معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٨

ثم خلقك من سبعة أشياء : من العظم ، والعصب ، والعروق ، واللحم ، والجلد ، والظفر ، والشعر.

وأعطاك سبعة أركان باطنة : القلب ، والكبد ، والطحال ، والمرارة ، والرئة ، والدماغ ، والمخ.

وأعطاك سبعة أركان ظاهرة : اليدين ، والرجلين ، والعينين ، والأذن ، والأنف ، واللسان ، والفرج.

ثم رزقك من سبعة أشياء ؛ فقال تعالى (١) : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ...). فهذا معنى الحديث : خلقتم من سبع ، ورزقتم من سبع.

ثم وعدك بسبع مقامات : الموت ، والقبر ، والبعث ، والميزان ، والمحاسبة ، والصراط ، والدّارين ، فريق فى الجنة وفريق فى السعير.

فمن عرف هذا كيف يلتفت لسواه سبحانه ، أو يطلب غيره؟ هذا فى المعيشة الضيقة فى الدنيا والآخرة ، هلا تشبّه بالملائكة الكرام فى السبع سماوات : منهم من عبد الله على الحياء والملازمة ، ومنهم على الخوف والخشية ، ومنهم على حسن الظن ، ومنهم على الخدمة والحرمة ، ومنهم على المودّة والمحبة ، ومنهم على الشوق والصفاء ، ومنهم على القرب والمؤانسة. ونحن لا من هؤلاء ولا من هؤلاء ؛ بل من الذين قال الله فيهم (٢) : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ). ورحم الله القائل : خلقك فى العالم المتوسط بين ملكه وملكوته ، ليعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته ، وأنك جوهرة تنطوى عليك أصداف مكنوناته.

وجميع العالم مبنى على سبعة أشياء : ضياء ، ونور ، وظلام ، ولطافة ، وكثافة ،

__________________

(١) عبس : ٢٥

(٢) الفرقان : ٤٤

٦٢١

ودقة ، ورقة ؛ فجعل الضوء نصيب الشمس ، والنور نصيب القمر ؛ قال تعالى (١) : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً). وجعل الضوء نصيب وجهك. والنور نصيب بصرك ، والظلام نصيب الشياطين ، وجعله لشعرك. واللطافة نصيب الطيور ، وهو نصيب قلبك. والكثافة نصيب الجبال ، وهو نصيب عظمك. والدقة نصيب الماء ، وهو نصيب ريقك. والرقة نصيب الهواء ، وهو نصيب روحك. ثم جعل فى قلبك الضوء مثل المعرفة ، والنور مثل اليقين ، والظلام مثل السيئة ، واللطافة مثل الرجاء ، والكثافة مثل الخوف ، والرقة مثل المحبة ، والدقة مثل الشوق ؛ فمن أراد أن تكون عيشته هنيئة ، وحياته طيبة فليشعل فى قلبه نور المعرفة بزند الجهد ، وحجر التضرع ، وحراقة إطفاء الشهوة ، وكبريت الانتباه ، ومسرجة الصدق ، وفتيلة الشكر ، ودهن التوكل ؛ حتى توقد نور المعرفة فى قلبه ؛ كالذى يريد أن يوقد نارا يحتاج إلى سبعة أشياء : زند ، وحجر ، وحراقة ، وكبريت ، ومسرجة ، وفتيلة ، ودهن ؛ ثم يعلق السراج بثلاث سلاسل فى ثلاث عرا ؛ وحينئذ يعلّق فى سقف البيت.

وهكذا صاحب سراج المعرفة لا بد له من سلسلة الخوف معلّقة بعروة العدل ، وسلسلة من الرجاء فى عروة الفضل ، وسلسلة من المحبة فى عروة الكرامة ، وحينئذ يعضد بالعرش ، ولا تقدر رياح الأعضاء السبعة ومعاصيهن أن تطفىء هذا السراج ؛ فهؤلاء المجوس أوقدوا نارا ليعبدوها فلم يقدر أحد على إطفائها ؛ فكيف يقدر أحد على إطفاء نور المحبة. والله تعالى يقول (٢) : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

(ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ (٣)) ؛ أى صرنا ترابا ؛ وهذا استبعاد من الكفار

__________________

(١) يونس : ٥

(٢) التوبة : ٣٢

(٣) السجدة : ١٠

٦٢٢

للبعث. وقرئ صللنا ؛ أى أنتنا وتغيّرنا ، من قولهم : صلّ اللحم وصنّ وأصنّ : تغيّر.

(ضَرِيعٍ (١)) : فيه أربعة أقوال :

أحدها ـ أنه شوك ، يقال له الشّبرق ؛ وهو سمّ قاتل. وهذا أرجح الأقوال ؛ لأن أرباب اللغة ذكروه ، ولأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الضريع : شوك فى النار.

الثانى ـ أنه الزّقوم ؛ لقوله (٢) : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ).

الثالث ـ أنه نبات أخضر منتن ينبت فى البحر. وهذا ضعيف.

الرابع ـ أنه واد فى جهنم. وهذا أضعف ؛ لأن ما يجرى فى الوادى ليس بطعام ، إنما هو شراب ؛ ولله درّ من قال : الضريع طعام أهل النار ؛ فإنه عمّ وسلم من عهدة التعيين. واشتقاقه عند بعضهم من المضارعة بمعنى [٢٠٦ ب] المشابهة ؛ لأنه يشبه الطعام الطيب ، وليس هو به. وقيل : هو بمعنى مضرع البدن أى مضعف.

وقيل : العرب لا تعرف هذا اللفظ.

(ضُحًى (٣)) : أول النهار. والفعل منه أضحى. وأما ضحى ، بكسر الحاء ، يضحى فى المضارع ، فمعناه برز للشمس وأصابه حرّها. ومنه (٤) : (لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى).

(ضِعْفٌ ، وضُعف (٥)) : لغتان. وضاعت الشيء كثّره ؛ وجرى فيه التشديد. وضعف الشيء ، بكسر الضاد : مثلاه. وقيل مثله. والضعف أيضا العذاب.

(ضَلَ (٦)) ، بضاد ، من الضلال. ومنه (٧) : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ).

__________________

(١) الغاشية : ٦

(٢) الدخان : ٤٣ ، ٤٤

(٣) الأعراف : ٩٨ ، طه : ٥٩

(٤) طه : ١١٩

(٥) الأعراف : ٣٨ ، وفى القاموس : الضعف ـ بفتح الضاد ، ويضم ويحرك : ضد القوة.

(٦) البقرة : ١٠٨

(٧) طه : ٨٥

٦٢٣

وبالظاء المشالة ، من الإقامة. وأصله ظللت فحذفت إحدى اللامين. ومنه (١) : (ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) ـ وأصله أقام بالنهار ، ثم استعمل فى الدءوب على الشيء ليلا ونهارا.

(ضِغْثاً (٢)) : ملء كفّ من الحشيش والشجر. قال الضحاك : كالشجر الرطب. قال ابن عباس : قبض أيوب قبضة من سنبل ، فوسعت كفّه مائة سنبلة ؛ وذلك أنه حلف ليضربنّ امرأته مائة جلدة لما باعت ذؤابتها ، فأمره الله بأخذ حزمة مما قام على ساق ؛ لأن لها حق الخدمة.

وأنت يا محمدىّ إذا خدمته وقمت بحقه ، ولن تقدر على ذلك ، لا يجمع عليك عقوبتين ، فتورد النار ؛ لإبرار قسمه فى قوله تعالى (٣) : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها). وينجّيك منها لحرمة إيمانك ؛ قال تعالى (٤) : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا). ((٥) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى).

(ضِدًّا (٦)) : يكون للواحد والجمع ، ومعناه أن الكفّار يكفرون بعبادة المعبودين ، ويكون لهم خلاف ما أمّلوه منهم فيصير العزّ الذى أمّلوه ذلّة. وقيل معناه العون.

(ضِيزى (٧)) : أصلها فعلى بضم الفاء ، ولكنها كسرت للياء التى بعدها. يقال ضازه حقه إذا نقصه.

__________________

(١) طه : ٩٧

(٢) ص : ٤٤

(٣) مريم : ٧١

(٤) مريم : ٧٢

(٥) الليل : ١٧

(٦) مريم : ٨٢

(٧) النجم : ٢٢

٦٢٤

حرف العين المهملة

(عاذ) : بالله يعوذ ؛ أى استجار بالله ولجأ إليه ؛ ليدفع عنه ما يخاف. ويقال : استعاذ يستعيذ. ومنه (١) : (مَعاذَ اللهِ).

(عالمين) : جمع عالم ، وهو عند المتكلمين كلّ موجود سوى الله تعالى. وقيل العالمين الإنس والجن والملائكة لجمعه جمع العقلاء. وقيل الإنسان خاصة ؛ لقوله تعالى (٢) : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ). والأول هو الصحيح ؛ لقوله تعالى (٣) : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ؛ لأنّ رحمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمّت جميع الموجودات. وقد قال لجبريل يوما : ما نالك من رحمتى؟ قال له : لو لا وجودك لم أذكر بقوله (٤) : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ...) الآية.

(عمه) : تحيّر. ومنه (٥) : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ؛ أى يتحيرون فى ضلالهم.

(عاكِفِينَ) : مقيمين للعبادة ملازمين حيث وقع ، ومنه قوله (٦) : «و (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ).

فإن قلت : قد ورد فى آية الحج (٧) مكان العاكفين القائمين ، فهل هما بمعنى واحد؟

__________________

(١) يوسف : ٢٣

(٢) الشعراء : ١٦٥

(٣) الأنبياء : ١٠٧

(٤) التكوير : ٢٠

(٥) البقرة : ١٥

(٦) البقرة : ١٢٥

(٧) الحج : ٢٦

٦٢٥

والجواب المراد بالقائمين ذو والإقامة والملازمة على صفة مخصوصة ، وإذا أريد بالقائمين هذا فهو والعكوف مما يصح أن يعبّر بأحدهما عن الآخر ، مع أن لفظ العكوف أخص بالمقصود ؛ فيكون خصوص آية الحج بقوله : والقائمين ، لتقدم ذكر العكوف فى قوله قبل الآية (١) : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) ؛ فلما تقدم ذكر العكوف متصلا بالآية وقع الاكتفاء بذلك ، وعدل عن التكرار الذى من شأن العرب العدول عنه إلا حيث يراد تعظيم أو تهويل ، نحو قوله : الحاقّة ما الحاقّة ؛ وشبه ذلك. ولما لم يقع ذكر العكوف قبل آية البقرة ولا بعدها وهو مراد لكونه أخص بالمقصود لم يكن بدّ من الإفصاح ، وكان قد قيل فى آية الحج : والقائمين ، وأغنى ذكرهم متقدما عن الإتيان به حالا منبّهة ، وأغنى قوله فى البقرة : والعاكفين عن قوله : والقائمين ؛ لأن العكوف الملازمة ؛ وهو المراد بالقيام ؛ فورد كلّ على ما يجب ويناسب. ويراد بالركوع السجود ـ المصلون. ومن قال : إن المراد بقوله : والقائمون المصلّون فوجهه أنّ ذكر العكوف قد حصل فيما تقدم ، فاكتفى به ، ولم يكن وقع قبل آية البقرة ولا بعدها ؛ فلم يكن بدّ من ذكره. وعبّر عن المصلّين بالركّع السجود. وتحصّل أنه [٢٠٧ ا] المقصود بالآيتين ، ووردتا على ما يلائم. والله أعلم.

(عَدْلٍ) : مثل ، كقوله (٢) : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً). وفدية ، كقوله (٣) : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ). وكذا قوله (٤) : (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها). والعدل من أسماء الله تعالى ؛ لأن أفعاله كلها عدل ؛ فقيل العدل هو الحق ؛ فكل عدل حق ، وما ليس بعدل فليس بحق.

فإن قلت : ما وجه تقديم العدل فى آية وتأخيره فى أخرى؟

__________________

(١) الحج : ٢٥

(٢) المائدة : ٩٥

(٣) البقرة : ٤٨

(٤) الأنعام : ٧٠

٦٢٦

والجواب أن فى تقديم الشفاعة قطعا لطمع من زعم أن آباءهم تشفع لهم ، وأنّ الأصنام شفعاؤهم عند الله. وأخّرها فى الأخرى ؛ لأن التقدير فى الآيتين لا يقبل منها شفاعة فتنفعها تلك الشفاعة ؛ لأن النفع بعد القبول. وقدّم العدل فى الأخرى ليكون لفظ القبول مقدما فيها.

(عَفَوْنا (١)) : له ثلاثة معان : الصفح عن الذنب ، والإسقاط من غير كلفة ؛ ومنه (٢) : (ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ).

وقراءة الجماعة بالنصب بإضمار فعل ؛ مشاكلة للسؤال ، على أن يكون : ما ذا ينفقون مركبا مفعولا بينفقون. وقرأ أبو عمرو بالرفع بالابتداء مشاكلة للسؤال على أن يكون ما مبتدأ وذا خبره (٣).

(عَفَا (٤)) : له أربعة معان : عفا عن الذنب ؛ أى صفح عنه. وعفا أسقط حقّه ؛ ومنه (٥) : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ). وعفا القوم : كثروا ؛ ومنه (٦) : (حَتَّى عَفَوْا). وعفا المنزل درس.

(عنت (٧)) : زنى. ومنه (٨) : (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ). وأما قوله تعالى (٩) : (لَأَعْنَتَكُمْ) ـ فمعناه لضيّق عليكم بالمنع من مخالطتهم. ابن عباس لأهلككم بما سبق من أكلكم لأموال اليتامى.

(عَوانٌ (١٠)) : متوسطة بين ما ذكر ، ولذلك قال (ذلِكَ) ، مع أن الإشارة إلى شيئين.

__________________

(١) البقرة : ٥٢

(٢) البقرة : ٢١٩

(٣) لم يذكر المعنى الثالث للعفو وارجع إلى اللسان ـ عفا ، والمادة التالية

(٤) المائدة : ٩٥

(٥) البقرة : ٢٣٧

(٦) الأعراف : ٩٥

(٧) النساء : ٢٥

(٨) النساء : ٢٥

(٩) البقرة : ٢٢٠

(١٠) البقرة : ٦٨

٦٢٧

(عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ (١)) : العهد له معان : بمعنى اليقين (٢) : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) ؛ ألا ترى قوله (٣) : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها). ويقال علىّ عهد الله ، أى اليمين بالله. وبمعنى الأمان ؛ قال تعالى (٤) : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ). وبمعنى الوحى (٥) : (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا). وبمعنى الوعد (٦) : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً). وبمعنى الميثاق (٧) : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ؛ أى ما وعدناك به لا ينال الظالمين من ذرّيتك. والوعد من الله ميثاق. وبمعنى المحافظة ؛ ومنه الحديث : حسن العهد من الإيمان. وبمعنى الزمان ؛ يقال : كان ذلك على عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى عهد إبراهيم وموسى وعيسى. وبمعنى الوصية كهذه الآية ؛ وكقوله (٨) : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ) ؛ أى وصّيناه ألا يأكل من الشجرة ، فنسى العهد الذى عهدناه ، وأكل منها ؛ فآدم دخل الجنّة بعهده ، وخرج.

وأنت يا محمّدى تدخل الجنة بعهدى ، فلا تخرج. والسرّ فيه أنّ آدم لم يكن له ركوع ولا سجود ، ولا جهاد ولا تضرّع ؛ ولكنه لم يعتقد الزلّة كما قال تعالى (٩) : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً). وإبليس اعتقد الزلّة بعد عبادته ولم يعتذر ، فلم تخلّصه حسناته ، كالكافر يعتقد الزلّات الكثيرة ، ولا يعتذر.

وأنت تعتذر فكيف لا أقبل عذرك ، وقد كلفتك بأوامر كثيرة ، ونهيتك عن نواهى عديدة ؛ وأبوك آدم لم يكن له إلا أمر واحد وهو البعد من الشجرة ، وقد قبلت عذره ؛ فإن اعتذرت إلىّ ألحقتك بأبيك فى السكنى معه ؛

__________________

(١) البقرة : ١٢٥

(٢) النحل : ٩١

(٣) النحل : ٩١

(٤) التوبة : ٤

(٥) آل عمران : ١٨٣

(٦) البقرة : ٨٠

(٧) البقرة : ١٢٤

(٨) طه : ١١٥

(٩) طه : ١١٥

٦٢٨

قال تعالى (١) : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).

(عابِدُونَ (٢)) : مخلصون. وقيل أذلّاء ، من قولهم : طريق معبّد ، أى مذلّل قد أثّر الناس فيه.

(عَزَمُوا الطَّلاقَ (٣)) ؛ أى طلّقوا أو آلوا ، فيطلّق عليهم الحاكم. والضمير يعود على المؤلين (٤) ؛ وطلاقهم بائن عند الشافعى وأبى حنيفة ، رجعىّ عند مالك.

(عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (٥)) : فى هذه النفقة والكسوة قولان :

أحدهما : أنها أجرة رضاع الولد أوجبها الله للأمّ على الوالد ؛ وهو قول الزمخشرى وابن العربى.

الثانى : أنها نفقة الزوجات على الإطلاق ، وعلى ذلك حملها ابن فورك.

(عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ (٦) ...) الآية : إباحة للتعريض بخطبة المرأة المعتدّة. ويقتضى ذلك النهى عن التصريح.

(عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ [٢٠٧ ب] وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ (٧)) : بإسكان الدال وفتحها ، وهما بمعنى. وتعلّق الشافعى فى وجوب المتعة بقوله : (حَقًّا). وتعلّق مالك فى الندب بقوله : (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) ؛ لأنّ المحسن تطوّع بما لا يلزم.

__________________

(١) الطور : ٢١

(٢) البقرة : ١٣٨

(٣) البقرة : ٢٢٧

(٤) فى الآية السابقة من قوله تعالى : للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر.

(٥) البقرة : ٢٣٣

(٦) البقرة : ٢٣٥

(٧) البقرة : ٢٣٦

٦٢٩

والحاصل أنه يمتّع كلّ أحد على قدر ما عنده ؛ والموسر : الغنىّ. والمقتر : الضيّق الحال.

(عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (١)) : هذا التفضيل لمريم ما عدا خديجة وفاطمة رضى الله عنهما ، أو يكون على نساء زمانها. وقيل : هذا الاصطفاء مخصوص بأن وهب لها عيسى من غير أب ؛ فيكون (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) عاما. وقيل : إنها كانت نبيئة لتكليم الملائكة لها ؛ قال بعض العلماء : إن عائشة أفضل من مريم ؛ لأنّ براءة مريم كانت على لسان عيسى ، وبراءة عائشة كانت بقول الله تعالى.

فالربّ الذى تولّى براءتك وتطهيرك بقوله تعالى : ولكن يريد ليطهّركم. التائبون العابدون الحامدون ... الآية وسمّاكم يا أمّة محمد بالهداية والخير ، والعدل والأمانة ؛ أفتراه يطردهم بعد أن دعاهم إلى نفسه ، وهو لا يريد قبولهم. وقد سمعناه يقول للتائبين : وإنى لغفّار لمن تاب إذا مشوا إليه برجل الندامة على قدم الاعتذار ، وللعابدين إذا مشوا برجل النّشاط على قدم الجهد والاجتهاد على قدم الدرجات ؛ ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات. وللزاهدين إذا مشوا برجل القناعة على قدم التوكّل مع مراد الله ؛ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا فى الأرض ولا فسادا ؛ وللمحبين إذا مشوا برجل الرضا على قدم المودّة مع مراد الذكر ؛ ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب ؛ وللمشتاقين إذا مشوا برجل المحبة على قدم الإنابة ، مع مراد القربة : وجوه يومئذ ناضرة.

فإن قلت : ما الحكمة فى تبريح العارفين؟

فالجواب لأنهم تعهدوا على الكفار بتبليغ الرسالة إليهم. ومن كان شاهدا له

__________________

(١) آل عمران : ٤٢

٦٣٠

يخدمه ويزكّيه ليكون شاهدا له على الحقيقة ؛ قال تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

(عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ (٢)) ؛ أى تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض ، كما تبسط الثياب ، فذلك عرض الجنة ، ولا يعلم طولها إلا الله ؛ لأنّ الله قال لها : امتدّى فامتدت ، ثم قال لها : امتدى فامتدت ، ثم قال لها : امتدى فامتدت ؛ قالت : إلى أين يا رب؟ قال : إلى منتهى رحمتى ؛ فقالت : لا منتهى لرحمتك. فقال لها : ولا منتهى لك.

وقيل : ليس العرض هنا خلاف الطول ؛ وإنما المعنى سعتها كسعة السموات والأرض.

فإن قلت : إذا كان عرضها هذا ، فما معنى ما ورد أنها فى السماء ؛ وقيل فى الأرض ؛ وقيل بالوقف حيث لا يعلمه إلا الله؟

والجواب أن الذى يجب اعتقاده ويفهم من القرآن والحديث أنّ الجنة فى عالم الجبروت ، وأن العرش سقفها ؛ كما صحّ فى الحديث : سلوا الله الفردوس ؛ فإنه أعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجّر أنهار الجنة. والآية الكريمة : ((٣) قُلْنَا اهْبِطُوا) تدلّ على أنها فوق السموات. وقد قدمنا أنّ العوالم أربعة : الملك ، وهو الدنيا وما فيها. والملكوت وهو السموات وما فيها. والجبروت وهو اللّوح والكرسى والقلم. والجنة وفوقها العرش الذى تأوى إليه أرواح الشهداء. وعالم العزّة لا يعلم ما فيه إلا الله ورسوله الذى زجّ فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشاهد فيه من العجائب ما أخبر الله به فى قوله (٤) : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ

__________________

(١) التوبة : ١١٩

(٢) آل عمران : ١٣٣

(٣) البقرة : ٣٨

(٤) النجم : ١٨

٦٣١

الْكُبْرى) ، وخلف جبريل عند سدرة المنتهى ، وقال : يا محمد ، لا أقدر على مجاوزة هذا المكان ؛ وما منّا إلا له مقام معلوم.

وأخرج أبو نعيم فى تاريخ أصبهان ، من طريق عبيد ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ـ مرفوعا : أن جهنم محيطة بالدنيا ، وأن الجنة من ورائها ، فلذلك كان الصراط على جهنم طريقا إلى الجنة.

فإن قلت : يفهم من هذا الحديث أنّ جهنم تحت الأرض.

والجواب أنا نقول فيها بالوقف ؛ إذ لا يعلم محلّها إلا الله ، [٢٠٨ ا] ولم يثبت عندى حديث أعتمده فى ذلك غير ما رواه ابن عبد البر وضعّفه ، عن عبد الله بن عمر ـ مرفوعا : لا يركب البحر إلّا غاز أو حاجّ أو معتمر ؛ فإنّ تحت البحر نارا.

وفى شعب الإيمان للبيهقى ، عن وهب بن منبّه : إذا قامت القيامة أمر بالمغلق فيكشف عن سقر وهو غطاؤها ، فيخرج منه نار ، فإذا وصلت إلى البحر المطبق على شفير جهنّم ـ وهو بحر البحور ـ نشفته أسرع من طرفة عين ، وهو حاجز بين جهنم والأرضين ؛ فإذا نشفت الأرضين السبع فتدعها جمرة واحدة.

وقيل هى فى وجه الأرض ؛ لما روى عن وهب أيضا قال : أشرف ذو القرنين على جبل قاف ، فرأى تحته جبلا صغيرا إلى أن قال : يا قاف ؛ أخبرنى عن عظمة الله ؛ فقال : إن شأن ربّنا لعظيم ، وإن ورائى أرضا مسيرة خمسمائة عام فى خمسمائة عام من جبال ثلج ، يحطّم بعضها بعضا ، ولو لا هى لاحترقت من حرّ نار جهنم.

وروى الحارث بن أبى أسامة فى مسنده ، عن عبد الله بن سلام ، قال : الجنة فى السماء ، والنار فى الأرض.

٦٣٢

وروى أن اليهود قالوا لعمر : جنة عرضها السموات والأرض ، فأين النار؟ قال عمر : أفرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار ؛ وإذا جاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا : إنها لمثلها فى التوراة. قالوا : إن باب الجنة فى السماء وعرضها السموات والأرض.

فإن قلت : قد صحّ أنها لا منتهى لها ، وأن العرش سقفها ، والعرش له حدّ ومقدار ؛ فما معناه؟

والجواب أنّ العرش لها كالخيمة ، فلا يلزم أن يكون العرش محتويا على جميعها ؛ وهذا مشاهد. وقد صح أنها تبقى بلا ساكن حتى يخلق الله لها من يسكنها.

فتفكّر أيّها العبد عبد من أنت؟ ومن أنت حتى أهّلك لخدمته وعرّفك به حتى طلبته؟ وما قيمة أعمالك فى جنب من عبده؟ فاحمد الله على أن أهّلك لخطابه ، وجعلك من أحبابه ، وإياك ومعصيته ؛ فإنها تورثك بعده. أما علمت أنّه على قدر معرفتك به هنا تكون رؤيتك له هناك ، وبمعرفتك له يتولّد منه التعب ، لكنها توصلك إلى رؤيته التى يزول عنك بها النّصب والكرب ؛ ولما علم سبحانه أنّ الدنيا دار محن ومعايش ، جعل لهم هذه المعرفة التى يتوصّلون بها إلى رؤية ذاته ، وعلى قدر طول الغربة يكون سرور الأوبة ؛ ولو رأيناه بغير تعب لما وجدنا لها لذّة ؛ ألا ترى آدم لم يعرف قدرها حتى خرج منها ، والمسوق بالتعب ألذّ من المسوق بلا تعب ؛ فالمعرفة ميدان الخدمة ، والرؤية ميدان الراحة ، والمعرفة تكون مع بعد عن المراد ، والرؤية مع قرب النفس إلى المراد ، والمعرفة مع الخوف والخطر ، والرؤية مع الرضا والكرامة. والمعرفة أول الكرامة ، والرؤية تتمها ، والمعرفة فى جوار الشيطان ، والرؤية فى جوار

٦٣٣

الرحمن ، والمعرفة البراءة عن الخلق ، والرؤية الوصول إلى الحق. والمعرفة للواصفين ، والرؤية للواصلين. والمعرفة فى الجنس ، والرؤية فى الأنس. وأهل المعرفة يشتاقون إلى موضع الواصلين ، والواصلون لا يشتاقون إلى موضع العارفين ، فكلّ من رأى فقد عرف ، وليس من عرف قد رأى.

فإن قلت : لم خصّت هذه الآية بما تمهّد فيها من قصد المبالغة والتعظيم من قوله (١) : (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ) ، دون آية الحديد (٢).

والجواب لبنائها على الحضّ على الجهاد وعظيم فضله ، وذكر قصة بدر وأحد من لدن قوله (٣) : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ ...) إلى ما بعد الآية المتكلم فيها ؛ ولما لم يكن فى آية الحديد شىء من ذلك ناسب كلاما ورد فيها. والله أعلم.

(عَزَمْتَ (٤)) ؛ أى صححت رأيك فيما مضى من الأمر. والمخاطب بذلك نبينا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥).

(عاشِرُوهُنَ (٦)) ؛ أى صاحبوهن بالمعروف ؛ وأمر الله فى هذه الآية الرجال بالصفح عنهن وممازحتهنّ وخدمتهنّ بما أمكن ، وله عليها [٢٠٨ ب] أعظم من ذلك ، لقول الله العظيم (٧) : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

(عضل) المرأة ؛ أى منعها من الزواج ؛ ومنه (٨) : (لا تَعْضُلُوهُنَ

__________________

(١) آل عمران : ١٣٣

(٢) الحديد (٢١) : سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض.

(٣) آل عمران : ١٢١

(٤) آل عمران : ١٥٩

(٥) فى الكشاف ١ ـ ١٧٢ : فإذا عزمت : فإذا قطعت الرأى على شىء بعد الشورى.

(٦) النساء : ١٩

(٧) البقرة : ٢٢٨

(٨) البقرة : ٢٣٢

٦٣٤

أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ). (وَلا (١) تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ). قال ابن عباس : هى فى أولياء الزوج الذين يمنعون زوجته من التزوّج بعده ، إلا أنّ قوله : ما آتيتموهنّ على هذا معناها ما آتاها الرجل الذى مات. وقال ابن عباس أيضا : هى فى الأزواج الذين يمسكون المرأة ويسيئون عشرتها حتى تفتدى بصداقها ؛ وهو ظاهر اللفظ فى قوله (٢) : (ما آتَيْتُمُوهُنَّ). ويقوّيه قوله (٣) : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ؛ فإن الأظهر فيه أن يكون فى الأزواج ، وقد يكون فى غيرهم ؛ وقيل هى للأولياء.

(عاقِرٌ (٤)) : له معنيان : المرأة العقيم. واسم فاعل من عقر الحيوان.

(عَزَّرْتُمُوهُمْ (٥)) : نصرتموهم ، وأعنتموهم.

(عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ (٦)) : اعتداء ، استدل الملائكة بهذا على سدّ الذرائع ، يعنى لا تسبّوا آلهتهم ، فيكون ذلك سببا لأن يسبّوا الله.

(عِنْدِ اللهِ) : يعنى الآيات بيد الله لا بيدى.

(عَتَوْا (٧)) : تكبّروا وتجبّروا ، وهم الذين لا يقبلون الموعظة.

(عدل) يعدل عدلا : ضد جار ، وعدل عن الحق عدولا ، وعدلت فلانا بفلان سوّيت بينهما ، ومنه (٨) : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ؛ ودخلت (ثُمَّ) لتدلّ على استبعاد أن يعدلوا بربهم بعد وضوح آياته فى خلق السموات والأرض والظلمات والنور. وكذلك قوله (٩) : (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) استبعاد لأن يمتروا فيه بعد وضوح آياته ، وبعد ما ثبت أنه أحياهم وأماتهم ؛

__________________

(١) النساء : ١٩

(٢) النساء : ١٩

(٣) النساء : ١٩

(٤) آل عمران : ٤٠

(٥) المائدة : ١٢

(٦) الأنعام : ١٠٨

(٧) الأعراف : ٧٧

(٨) الأنعام : ١

(٩) الأنعام : ٢

٦٣٥

وفى ضمن ذلك تعجيب من فعلهم ، وتوبيخ لهم ؛ والذين كفروا هنا عامّ فى كل مشرك ؛ وقد يختصّ بالمجوس بدليل ذكر الظلمات والنور ، أو بعبدة الأصنام ؛ لأنهم المجاورون للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليهم يقع الردّ فى أكثر القرآن.

(عَرَضَ الدُّنْيا (١)) : عتاب لمن رغب فى فداء الأسارى ، فإذا عاقب أحبّ خلقه على هذا الشيء التافه فما بالك بمن هو منغمس فى الحرام ، مرتكب للآثام ، قد غلب عليه سكر المدام ، لا يرعوى عن قبيح ، ولا يزدجر عن لوم. هذا وقد أحلّ الله لهم الأكل من الغنائم مع احتياجهم إليها.

(عَيْلَةً (٢)) : فقرا ، وذلك أنّ المشركين يجلبون الأطعمة إلى مكة ، فخاف بعضهم قلّة القوت بها إذا منع المشركون منها ، فوعدهم الله بأن يغنيهم من فضله ، فأسلمت العرب كلها ، وتمادى جلب الطعام إلى مكة ، ثم فتح المسلمون سائر الأمصار.

(عَنْ يَدٍ (٣)) : عن قهر وذل فيدفعها (٤) بيده لا يبعثها مع أحد ، ولا يمطل بها ، كقولك : يدا بيد.

وقيل عن استسلام وانقياد ، كقولك : ألقى فلان يده. وقيل عن إنعام منكم عليهم بذلك ؛ لأنّ أخذ الجزية منهم وترك أنفسهم عليهم من بذل المعروف.

(عَزِيزٌ) : اسم الله تعالى ، معناه الغالب. ومنه (٥) : (عَزَّنِي فِي الْخِطابِ) ؛ أى غلبنى. والغلبة ترجع إلى القدرة والقوة ، ومنه (٦) : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) ؛

__________________

(١) الأنفال : ٦٧

(٢) التوبة : ٢٨

(٣) التوبة : ٢٩

(٤) أى الجزية التى سبق ذكرها فى الآية.

(٥) ص : ٢٣

(٦) يس : ١٤

٦٣٦

أى قوّينا. وقيل العزيز العديم المثل. وأما قوله تعالى (١) : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ). فعزيز صفة للرسول ، وما عنتّم فاعل بعزيز ، وما مصدرية. أو ما عنتّم مبتدأ وعزيز خبر مقدّم. والجملة فى موضع الصفة.

والمعنى أنه يشقّ عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنتكم وما يضرّكم فى دينكم ودنياكم ؛ يقال عزّه يعزه عزّا إذا غلبه. ومنه قولهم : من عزّ بز ؛ أى من غلب سلب.

(عَدْنٍ (٢)) : هى أعظم مدن الجنة. وقيل هو اسم علم على الإقامة.

(عاصِمٍ) : مانع ؛ ومنه قوله تعالى (٣) : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ). وتحتمل الآية أربعة أوجه :

أحدها ـ أن يكون عاصم اسم فاعل ، ومن رحم كذلك بمعنى الراحم. فالمعنى لا عاصم إلا الراحم ؛ وهو الله تعالى.

والثانى ـ أن يكون عاصم بمعنى العصمة ؛ أى معصوم ، ومن رحم بمعنى مفعول ، أى من رحمه‌الله. فالمعنى لا معصوم إلا من رحمه‌الله ، فالاستثناء على هذين الوجهين متّصل.

والثالث ـ أن يكون عاصم فاعل ، ومن رحم بمعنى المفعول ، والمعنى لا عاصم من أمر الله لكن من رحمه [٢٠٩ ا] الله فهو المعصوم.

والرابع ـ عكسه ، والاستثناء على هذين منقطع.

(عَذابٌ يُخْزِيهِ (٤)) : هو الغرق ، والعذاب المقيم (٥) عذاب النار.

__________________

(١) التوبة : ١٢٨

(٢) التوبة : ٧٢

(٣) هود : ٤٣

(٤) هود : ٣٩

(٥) فى الآية نفسها : ويحل عليه عذاب مقيم.

٦٣٧

(عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ (١)) : فيه ثلاثة تأويلات على قراءة الجمهور :

أجدها ـ أن يكون الضمير فى (إِنَّهُ) سؤال نوح نجاة ابنه.

والثانى ـ أن يكون الضمير لابن نوح ، وحذف مضاف من الكلام ، تقديره : إنه ذو عمل غير صالح.

والثالث ـ أن يكون الضمير لابن نوح ، وما مصدر وصف به مبالغة ، كقولك : رجل صوم. وقرأ الكسائى عمل ـ بفعل ماض ، غير صالح ـ بالنصب. والضمير على هذا لابن نوح بلا إشكال ؛ لأن الله تعالى لما أراد أن يعذبه قطع نسبه عنه ، ووصفه بعدم الصلاحية.

وأنت يا محمدىّ أضافك إلى نفسه ، بقوله : يا عبادى. وإلهكم. أفتراه يعذّبك بعد هذه الإضافة؟

ولذلك قيل الإشارات ستة : إشارة إلى المتقين بقوله (٢) : (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ). وإشارة العابدين (٣) : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ). وإشارة العاصين (٤) : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ). وإشارة الهاربين إلى حصنه (٥) : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ). وإشارة التائبين إلى الفلاح : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً). وإشارة أهل الكتاب إلى الفلاح : (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ).

وإذا أردت محبة الله لعباده فانظر كيف خفّف المعصية على النفس ، وثقل عليها الطاعة ؛ ليكون لها حجة ، ويقبل عذرها إذا رجعت إليه ؛ فالله يثيب المطيع بغاية الثواب للامتثال ، ويعاقب الكافر بأقبح العقوبة للمخالفة ، والعاصى

__________________

(١) هود : ٤٦

(٢) آل عمران : ١٣٣

(٣) الجمعة : ٩

(٤) الزمر : ٥٣

(٥) الذاريات : ٥٠

٦٣٨

يعاقبه فى الدنيا بأنواع الأمراض والأسقام حتى فى قطع شسع نعله إن لم يتب ، حتى يلقى الله ولا ذنب عليه. قال تعالى (١) : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ).

(عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٢)) : إنما أسند العهد إلى المسلمين ؛ لأن فعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لازم للمسلمين ، فكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عاهد المشركين إلى آجال محدودة ؛ فمنهم من وفى ؛ فأمر الله أن يتمّ عهده إلى مدته ، ومنهم من قارب أو قارب النقض ، فجعل له أجل أربعة أشهر ، وبعدها لا يكون له عهد.

(عاهَدْتَ مِنْهُمْ (٣)) : يريد بنى قريظة.

(عَلى سَواءٍ (٤)) ؛ أى على معدلة. وقيل معناه أن تستوى معهم فى العلم (٥) فتنقض العهد.

(عَرَضاً قَرِيباً (٦)) : هذا الكلام وكثير مما بعده فى هذه السورة فى المنافقين الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك ؛ وذلك أنها كانت إلى أرض بعيدة ، وكانت فى شدة الحرّ وطيب الظلال والثمار ، فثقلت عليهم ؛ فأخبر الله فى هذه الآية أنّ السفر لو كان لعرض الدنيا أو مسافة قريبة لاتّبعوه.

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (٧)) : قدّم الله العفو لنبيّه قبل عتابه ؛ إكراما له وجبرا لقلبه أن ينصدع ؛ وذلك لخوفه من ربه ؛ كأنه قال :

__________________

(١) الشورى : ٣٠

(٢) التوبة : ١

(٣) الأنفال : ٥٦

(٤) الأنفال : ٥٨

(٥) فى القرطبى (٨ ـ ٣٢) : قال الأزهرى : معناه إذا عاهدت قوما فعلمت منهم النقض بالعهد فلا توقع بهم سابقا إلى النقض حتى تلقى إليهم أنك قد نقضت العهد فيكونوا فى علم النقض مستوين ، ثم أوقع بهم.

(٦) التوبة : ٤٢

(٧) التوبة : ٤٣

٦٣٩

أصلحك الله يا محمد ؛ لم أذنت لهم فى التخلّف عن الخروج معك حتى يتبيّن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ؛ لأنهم قالوا نستأذنه فى القعود ، فإن أذن لنا قعدنا ، وإن كان يظهر الصدق من الكذب ، وإن لم يأذن قعد العاصى والمنافق ويسافر المطيع.

(عَنِيدٍ) ومعاند وعنود بمعنى واحد ؛ أى معارض للحق مخالف ، يقال : عرق عنود ، وطعنة عنود ؛ إذا خرج الدم منها على جانب.

(عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ (١)) ؛ أى حسن النية فى تأسيس بنيانه ، وقصد وجه الله ، وإظهار شرعه. والمراد به مسجد المدينة ، أو مسجد قباء.

(عَلَى اللهِ رِزْقُها (٢)) : قد قدمنا أنه وعد وضمان.

فإن قيل : كيف قال : (عَلَى اللهِ) بلفظ الوجوب ؛ وإنما هو تفضّل ؛ لأن الله لا يجب عليه شىء؟

والجواب أنه ذكره كذلك تأكيدا فى الضمان ، ولأنه لما وعد فيه صار واقعا لا محالة ، لأنه لا يخلف الميعاد.

(عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ (٣)) : دليل على أنّ الماء والعرش كانا موجودين قبل خلق السموات والأرض ، فسبحان من لا يشبه صنعه صنع المخلوقين ، ولا تدرك حقائق حكمته بصيرة المحققين ؛ إبليس كانت قبلته العرش ، فصار مخذولا ومطرودا ، وعمر بن الخطاب كانت قبلته الصنم [٢٠٩ ب] فصار مودودا ومحمودا ، إذا أراد الله أن يدخل المنافق فيمن يوافق ، وإذا لم يرد إدخال الموافق فيمن

__________________

(١) التوبة : ١٠٩

(٢) هود : ٦

(٣) هود : ٧

٦٤٠