كتاب السرائر - ج ١

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٧٦

والأول هو الأظهر ، الذي يقتضيه أصول المذهب ، ويشهد بصحته ظاهر القرآن.

وكل هؤلاء الذين ذكرناهم ، وانّهم يجوز لهم الإفطار ، فليس لهم أن يأكلوا شبعا من الطعام ، ولا أن يشربوا ريّا من الشراب ، ولا يجوز لهم أن يواقعوا النساء ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (١).

قال محمد بن إدريس رحمه‌الله : والصحيح ، أنّ ذلك مكروه ، شديد الكراهة ، دون أن يكون محرّما محظورا ، لأنّا قد بيّنا فيما سلف ، أنّ الشي‌ء إذا كان شديد الكراهة ، قالوا لا يجوز ، فلفظة لا يجوز ، يحتمل الكراهة والحظر.

باب حكم من أسلم في شهر رمضان

ومن بلغ فيه ، والمسافر إذا قدم أهله ،

والحائض إذا طهرت والمريض إذا برئ

من أسلم في شهر رمضان ، وقد مضت منه أيام ، فليس عليه قضاء شي‌ء مما فاته من الصيام ، وعليه صيام ما يستأنف من الأيام ، وحكم اليوم الذي يسلم فيه ، إن أسلم قبل طلوع الفجر ، كان عليه صيام ذلك اليوم ، فإذا لم يصمه ، وكان عالما بوجوب الصيام ، كان عليه القضاء والكفارة ، وإن لم يكن عالما بوجوب الصيام عليه ، لم يكن عليه إلا القضاء ، فحسب ، وإن أسلم بعد طلوع الفجر ، لم يجب عليه صيام ذلك اليوم ، وكان عليه أن يمسك تأديبا ، إلى آخر النهار ، ولا يجب عليه قضاء ذلك اليوم ، وكذلك الغلام ، إذا احتلم ، والجارية إذا بلغت أوان الحيض ، وهو تسع سنين ، على ما أسلفنا القول فيه ، والسيد المرتضى رضي‌الله‌عنه وشيخنا المفيد ، يقولان : والجارية إذا بلغت الحيض ، يريدان بذلك إذا بلغت أو ان الحيض ، لأنّ الحائض يسقط عنها الصيام ، فإنّها

__________________

(١) النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم المريض والعاجز عن الصيام.

٤٠١

ليست مكلفة بالصيام ـ في أنّهما يجب عليهما صيام ما بقي من الأيام ، بعد بلوغهما ، وليس عليهما قضاء ما قد مضى ، مما لم يكونا بلغا فيه.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في الجزء الأوّل من مسائل خلافه ، في كتاب الصلاة : مسألة : الصبي إذا دخل في الصلاة ، أو الصوم ، ثم بلغ في خلال الصلاة ، أو خلال الصوم بالنهار ، بما لا يفسد الصلاة ، من كمال خمس عشرة سنة ، أو الإنبات ، دون الاحتلام الذي يفسد الصلاة ، ينظر فيه ، فإن كان الوقت باقيا ، أعاد الصلاة من أولها ، وإن كان ماضيا لم يكن عليه شي‌ء ، وأمّا الصوم ، فإنّه يمسك فيه بقية النهار تأديبا ، وليس عليه قضاء ، ثم استدل ، فقال : دليلنا على وجوب إعادة الصلاة ، مع بقاء الوقت ، أنّه مخاطب بها بعد البلوغ ، وإذا كان الوقت باقيا ، وجب عليه فعلها ، وما فعله قبل البلوغ ، لم يكن واجبا عليه ، وانّما كان مندوبا إليه ، ولا يجزي المندوب عن الواجب ، وأمّا الصوم ، فلا يجب عليه إعادته ، لأنّ أول النهار لم يكن مكلّفا به ، فيجب عليه العبادة ، وبقية النهار لا يصح صومه ، ووجوب الإعادة عليه يحتاج إلى دليل والأصل براءة الذمة (١).

ثم قال في هذا الجزء بعينه (٢) في كتاب الصيام : مسألة : الصبي إذا بلغ ، والكافر إذا أسلم ، والمريض إذا برئ ، وقد أفطروا أول النهار ، أمسكوا بقية النهار تأديبا ، ولا يجب ذلك بحال ، فإن كان الصبي نوى الصوم من أوّله ، وجب عليه الإمساك ، وإن كان المريض نوى ذلك ، لم يصح ، لأنّ صوم المريض لا يصح عندنا ، ثم استدل ، فقال : دليلنا إجماع الفرقة ، وأيضا الأصل براءة الذمة ، ولا يوجب عليها شيئا ، إلا بدليل (٣).

قال محمّد بن إدريس : المسألة التي ذكرها في كتاب الصلاة ، هي

__________________

(١) الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة ٥٣.

(٢) ج : نفسه

(٣) الخلاف : كتاب الصيام.

٤٠٢

الصحيحة ، ودليلها ، ما استدل به رحمه‌الله ، فأمّا المسألة الأخيرة ، ووجوب الإمساك على الصبي الذي ، إذا بلغ ، فلا دليل على ذلك ، بل إجماع أصحابنا منعقد على خلافها ، وانّما يستحب له الإمساك ، ولا يجب على الصبي ، إذا بلغ في خلال الصوم ، الإمساك ، وإنّما هذه فروع المخالفين ، فلا يلتفت إليها ، لأنّها مخالفة لأصول مذهبنا.

والمسافر ، إذا قدم أهله ، وكان قد أفطر قبل قدومه ، فلا فرق بين أن يصل قبل الزوال ، أو بعد الزوال ، في أنّه لا يجب عليه صيام ذلك اليوم ، بل يمسك تأديبا لا فرضا ووجوبا ، فأمّا إذا لم يكن قد تناول ما يفسد الصيام ، وقدم أهله ، فإن كان قدومه قبل الزوال ، إلى مكان يسمع فيه أذان مصره ، فالواجب عليه تجديد النية ، وصيام ذلك اليوم وجوبا ، لا مندوبا ، ويجزيه ، ولا يجب عليه القضاء ، فإن لم يصمه ، والحال ما وصفناه ، وأفطره ، فإنّه يجب عليه القضاء والكفارة ، لأنّه أفطر متعمدا في زمان الصيام ، وإن قدم إلى المكان الذي يسمع منه أذان مصره ، بعد الزوال ، فإنّه يمسك تأديبا ، لا وجوبا ، وعليه قضاء ذلك اليوم.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في نهايته : والمسافر إذا قدم أهله ، وكان قد أفطر ، فعليه أن يمسك بقية النهار ، تأديبا ، وكان عليه القضاء ، فإن لم يكن قد فعل شيئا ينقض الصوم ، وجب عليه الإمساك ، ولم يكن عليه القضاء (١) ولم يفصّل ما فصّلناه ، ولا قال بعد الزوال ، أو قبل الزوال ، بل أطلق ذلك ، ولم يقيّده ، فعلى إطلاقه أنّه إذا قدم بعد الزوال ، ولم يكن قد تناول ما يفسد الصيام ، يجب عليه الإمساك ، ولا يجب عليه القضاء ، وهذا بخلاف الإجماع ، وقد رجع عن هذا القول ، في مبسوطة (٢) وفصّل ما فصّلناه ، وهو الصحيح الذي لا خلاف فيه بين أصحابنا ، والأصل الذي يقتضيه المذهب ، لأنّ بعد

__________________

(١) النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم من أسلم في شهر رمضان.

(٢) المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في حكم المريض والمسافر.

٤٠٣

الزوال ، خرج محلّ النية ، وفات وقتها ، بغير خلاف على ما شرحناه فيما مضى.

فإن طلع الفجر وهو بعد خارج البلد ، كان مخيرا بين الإمساك ، مما ينقض الصوم ، ويدخل بلده ، ويتمم صومه ذلك اليوم ، وبين أن يفطر ، فإذا دخل في بلده ، أمسك بقية النهار تأديبا ، ثم قضاه حسب ما قدّمناه ، والأفضل إذا علم أنّه يصل إلى بلده ، أن يمسك عما ينقض الصيام ، فإذا دخل إلى بلده ، تمم صومه ، ولم يكن عليه قضاء.

والحائض إذا طهرت : بفتح الطاء والهاء ، وهو الأفصح ، وطهرت بفتح الطاء وضم الهاء ، في وسط النهار ، أمسكت بقيته تأديبا ، وكان عليها القضاء ، سواء كانت أفطرت قبل ذلك ، أو لم تفطر ، ويجب عليها قضاء ما فاتها ، من الصيام في أيام حيضها.

والمريض إذا برئ في وسط النهار ، أو قدر على الصوم ، وكان قد تناول ما يفسد الصوم ، كان عليه الإمساك بقية نهاره ، تأديبا ، وعليه القضاء ، وإن لم يكن قد فعل شيئا ممّا يفسد الصيام ، فحكمه حكم المسافر ، في اعتبار برئه قبل الزوال ، أو بعد الزوال ، فإن كان قبل الزوال ، وجب عليه تجديد النية ، والصيام ، وأجزأه صيامه ، ولا يجب عليه القضاء ، فإن لم يصمه والحال ما وصفناه ، وجب عليه القضاء والكفارة ، وإن كان برؤه بعد الزوال ، أمسك بقية نهاره تأديبا ، وعليه القضاء.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله ، أورد المسألة في نهايته ، إيرادا غير واضح ، بل فيه إيهام ، فقال : والمريض إذا برئ في وسط النهار ، وقدر على الصوم ، وكان قد تناول ما يفسد الصوم ، كان عليه الإمساك بقية نهاره ، تأديبا ، وعليه القضاء ، وان لم يكن قد فعل شيئا مما يفسد الصيام ، أمسك بقية يومه ، وقد تمّ صومه ، وليس عليه القضاء (١).

__________________

(١) النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم من أسلم في شهر رمضان.

٤٠٤

قال محمد بن إدريس رضي‌الله‌عنه : وهذا على ما تراه غير واضح ، ووسط النهار الذي عناه ، لا يخلو إمّا أن يكون قبل الزوال ، أو بعده ، فإن كان قبله ، ولم يكن قد تناول ما يفسد الصيام ، فيصح ما قاله ، وإن كان بعد الزوال ، فلا يصح ما قاله ، ووسط النهار أيضا ، لا يتقدّر ، ولا يتصور هاهنا ، لأن وسط الشي‌ء لا بدّ من أن يكون بعض نصفه الأول ، وبعض نصفه الثاني ، لأ النهار (١) ليس وسط النهار هاهنا ، شيئا خارجا عن النصفين ، فيقال به ، فإن كان برؤه في النصف الأول ، فهو قبل الزوال ، وإن كان برؤه في النصف الثاني ، فهو بعد الزوال ، وذهب في مبسوطة إلى ما قلناه واخترناه ، بأن قال : وحكم المريض إذا برئ ، حكم المسافر إذا قدم أهله (٢). وقال في موضع آخر في مبسوطة : والمريض إذا برئ في وسط النهار ، أو قدر على الصوم ، وكان قد تناول ما يفسد الصيام ، أمسك بقية النهار تأديبا ، وعليه القضاء ، وإن لم يكن فعل ما يفطر ، أمسك بقية النهار ، وقد تمّ صومه ، إذا كان قبل الزوال ، فإن كان بعده وجب عليه القضاء (٣).

باب قضاء شهر رمضان ومن أفطر فيه على العمد والنسيان

من فاته شي‌ء من شهر رمضان ، بمرض ، أو سفر ، أو شي‌ء من الأسباب التي توجب الإفطار ، فليقضه أيّ زمان أمكنه ، إلا زمان السفر ولا يجوز له أن يبتدئ بصيام تطوع ، وعليه شي‌ء من صيام شهر رمضان ، ولا غيره من الصيام الواجب ، حتى يأتي به.

وإذا أراد قضاء ما فاته من رمضان ، فقد اختلف قول أصحابنا في ذلك ، فبعض يذهب إلى أنّ الأفضل الإتيان به متتابعا ، وبعض منهم يقول : الأفضل

__________________

(١) في ج : لانه.

(٢) المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في حكم المريض والمسافر والمغمى عليه والمجنون وغيرهم من أصحاب الأعذار

(٣) المبسوط : كتاب الصوم.

٤٠٥

أن يأتي به متفرقا ، ومنهم من قال : إن كان الذي فاته عشرة أيام ، أو ثمانية ، فليتابع بين ثمانية ، أو بين ستة ، ويفرّق الباقي ، والأوّل هو الأظهر بين الطائفة ، وبه افتي ، لأنّ الأصل يقتضيه ، وإلى ذلك ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله ، وإن فرّقه كان أيضا جائزا.

ولا بأس أن يقضي ما فاته من شهر رمضان ، في أيّ شهر كان ، فإن اتفق أن يكون مسافرا ، انتظر وصوله إلى بلده ، أو المقام في بلد بنيّة المقام عشرة أيّام ، ثم يقضيه إن شاء.

ومن أكل ، أو شرب ، أو فعل ما ينقض الصيام ، في يوم يقضيه ، من شهر رمضان ناسيا ، تمّم صيامه ، وليس عليه شي‌ء ، وكذلك حكم المتطوع بصيامه ، فإن فعله متعمدا ، وكان قبل الزوال ، أفطر يومه ذلك ، ثم يقضيه يعني اليوم الفائت الأصلي ، الذي أفطره في رمضان ، وكثيرا يطلق في الكتب ، ويوجد ما أنا ذاكره ، وإن فعل ذلك بعد الزوال ، قضى ذلك اليوم يعني اليوم الذي أفطره في رمضان ، فإن أريد قضى ذلك اليوم ، انّ الإشارة راجعة إلى اليوم القضاء الذي ليس من شهر رمضان ، فكان يجب عليه قضاء يومين ، لأنّ يوم أداء شهر رمضان ، الذي أفطر فيه ، يجب عليه أيضا القضاء عنه ، وهذا لا يقوله أحد من الفقهاء ، وكان عليه بعد القضاء ، أو قبل القضاء ، الكفارة لأنّهما فرضان ، اجتمعا ، بأيّهما شاء بدأ ، وهي إطعام عشرة مساكين ، فإن لم يتمكن ، كان عليه صيام ثلاثة أيّام ، متتابعات ، وقال بعض أصحابنا : إنّ عليه كفارة اليمين ، وقال ابن البراج رحمه‌الله : يجب عليه كفارة من أفطر يوما أداء من شهر رمضان.

ومتى أصبح الرجل جنبا ، وقد طلع الفجر ، عامدا كان ، أو ناسيا ، فليفطر ذلك اليوم ، ولا يصمه ، ويصوم غيره من الأيام ، على ما روي في الأخبار (١) وليس كذلك قضاء يوم نذر صومه فأفطره ، فأخذ في القضاء ، فأفطر ، فإنّه لا

__________________

(١) الوسائل : الباب ١٩ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك.

٤٠٦

يجب عليه كفارة ، سواء أفطر قبل الزوال ، أو بعده ، لأنّ حمله على من أفطر يوما يقضيه من رمضان قياس.

ومن أصبح صائما متطوعا ، جاز له أن يفطر ، أيّ وقت شاء ، إلا أن يدعوه أخوه المؤمن ، فإنّ الأفضل له الإفطار ، إذا لم يعلمه بأنّه صائم.

ومن أصبح بنية الإفطار ، جاز له أن يجدد النية ، لقضاء شهر رمضان ، ما بينه وبين نصف النهار ، فإذا زالت الشمس ، لم يجز له تجديد النية ، للصوم الواجب ، فأمّا المندوب فله أن يجدد النيّة ، إلى آخر النهار ، بمقدار ما يمرّ عليه زمان ، يكون ممسكا فيه ، على ما قدّمناه.

والحائض يجب عليها قضاء ما فاتها ، من الأيام في شهر رمضان ، فإن كانت مستحاضة في شهر رمضان ، فإنّها يجب عليها الصيام ، إذا فعلت ما تفعله المستحاضة ، فإن لم تفعل ما تفعله المستحاضة ، وأمسكت وصامت ، فإنّها يجب عليها القضاء ، بغير كفارة ، فإن لم تمسك عن المفطرات ، فإنّها يجب عليها مع القضاء ، الكفارة ، لأنّها أفطرت في زمان ، يجب عليها الإمساك ، وهي مخاطبة بالصيام.

فإذا جاءت أيام عادتها بالحيض ، تركت الصيام ، ثم تقضي تلك الأيام.

ومتى أصبحت المرأة صائمة ، ثمّ رأت الدم ، فقد أفطرت ، وإن كان ذلك بعد العصر ، أو قبل غيبوبة الشمس بقليل ، أمسكت تأديبا ، وعليها قضاء ذلك اليوم.

ومتى أصبحت بنية الإفطار ، ثم طهرت في بقية يومها ، أمسكت ما بقي من النهار ، وكان عليها القضاء.

ومن أجنب في أوّل الشهر ، ونسي أن يغتسل ، وصام الشهر كلّه ، وصلّى ، وجب عليه الاغتسال ، وقضاء الصلاة ، بغير خلاف ، فأمّا الصوم ، فلا يجب عليه قضاؤه ، لأنّه ليس من شرط صحة الصوم في الرجال الطهارة ، إلا إذا تركها الإنسان متعمدا ، من غير اضطرار ، من الليل إلى النهار ، وهذا ما تركها متعمدا.

وذهب بعض أصحابنا في كتاب له ، وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي

٤٠٧

رحمه‌الله ، إلى وجوب قضاء الصوم عليه ، ولم يقل أحد بذلك من محققي أصحابنا ، لأنّه لا دليل عليه ، والأصل براءة الذمة.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في مبسوطة في فصل في حكم قضاء ما فات من الصوم ، قال : من فاته شي‌ء من شهر رمضان لمرض ، لا يخلو حاله من ثلاثة أقسام : إمّا أن يبرأ من مرضه ، أو يموت فيه ، أو يستمر به المرض إلى رمضان آخر ، فإن برئ وجب عليه القضاء ، فإن لم يقض ومات فيما بعد ، كان على وليه القضاء عنه ، والولي هو أكبر أولاده الذكور ، فإن كانوا جماعة في سن واحد ، كان عليهم القضاء بالحصص ، أو يقوم به بعضهم ، فيسقط عن الباقين ، وإن كانوا إناثا ، لم يلزمهن القضاء ، وكان الواجب الفدية ، من ماله عن كل يوم بمدين ، من طعام وأقلّه مدّ (١).

قال محمّد بن إدريس : أمّا قوله رحمه‌الله : أو يقوم به بعضهم ، فيسقط عن الباقين ، فقد قلنا فيما تقدّم ما عندنا فيه ، وامّا قوله ، وإن كانوا إناثا ، لم يلزمهن القضاء ، فنعم ما قال ، وذهب إليه ، فإنّه الصحيح من الأقوال ، وذهب شيخنا المفيد رحمه‌الله إلى خلاف ذلك ، وأوجب على الكبرى منهن ، مثل ما أوجب على الأكبر من الذكور ، والأظهر الأوّل ، لأنّ الأصل براءة الذمة من التكاليف ، فأمّا قوله : وكان الواجب الفدية ، فغير واضح ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، ولم يقل به أحد من أصحابنا المحققين.

وقال السيد المرتضى في انتصاره : يتصدّق عنه لكل يوم بمدّ ، من طعام ، فإن لم يكن له مال ، صام عنه وليه ، فإن كان له وليّان فأكبرهما (٢).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : أمّا الصدقة ، فلا تجب ، لأنّ الميّت ما وجبت عليه كفارة ، بل صوم لا بدل له ، والولي هو المكلف بقضائه ، لا يجزيه غيره ،

__________________

(١) المبسوط : كتاب الصوم ، أصل في قضاء ما فات من الصوم.

(٢) الانتصار : كتاب الصوم ، مسألة ١٦.

٤٠٨

والإجماع منعقد من أصحابنا على ذلك ولم يذهب إلى ما قاله السيد غيره.

والمغمى عليه إذا كان مفيقا في أول الشهر ، ونوى الصوم ، ثم أغمي عليه ، واستمر به أياما ، لم يلزمه قضاء شي‌ء فاته ، وإن لم يكن مفيقا في أول الشهر ، بل كان مغمى عليه ، وجب عليه القضاء ، على قول بعض أصحابنا ، منهم السيد المرتضى والشيخ المفيد.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله إلى أنّه لا قضاء عليه أصلا ، وعندي أنّ الصحيح ، ما ذهب إليه شيخنا أبو جعفر رحمه‌الله والدليل على صحة قوله ، أنّ هذا المغمى عليه ، غير مكلّف بالعبادات ، لأنّ عقله زائل ، بغير خلاف ، والخطاب يتوجه إلى العقلاء المكلّفين للصيام ، وليس هذا بداخل تحت خطابهم.

فإن قيل : فهذا مريض ، ويجب على المريض قضاء ما فاته في حال مرضه ، لأنّ الله تعالى قال ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ ) (١) فأوجب على المريض عدة من أيام أخر ، بعدد ما فاته ، فهذا داخل في عموم هذه الآية.

قلنا : العموم قد يخص بالأدلة ، بغير خلاف ، ومن جملة مخصصات العموم ، أدلة العقول ، وقد علمنا بعقولنا ، أنّ الله تعالى لا يكلّف إلا من أكمل شروط التكليف فيه ، ومن جملة شروط التكليف كمال العقول ، (٢) وهذا مثل قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) (٣) فعلمنا أنّ الأمر بالعبادة في الآية متوجه إلى العقلاء ، دون الصبيان والمجانين ، وإن كانا داخلين في عموم الآية ، لأنّهما من جملة الناس ، والمريض على ضربين : مريض يكون مرضه قد أزال عقله ، ومريض يكون مرضه غير زائل (٤) لعقله ، فهذا هو المخاطب في الآية بالقضاء ، دون الأول ، فخصّصنا الأوّل بالدليل العقلي.

واحتج شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله ، على صحّة ما ذهب إليه ، من

__________________

(١) البقرة : ١٨٤

(٢) في ط وج : العقل

(٣) البقرة : ٢١

(٤) ج : غير مزيل.

٤٠٩

سقوط القضاء عنه ، بأن قال في مبسوطة : وعندي لا قضاء عليه أصلا ، لأنّ نيّته المتقدّمة كافية في هذا الباب ، وانّما يجب ذلك ، على مذهب من راعى تعيين النيّة ، أو مقارنة النية التي هي للقربة ، ولسنا نراعي ذلك (١).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : وهذا لا حاجة بنا إليه ، لأنّه غير واضح (٢) ، والأحسم للشغب ، ما استدللنا به ، لأنّه لا اعتراض عليه ، ولا استدراك فيه ، ولا طريق للخصم بالطعن إليه ، وهب ، انّا التزمنا تعيين النية ، أو مقارنة النية ، فأي شي‌ء كان يلزمنا على استدلالنا نحن ، فأمّا على استدلال شيخنا ، فيتجه عليه إلزام الخصم ، بوجوب القضاء ، لأنّه لا يخلو ، إمّا أن يلتزم بأنّه مكلّف عاقل ، أعني المغمى عليه ، أو لا يلتزم بأنّه مكلّف للصيام ، فإن التزم بأنّه مكلّف عاقل ، فإنّه يحتاج إلى ما قال ، وإن لم يلتزم بأنّه مكلّف للصوم عاقل ، فلا حاجة به إلى ما قال رحمه‌الله.

وقال ابن بابويه في رسالته (٣) وإذا قضيت شهر رمضان ، أو النذر كنت بالخيار في الإفطار ، إلى زوال الشمس ، فإذا أفطرت بعد الزوال ، فعليك الكفارة ، مثل ما على من أفطر يوما من شهر رمضان.

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : أمّا من أفطر في قضاء نذر بعد الزوال ، فليس عليه من الكفارة ، ما على من أفطر في قضاء شهر رمضان بعد الزوال ، لأنّ حمل قضاء النذر على قضاء رمضان قياس ، والقياس عندنا باطل ، بغير خلاف ، والأصل براءة الذمة من الكفارة ، ولا دليل عليها بحال.

فأمّا مقدار كفارة من أفطر في قضاء رمضان بعد الزوال ، فكفارة يمين ، على الصحيح ، من أقوال أصحابنا ، ويقوي ذلك ، أنّ الأصل براءة الذمة.

__________________

(١) المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في حكم المريض والمسافر والمغمى عليه.

(٢) وفي نسخة ج : سقط من العبارة قريب سطر.

(٣) رسالة ابن بابويه : كتاب الصوم ، كيفية القضاء ص ٨٢.

٤١٠

باب ما يجري مجرى شهر رمضان

في وجوب الصّوم وما حكم من أفطر فيه على العمد

أو النسيان بكسر النون وسكون السين

الذي يجري مجراه ، صيام شهرين متتابعين ، فيمن قتل خطأ إذا لم يحد العتق وصيام شهرين متتابعين ، على من أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا إذا لم يختر العتق ، ولا الإطعام وصيام شهرين متتابعين ، في كفارة الظهار ، على من لم يجد عتق رقبة ، فمن وجب عليه شي‌ء من هذا الصيام ، وجب عليه أن يصومه متتابعا ، كما قال سبحانه (١) مع ارتفاع المرض والحيض ، فإن أفطر مختارا ، من غير مرض أو حيض ، في الشهر الأول ، أو الثاني قبل أن يصوم منه يوما واحدا ، كان عليه الاستئناف بغير خلاف ، وإن كان إفطاره ، بعد أن صام من الثاني ، ولو يوما واحدا ، كان مخطئا ، وجاز له البناء ، ولا يجوز لأحد من أصحابنا أن يقول ، حدّ البناء في الشهرين المتتابعين ، أن يصوم الشهر الأول ، ومن الثاني شيئا ، بل حدّ التتابع ، أن يصوم الشهرين متتابعين ، كما قال تعالى ، بل أجمعنا على أنّه يجوز له البناء ، إذا صام من الثاني شيئا ، وإن كان مخطئا في إفطاره مع اختياره وغير ممتنع أن يكون مخطئا بإفطاره ، ويجوز له البناء على ما صام.

ولا يجوز لأحد وجب عليه صيام هذه الأشياء ، أن يصومه في السفر ، ولا أن يصومه أيام العيدين ، ولا أيام التشريق إذا كان بمنى ، فإن وافق صومه أحد هذه الأيام ، وجب عليه أن يفطر ، ويقضي يوما مكانه ، إذا كان إفطاره بعد صيام الشهر الأول ، ومن الثاني يوما واحدا ، وإن كان إفطاره قبل ذلك ، وجب عليه الاستئناف.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله أطلق ذلك في نهايته ، فقال : وجب

__________________

(١) قوله تعالى : « فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ » الآية ، النساء : ٩٢ ، والمجادلة : ٤.

٤١١

عليه أن يفطر ثم ليقض يوما مكانه ، ولا بدّ من التقييد في هذا الحكم ، قال شيخنا أبو جعفر : إلا أن يكون الذي وجب عليه الصيام ، القاتل في الأشهر الحرم ، فإنّه يجب عليه صيام شهرين متتابعين من الأشهر الحرم ، وإن دخل فيهما صيام يوم العيد ، وأيام التشريق (١) وقد أورد هذا من طريق الخبر ، وهو في حيز الآحاد ، دون التواتر ، لأنّ الإجماع والتواتر ، منعقد على أن صيام العيد محرم ، فإن أجاز صيامه ، يحتاج في جوازه في هذه الكفارة إلى دليل ، وإجماع منعقد ، مثل ذلك الإجماع الذي انعقد على تحريمه.

وذهب شيخنا المفيد ، إلى جواز صوم الكفارة في حال السفر ، والأظهر بين الطائفة أنّ الصوم الواجب ، لا يجوز في السفر ، سواء كان صوم رمضان ، أو غيره من الصيام الواجب ، إلا ما أخرجه الدليل ، من النذر المقيّد بحال السفر ، وصيام ثلاثة أيام بدل هدي المتمتع ، وصيام الاعتكاف المنذور ، وصيام كفارة من أفاض من عرفات قبل مغيب الشمس عامدا ، ولم يجد الجزور ، وهو ثمانية عشر يوما.

ومن وجب عليه صيام شهرين متتابعين ، في أوّل شعبان ، فليتركه إلى انقضاء شهر رمضان ، ثم يصوم شهرين متتابعين ، بعد العيد ، فإن صام شعبان ورمضان ، لم يجزه ، إلا أن يكون قد صام مع شعبان ، شيئا ممّا تقدّم من الأيام ، فيكون قد زاد على الشهر ، فيجوز له البناء عليه ، ويتم شهرين.

ومن نذر أن يصوم شهرا متتابعا ، فصام خمسة عشر يوما ، وأفطر ، جاز له البناء ، وإن لم يكن زاد على النصف شيئا آخر ، وفي الشهرين لا بدّ أن يكون قد زاد على النصف شيئا آخر ، من الشهر الثاني ، وهذا فرق ، تواترت به الأخبار ، عن أئمة آل محمد الأطهار ولا يتعدّى إلى غير هذين الحكمين.

__________________

(١) النهاية : كتاب الصوم ، باب ما يجري مجرى شهر رمضان.

٤١٢

وقد ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله ، في جمله وعقوده (١) إلى أنّ العبد ، إذا كانت كفارته صيام شهر فصام نصفه ، جاز له التفريق للباقي ، والبناء على ما مضى ، حملا على الشهر المنذور ، أو خبر واحد ، قد ورد بذلك.

والأظهر ما أجمعنا عليه ، وترك التعرض لما عداه يعمل فيه ، على ما يقتضيه أصول المذهب ، وعموم الآي والنصوص.

وأمّا صيام النذر فقد بيّنا حكمه فيما تقدّم.

فمن أفطر في يوم ، قد نذر صومه ، متعمدا ، وجب عليه ما يجب على من أفطر يوما من شهر رمضان ، عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكينا ، فإن لم يتمكن ، صام ثمانية عشر يوما ، فإن لم يقدر ، تصدّق بما يتمكن منه ، فإن لم يستطع ، استغفر الله ، وليس عليه شي‌ء.

ومن نذر أن يصوم حينا من الزمان ، وجب عليه أن يصوم ستة أشهر.

وإن نذر أن يصوم زمانا ، كان عليه أن يصوم خمسة أشهر.

ومن نذر أن يصوم بمكة ، أو بالمدينة ، أو أحد المواضع المعينة ، شهرا بعينه ، فحضره ، وصام بعضه ، ولم يتمكن من المقام ، جاز له أن يخرج ، فإذا رجع إلى بلده ، قضاه ، متمما له ، وبانيا على ما صامه ، ولا يجب عليه استئنافه.

وإن كان الشهر ، غير معيّن بزمان ، فإنّه يجب عليه صيامه في ذلك البلد ، إذا تمكن من المقام ، لا يجزيه غير ذلك ، مع الاختيار للخروج من البلد.

فإن نذره متتابعا ، وخرج من البلد مختارا ، فإنّه لا يجزيه ما صامه ، ولا يجوز له البناء عليه ، وإن لم يتمكن من المقام ، فإن كان صام نصف الشهر ، فله البناء على التمام في بلده ، لأنّ من نذر صيام شهر متتابعا ، وصام نصفه ، وأفطر ، فله البناء عليه ، وإن كان خروجه قبل صيام النصف ، فلا يجوز له البناء ، لأنّ

__________________

(١) الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في ذكر أقسام الصوم ومن يجب عليه الصوم ، ذيل رقم ٤ و ٥ من الصيام الواجب الذي متى أفطر في حال دون حال بني ، ص ٢١٧.

٤١٣

السفر عندنا يقطع التتابع ، سواء كان مضطرا إليه ، أو مختارا. فأمّا إذا لم يكن الشهر المنذور ، لا متعينا ، ولا متتابعا بالشرط ، فلا يجزيه إلا أن يصومه في البلد الذي عينه فيه ، أيّ وقت قدر عليه.

ومتى عجز الإنسان عن صيام ما نذر فيه ، تصدّق عن كل يوم بمد من طعام ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في نهايته (١) وهذا ينبغي أن يقيّد ، ويقال : متى عجز بمرض ، يرجى برؤه ، وشفاؤه ، فلا يكون هذا حكمه ، بل يجب عليه قضاؤه بلا كفارة ، إذا برئ لأنّ المريض لا يجب عليه بإفطاره في حال مرضه في الصوم المعيّن ، كفارة ، بل يجب عليه القضاء إذا برئ فحسب ، بغير خلاف ، فأمّا إذا كان العجز بكبر ، أو بمرض ، لا يرجى برؤه ، ولا شفاؤه ، فيكون الحكم ما قاله شيخنا ، ولا قضاء عليه ، فليتأمّل ذلك ، ففقهه ما ذكرناه.

وصوم كفارة اليمين ، واجب أيضا ، وهو ثلاثة أيام متتابعات ، لا يجوز الفصل بينهما بالإفطار ، مختارا ، إلا أن يعرض مرض ، أو حيض ، فيجوز البناء على ما صام ، سواء كان جاوز أكثر من النصف ، أو أقل من ذلك ، فأمّا إذا فصّل بين الثلاثة الأيام ، لغير حيض ، أو مرض ، فإنّه يجب عليه الاستئناف ، والحر والعبد في هذا الحكم سواء.

وصيام أذى حلق الرأس واجب ، إذا لم ينسك ، ولم يتصدق.

وصيام ثلاثة أيام ، لمن لم يجد دم المتعة ، في الحج ، متتابعات ، وهي بدل الهدي ، مع عدمه ، لا بدل ثمنه ، وذهب بعض أصحابنا إلى أنّ الصيام بدل الثّمن ، لأنّ عند هذا القائل ، أنّه لا يجزيه الصيام ، مع وجود الثمن ، والأول أظهر ، لأنّ الله تعالى ، (٢) نقلنا مع عدم الهدي إلى الصيام ، ولم يجعل بينهما واسطة ، فمن ادّعاها

__________________

(١) النهاية : كتاب الصوم ، باب ما يجري مجرى شهر رمضان.

(٢) قوله تعالى : ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ ) الآية ، البقرة : ١٩٦.

٤١٤

خالف ظاهر التنزيل.

ولا يجوز التفريق بين الثلاثة الأيام إلا في موضع واحد ، وهو إذا صام يوم التروية ، ويوم عرفة ، فإنّه يبني على صيامه بعد أيام التشريق ، فأمّا إذا لم يكن المانع من التتابع العيد ، أو كان المانع العيد ، ولم يحصل صيام يومين قبله ، فلا يجوز التفريق بحال.

وشيخنا أبو جعفر ، في جمله وعقوده ، جعله في قسم الصيام الذي إذا أفطر المكلّف به في حال دون حال بنى. فقال : وصوم ثلاثة أيّام في دم المتعة ، إن صام يومين ثم أفطر بنى ، وإن صام يوما وأفطر أعاد (١). وهذا الإطلاق ، لا يصح إلا في موضع واحد ، وهو انّه يكون ، قد صام يوم التروية ، ويوم عرفة ، فإنّه يبني بعد أيام التشريق ، فأمّا إذا لم يكن صام اليومين المذكورين ، وصام بعد أيام التشريق ، فإنّه لا يبني إذا صام يومين ثم أفطر.

فأمّا صيام السبعة الأيام ، فإذا عاد ، ورجع إلى وطنه ، يصومهن إن شاء متتابعة ، وإن شاء متفرقة ، ولا يجب عليه التتابع ، ولا يجوز له أن يصومهن ، إلا إذا رجع ، ولا يجوز صيامهن في الطريق والسفر ، فإن جاور بمكة ، انتظر قدوم أهل بلده إلى بلدهم ، إذا كان ذلك دون الشهر ، فإن كان أكثر من ذلك ، انتظر شهرا ، ثم صام بعد ذلك.

فإن مات المكلّف بهذا الصيام بعد القدرة عليه ، قال بعض أصحابنا : لا يجب على وليّه القضاء عنه. والأولى أنّه يجب ذلك على الولي ، لأنّ الإجماع منعقد على أنّ كل صوم كان واجبا على الميت ، وقدر عليه ولم يفعله ، فالواجب على الولي القيام به.

وصوم جزاء الصيد ، بحسب قيمة جزائه ، متفرقا ومتتابعا ، ولا يجوز صيامه في السفر ، وقال ابن بابويه في رسالته : يجوز صيامه في السفر (٢). والأظهر بين أصحابنا الأول.

__________________

(١) الجمل والعقود : فصل في ذكر أقسام الصوم ومن يجب عليه الصوم ، رقم ٦ من الصيام الذي متى أفطر في حال دون حال بنى ، ص ٢١٧.

(٢) رسالة ابن بابويه : كتاب الصوم ، الصوم في السفر ص ٧٣ الطبع الحديث.

٤١٥

وصيام الاعتكاف المنذور واجب أيضا ، فإمّا الاعتكاف المندوب ، فصيامه مندوب بغير خلاف من محصّل ، وسنشبع الكلام ، في باب الاعتكاف إن شاء الله تعالى.

وصيام النذر ، له ثلاث مسائل ، ينبغي أن يحقق ، وقد اطلع على فقه النذر ، وهن : إذا نذر الإنسان صيام شهر معيّن ، مثلا رجب أو شعبان. الثانية (١) نذر صيام شهر متتابع ، إلا أنه غير معيّن بزمان ، بل موصوف بصفة ، وهي التتابع. الثالثة : إذا نذر صيام شهر ، ولم يعيّنه ، ولا وصفه بصفة.

فأمّا الأولى ، فإنّه إذا صام بعضه ، سواء كان ذلك البعض ، النصف ، أو أقل من النصف ، أو أكثر من النصف ، وعلى كل حال ، فإنّه يبني ، ولا يستأنف ، بل يجب عليه القضاء لما أفطره ، والكفارة.

الثانية إذا أفطر ، فلا يخلو إفطاره ، إمّا أن يكون قبل النصف ، أو بعد النصف ، فإن كان قبل النصف ، فإنّه يجب عليه الاستئناف ، ولا يعتد بما صام ، ولا يجب عليه فيما أفطر كفارة ، ولا قضاء ، بل يجب عليه الاستئناف للصيام ، فأمّا إن كان أفطر بعد النصف فإنّه يبني ، ولا يستأنف ، ولا يجب عليه الكفارة في الحالين معا.

فأمّا الثالثة فإنّه يبني على كل حال ، سواء كان إفطاره قبل النصف ، أو بعده ، ولا كفارة عليه ، لأن نذره غير معيّن بزمان ، ولا موصوف بصفة ، وهي التتابع.

ومن تعيّن عليه صيام شهرين متتابعين ، لا حد ما ذكرناه من إفطار يوم ، من شهر رمضان عامدا ، أو نذر معيّن ، أو اعتكاف معيّن ، أو ظهار ، أو غير ذلك مما أشبهه ، أو نذر صومهما ، وجب عليه ان يبتدئ شهرين عربيين ، يمكن الموالاة فيهما ، (٢) ، دون شعبان ، لأجل شهر رمضان ، ودون شوال ، لأجل يوم الفطر ، ودون ذي الحجة فإذا دخل في الصوم ، وجب عليه المضي فيه حتى يكمل الشهرين.

فإن أفطر في شي‌ء منهما ، مضطرا بنى على ما صامه ، ولو كان يوما واحدا ،

__________________

(١) في ط وج : إذا أنذر

(٢) في ط وج : بينهما.

٤١٦

وإن كان مختارا ، في الشهر الأول ، وقبل أن يدخل في الثاني ، استأنف الصيام ، من أوّله ، وإن أفطر بعد أن صام من الثاني يوما واحدا ، فما زاد ، تمم على ذلك ، وجاز له البناء على ما مضى.

ومن مات ، وعليه شي‌ء من ضروب الصيام ، لم يؤده ، مع تعيّن فرضه عليه ، وتفريطه فيه ، فعلى وليه القضاء عنه ، وإن لم يتعيّن ذلك عليه لم يتعيّن الصوم على وليه ، ولا يجب على الولي الصيام ، وقد قدّمنا طرفا من ذلك ، فيما تقدّم ، وكذلك صيام الشهرين المتتابعين ، وأعدناه هاهنا تأكيدا ، وشرح بيان.

ومن نذر أن يصوم يوما ، ويفطر يوما ، صوم داود عليه‌السلام ، فوالى الصوم ، فإنّه يجب عليه كفارة خلاف النذر ، وقد بيّناها ، لأنّه نذر أن يفطر ، فصام ، وإن والى الإفطار مختارا ، لم يجزه ، ولزمه القضاء ، لأيام الصوم ، وكفارة من أفطر يوما من شهر رمضان ، عن كل يوم أفطره ، وكان يجب عليه صيامه ، ويجب عليه القضاء ، على ما قدّمناه ، لأنّ زمان القضاء مستثنى ، على ما قدّمناه في نذر الدهر.

باب صيام التطوّع ، وما يكون صاحبه فيه بالخيار

وصوم التأديب ، والاذن ، وما لا يجوز صيامه

أمّا المسنون من الصيام ، فجميع أيام السنة ، إلا الأيام التي يحرم صيامها ، غير أنّ فيها ما هو أشدّ تأكيدا ، فمن ذلك صوم ثلاثة أيام في كل شهر مستحب ، مندوب إليه ، مؤكد فيه ، وهو أول خميس في العشر الأول ، وأول أربعاء في العشر الثاني ، وآخر خميس في العشر الأخير ، فإن اتفق خميسان في العشر الأخير ، فالخميس الأخير منهما هو المؤكد صيامه ، دون الأول ، فإن جاء الشهر ناقصا ، فلا شي‌ء عليه ، فينبغي أن لا يتركه الإنسان مع الاختيار ، فإن لم يقدر على صيام هذه الأيام في أوقاتها ، جاز له تأخيرها من شهر إلى شهر ، ثم يقضيها ، وكذلك

٤١٧

لا بأس أن يؤخّرها من الصيف إلى الشتاء ، ثم يقضيها بحسب ما فاته ، فإن عجز عن الصيام ، جاز له أن يتصدق عن كل يوم بدرهم ، أو بمد من طعام.

ويستحب صيام الأربعة الأيام في السنة ، وهي يوم السابع والعشرين من رجب ، وهو يوم مبعث النبي صلّى الله عليه وعلى آله ، ويوم السابع عشر من شهر ربيع الأول ، وهو يوم مولده عليه‌السلام ، ويوم الخامس والعشرين من ذي القعدة ، وهو يوم دحيت فيه الأرض من تحت الكعبة ، ومعنى دحيت أي سطحت وبسطت ، ويوم الثامن عشر من ذي الحجة ، وهو يوم الغدير ، نصب فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا أمير المؤمنين عليه‌السلام إماما للأنام ، وفي هذا اليوم بعينه قتل عثمان بن عفان ، وبايع الناس المهاجرون والأنصار عليّا عليه‌السلام طائعين مختارين ، ما خلا أربعة أنفس ، منهم عبد الله بن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وسعد بن أبي وقاص ، وأسامة بن زيد ، وفي هذا اليوم فلج موسى بن عمران عليه‌السلام على السحرة ، وأخزى الله عزوجل فرعون وجنوده ، وفيه نجّى الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام من النار ، وفيه نصب موسى وصيه يوشع بن نون ، ونطق بفضله على رءوس الأشهاد ، وفيه أظهر عيسى وصيّه شمعون الصفا ، وفيه أشهد سليمان بن داود سائر رعيته على استخلاف آصف بن برخيا وصيه ، وهو يوم عظيم ، كثير البركات.

وفي الرابع والعشرين من ذي الحجة ، بأهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بأمير المؤمنين والحسن والحسين وفاطمة عليهم‌السلام ، نصارى نجران ، وفيه تصدّق أمير المؤمنين عليه‌السلام بخاتمه.

وفي اليوم الخامس والعشرين من هذا الشهر ، نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، هل أتى.

وفي اليوم السادس والعشرين منه ، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة ، طعن عمر بن الخطاب.

٤١٨

وفي التاسع والعشرين منه ، قبض عمر بن الخطاب ، فينبغي للإنسان أن يصوم هذه الأيام ، فإن فيها فضلا كبيرا ، وثوابا جزيلا ، وقد يلتبس على بعض أصحابنا يوم قبض عمر بن الخطاب ، فيظن أنّه يوم التاسع من ربيع الأول ، وهذا خطأ من قائله ، بإجماع أهل التاريخ والسير ، وقد حقق ذلك شيخنا المفيد ، في كتابه كتاب التواريخ ، وذهب إلى ما قلناه.

ويستحب صيام أول يوم غرة ذي الحجة ، وهو يوم ولد فيه إبراهيم الخليل عليه‌السلام.

ويستحب صيام يوم عرفة ، إذا حقق هلال ذي الحجة ، فأمّا إذا لم يحقق ، وشك فيه ، والتبست معرفته ، فانّ صيام عرفة ، والحال ما وصفناه ، مكروه ، لأنّ الإنسان لا يأمن من قيام البينة بأنّه يوم عيد.

ويستحب صيام رجب بأسره ، فإن لم يتمكن ، فما تيسر منه ، وكذلك شعبان ، ويصله بشهر رمضان ، فهو شهر شريف ، وصيامه سنّة ، من سنن الرسول عليه‌السلام ، وفي اليوم الثاني منه ، سنة اثنتين من الهجرة ، نزل فرض صيام شهر رمضان ، فعلى هذا التقدير ، والتاريخ ، يكون قد صام الرسول عليه‌السلام ، ثمان رمضانات على التحقيق.

وأيام البيض من كل شهر ، وهي يوم الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر.

قال محمد بن إدريس رحمه‌الله : يقال هذه أيام البيض ، أي أيام الليالي البيض ، وسمّيت هذه الليالي بيضا ، لطلوع القمر من أولها إلى آخرها ، والعامة تقول الأيام البيض ، حتى أنّ بعض أصحابنا جرى في كتبه المصنّفة ، على عادات العوام في ذلك ، وهو خطأ ، لأنّ الأيام كلها بيض.

وصوم يوم عاشوراء على وجه حزن بمصاب آل الرسول عليهم‌السلام.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في نهايته إلى أن صيام أيام الليالي البيض ، وصيام عرفة ، وصيام يوم عاشوراء ، من القسم المخيّر فيه ، دون

٤١٩

القسم المؤكد ، لأنّه عدّد المؤكد ، ثم قال بعد ذلك : والصوم الذي يكون صاحبه فيه بالخيار ، كذا وكذا (١).

وأمّا صوم الإذن ، فلا تصوم المرأة تطوعا إلا بإذن زوجها ، فإن صامت من غير إذنه ، فلا ينعقد صومها ، ولا يكون شرعيا ، وله مواقعتها فيه ، وإلزامها الإفطار ، ويجب عليها مطاوعته ، فإن كانت صائمة في (٢) الواجبات ، فليس له عليها ولاية ، ولا يجوز له منعها من ذلك ، ولا ينعقد نذرها بصيام ، ما دامت في حبال بعلها ، فإن كانت قد نذرت الصيام ، قبل عقده عليها ، فقد صح وانعقد ، وليس له منعها منه ، وكذلك النذر بالحجّ منها.

والعبد لا يصوم تطوعا إلا بإذن مولاه ، والضيف لا يصوم تطوعا إلا بإذن مضيفه ، فإن صاما من غير إذن ، فلا ينعقد لهما صيام شرعي ، ويكونان مأزورين ، ولا يكونان مأجورين.

وأما الصوم التأديب ، فأن يؤخذ الصبي إذا راهق بالصوم تأديبا ، ومعنى راهق : قارب البلوغ ودنا منه ، وكذلك من أفطر لمرض في أول النهار ، ثم قوى بقية نهاره ، أمر بالإمساك بقية يومه تأديبا ، وليس بفرض ، وكذلك المسافر إذا أفطر أوّل النهار ، ثم قدم أهله ، أمسك بقية يومه تأديبا ، وكذلك الحائض ، إذا أفطرت في أول النهار ، أو لم تفطر ، ثمّ طهرت في بقية يومها ، أمسكت تأديبا ، وعليها قضاؤه.

وأمّا الذي لا يجوز صومه بحال ، فيوم الفطر ، ويوم الأضحى ، وثلاثة أيام التشريق ، لمن كان بمنى ، وصوم يوم الشك ، بنية أنّه من رمضان ، وصوم الوصال ، وهو أن يصوم يومين ، من غير أن يفطر بينهما ليلا ، وفسّره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في نهايته بغير هذا ، فقال : وهو أن يجعل عشاءه سحوره (٣)

__________________

(١) النهاية : كتاب الصوم ، باب صيام التطوع

(٢) في ط وج : من.

(٣) النهاية : كتاب الصوم ، باب صيام التطوع

٤٢٠