كتاب السرائر - ج ١

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٧٦

بغسل الوجه واليدين (١) ، فيجب أن يفعل المتطهر من الجنابة ، والمتوضي ما يسمّى غسلا ، ولا يقتصر على ما يسمّى مسحا ولا يبلغ الغسل ، فأمّا الأخبار الواردة (٢) بأنّه يجزئك ولو مثل الدهن ، فإنّها محمولة على دهن يجري على العضو ويكثر عليه حتى يسمّى غسلا ، ولا يجوز غير ذلك. قال محمّد بن إدريس وهذا هو الصحيح المحصّل المعتمد عليه.

والمسنون للرجال أن يبتدءوا بظاهر الذراع بالكف الأول ، وبباطن الذراع بالكف الثاني ، والمسنون للنساء عكس ذلك ، وهذا على جهة الندب ، لا الوجوب للرجال والنساء ، ولا بدّ من إدخال المرافق في الغسل ، على طريق الوجوب.

والترتيب واجب في الطهارتين معا الكبرى والصغرى.

والموالاة واجبة في الصغرى فحسب ، وحدّها المعتبر عندنا على الصحيح من أقوال أصحابنا المحصّلين ، هو أن لا يجف غسل العضو المقدّم في الهواء المعتدل ، ولا يجوز التفريق بين الوضوء بمقدار ما يجف معه غسل العضو الذي انتهى إليه ، وقطع الموالاة منه في الهواء المعتدل.

وبعض أصحابنا يوجب الموالاة على غير هذا الاعتبار ، ويذهب إلى أنّ اعتبار الجفاف يكون عند الضرورة لانقطاع الماء وغيره من الأعذار ، فأمّا مع زوال الأعذار ، فلا يعتبر جفاف ما وضأه.

وأقل ما يجزي في مسح الناصية ، ما وقع عليه اسم المسح ، والأفضل أن يكون مقدار ثلاث أصابع مضمومة ، سواء كان مختارا أو مضطرا ، وقال بعض أصحابنا : الواجب في حال الاختيار مقدار ثلاث أصابع مضمومة ، وفي حال الضرورة إصبع واحدة ، والأول أظهر بين أصحابنا ، لأنّ دليل القرآن يعضده ، لأنّ من مسح ما اخترناه ، يسمّى ماسحا بغير خلاف ، ومن ادّعى الزيادة يحتاج إلى شرع.

__________________

(١) مضت الآية وهي في سورة المائدة الآية ٦

(٢) الوسائل : الباب ٥٢ من أبواب الوضوء.

١٠١

فالشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله يذهب إلى ما اخترناه ، في جمله وعقوده (١) ، ويورد المقالة الأخرى في نهايته (٢) ، على جهة الإيراد على ما نبهنا عليه من قبل.

ويكره استقبال شعر ذراعك في غسله ، وكذلك يكره استقبال شعر ناصيتك في مسحها.

ثم تضع يديك جميعا بما بقي فيهما من البلة على ظهر قدميك ، فتمسحهما من أطراف الأصابع إلى الكعبين اللذين تقدّم وصفهما ، ولا يجوز أن يأخذ للرأس والرجلين ماء جديدا ، ولا يجزي غسل الرجلين عن مسحهما ، وكذلك الرأس ، وإن عرضت حاجة إلى غسل الرجلين للتنظيف أو غيره ، وجب أن تقدّم على الوضوء ، ليميّز بين المفروض والمسنون ، فإن جعل غسلهما بين أعضاء الطهارة فمكروه.

ويعتبر جفاف ما وضأه على ما مضى شرحنا له.

ومسح الأذنين أو غسلهما بدعة عند أهل البيت عليهم‌السلام.

ولا يجوز المسح على الخفين ، ولا الجوربين ، ولا الجرموقين ، ولا على الخمار والعمامة ، فأمّا النعال فما كان منها حائلا بين الماء وبين القدم لم يجز المسح عليه ، وما لم يمنع من ذلك جاز المسح عليه ، سواء كان منسوبا إلى العرب أو العجم.

ويجوز المسح على الجبائر عند الضرورة وخوف المضرة بحلّ العضو.

قال محمّد بن إدريس : في مسائل الخلاف للسيّد المرتضى « التساخين : الخفاف ، بالتاء المنقطة من فوقها بنقطتين المفتوحة والسين غير المعجمة المفتوحة والخاء المعجمة المكسورة والياء المنقطة من تحتها بنقطتين المسكنة والنون » فأوردت الكلمة هاهنا لئلا تصحّف.

ويجب في الوضوء الترتيب ، وهو أن يغسل الوجه ، ثم اليدين ، ويمسح الرأس ، ثم الرجلين ، فمن قدّم مؤخرا أو أخّر مقدّما لم يجزه ذلك في رفع حدثه

__________________

(١) الجمل والعقود : باب ما يقارن الوضوء

(٢) النهاية : باب آداب الحدث وكيفية الطهارة.

١٠٢

وكان عليه تداركه ، كما أنّه قدّم غسل يديه على وجهه ، فالواجب أن يرجع فيغسل وجهه ثم يديه وكذلك سائر الأعضاء.

ومن قدّم غسل يده اليسرى على اليمنى وجب عليه الرّجوع إلى غسل اليمنى ثم يعيد غسل اليسرى ، ودليل ذلك إجماع أهل البيت عليهم‌السلام.

فإن غسل اليدين قبل الوجه ، ثم غسل الوجه بعدهما فان كان لم ينو عند المضمضة والاستنشاق نية الطهارة ، ولا نواها عند غسل وجهه ، فإنّه يجب أن يعيد غسل وجهه ثانيا بنية ، لأنّه غسله بغير نية ، وإن كان قد نوى عند المضمضة فلا يجب عليه اعادة غسل وجهه ثانيا ، وكذلك إن لم ينو عند المضمضة ونوى عند غسل وجهه نية الطهارة ، فلا يجب عليه اعادة غسله ثانيا بل اعادة غسل يديه فحسب ومسح رأسه ورجليه مرتبا إذا لم يجف الماء الذي على وجهه ، فإن جفّ وجب عليه اعادة غسله ثانيا ، فهذا تحرير ذلك.

والموالاة في الوضوء أيضا واجبة ، ومعناها غير معنى الترتيب ، لأنّ الترتيب هو أن يكون كلّ تطهير عضو بعد صاحبه من غير تفصيل ، لفور أو تراخ ، والموالاة أن يوالي بين الأعضاء من غير تراخ ، فيصل غسل اليدين بغسل الوجه ، ومسح الرجلين بمسح الرأس ، ويتعمد أن يكون فراغه من مسح رجليه وعلى أعضائه المغسولة والممسوحة نداوة الماء.

ومن فرّق وضوءه لانقطاع الماء عنه أو لغيره من ضروب الأعذار أو باختياره حتى يجف ما تقدّم ، وجب عليه استيناف الوضوء من أوله أو من حيث جف ، وإن كان التفريق لم يجف معه ما تقدّم ، وصل من حيث قطع ، ومن ذكر انه لم يمسح برأسه وفي يده بلّة الوضوء ، مسح عليه وعلى رجليه بما بقي في يده من البلّة ، من غير استيناف ماء مجدد ، وكذلك القول في الرجلين إذا ذكر انّه لم يمسح عليهما ، فإن لم يكن في يده بلل أخذه من حاجبيه أو من لحيته أو من أشفار عينيه ، إن كان في ذلك نداوة ، ومسح بها وإن كانت قليلة ، فإن لم يبق شي‌ء

١٠٣

من النداوة أصلا ، وجب عليه اعادة الوضوء ، من أوّله.

وكذلك إن ذكر انّه لم يغسل ذراعيه ، وجب أن يغسلهما ، ثم يمسح برأسه ورجليه ، وكلّ هذا ما لم يجف طهارة العضو المتقدّم على المنسي كما انّه ذكر انّه لم يغسل ذراعيه وقد جفت طهارة وجهه ، أو ذكر انّه لم يمسح رأسه وقد جفت طهارة ذراعيه ، فمن كانت هذه حاله وجب أن يستأنف الوضوء من أوله.

ومن كان قائما في الماء وتوضأ ، ثم أخرج رجليه من الماء ومسح عليهما ، من غير أن يدخل يديه في الماء ، فلا حرج عليه ، لانه ماسح بغير خلاف والظواهر من الآيات والأخبار متناولة له ، ولنا في هذا مسألة طويلة فمن أرادها وقف عليها.

ومن عرض له ـ وهو في حال الوضوء لم يخرج عنه ـ شك في أنّه ترك بعض أعضائه أو قدّم مؤخّرا أو أخّر مقدّما ، وجب عليه أن يعيد الوضوء من أوله حتى يكون على يقين من كمال طهارته ، إلا أن يكثر ذلك منه ويتواتر فلا يلتفت إليه ، ويمضي فيما أخذ فيه.

فإن كان الشك العارض بعد فراغه وانصرافه من مغتسله وموضعه لم يحفل بالشك وألغاه ، لأنّه لم يخرج عن حال الطهارة إلا على يقين من كمالها ، وليس ينقض الشك اليقين ، اللهم إلا ان يتيقن ويذكر أنّه أهمل شيئا أو قدم مؤخّرا أو أخّر مقدّما فيكون الحكم على ما قدّمناه.

وقد قال بعض أصحابنا في كتاب له ، أنّه ليس من العادة أن ينصرف الإنسان من حال الوضوء إلا بعد الفراغ من استيفائه على الكمال ، وهذا غير واضح ، إلا أنّه رجع في آخر الباب ويقول : إن انصرف من حال الوضوء وقد شك في شي‌ء من ذلك ، لم يلتفت إليه ومضى على يقينه ، وهذا القول أوضح وأبين في الاستدلال.

ومن تيقن الطهارة والحدث معا ، ولم يعلم أيهما سبق صاحبه ، وجب عليه الوضوء ليزول الشك ويحصل على يقين بالطهارة.

١٠٤

ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث ، عمل على اليقين ولم يحفل بالشك ، وإن كان المتيقن هو الحدث والمشكوك فيه هو الطهارة عمل على اليقين واستأنف الطهارة.

ومن كان في يده خاتم ، فالمستحب له أن يحركه عند غسل يده ، وإن كان واسعا يدخل الماء تحته ، وإن كان ضيقا لا يدخل الماء تحته فليحوّله من موضعه إلى موضع آخر ، وكذلك المرأة في الدملج وما أشبهه.

وذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (١) إلى أنّه متى صلّى الظهر بطهارة ولم يحدث ، وجدّد الوضوء ، ثم صلّى العصر ، ثم ذكر انّه ترك عضوا من أعضاء الطهارة ، فإنّه يعيد صلاة الظهر ولا يعيد صلاة العصر ، ويحكى عن الشافعي انّه يعيد الظهر.

وفي إعادة العصر قولان : أحدهما لا يعيد مثل ما قلناه ، إذا قال إنّ تجديد الوضوء يرفع الحدث. والآخر انّه يعيد ، إذا لم يقل إنّ تجديد الوضوء يرفع حكم الحدث.

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : والذي يقوى في نفسي ويقتضيه أصول مذهبنا أنّه يعيد الصلاتين معا الظهر والعصر ، لأنّ الوضوء الثاني ما استبيح به الصلاة ولا رفع به الحدث ، وإجماعنا منعقد على أنّه لا تستباح الصلاة إلا بنيّة رفع الحدث ، أو نية استباحة الصلاة بالطهارة ، فأمّا إن توضأ الإنسان بنية دخول المساجد أو الكون على طهارة أو الأخذ في الحوائج ـ لأنّ الإنسان يستحب له أن يكون في هذه المواضع على طهارة ـ فلا يرتفع حدثه ولا استبيح بذلك الوضوء الدخول في الصلاة وإلى هذا القول والتحرير يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في جواب المسائل الحلبيات التي سئل عنها ، فأجاب بما حررناه.

__________________

(١) كتاب الخلاف : مسألة ١٦٦ من كتاب الطهارة.

١٠٥

فأمّا إن كان قد أحدث عقيب كلّ طهارة فإنّه يجب عليه اعادة جميع صلاته.

ومقدار الماء لإسباغ الوضوء مد ، وهو رطلان وربع بالعراقي ، وللغسل صاع ، وهو أربعة أمداد ، يكون تسعة أرطال بالعراقي ، ومن اغتسل أو توضأ بأقل من ذلك أجزأه بعد أن يقسمه في ثلاث أكف ، كف للوجه ، وكفان لليدين ، وقد روي انّه « يجزي من الوضوء ما جرى مجرى الدهن » (١) إلا أنّه لا بدّ أن يكون ممّا يتناوله اسم الغسل ، ولا ينتهي في القلّة إلى ما يسلب الاسم ، على ما قدّمنا شرحنا له وحققناه.

باب أحكام الأحداث الناقضة للطهارة

ما ينقض الوضوء على ثلاثة أضرب : أحدها ينقضه ولا يوجب الغسل ، وثانيها ينقضه ويوجب الغسل ، وثالثها إذا حصل على وجه نقض الوضوء لا غير ، وإذا حصل على وجه آخر وجب الغسل.

فما يوجب الوضوء لا غير : البول ، والغائط سواء خرج من الموضع المعتاد أو خرج من غير ذلك الموضع ، لقوله تعالى : ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) (٢) ولم يعيّن موضعا دون موضع.

وبعض أصحابنا يقيّد ذلك بموضع في البدن دون المعدة ، ويستشهد على ذلك بعموم قوله تعالى : ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) وما روي من الأخبار أن الغائط ينقض الوضوء (٣) يتناول ذلك ، وقال : ولا يلزم ما فوق المعدة ، لأنّ ذلك لا يسمى غائطا ، وهذا استدلال منه غير واضح ، لأنّه استدل بعموم

__________________

(١) الوسائل : الباب ٥٢ من أبواب الوضوء ، ح ٥ مع اختلاف يسير

(٢) المائدة : ٦.

(٣) الوسائل : الباب ١ و ٢ من أبواب نواقض الوضوء.

١٠٦

الآية ، ثم خصص اللفظ من غير تخصيص فيه ، أو في دليله ، فما بقي لدون المعدة معنى بالتقييد ، بل لأنّه لا يسمى غائطا ، فإن سمّي غائطا أو خرج الغائط من فوق المعدة يلزمه ما لزمه من دون المعدة ، لشمول اللفظ وعموم الآية ، وإلا بطل استدلاله بها رأسا ، فالأولى إطلاق خروجه من موضع في البدن ، من غير تقييد ، حتى يصح الاستدلال بالآية والأخبار.

والريح الخارج من الدبر على وجه متيقن إمّا بأن يسمع الصوت أو يشم الريح ، فأمّا غير ذلك من الخارج من غير الدبر ، إمّا فرج المرأة يعني قبلها أو مسام البدن ، أو ريح متوهمة مشكوك فيها غير متيقنة ، فلا ينقض ذلك الوضوء.

والنوم الغالب على السمع والبصر بمجموع الحاستين على جميع أحوال النائم من صحيح الحاسة. فأمّا غير صحيح الحاسة ، فبأن ينام نوما لو نامه صحيح الحاسة لما سمع ولما أبصر ، وإجماع أصحابنا على أنّ النوم حدث ينقض الوضوء منعقد وقول الرسول « العين وكاء السه » (١) بالسين غير المعجمة المشددة المفتوحة وبالهاء غير المنقلبة عن تاء ، وهي حلقة الدبر ، قال الشاعر :

أدع احيحا باسمه لا تنسه

إنّ احيحا هو صبيان السه

يعضد ما ذهبنا إليه لأنّه مجمع عليه ، وكل ما أزال العقل ، وفقد معه التحصيل والتمييز من إغماء وجنون ومرة وسكر وغير ذلك من جميع أنواع الأمراض التي يفقد معها التحصّل ويزول التكليف.

وما يوجب الغسل ، فخروج المني على كل حال ، سواء كان دافقا أو غير دافق ، بشهوة كان أبو بغير شهوة ، وما يوجد في بعض كتب أصحابنا من تقييده بالدفق فغير واضح ، إلا انّه لمّا كان الأغلب في أحواله الدفق ، قيّد بذلك.

وغيبوبة الحشفة في فرج آدمي ، سواء كان الفرج قبلا أو دبرا على

__________________

(١) نهج البلاغة صبحي صالح : في فصل يذكر فيه شيئا من غريب كلامه رقم ٤٦٦ وقال الرضي ره والأشهر الأظهر انّه من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١٠٧

الصحيح من الأقوال ، لأنّه إجماع المسلمين ، ويعضد ذلك قوله تعالى : ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) (١) ولا خلاف إن من أولج حشفته في دبر امرأة ينطلق عليه أنّه لامس النساء حقيقة وضعية وحقيقة عرفية شرعية ، وأيضا يسمّى الدبر فرجا بغير خلاف بين أهل اللغة ، على أنّ هذه اللفظة إن كانت مشتقة من الانفراج فهو موجود في القبل والدبر ، وإن كانت مختصة بقبل المرأة فذلك ينتقض بقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ : إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (٢) ومعلوم انّه تعالى أراد بذلك الرجال دون النساء ، وسمّي ذكر الرجل وآلة جماعه فرجا ، وهذا ينقض أن تكون اللفظة مختصة بقبل المرأة.

وأمّا الأخبار المتضمنة لذكر غيبوبة الحشفة ، فهي أيضا عامة على الفرجين ، ودالة على الأمرين لأنّ غيبوبة الحشفة في كلّ واحد من الفرجين ، تقتضي تناول الاسم ، وفي الأخبار ما هو أوضح في تناول الأمرين من غيره.

روى محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن صفوان بن يحيى ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام (٣) قال : سألته متى يجب الغسل على الرجل والمرأة؟ قال : إذا أدخلته فقد وجب الغسل والمهر والرجم ، وفي لفظ آخر إذا غيّبت الحشفة (٤).

وروى حماد ، عن ربعي بن عبد الله ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ما تقولون في الرجل يأتي أهله فخالطها ولم ينزل؟ فقالت الأنصار : الماء من الماء ، وقال المهاجرون : إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل. وقال عمر لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام : ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال عليه‌السلام : أتوجبون عليه الرجم ولا

__________________

(١) المائدة : ٦

(٢) المؤمنون : ٥ و ٦.

(٣) في المطبوع : أي الباقر والصادق عليهما‌السلام

(٤) الوسائل : الباب ٦ من أبواب الجنابة ، ح ١ و ٢.

١٠٨

توجبون عليه صاعا من ماء (١).

وقد روي هذا المعنى من طرق كثيرة ، وهذا تنبيه منه عليه‌السلام على أنّ هذه الأحكام يتبع بعضها بعضا ، وإذا كنّا نوجب في الوطي في الدبر من المرأة الحدّ كما نوجب في القبل ، وجب الغسل في الجميع بشهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وأمّا الأخبار المتضمنة لتعليق الغسل بالتقاء الختانين (٢) فلا دلالة فيها عليها ، لأنّ أكثر ما يقتضيه أن يتعلّق وجوب الغسل بالتقاء الختانين ، وقد توجب ذلك ، وليس هذا بمانع من إيجابه في موضع آخر لا التقاء فيه لختانين إلا من حيث دليل الخطاب ، وذلك غير معتمد ولا معوّل عليه عند المحققين لأصول الفقه ، على أنّهم يوجبون الغسل بالإيلاج في قبل المرأة ، وإن لم يكن هناك ختان ، فقد عملوا بخلاف ظاهر الخبر.

فإذا قالوا : المرأة وإن لم تكن مختونة فذلك موضع الختان من غيرها؟ قلنا : هذا على كلّ حال عدول عن الظاهر ، لأنّ الخبر علّق الحكم فيه بالختان لا بتقدير موضعه ، وإذا أوجبنا حكم الغسل فيما لم يلتق فيه ختانان على الحقيقة فبدليل آخر ، وهكذا نصنع فيما خالفتم فيه.

وأمّا ما يوجد في الروايات والأخبار والكتب فلو كان صريحا في تضمّنه خلاف ما ذكرناه ، لم يجب الالتفات إليه فيما يدل القرآن والإجماع والأخبار المتظاهرة المشهورة على خلافه ، فضلا أن يكون لفظه محتملا ، لأنّهم يدّعون انّ من وطأ امرأة في دبرها ولم ينزل فلا غسل عليه ، ويمكن حمله على وطئها من جهة الدبر دون الفرج ، وكما أنّه يطأ من جهة القبل في الفرج وفيما دونه ، فكذلك قد يطأ من جهة الدبر في الفرج وفيما دونه ، ويوجد في روايات أصحابنا

__________________

(١) الوسائل : الباب ٦ من أبواب الجنابة ، ح ٥ و ٢.

(٢) الوسائل : الباب ٦ من أبواب الجنابة ، ح ٥ و ٢.

١٠٩

ما هو صريح في أنّ الوطي في الدبر بغير إنزال يقتضي الغسل (١) ، فهو معارض لتلك الأخبار.

فإن قيل : قد دللتم على أنّ الفاعل يجب عليه الغسل ، فمن أين أنّ الغسل أيضا واجب على المفعول به؟ قلنا : كلّ من أوجب ذلك على الفاعل أوجبه على المفعول به ، والقول بخلاف ذلك خروج عن الإجماع.

فأمّا ما يوجد في بعض كتب شيخنا أبي جعفر رحمه‌الله مما يخالف ما اخترناه ، ويقتضي ظاهره ضدّ ما بيّناه ، فيمكن تأويل ما أورده بالمذكور ، وأيضا فقد اعتذرنا له في مواضع ، وقلنا أورده إيرادا لا اعتقادا.

والدليل على ذلك ما أورده في مبسوطة في الجزء الثالث في كتاب النكاح ، قال : فصل في ذكر ما يستباح من الوطي وكيفيته ، قال : يكره إتيان النساء في أحشاشهن يعني أدبارهن وليس بمحظور ، قال : والوطي في الدبر يتعلق به أحكام الوطي في الفرج ، من ذلك إفساد الصوم ، ووجوب الكفارة ، ووجوب الغسل ، وان طاوعته كان حراما محضا ، كما لو أتى غلاما وإن أكرهها فعليه المهر ، ويستقر به المسمّى ، ويجب به العدة ، قال : وروي في بعض أخبارنا أنّ نقض الصوم ، ووجوب الكفارة ، والغسل ، لا يتعلق بمجرد الوطي ، إلا ان ينزل ، فإن لم ينزل فلا يتعلق عليه ذلك ، فانظر أرشدك الله فهل هذا قول موافق لما اخترناه أو مخالف له؟ وقال في مبسوطة في الجزء الأوّل في فصل في ذكر غسل الجنابة وأحكامها : فأمّا إذا أدخل ذكره في دبر المرأة أو الغلام ، فلأصحابنا فيه روايتان ، إحداهما يجب الغسل عليهما ، والثانية لا يجب عليهما ، هذا آخر كلامه رحمه‌الله.

قال محمد بن إدريس : إذا كانت إحدى الروايتين يعضدها القرآن والأدلة ،

__________________

(١) الوسائل : الباب ١٢ من أبواب الجنابة ، ح ١.

١١٠

فالعمل بها هو الواجب ، ورفض الرواية الأخرى لتعريها عن البرهان ، وقال رحمه‌الله في كتاب الصوم في الجزء الأول من مبسوطة أيضا : والجماع في الفرج أنزل أو لم ينزل ، سواء كان قبلا أو دبرا فرج امرأة أو غلام ، أو ميتة ، أو بهيمة ، وعلى كلّ حال ، على الظاهر من المذهب (١). هذا آخر كلامه ، ألا تراه رحمه‌الله قد سمّى الدبر فرجا ، وقوله في الجماع في الفرج « سواء كان قبلا أو دبرا ».

وافتى في الحائريات في المسألة الثانية والأربعين عن الرجل إذا جامع امرأته في عجيزتها وأنزل الماء أو لم ينزل ، ما الذي يجب عليه؟ فقال : الجواب ، الأحوط أنّ عليهما الغسل أنزلا أو لم ينزلا. وفي أصحابنا من قال : لا غسل في ذلك إذا لم ينزلا ، والأول أحوط. فهذا فتوى منه وتصنيفه ، وما أومأت إلى ما أومأت ، إلا بحيث لا ينبغي أن يقلّد إلا الأدلة دون الرجال والكتب.

والحيض ، والنفاس ، ومس الأموات من الناس بعد بردهم بالموت ، وقبل تطهيرهم بالغسل ، على خلاف بين الطائفة ، والصحيح وجوب الغسل.

والقسم الثالث دم الاستحاضة ، فإنّه إذا خرج قليلا لا ينقب الكرسف ، نقض الوضوء لا غير ، وإن نقب أوجب الغسل ، وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا عبارة عن حدّ القليل غير واضحة ، بأن قال : وحدّه أن لا يظهر على القطنة ، والمقصود من ذلك أن لا يظهر على القطنة إذا استدخلتها المرأة إلى الجانب الآخر ، وهو أن يثقبها ويظهر عليها ، فلا يظن ظان انّه أراد بالعبارة أن لا يظهر على القطنة جملة ، من أي جانب كان ، فليس هذا المراد ، لأنه إن لم يظهر عليها جملة ، فليس هي مستحاضة ، ولا ينقض الوضوء شي‌ء سوى ما ذكرناه.

وجملة الأمر وعقد الباب أن يقول : ناقض الطهارة المائية اثنا عشر شيئا.

ستّة تنقض الوضوء ولا توجب الغسل ، وستّة منها تنقض الوضوء وتوجب

__________________

(١) المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر ما يمسك عنه الصائم.

١١١

الغسل ، والذي ينقض الوضوء ولا يوجب الغسل ، البول ، والغائط ، والريح ، والنوم الغالب على السمع والبصر ، وكلّ ما أزال العقل ، من سائر أنواع المرض ، والاستحاضة على بعض الوجوه ، وهو أن يكون الدم قليلا لا ينقب الكرسف على ما مضى شرحنا له.

وقد يوجد في بعض الكتب ، خمسة تنقض الوضوء ولا يذكرون السادس والاعتذار عنهم انّ تركهم لذكره ، لأنّهم ما ذكروا إلا الذي هو ناقض الوضوء هو بنفسه ، غير منقسم في نفسه مثال ذلك أحد الخمسة البول غير منقسم في نفسه لأنّه ليس له حالة اخرى ينقض الوضوء ويوجب الغسل ، والقسم السادس له حالة اخرى ينقض الوضوء ويوجب الغسل وهو إذا كثر الدم ونقب ، فلأجل ذلك قالوا خمسة يعنون الناقض الذي لا ينقسم في نفسه ، والمحصّل والمحقق ما ذكرناه أولا.

والستة التي توجب الأغسال : إنزال المني ، وغيبوبة الحشفة في فرج آدمي ، سواء كان ذكرا أو أنثى كبيرا أو صغيرا ميتا أو حيا ، والحيض ، والنفاس ، والاستحاضة على بعض الوجوه ، احترازا من القسم الذي ينقض الوضوء ولا يوجب الغسل ، وهو القليل الذي لا ينقب الكرسف ، وهذا القسم المراد به الكثير الذي ينقب الكرسف فإنّه يوجب الغسل ، ومسّ الأموات من الناس بعد بردهم بالموت ، وقبل تطهيرهم بالغسل ، فهذه اثنا عشر شيئا.

فإمّا ناقض الطهارة الترابية فجميع ذلك ، ويزيد عليها وجود الماء مع التمكن من استعماله ، فصارت نواقض الطهارة الترابية ، ثلاثة عشر شيئا فجميع الأغسال الرافعة للأحداث لا يستباح بمجردها الصلوات ، إلا غسل الجنابة فحسب ، فإنّ الصلاة تستباح

بمجرده ، من غير خلاف بين فقهاء أهل البيت عليهم‌السلام ، فأمّا ما عداه من الأغسال ، فقد اختلف قول أصحابنا فيه ، فمنهم من يستبيح بمجرّده الصلاة ، ويجعله مثل غسل الجنابة ، يحتج بأنّ الصغير يدخل

١١٢

في الكبير ، ومنهم وهم المحققون المحصّلون الأكثرون ، لا يستبيحون الصلاة بمجرّده ، ولا بدّ لهم في استباحة الصلاة من الوضوء ، إمّا قبله أو بعده.

وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا ، انّ كيفية غسل الحائض مثل كيفية غسل الجنب ، ويزيد بوجوب تقديم الوضوء على الغسل ، وهذا غير واضح من قائله ، بل الزيادة على غسل الجنابة ، أن لا تستبيح الحائض إذا طهرت بغسل حيضها وبمجرّده الصلاة ، كما يستبيح الجنب ، سواء قدمت الوضوء أو أخرت ، فإن أراد يجب تقديم الوضوء على الغسل ، فغير صحيح ، بغير خلاف.

والذي يدل على ما اخترناه من القولين ، قول الله سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) (١) فأوجب على كلّ قائم إلى الصلاة مسح بعض الرأس ، ومسح الرجلين ، فمن استباح الصلاة بمجرّد الغسل لم يمتثل الأمر ، ولا أتى بالمأمور به ، لأنّه ما مسح والله تعالى أمرنا إذا أردنا الصلاة أن نكون غاسلين ماسحين.

فإن قيل : هذا يلزمكم مثله في غسل الجنابة؟ قلنا : أنت موافق لنا في غسل الجنابة ، ودليل ذلك قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) ومن اغتسل فقد تطهّر ، فما أوجب على الجنب إذا أراد استباحة الصلاة إلا ان يطهر بالاغتسال فحسب ، فأخرجنا الجنب بهذا اللفظ ، وبقي الباقي على عمومه وشموله.

وأيضا الإجماع حاصل على استباحة الجنب الصلاة بمجرد الغسل ، وليس ينتقض الوضوء بشي‌ء خارج عما ذكرناه من قلس بفتح اللام ، أو دم سائل ، أو قي‌ء ، أو مذي ، أو ودي بالدال غير المعجمة ، أو مس فرج ، أو غير ذلك ، فما وقع الخلاف فيه ، وذكره يطول ، فأمّا الدود الخارج من أحد السبيلين ، أو الشيافة ، أو الحقنة بالمائعات ، فإن خرج شي‌ء من ذلك خاليا من نجاسة ، فلا

__________________

(١) المائدة : ٦.

١١٣

وضوء وإن كان عليه شي‌ء من العذرة أو البول فحسب انتقضت الطهارة بما صحبها من ذلك ، لا بخروج ذلك الشي‌ء.

باب الجنابة وأحكامها وكيفية الطهارة منها

الجنابة في اللغة هي البعد ، قال الأعشى : أتيت حريثا زائرا عن جنابة ، يعني عن بعد ، وهي في الشريعة كذلك ، لأن الجنب بعد عن أحكام المتطهرين ، لأنّ المتطهر يستبيح ما لا يستبيحه الجنب ، من الجلوس في المساجد وغير ذلك ، والجنب بعد عن ذلك ، لحدثه ، ويصير الإنسان جنبا ، ويتعلّق به أحكام المجنبين ، من طريقين فحسب لا ثالث لهما.

أحدهما إنزال الماء الذي هو المني سواء خرج دافقا أو مقارنا للشهوة ، أو لم يكن كذلك ، في النوم كان ، أو في اليقظة ، وعلى كل حال ، على ما مضى شرحنا له.

والآخر غيبوبة الحشفة ، على ما ذكرناه وحققناه من قبل ، وهذان الحكمان يشترك فيهما الرجال والنساء ، فإن جامع الرجل امرأته فيما دون الفرج الذي حققناه وبيّناه ، وأنزل ، وجب عليه الغسل ، وإن لم ينزل فليس عليه الغسل ، وكذلك المرأة.

وذكر بعض أصحابنا (١) في كتاب له ، فقال : فإن جامع الرجل امرأته فيما دون الفرج ، وأنزل ، وجب عليه الغسل ، ولا يجب عليها ذلك ، فإن لم ينزل فليس عليه أيضا الغسل ، فإن أراد بقوله الفرج القبل فحسب ، فغير مسلم ، وإن أراد بالفرج القبل والدّبر معا ، وأراد بجماعة فيما دونهما ، فصحيح قوله على ما بيّناه وأوضحناه ، فكلامه محتمل ، فلا يظن بمصنف الكتاب ، إلا ما قام عليه الدليل ، دون ما لم يقم عليه ، إذا كان الكلام محتملا ، مع إيرادنا كلامه وقوله وفتواه ، من غير احتمال للتأويل الذي ذكره في مبسوطة (٢) ، وجوابات

__________________

(١) وهو الشيخ رحمه‌الله في النهاية في باب الجنابة

(٢) المبسوط : في غسل الجنابة وأحكامها.

١١٤

الحائريات (١).

ومتى انتبه الرجل ، فرأى على ثوبه ، أو فراشه ، منيا ، ولم يذكر الاحتلام ، ولم يكن ذلك الثوب أو الفراش يشاركه فيه غيره ، وينام فيه سواه ، وجب عليه الغسل ، سواء قام من موضعه ثمّ رأى بعد ذلك أو لم يقم. فأمّا إن شاركه في لبسه والنوم فيه مشارك ، ممّن يحتلم ، فلا يجب عليه الاغتسال سواء قام من موضعه ثم رأى بعد ذلك ، أو لم يقم.

وذكر بعض أصحابنا في كتاب له ، انّه إذا انتبه الرجل فرأى على ثوبه أو فراشه منيا ، ولم يذكر الاحتلام ، وجب عليه الغسل ، فإن قام من موضعه ، ثمّ رأى بعد ذلك ، فإن كان ذلك الثوب أو الفراش مما يستعمله غيره ، لم يجب عليه الغسل ، وإن كان ممّا لا يستعمله غيره ، وجب عليه الغسل ، فاعتبر المشاركة بعد القيام من موضعه ، ولم يعتبرها قبل قيامه.

والصحيح ما اخترناه وإلى هذا ذهب السيّد المرتضى رحمه‌الله في مسائل خلافه (٢) فقال : عندنا أنّه من وجد ذلك في ثوب أو فراش يستعمله هو وغيره ، ولم يذكر الاحتلام فلا غسل يجب عليه ، لتجويزه أن يكون من غيره ، فإن وجد فيما لا يستعمله سواه ، ولا يجوز فيما وجده من غيره فيلزمه الغسل ، وإن لم يذكر الاحتلام.

وقال أبو حنيفة ومالك ومحمد والثوري والأوزاعي : يغتسل ، وإن لم يذكر الاحتلام.

وقال ابن حي : إن وجده حين استيقظ ، اغتسل ، وإن وجده بعد ما يقوم ويمشي ، فلا غسل عليه.

وقال الشافعي : أحب له أن يغتسل ، هكذا حكى الطحاوي عنه في الاختلاف ، والذي قاله الشافعي في الأم مثل ما حكينا من مذهبنا من والدليل على صحّة مذهبنا ، انّه إذا وجد المني ولم يذكر الاحتلام ، وهو يجوز

__________________

(١) جواب الحائريات

(٢) الخلاف للسيد المرتضى.

١١٥

أن يكون من غيره ، ولا يقين معه بما يوجب الغسل ، وهو على يقين متقدم ببراءة ذمته منه ، فإنه على أصل الطهارة ، فلا يخرج عن ذلك اليقين إلا بيقين مثله ، وإذا وجده فيما لا يشتبه ، ولا يستعمله غيره ، فقد أيقن بأنّه منه ، فوجب الغسل إذ قد بينا أنّه لا يعتبر بمقارنة خروجه للشهوة.

فأمّا فرق ابن حي ، بين أن يصادفه حين انتباهه ، وبين أن يقوم ويمشي ، فلا وجه له ، من حيث كان إذا فارق الموضع ، يجوز أن يكون من غيره ، فإذا صادفه في الحال ، لم يكن إلا منه ، والتقسيم الذي ذكرناه أولى ، لأنه إذا جوّز فيما يصادفه ان يكون من غيره ، كتجويزه فيما يفارقه ، لم يجب عليه الغسل في الموضعين ، فلا معنى لاعتبار المشي ، بل المعتبر ما ذكرناه ، هذا آخر كلام المرتضى رحمه‌الله فهو واضح ، سديد في موضعه.

وذكر بعض أصحابنا في كتاب له ، وهو شيخنا أبو جعفر في نهايته (١) فقال : ومتى خرج من الإنسان ماء كثير لا يكون دافقا لم يجب عليه الغسل ، ما لم يعلم انّه مني ، وإن وجد من نفسه شهوة ، إلا أن يكون مريضا ، فإنّه يجب عليه حينئذ الغسل متى وجد من نفسه شهوة ، ولم يلتفت إلى كونه دافقا ، وغير دافق ، فإن أراد هذا القائل باستثنائه المريض ، انّه إذا خرج منه ماء كثير ولا يكون منيا ووجد من نفسه شهوة يجب عليه الغسل ، فهذا غير واضح ، إذ قد بيّنا انّ الجنابة لا تكون إلا بشيئين فحسب ، ولا يتعلّق على الإنسان أحكام المجنبين إلا من طريقين : إحديهما : خروج المني على كل حال ، سواء كان دافقا أو غير دافق ، بشهوة أو غير شهوة ، والأخرى : غيبوبة الحشفة في فرج آدمي ، لا ثالث لهما وإن استثناه من الدّفق ، فلا اعتبار بالشهوة ، ولا بالدفق ، بانفراد كلّ واحد منهما ، أو باجتماعهما ، من مريض جاء أو من صحيح ، إذا لم يكن المني موجودا ،

__________________

(١) النهاية : باب الجنابة.

١١٦

فاذن لا وجه لاستثنائه إذا كان المعتبر المني فحسب ، سواء كان من صحيح أو مريض ، معه دفق وشهوة ، أو لم يكونا مقارنين له ، والظاهر من كلامه في كتابه انّه زاد بما ذكره قسما ثالثا على المني والتقاء الختانين ، بدليل قوله عقيب ذلك ، ومتى حصل الإنسان جنبا بأحد هذه الأشياء فقد جمع وأقل الجمع ثلاثة عند المحقّقين ، ولو لم يرد ذلك ، لقال بأحد هذين الشيئين ، يعني المني والتقاء الختانين ، فليتأمل ذلك ويلحظ ، فإنّه واضح للمستبصر.

ومتى صار الإنسان جنبا بما قدّمناه من الحكمين فلا يدخل شيئا من المساجد إلا عابر سبيل إلا المسجد الحرام ، ومسجد الرّسول عليه‌السلام ، فإنّه لا يدخلهما على حال فإن كان نائما في أحدهما واحتلم وأراد الخروج ، فإنّه يجب عليه أن يتيمم من موضعه ، ثمّ يخرج ، وليس عليه ذلك في غيرهما من المساجد.

وجملة الأمر وعقد الباب ، انّه يحرم عليه ستة أشياء ، قراءة العزائم من القرآن ، ومس كتابة القرآن ، ومسّ كتابة أسماء الله تعالى ، وأسماء أنبيائه ، وأئمته عليهم‌السلام ، والجلوس في المساجد ووضع شي‌ء فيها ، ولا بأس بأخذ ما يكون له فيها ، محلّل له ذلك ، جائز سائغ ، والجواز في مسجدين ، المسجد الحرام ، ومسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله محرّم ، وله أن يقرأ جميع القرآن ، سوى ما استثناه من الأربع السور ، من غير استثناء لسواهن ، على الصحيح من المذهب والأقوال. وبعض أصحابنا لا يجوّز إلا ما بينه وبين سبع آيات ، أو سبعين آية ، والزائد على ذلك يحرّمه ، مثل الأربع السور ، والأظهر الأول ، لقوله تعالى : « فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ » (١) وحرّمنا ما حرّمناه بالإجماع ، وبقي الباقي داخلا تحت قوله تعالى : « فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ».

ويكره أن يأكل الجنب الطعام ، أو يشرب الشراب ، فإن أرادهما

__________________

(١) المزمل : ٢٠.

١١٧

فليتمضمض أولا ، وليستنشق ، ويكره له أن ينام قبل الاغتسال ، فإن أراد ذلك توضأ ونام إلى وقت الاغتسال.

فإذا أراد الجنب الاغتسال من الجنابة ، فمن السنن والآداب أن يجتهد في البول إن كان رجلا ليخرج بقية المني إن كانت ، فإن لم يتيسر البول فلينتر (١) قضيبه من أصله إلى رأسه نترا يستخرج شيئا إن كان بقي فيه ، ثم يغسل يديه ثلاثا ، قبل إدخالهما الإناء ، ثم يغسل فرجه ، وما يليه ، ويزيل ما لعلّه تبقّى من النجاسة عليه ، ثم ليتمضمض ثلاثا ، ويستنشق ثلاثا.

وبعض أصحابنا يذهب إلى أنّ الاستبراء بالبول أو الاجتهاد ، واجب على الرجال ، وبعضهم يذهب إلى أنّه مندوب شديد الندبية ، وهو الأصح ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، ولا يعلق عليها شي‌ء إلا بدليل قاطع وقد بيّنا أنّ الإجماع غير منعقد على ذلك فيحتاج مثبتة إلى دليل ، غير الإجماع ، ولا دليل على ذلك.

فأمّا باقي ما ذكرناه فآداب وسنن بغير خلاف.

ويجب على المغتسل ، أن يوصل الماء إلى جميع بشرته وأعضائه ، حتى لا يبقى شي‌ء من ذلك لا يوصل الماء إليه ، ويجتهد فيما ذكرناه غاية الاجتهاد.

والترتيب واجب فيه ، وهو أن يقدّم غسل رأسه ، ثم ميامن جسده ، ثم مياسره. فإن أخّر مقدّما ، أو قدّم مؤخّرا ، رجع فتداركه كما قلناه في الوضوء ، فإن غسل الإنسان مياسره أولا ، ثمّ رأسه ثانيا ، ثمّ ميامنه ثالثا ، فإن كان نوى عند المضمضة والاستنشاق ، أو عند غسل اليدين المستحب ، أو عند غسل رأسه ، فلا يجب عليه اعادة غسل رأسه ثانيا ، ولا اعادة غسل ميامنه ، لأنّها قد حصلت مرتبة ، بل يجب عليه اعادة غسل مياسره ثانيا ، ولا يجزيه ما فعله من غسلها ، فإن كان لم ينو عند المضمضة والاستنشاق ، أو عند غسل يديه ولا عند غسل

__________________

(١) لينتر من باب نصر ـ نتر أي جذب.

١١٨

رأسه ، فإنّه يجب عليه اعادة غسل رأسه ثانيا ، واعادة غسل ميامنه ، لأنّه حصل مغسولا بغير نية الطهارة ، فليلحظ ذلك ، وليتأمّل ، وهكذا إذا غسل ميامنه أوّلا ، ثم رأسه ثانيا ، ثم مياسره ثالثا ، والقول في ذلك على ما حرّرناه وبيّناه ، فالطريقة واحدة ، والله الموفق للصواب.

والموالاة التي أوجبناها في الوضوء لا تجب في الغسل ، وجائز أن يفرّقه ، كما انّه يغسل رأسه في أوّل النهار ، ويتم الباقي من جسده في وقت آخر.

فإن أحدث فيما بين الوقتين حدثا ، من جملة الستة التي تنقض الوضوء ولا توجب الغسل ، فقد اختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة أقوال : قائل يقول يجب عليه اعادة غسل رأسه.

وقائل يقول لا يجب عليه اعادة غسل رأسه ، بل يتمم غسل ميامنه ومياسره ، فإذا أراد الصلاة ، فلا بد له من وضوء ، ولا يستبيحها بمجرد ذلك الغسل.

وقائل يقول لا يجب عليه اعادة غسل رأسه ، وإن أراد الصلاة يستبيحها بمجرّد غسله بعد إتمامه باقي جسده.

وهذا القول هو الذي تقتضيه الأدلة وأصول المذهب ، لأنّ إعادة غسل رأسه لا وجه لها لأنّ بالإجماع انّ ناقض الطهارة الصغرى لا يوجب الطهارة الكبرى بغير خلاف.

فأمّا القائل بأنّه لا يعيد غسل رأسه ، بل يتمم غسل باقي جسده ، فإذا أراد الصّلاة فلا بد له من الوضوء ، فباطل أيضا ، لأنّ هذا بعد حدثه الأصغر جنب ، وأحكام المجنبين يتناوله ، بغير خلاف ، من قوله تعالى : « وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا » (١) وقوله تعالى : « وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا » (٢) فأجاز تعالى

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) النساء : ٤٣.

١١٩

الدخول في الصّلاة بعد الاغتسال ، وهذا قد اغتسل بغير خلاف لأنّ هذا القائل يوافق على أنّه قد ارتفع حدثه الأكبر وقد اغتسل ، فالآية بمجردها تقتضي استباحة الصّلاة بمجرد اغتساله ، فمن منعه وأوجب عليه شيئا آخر مع الاغتسال يحتاج إلى دليل ، وزيادة في القرآن وإضمار لم يقم عليه دليل عقلي ولا سمعي وأيضا فالإجماع منعقد بغير خلاف ، انّ بمجرّد غسل الجنابة تستباح الصّلاة ، على ما مضى شرحنا له ، وهذا قد اغتسل بغير خلاف ، ولم يحدث بعد غسله ، وكماله ، ما ينقض طهارته.

ويزيد ما اخترناه وضوحا ، ما ذكره السيد المرتضى رحمه‌الله في مسائل خلافه عند مناظرته المخالفين في الماء المستعمل في الطهارة الصغرى والكبرى ، قال :

الماء المستعمل عندنا طاهر مطهّر يجوز الوضوء والاغتسال به ، وذلك مثل أن يجمع الإنسان وضوءه من الحدث أو غسله من الجنابة في إناء نظيف ، ويتوضأ به ، ويغتسل به دفعة اخرى ، بعد أن لا يكون على بدنه شي‌ء من النجاسات ، واستدل فقال : لو كان استعمال الماء يمنع من جواز الطهارة به ، لكان ملاقاته لأول العضو موجبا لاستعماله ، ومانعا من إجرائه على بقية العضو ، وهذا يقتضي أن يأخذ لكل جزء ماء جديدا ، فلمّا اتفقوا على أنّ صب أحدنا الماء على رأسه ، وإفاضته على بدنه ، يجزيه في الطهارة ، مع ملاقاته لأوّل جزء من بدنه ، دلّ ذلك على أنّ استعمال الماء ، لا يمنع من الوضوء به.

فإن قالوا : الماء لا يحكم له بحكم الاستعمال ، حتى يسقط عن جميع العضو ويفارقه ، وما دام على العضو ، فليس بمستعمل.

قلنا لهم : لا فرق بينكم وبين من قال والماء لا يحكم له بحكم الاستعمال حتى يسقط عن الأعضاء كلها ، لأنّ حكم الحدث لا يزول ، والطهارة لا تتم إلا بعد غسل كلّها ، لأنّها تجري مجرى العضو الواحد في حكم العضو ، فإذا جعلتموه

١٢٠