهب ذاهب إلى صنع ما وصفناه ، في شطر الخمس الذي هو حق خالص للإمام عليه‌السلام ، وجعل الشطر الآخر في يتامى آل الرسول عليهم‌السلام ، وأبناء سبيلهم ، ومساكينهم ، على ما جاء في القرآن ، لم تبعد إصابته الحقّ في ذلك ، بل كان على صواب ، وانّما اختلف أصحابنا في هذا الباب ، لعدم ما يلجأ إليه فيه من صريح الألفاظ ، وانّما عدم ذلك لموضع تغليظ المحنة ، مع إقامة الدليل بمقتضى العقل والأثر ، من لزوم الأصول في حظر التصرف في غير المملوك ، إلا بإذن المالك ، وحفظ الودائع لأهلها ورد الحقوق (١) هذا آخر قول شيخنا المفيد رحمه‌الله في مقنعته.

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : وهذا الشيخ المفيد جليل القدر ، مقتدى بأقواله ، وفتاويه ، انتهت رئاسة الشيعة الإمامية في عصره وزمانه إليه ، على ما حكاه شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله عنه ، وهو صاحب النظر الثاقب ، والمناظرات في الإمامة ، والمقالات المستخرجة التي لم تسبق إليها ، فانظر أرشدك الله تعالى إلى قوله : « وانّما اختلف أصحابنا في هذا الباب لعدم ما يلجأ إليه فيه من صريح الألفاظ » فلو كان فيه نص صريح ، وأخبار متواترة ، ما جاز له أن

__________________

(١) المقنعة : كتاب الخمس ، باب الزيادات في باب الأنفال ص ٢٨٧.

٥٠٣

يقول ذلك. ثم قال : « وإنّما عدم ذلك لموضع تغليظ المحنة ، ثم قال : مع إقامة الدليل بمقتضى العقل والأثر من لزوم الأصول ، في حظر التصرف في غير المملوك إلا بإذن المالك » مقصوده ، أنّ الله تعالى لا يكلّفنا شيئا إلا وينصب عليه الأدلة ، وإلا يكون تكليفا لما لا يطاق ، وتعالى الله عن ذلك ، فلما عدمت النصوص ، والخطاب من جهة الشارع ، كان لنا أدلة العقول منارا وعلما ، على المسألة ، نهتدي بها إليها ، على ما مضى شرحه في باب قسمة الغنائم والأخماس ، فقد أشبعنا القول في ذلك ، وحققناه وقلنا : إذا عدم أدلة الكتاب ، والأخبار المتواترة ، والإجماع في المسألة الشرعية ، كان فرضنا وتكليفنا فيها ، العمل بما يقتضيه العقل ، لأنّها تكون مبقاة عليه بغير خلاف من محصّل ، ولو اقتصر في المسألة على دليل الاحتياط ، لكفى ، فكيف والأدلة العقلية ، والسمعية قائمة عليها؟

ثم قال الشيخ المفيد ، في جواب المسائل التي سأله عنها محمّد بن محمّد بن الرملي وهي مشهورة : سؤال : وعن رجل وجد كنزا ، ثم لم يجد من يستحق الخمس منه ، ولا من يحمل إليه ، ما يصنع به ، وليس له في بلده الذي هو فيه ، أهل يدفع إليه ، ما يصنع به؟ جواب : يصرف نصف الخمس ، ليتامى آل محمّد عليهم‌السلام ، ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، ويجوز النصف الآخر ، لولي الأمر عليه‌السلام ، فإن أدركه ، سلّمه إليه ، وإن لم يدركه ، وصّى به له ، وجعله عند ثقة ، يوصله إليه ، فإن لم يجده الموصى إليه ، وصّى به إلى من جعله يقوم مقامه ، في ذلك ، وإذا لم يجد في بلده من يتامى آل محمد عليهم‌السلام ، ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، أحدا نفذه إلى بلد يكون فيه ، ليصل إليهم منه ، فانظر إلى فتوى هذا الشيخ رحمه‌الله.

٥٠٤

كتاب الحجّ

٥٠٥

كتاب الحج

باب حقيقة الحج والعمرة وشرائط وجوبهما

الحج في اللغة هو القصد ، وفي الشريعة كذلك ، إلا أنّه اختص بقصد البيت الحرام ، لأداء مناسك مخصوصة عنده ، متعلّقة بزمان مخصوص ، والعمرة هي الزيارة في اللغة ، وفي الشريعة عبارة عن زيارة البيت الحرام ، لأداء مناسك (١) عنده ، ولا يختص بزمان مخصوص ، إذا كانت مبتولة. فأمّا العمرة المتمتع بها إلى الحج ، فإنّها تختصّ بزمان مخصوص ، مثل الحجّ سواء ، لأنّها داخلة في الحجّ ، وما ذكرته من حقيقة الحج في الشريعة ، ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مبسوطة (٢) وفي جمله وعقوده (٣).

والأولى أن يقال : الحج في الشريعة ، هو القصد إلى مواضع مخصوصة ، لأداء مناسك مخصوصة عندها ، متعلقة بزمان مخصوص ، وانّما قلنا ذلك ، لأنّ الوقوف بعرفة وقصدها واجب ، وكذلك المشعر الحرام ، ومنى ، فإذا اقتصرنا في الحد على البيت الحرام فحسب ، خرجت هذه المواضع من القصد ، وهذا لا يجوز ، فأمّا ما ذكره في حقيقة العمرة المبتولة ، فحسن ، لا استدراك عليه فيه ، لأنّ الوقوف بعرفة والمشعر ومنى لا يجب في العمرة المبتولة ، بل قصد البيت الحرام فحسب ، ولو قيّد العمرة بالمبتولة كان حسنا ، بل أطلقها ، وإن كان مقصوده رحمه‌الله ما ذكرناه.

__________________

(١) في ج : مناسك مخصوصة.

(٢) المبسوط : كتاب الحج ، فصل في حقيقة الحج والعمرة وشرائط وجوبهما.

(٣) الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر وجوب الحج وكيفيته وشرائط وجوبه.

٥٠٦

وهما على ضربين : مفروض ، ومسنون ، فالمفروض منهما على ضربين : مطلق من غير سبب ، وواجب عند سبب. فالمطلق من غير سبب ، هو حجة الإسلام ، وعمرة الإسلام.

وشرائط وجوبهما ثمانية : البلوغ ، وكمال العقل ، والحرية ، والصحة ، ووجود الزاد والراحلة ، والرجوع إلى كفاية ، إمّا من المال ، أو الصناعة ، أو الحرفة ، وتخلية السرب من الموانع ، وإمكان المسير.

قولهم : إمكان المسير ، هو غير تخلية السرب ، لأنّ السرب الطريق ، بفتح السين ، وإمكان المسير ، يراد به ، أنّه وجد القدرة من المال في زمان لا يمكنه الوصول إلى مكّة ، لضيق الوقت ، مثال ذلك ، أنّ رجلا من بغداد ، وهو فقير ، استغنى ، ووجد شرائط الحج ، في أوّل ذي الحجّة ، أو كان قد بقي ليوم عرفة ، ثلاثة أيام ، أو أقل من ذلك ، والطريق مخلّى ، أمين ، فلا يجب عليه في هذه السنة الحج ، لأنّه لا يمكنه المسير بحيث يدرك الحج ، وأوقاته ، وأمكنته في هذه المدّة ، فإن وجد المال والشرائط ، ومعه من الزمان ما يمكنه الوصول ، وإدراك هذه المواضع في أوقاتها ، فقد أمكنه المسير ، فهذا معنى إمكان المسير.

ومتى اختل شي‌ء من هذه الشرائط الثمان ، سقط الوجوب ، ولم يسقط الاستحباب ، هذا على قول بعض أصحابنا ، فإنّهم مختلفون في ذلك ، فبعض يذهب إلى أنّه لا يجب إلا مع هذه الشرائط الثمانية (١) وبعض منهم ، يقول : يجب الحج على كلّ حرّ ، مسلم ، بالغ ، عاقل ، متمكن من الثبوت على الراحلة ، إذا زالت المخاوف والقواطع ، ووجد من الزاد والراحلة ما ينهضه في طريقه ، وما يخلفه لعياله من النفقة.

وعبارة أخرى لمن لا يراعي الثماني شرائط ، بل يسقط الرجوع إلى كفاية ، ويراعي سبع شرائط فحسب ، قال : الحج يجب على كل حرّ ، بالغ ، كامل ، العقل ، صحيح الجسم ، يتمكن من الاستمساك على الراحلة ، مخلّى السرب من الموانع ، يمكنه المسير ، واجد للزاد والراحلة ، ولما يتركه من نفقة من تجب عليه

__________________

(١) في ج : وط : الثمانية.

٥٠٧

نفقته على الاقتصاد ، ولما ينفقه على نفسه ذاهبا وجائيا بالاقتصاد ، وإلى المذهب الأول ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله ، في سائر كتبه إلا في استبصاره (١) ، ومسائل خلافه (٢) ، وإلى المذهب الثاني ذهب السيد المرتضى ، في سائر كتبه ، حتى أنّه ذهب في الناصريات ، إلى أنّ الاستطاعة التي يجب معها الحج ، صحّة البدن ، وارتفاع الموانع ، والزاد ، والراحلة فحسب ، وقال رحمه‌الله : وزاد كثير من أصحابنا ، أن يكون له سعة يحج ببعضها ، وتبقى بعضا لقوت عياله ، ثم قال رضي‌الله‌عنه : دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه ، بعد الإجماع المتكرر ذكره ، أنّه لا خلاف في أنّ من حاله ما ذكرناه ، أنّ الحجّ يلزمه (٣).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : والذي يقوى في نفسي ، وثبت عندي ، واختاره وافتي به ، واعتقد صحّته ، ما ذهب إليه السيد المرتضى ، واختاره ، لأنّه إجماع المسلمين قاطبة ، إلا مالكا فإنّه لم يعتبر الراحلة ، ولا الزاد ، إذا كان ذا صناعة يمكنه الاكتساب بها في طريقه ، وإن لم يكن ذا صناعة ، وكان يحسن السؤال ، وجرت عادته به ، لزمه أيضا الحج ، فإن لم يجر عادته به لم يلزمه الحج.

فأمّا ما ذهب إليه الفريق الآخر ، من أصحابنا ، فإنهم يتعلقون باخبار آحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، ولا يخصص بمثلها القرآن ، ولا يرجع عن ظاهر التنزيل بها ، بل الواجب العمل بظاهر القرآن ، وهو قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (٤) ولا خلاف أنّ من ذكرنا حاله قادر على إتيان البيت ، وقصده ، لأنّه تعالى قال ( مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ولو لا إجماع المسلمين على إبطال قول مالك ، لكان ظاهر القرآن معه ، بل أجمعنا على تخصيص المواضع التي أجمعنا عليها ، وخصّصناها بالإجماع ، بقي الباقي ، فظاهر

__________________

(١) الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة.

(٢) الخلاف : كتاب الحج ، مسألة ٢ ( ولا يخفى ان ما في الخلاف موافق لسائر كتبه في اشتراط الرجوع الى الكفاية ).

(٣) الناصريات : كتاب الحج ، مسألة ١٣٦.

(٤) آل عمران : ٩٧.

٥٠٨

الآية (١) على عمومها ، فمن خصص ما لم يجمع على تخصيصه ، يحتاج إلى دليل ، الا ترى إلى استدلال السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه وقوله : « دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع المتكرر ذكره ، أنّه لا خلاف في أنّ من حاله ما ذكرناه ، أنّ الحج يلزمه » فقد استدل بإجماع الفرقة ، وإجماع المسلمين ، بقوله « لا خلاف في أنّ من حاله ما ذكرناه أن الحج يلزمه » واستدل أيضا على بطلان قول مالك ، وصحة ما ذهب السيد إليه ، واختاره (٢) بما روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل عن قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) فقيل له : يا رسول الله ، ما الاستطاعة؟ فقال : الزاد والراحلة (٣).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : وأخبارنا متواترة عامّة في وجوب الحجّ ، على من حاله ما ذكرناه ، قد أوردها أصحابنا في كتب الأخبار ، من جملتها ما ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في كتابه تهذيب الأحكام (٤) وفي الاستبصار فمما أورده في الاستبصار ، عن الكليني محمّد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن يحيى الخثعمي ، قال سأل حفص الكناسي أبا عبد الله عليه‌السلام ، وأنا عنده ، عن قول الله عزوجل : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ما يعني بذلك؟ قال : من كان صحيحا في بدنه ، مخلّى سربه ، له زاد وراحلة ، فلم يحج ، فهو ممّن يستطيع الحجّ ، قال : نعم (٥).

عنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حماد بن عثمان ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في قول الله عزوجل ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )

__________________

(١) ج : بالإجماع وبقي الباقي بظاهر.

(٢) الناصريات : كتاب الحج ، مسألة ١٣٦ ( ولا توجد الرواية بعينها في كتب الروائي ).

(٣) الناصريات : كتاب الحج ، مسألة ١٣٦ ( ولا توجد الرواية بعينها في كتب الروائي ).

(٤) التهذيب : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.

(٥) الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة ، ح ٢.

٥٠٩

من استطاع إليه سبيلا قال : أن يكون له ما يحج به ، قال : قلت من عرض عليه ما يحج به ، فاستحيى من ذلك ، أهو ممّن يستطيع إليه سبيلا قال : نعم ، ما شأنه يستحيي ، ولو يحج على حمار أبتر ، فإن كان يطيق أن يمشي بعضا ، ويركب بعضا ، فليحج (١) موسى بن القاسم ، عن معاوية بن وهب ، عن صفوان ، عن العلاء ، عن محمّد بن مسلم ، قال : قلت لأبي جعفر ، قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ، قال : يكون له ما يحج به ، قلت : فإن عرض عليه الحج ، فاستحيى ، قال : هو ممّن يستطيع ، ولم يستحيي ، ولو على حمار أجدع أبتر ، قال : فإن كان يستطيع أن يمشي بعضا ويركب بعضا فليفعل (٢).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : فجعل شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله ، هذه الأخبار عمدته ، وبها صدّر الباب في ماهية الاستطاعة ، وانّها شرط في وجوب الحج ، وهذه طريقته في هذا الكتاب ، أعني كتاب الاستبصار ، يقدّم في صدر الباب ما يعمل به من الأخبار ، ويعتمد عليه ، ويفتي به ، وما يخالف ذلك يؤخّره ، ويتحدّث عليه ، هذه عادته ، وسجيّته ، وطريقته في هذا الكتاب ، فمذهبه في الاستبصار ، هو ما اخترناه ، وقد رجع عن مذهبه في نهايته (٣) وجمله وعقوده (٤) واختار في استبصاره ما ذكرناه ، ثم قال رحمه‌الله : فأمّا ما رواه الحسين بن سعيد ، عن القاسم بن أحمد ، عن علي ، عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ، قول الله عزوجل : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ، قال : يخرج ويمشي ، إن لم يكن عنده مركب ، قلت : لا يقدر على المشي ، قال : يمشي ويركب ، قلت : لا يقدر على ذلك ، أعني المشي ، قال : يخدم القوم ويخرج معهم (٥).

__________________

(١) الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة ، ح ٣ و ٤.

(٢) الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة ، ح ٣ و ٤.

(٣) النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.

(٤) الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر وجوب الحج وكيفيته وشرائط وجوبه.

(٥) الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة : ح د.

٥١٠

عنه ، عن فضالة بن أيوب ، عن معاوية بن عمار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن رجل عليه دين ، أعليه أن يحج؟ قال : نعم ، انّ حجة الإسلام واجبة ، على من أطاق (١) المشي من المسلمين ، ولقد كان من حج مع النبي عليه‌السلام ، أكثرهم مشاة ، ولقد مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بكراع الغميم ، فشكوا إليه الجهد والعياء (٢) فقال : شدوا أزركم (٣) ، واستبطئوا (٤) ففعلوا ذلك ، فذهب عنهم (٥) (٦).

قال رحمه‌الله : فلا تنافي بين هذين الخبرين ، والأخبار الأولة المتقدّمة ، لأنّ الوجه فيهما أحد شيئين ، أحدهما أن يكونا محمولين على الاستحباب ، لأنّ من أطاق المشي ، مندوب إلى الحج ، وإن لم يكن واجبا يستحق بتركه العقاب ، ويكون إطلاق اسم الوجوب عليه على ضرب من التجوز ، مع انّا قد بينا انّ ما هو مؤكد شديد الاستحباب ، يجوز أن يقال فيه أنّه واجب وإن لم يكن فرضا.

والوجه الثاني : أن يكونا محمولين على ضرب من التقية ، لأنّ ذلك مذهب بعض العامة ، ألا ترى أنّه رحمه‌الله قد اعتمد على الأخبار الأولة ، في وجوب الحج على من وجد الزاد والراحلة ، ونفقة طريقه ذاهبا وجائيا ، وما يخلفه نفقة من يجب عليه نفقته مدّة سفره وغيبته ، ولم يذكر فيها الرجوع إلى كفاية ، إلا في خبر أبي الربيع الشامي ، فإنّ فيه اشتباها ، على غير الناقد المتأمّل ، بل عند تحقيقه ونقده ، هو موافق لغيره من الأخبار التي اعتمد شيخنا عليها ، لا تنافي بينها وبينه وذلك أنّه قال أبو الربيع : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام ، عن قول الله عزوجل : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) فقال : ما يقول الناس في الاستطاعة؟ قال : فقيل له الزاد والراحلة ، قال : فقال أبو عبد الله عليه‌السلام :

__________________

(١) ج : استطاع.

(٢) في نسخة الاستبصار : العناء.

(٣) ج : ازاركم.

(٤) م : استبطنوا ، وكذلك في نسخة الاستبصار.

(٥) م : فذهب عيّهم.

(٦) الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة ، ح ٦.

٥١١

قد سئل أبو جعفر عن هذا ، فقال : هلك الناس إذن ، لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت عياله ، ويستغني به عن الناس ، ينطلق ، فيسلبهم إيّاه ، لقد هلكوا اذن ، فقيل له : فما السبيل ، قال : فقال : السعة في المال إذا كان يحج ببعض ، ويبقى ببعض لقوت عياله (١).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : وليس في الخبر ما ينافي ما ذهبنا إليه ، واخترناه ، بل ما يلائمه ويعضده ، وهو دليل لنا ، لا علينا ، بل نعم ما قال عليه‌السلام ، لأنّه قال : ما يقول الناس في الاستطاعة؟ قال : فقيل له : الزاد والراحلة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن هذا فقال : هلك الناس إذن ، لئن كان من كان له زاد وراحلة ، قدر ما يقوت عياله ، ويستغني به عن الناس ، ينطلق ، فيسلبهم إيّاه ، لقد هلكوا اذن ، ونحن نقول بما قال عليه‌السلام ، ولا نوجب الحج على الواجد للزاد والراحلة فحسب ، بل نقول ما قال عليه‌السلام ، لمّا قيل له : فما السبيل ، قال : فقال : السعة في المال ، إذا كان يحج ببعض ، ويبقي بعض ، يقوت عياله وكذا نقول ، وهذا مذهبنا الذي ذهبنا إليه ، لأنّه عليه‌السلام قال : السبيل ، السعة في المال ، ثم فسرها فقال : إذا كان يحج ببعض ويبقي بعض يقوت عياله. ولم يذكر في الخبر عليه‌السلام ويرجع إلى كفاية ، امّا من صناعة ، أو مال ، بل قال عليه‌السلام : يحج ببعض ، ويبقي بعض يقوت عياله ، وهو الصحيح ، لأنّا أوجبنا الحج ، بأن يجد الزاد والراحلة ، ونفقته ، ذاهبا وجائيا ، وما يخلفه نفقة من يجب عليه نفقته ، من عياله ، وكذلك قال عليه‌السلام : يحج ببعض ، ويبقي بعض يقوت عياله ، يعني نفقة عياله ، فأمّا إن لم يبق ما يقوت عياله ، مدّة سفره ، وغيبته ، فلا يجب عليه الحج وهل هذا الخبر فيه ، ما ينافي ما قلناه ، أو يرجع به عن ظاهر التنزيل ، والمتواتر من

__________________

(١) الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الحج ، ح ١.

٥١٢

الأخبار ، ولو وجد أخبار آحاد ، فلا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، ولا يترك لها ظاهر القرآن ، وإجماع أصحابنا ، فإنّهم عند تحقيق أقوال الفريقين ، تجدهم متفقين على ما ذهبنا إليه ، وأنا أدلك على ذلك ، وذاك أنّه لا خلاف بينهم ، أنّ العبد إذا لحقه العتاق ، قبل الوقوف بأحد الموقفين ، فانّ حجته مجزية عن حجة الإسلام ، ويجب عليه النيّة للوجوب والحجّ ، ولم يعتبر أحد منهم ، هل هو ممن يرجع إلى كفاية أو صنعة ، لأنّ العبد عندهم لا يملك شيئا فإذن لا مال له يرجع إليه ، ولا أحد منهم اعتبر رجوعه إلى صناعة ، في صحة حجّه ، وهذا منهم إجماع منعقد بغير خلاف.

وكذلك أيضا ، من عرض عليه بعض إخوانه نفقة الحجّ ، فإنّه يجب عليه عند أكثر أصحابنا أيضا ، ولم يعتبروا في وجوب الحجّ عليه رجوعه إلى كفاية ، إمّا من المال ، أو الصناعة والحرفة ، بل أوجبوه عليه ، بمجرّد نفقة الحجّ ، وعرضها عليه ، وتمكنه منها فحسب.

وأيضا فقد ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله ، إلى ما ذهبنا إليه ، في مسألة من مسائل خلافه (١) مضافا إلى استبصاره (٢) فقال : مسألة ، المستطيع ببدنه الذي يلزمه فعل الحجّ بنفسه ، أن يكون قادرا على الكون على الراحلة ، ولا يلحقه مشقة غير محتملة ، في الكون عليها ، فإذا كانت هذه صورته ، فلا يجب عليه فرض الحج ، إلا بوجود الزاد والراحلة ، فإن وجد أحدهما ، لا يجب عليه فرض الحج ، وإن كان مطيقا للمشي قادرا عليه ، ثم قال في استدلاله على صحة ما صوّره في المسألة ، دليلنا إجماع الفرقة ، ولا خلاف أن من اعتبرناه ، يجب عليه الحج ، وليس على قول من خالف ذلك دليل ، وأيضا قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ، والاستطاعة تتناول القدرة ، وجميع

__________________

(١) الخلاف : كتاب الحج ، مسألة ٤.

(٢) الإستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الحج.

٥١٣

ما يحتاج إليه ، فيجب أن يكون من شرطه ، وأيضا روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : الاستطاعة الزاد والراحلة ، لمّا سئل عنها روى ذلك ابن عمر ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وعمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، وجابر بن عبد الله ، وعائشة ، وأنس بن مالك ، ورووا (١) أيضا عن علي عليه‌السلام ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في المسألة ، ألا ترى أرشدك الله إلى قوله رحمه‌الله ، ولا خلاف أنّ من اعتبرناه يجب عليه الحجّ ، وما اعتبر فيما صوّره في المسألة الرجوع إلى كفاية ودلّ أيضا ، بإجماع الفرقة على صحة ما صوّره في المسألة.

وأيضا ذكر مسألة أخرى ، فقال : مسألة ، الأعمى يتوجه عليه فرض الحج ، إذا كان له من يقوده ويهديه ، ووجد الزاد والراحلة ، لنفسه ولمن يقوده ، ولا يجب عليه الجمعة ، وقال الشافعي : يجب عليه الحج ، والجمعة ، معا ، وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه الحج ، وإن قدر على جميع ما قلناه ، دليلنا قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ، وهذا مستطيع ، فمن أخرجه من العموم ، فعليه الدلالة (٢) هذا آخر كلام شيخنا الا ترى أرشدك الله ، إلى استدلاله ، فإن كان يعتبر الرجوع إلى الكفاية ، على ما يذكره في بعض كتبه في وجوب الحج ، فقول أبي حنيفة صحيح ، لا حاجة به إلى الرد عليه ، بل ردّ عليه بالآية وعمومها ، ونعم ما استدل به ، فإنّه الدليل القاطع ، والضياء الساطع ، والشفاء النافع.

وقال أيضا في مبسوطة شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله : مسألة ، إذا بذل له الاستطاعة ، قدر ما يكفيه ذاهبا وجائيا ، ويخلف لمن يجب عليه نفقته ، لزمه فرض الحجّ ، لأنّه مستطيع (٣) هذا آخر كلامه في مبسوطة ، وجعل هذا الكلام مسألة في مسائل خلافه أيضا (٤) فهل يحلّ لأحد أن يقول ، انّ الشيخ أبا جعفر الطوسي رحمه‌الله ، ما يذهب إلى ما يذهب إليه المرتضى في هذه المسألة ، بعد ما

__________________

(١) وفي نسخة الخلاف ، ورواه أيضا علي عليه‌السلام.

(٢) الخلاف : كتاب الحج ، مسألة ١٥.

(٣) المبسوط : كتاب الحج ، فصل في حقيقة الحج ، ص ٢٩٨.

(٤) الخلاف : كتاب الحج ، مسألة ٩.

٥١٤

أوردناه عنه ، وإن كان في بعض كتبه يقول بغير هذا ، فنأخذ ما اتفقا عليه ، ونترك القول الذي انفرد به أحدهما ، إن قلّدا في ذلك ونعوذ بالله من ذلك ، بل يجب علينا الأخذ بما قام الدّليل عليه من كان القائل به من (١).

وأيضا فقد بيّنا أنّه إذا اختلف أصحابنا الإمامية ، في مسألة ، ولم يكن عليها إجماع منهم ، منعقد ، فالواجب علينا التمسك بظاهر القرآن ، إن كان عليها ظاهر تنزيل ، وهذه المسألة فلا إجماع عليها ، بغير خلاف عند من خالفنا وذهب إلى غير ما اخترناه ، وإذا لم يكن له إجماع عليها ، قلنا نحن ، ظاهر التنزيل دليل عليها ، وعموم الآية ، ولا يجوز العدول عنه ، ولا تخصيصه ، إلا بأدلة قاطعة للأعذار ، إمّا من كتاب الله تعالى مثله ، أو سنّة متواترة مقطوع بها ، يجرى مجراه أو إجماع ، وهذه الأدلة مفقودة بحمد الله تعالى في المسألة ، فيجب التمسك بعموم القرآن ، فهو الشفاء لكلّ داء.

ومن شرط صحّة أداء حجة الإسلام وعمرته. الإسلام ، وكمال العقل ، لأنّ الكافر ، وإن كان واجبا عليه ، لكونه مخاطبا بالشرائع عندنا ، فلا يصحّ منه أداءهما ، إلا بشرط الإسلام ، وعند تكامل شروط وجوبهما ، يجبان في العمر مرة واحدة ، وما زاد عليها مستحب ، مندوب إليه ، وخصوصا لذوي اليسار والأموال الواسعة ، فإنّهم يستحب لهم أن يحجّوا كلّ سنة.

ووجوبهما على الفور ، دون التراخي ، بغير خلاف بين أصحابنا.

وما يجب عند سبب ، فهو ما يجب بالنذر ، أو العهد ، أو إفساد حج مندوب ، دخل فيه ، أو عمرة كذلك ، ولا سبب لوجوبهما غير ذلك ، وذلك بحسب النذر ، أو العهد ، إن كان واحدا فواحدا ، وإن كان أكثر فأكثر.

فأمّا المفسودة ، فإنّه يجب عليه الإتيان بحجة صحيحة ، ولو تكرر الفساد لها دفعات.

ولا يصح النذر والعهد بهما ، إلا من كامل العقل ، حرّ ، ومن لا ولاية عليه ، فأمّا من ليس كذلك ، فلا ينعقد نذره ، ولا يراعى في صحة انعقاد النذر ،

__________________

(١) ج : كان القائل به كائنا من كان.

٥١٥

ما روعي في حجة الإسلام ، من الشروط.

وإذا حصلت الاستطاعة ، ومنعه من الخروج مانع ، من سلطان ، أو عدو ، أو مرض ، ولم يتمكن من الخروج بنفسه ، كان عليه أن يخرج رجلا يحج عنه ، فإذا زالت عنه بعد ذلك الموانع ، كان عليه اعادة الحج ، لأنّ الذي أخرجه ، انّما كان يجب عليه في ماله ، وهذا يلزمه على بدنه ، وماله ، ذكر هذا بعض أصحابنا في كتاب له ، وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي‌الله‌عنه في نهايته (١) وهذا غير واضح ، لأنّه إذا منع ، فما حصلت له الاستطاعة التي هي القدرة على الحج ، ولا يجب عليه أن يخرج رجلا يحج عنه ، لأنّه غير مكلّف بالحج حينئذ بغير خلاف ، وانّما هذا خبر أورده إيرادا ، لا اعتقادا.

فإن كان متمكنا من الحج والخروج ، فلم يخرج وأدركه الموت ، وكان الحج قد استقر عليه ، ووجب ، وجب أن يخرج عنه من صلب ماله ، ما يحجّ به من بلده ، وما يبقى بعد ذلك يكون ميراثا ، فإن لم يخلف إلّا قدر ما يحج به (٢) ، وكانت الحجة قد وجبت عليه قبل ذلك ، واستقرت ، وجب أن يحج به عنه من بلده ، وقال بعض أصحابنا : بل من بعض المواقيت ولا يلزم الورثة الإجارة من بلده ، بل من بعض المواقيت ، والصحيح الأول ، لأنّه كان يجب عليه نفقة الطريق من بلده ، فلمّا مات سقط الحج عن بدنه ، وبقي في ماله بقدر ما كان يجب عليه ، لو كان حيا ، من نفقة الطريق من بلده ، فأما إذا لم يخلف إلّا قدر ما يحج به ، من بعض المواقيت ، وجب أيضا أن يحج عنه من ذلك الموضع ، وما اخترناه مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله في نهايته (٣) وبه تواترت أخبارنا ، ورواية أصحابنا ، والمقالة الأخرى ذكرها وذهب إليها في مبسوطة (٤) ، وأظنها مذهب المخالفين.

__________________

(١) النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.

(٢) في ط وج : ما يحج به من بلده.

(٣) النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.

(٤) المبسوط : كتاب الحج ، فصل في حقيقة الحج والعمرة.

٥١٦

وإن خلف قدر ما يحج به عنه ، أو أقل من ذلك ولم يكن قد وجب عليه الحج قبل ذلك واستقر في ذمّته ، كان ميراثا لورثته ، فهذا معنى قولنا وجبت الحجة واستقرت ، ووجبت وما استقرت ، لأنّ من تمكن من الاستطاعة ، وخرج للأداء ، من غير تفريط ، ولا توان ، بل في سنة تمكنه من الاستطاعة ، خرج ومات قبل تفريطه ، فلا يجب أن يخرج من تركته ما يحج به عنه ، لأنّ الحجة ما استقرت في ذمّته ، فأمّا إذا فرّط فيها ، ولم يخرج تلك السنة ، وكان متمكنا من الخروج ، ثم مات ، يجب أن يخرج من تركته ما يحج به عنه من بلده ، قبل قسمة الميراث.

ومن لم يملك الاستطاعة ، وكان له ولد ، له مال ، وجب عليه أن يأخذ من ماله ، قدر ما يحج به على الاقتصاد ، ويحج ، ذكر هذا شيخنا أبو جعفر في نهايته (١) ورجع عنه في استبصاره (٢) ورجوعه عنه هو الصحيح ، وانّما أورده إيرادا في نهايته ، لا اعتقادا ، ثم قال في النهاية : فان لم يكن له ولد ، وعرض عليه بعض إخوانه ، ما يحتاج إليه من مئونة الطريق ، وجب عليه الحجّ أيضا ، وقال : ومن ليس معه مال ، وحج به بعض إخوانه ، فقد أجزأه ذلك عن حجة الإسلام ، وإن أبسر بعد ذلك (٣).

قال محمّد بن إدريس : والذي عندي في ذلك ، أنّ من يعرض عليه بعض إخوانه ، ما يحتاج اليه من مئونة الطريق فحسب ، لا يجب عليه الحجّ ، إذا كان له عائلة تجب عليه نفقتهم ، ولم يكن له ما يخلفه نفقة لهم ، بل هذا يصح فيمن لا يجب عليه نفقة غيره ، بشرط أن يملكه ما يبذل له ، ويعرض عليه ، لا وعدا بالقول دون الفعال ، وكذا أقول فيمن حج به بعض إخوانه ، بشرط أن يخلف لمن تجب عليه نفقته ، إن كان ممن تجب عليه نفقته وفي المسألتين معا ، ما راعى شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته ، الرجوع إلى كفاية ، إمّا من المال ، أو الصناعة ،

__________________

(١) النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.

(٢) الاستبصار : كتاب المكاسب ، الباب ٢٦ ، ح ٩.

(٣) النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.

٥١٧

وهذا يدلك أيضا على ما قدّمناه أولا.

ومتى عدم المكلف الاستطاعة ، جاز له أن يحج عن غيره ، وإن كان ضرورة لم يحجّ بعد حجة الإسلام ، وتكون الحجة مجزية عمن حج عنه ، وهو إذا أيسر بعد ذلك كان عليه اعادة الحج.

ومتى نذر الرجل أن يحج لله تعالى ، وجب عليه الوفاء به ، فإن حجّ الذي نذر ، ولم يكن حج حجة الإسلام ( فقد أجزأت حجته عن حجة الإسلام ) وإن خرج بعد النذر بنية حجة الإسلام لم يجزئه عن الحجة التي نذرها ، وكانت في ذمّته ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته (١) والصحيح أنّه إذا حج بنية النذر لا تجزيه حجته النذورة عن حجة الإسلام ، لأنّ الرسول عليه‌السلام قال : الأعمال بالنيات ، وعليه حجتان ، فكيف تجزيه حجة واحدة ، عن حجتين ، وإنّما هذا خبر واحد ، أورده إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما كررنا الاعتذار له في عدة مواضع ، فإنّه رجع عنه في جمله وعقوده (٢) وفي مسائل خلافه (٣) وقال : الفرضان لا يتداخلان ، وجعل ما ذكره في النهاية رواية ، ما اعتد بها ، ولا التفت إليها.

ومن نذر أن يحج ماشيا ، ثم عجز ، فليركب ، ولا كفّارة عليه ، ولا شي‌ء يلزمه عل الصحيح من المذهب ، وهذا مذهب شيخنا المفيد في مقنعته (٤).

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في نهايته (٥) فليسق بدنه ، وليركب ، وليس عليه شي‌ء ، وإن لم يعجز عن المشي ، كان عليه الوفاء به فإذا انتهى إلى مواضع العبور ، فليكن قائما فيها ، وليس عليه شي‌ء.

ومن حجّ من أهل القبلة ، وهو مخالف لاعتقاد الحقّ ولم يخل بشي‌ء من

__________________

(١) النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.

(٢) الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر وجوب الحج.

(٣) الخلاف : كتاب الحج ، مسألة ٢٠ وأشار الى ذلك في مسألة ٢٥٤.

(٤) المقنعة : كتاب الحج ، باب من الزيادات في فقه الحج ص ٤٤١.

(٥) النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.

٥١٨

أركانه ، فقد أجزأته حجته عن حجة الإسلام ، ويستحب له اعادة الحجّ بعد استبصاره ، وإن كان قد أخل بشي‌ء من أركان الحجّ ، لم يجزه ذلك عن حجة الإسلام ، وكان عليه قضاؤها فيما بعد ، وذهب شيخنا في مسائل خلافه إلى أنّه قال : مسألة ، من قدر على الحج عن نفسه ، لا يجوز أن يحج عن غيره ، وإن كان عاجزا عن الحج عن نفسه ، لفقد الاستطاعة ، جاز له أن يحج عن غيره ، وبه قال الثوري ، وقال مالك وأبو حنيفة : يجوز له أن يحج عن غيره ، على كل حال ، قدر عليه ، أو لم يقدر ، وكذلك يجوز له أن يتطوع به ، وعليه فرض نفسه ، وبه نقول (١).

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه‌الله وبه نقول ، غير واضح ، والمذهب يقتضي أصوله أنّ من وجب عليه حجة الإسلام ، لا يجوز له أن يتطوع بالحج قبلها ، لأنّ وجوب حجة الإسلام عندنا على الفور ، دون التراخي ، بغير خلاف ، فالواجب المضيّق ، كل ما منع منه ، فهو قبيح ، وانّما هذا مذهب أبي حنيفة ، اختاره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مسائل خلافه ، وقوله في غير هذا الكتاب ، بخلاف ما ذهب إليه فيه.

باب في أقسام الحجّ

الحج على ثلاثة أقسام ، تمتع بالعمرة إلى الحج ، وقران ، وإفراد ، وانّما كان ذلك لاختلاف المكلفين في الجهات ، والا لو كان عالم الله نائيا عن الحرم ، كان الحج قسما واحدا ، وهو التمتع بالعمرة إلى الحج ، ولو كان العالم مستوطنين الحرم ، كان الحج ضربا واحدا ، إمّا قرانا ، أو إفرادا ، فالتمتع ، هو فرض من نأى عن الحرم ، وحدّه ، من كان بينه وبين المسجد الحرام ، ثمانية وأربعون ميلا ، من أربعة جوانب البيت ، من كل جانب اثنا عشر ميلا ، فلا يجوز لهؤلاء ،

__________________

(١) الخلاف : كتاب الحج ، مسألة ١٩.

٥١٩

إلا التمتع ، مع الإمكان ، فإذا لم يمكنهم التمتع ، أجزأتهم الحجة المفردة ، مع الضرورة ، وعدم الاختيار.

وأمّا من كان من أهل حاضري المسجد الحرام ، وهو من كان بينه وبين المسجد الحرام ، أقل من اثني عشر ميلا ، من أربعة جوانبه ، ففرضه القرآن ، أو الافراد ، مخيّر في ذلك ، ولا يجزيه التمتع بحال.

فسياقة ، أفعال حج المتمتع ، الإحرام من الميقات ، في وقته ، مع نيّة الحج (١) والتلبية الأربع ، يجب عليه أن يتلفظ بها دفعة واحدة ، ليعقد إحرامه بها ، فإنّها تتنزل في انعقاد إحرامه منزلة تكبيرة الإحرام ، في انعقاد صلاة المصلي.

ويستحب أن يكررها ، ويكون عليها إلى أن يشاهد بيوت مكة ، فإذا شاهدها قطع التلبية التي كان مندوبا إلى تكرارها.

فإذا كان حاجا على طريق المدينة ، قطع التلبية إذا بلغ عقبة المدنيين.

وإن كان على طريق العراق ، قطع التلبية ، إذا بلغ عقبة ذي طوى ، هذا إذا كان متمتعا.

فإن كان قارنا ، أو مفردا ، فلا يقطع التلبية إلا عند الزوال يوم عرفة.

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : فإذا عاين بيوت مكة ، قطع التلبية ، وحدّ بيوت مكة ، عقبة المدنيين ، وإن كان قاصدا إليها ، من طريق المدينة ، فإنّه يقطع التلبية ، إذا بلغ عقبة ذي طوى (٢) والأول الأظهر ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي في مصباحه (٣) ، وسلار في رسالته (٤) وهو الصحيح.

واغتسل مندوبا.

ويستحب أن يدخلها حافيا.

__________________

(١) ج : مع نية الإحرام.

(٢) المقنعة : كتاب الحج ، باب صفة الإحرام ص ٣٩٨.

(٣) المصباح : في آداب الحج ، ص ٦٢٠.

(٤) المراسم ، كتاب الحج ، ذيل شرح كيفية الإحرام.

٥٢٠