تفسير الخازن - ج ٢

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٢

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥٦٥

قوله سبحانه وتعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) الشك في موضع اللغة خلاف اليقين والشك اعتدال النقيضين عند الإنسان لوجود أمارتين أو لعدم الأمارة والشك ضرب من الجهل وهو أخص منه فكل شك جهل وليس كل جهل شكا فإذا قيل فلان شك في هذا الأمر فمعناه توقف فيه حتى يتبين له فيه الصواب أو خلافه وظاهر هذا الخطاب في قوله فإن كنت في شك أنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى فإن كنت يا محمد في شك مما أنزلنا إليك يعني من حقيقة ما أخبرناك به وأنزلناه يعني القرآن (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) يعني علماء أهل الكتاب يخبرونك أنك مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل وأنك نبي يعرفونك بصفتك عندهم وقد توجه هاهنا سؤال واعتراض وهو أن يقال هل شك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أنزل عليه أو في نبوته حتى يسأل أهل الكتاب عن ذلك وإذا كان شاكا في نبوة نفسه كان غيره أولى بالشك منه.

قلت : الجواب عن هذا السؤال والاعتراض ما قاله القاضي عياض في كتابه الشفاء فإنه أورد هذا السؤال ، ثم قال : احذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره فيه بعض المفسرين عن ابن عباس أو غيره من إثبات شك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أوحي إليه فإنه من البشر فمثل هذا لا يجوز عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جملة بل قال ابن عباس : لم يشك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يسأل. ونحوه عن سعيد بن جبير والحسن البصري. وحكي عن قتادة أنه قال : بلغنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما أشك ولا أسأل» وعامة المفسرين على هذا ، ثم كلام القاضي عياض رحمه‌الله ثم اختلفوا في معنى الآية ومن المخاطب بهذا الخطاب على قولين أحدهما أن الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الظاهر والمراد به غيره فهو كقوله لئن أشركت ليحبطن عملك ومعلوم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشرك فثبت أن المراد به غيره ومن أمثلة العرب :

إياك أعني واسمعي يا جارة. فعلى هذا يكون معنى الآية قل يا محمد ، يا أيها الإنسان الشاك إن كنت في شك مما أنزلنا إليك على لسان رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاسأل الذين يقرءون الكتاب يخبروك بصحته ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى في آخر هذه السورة قل يا أيها الناس إن كنتم في شك في ديني الآية فبين أن المذكور في هذه الآية على سبيل الرمز هو المذكور في تلك الآية على سبيل التصريح وأيضا لو كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاكا في بنوته لكان غيره أولى بالشك في نبوته وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية معاذ الله من ذلك وقيل إن الله سبحانه وتعالى علم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشك قط فيكون المراد بهذا التهييج فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سمع هذا الكلام يقول لا أشك يا رب ولا أسأل أهل الكتاب بل أكتفي بما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة. وقال الزجاج : إن الله خاطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله فإن كنت في شك وهو شامل للخلق فهو كقوله يا أيها النبي إذا طلقتم النساء وهذا وجه حسن لكن فيه بعد وهو أن يقال متى كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم داخلا في هذا الخطاب كان الاعتراض موجودا والسؤال واردا ، وقيل : إن لفظة إن في قوله فإن كنت في شك للنفي ومعناه وما أنت في شك موجودا والسؤال واردا وقيل إن لفظه إن في قوله فإن كنت في شك للنفي ومعناه وما أنت في شك مما أنزلنا إليك حتى تسأل فلا تسأل ولئن سألت لازددت يقينا.

والقول الثاني : إن هذا الخطاب ليس هو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم البتة ووجه هذا القول إن الناس كانوا في زمنه على ثلاث فرق فرقة له مصدقون وبه مؤمنون وفرقة على الضد من ذلك والفرقة الثالثة المتوقفون في أمره الشاكون فيه فخاطبهم الله عزوجل بهذا الخطاب ، فقال : تمجد وتعالى : فإن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته وإنما وحد الله الضمير في قوله فإن كنت وهو يريد الجمع لأنه خطاب لجنس الإنسان كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) لم يرد في الآية إنسانا بعينه بل أراد الجمع واختلفوا في المسؤول عنه في قوله تعالى : (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) من هم فقال المحققون من أهل التفسير : هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه لأنهم هم الموثوق بأخبارهم.

٤٦١

وقيل : المراد كل أهل الكتاب سواء مؤمنهم وكافرهم لأن المقصود من هذا السؤال الإخبار بصحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أنه مكتوب عندهم صفته ونعته فإذا أخبروا بذلك فقد حصل المقصود والأول أصح. وقال الضحاك يعني أهل التقوى وأهل الإيمان من أهل الكتاب ممن أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) هذا كلام مبتدأ منقطع عما قبله وفيه معنى القسم تقديره أقسم لقد جاءك الحق اليقين من الخير بأنك رسول الله حقا وأن أهل الكتاب يعلمون صحة ذلك (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) يعني من الشاكين في صحة ما أنزلنا إليك (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) يعني بدلائله وبراهينه الواضحة (فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) يعني الذين خسروا أنفسهم.

واعلم أن هذا كله على ما تقدم من أن ظاهره خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به غيره ممن عنده شك وارتياب فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشك ولم يرتب ولم يكذب بآيات الله فثبت بهذا أن المراد به غيره والله أعلم.

قوله سبحانه وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) يعني وجبت عليهم (كَلِمَتُ رَبِّكَ) يعني حكم ربك وهو قوله سبحانه وتعالى : وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي وقال قتادة : سخط ربك وقيل لعنة ربك وقيل هو ما قدره عليهم وقضاه في الأزل (لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) فإنهم لا يؤمنون بها (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) فحينئذ لا ينفعهم شيء قوله سبحانه وتعالى : (فَلَوْ لا) يعني فهلا (كانَتْ قَرْيَةٌ) وقيل معناه فما كانت قرية وقيل لم تكن قرية لأن في الاستفهام معنى الحجة والمراد هل كانت قرية (آمَنَتْ) يعني عند معاينة العذاب (فَنَفَعَها إِيمانُها) يعني في حال اليأس (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) هذا استثناء منقطع يعني لكن قوم يونس فإنهم آمنوا فنفعهم إيمانهم في ذلك الوقت وهو قوله (لَمَّا آمَنُوا) يعني لما أخلصوا الإيمان (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) يعني إلى وقت انقضاء آجالهم واختلفوا في قوم يونس هل رأوا العذاب عيانا أم لا فقال بعضهم رأوا دليل العذاب فآمنوا ؛ وقال الأكثرون إنهم رأوا العذاب عيانا بدليل قوله كشفنا عنهم عذاب الخزي والكشف لا يكون إلا بعد الوقوع أو إذا قرب وقوعه.

(ذكر القصة في ذلك)

على ما ذكره عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير ووهب وغيرهم قالوا : إن قوم يونس كانوا بقرية نينوى من أرض الموصل وكانوا أهل كفر وشرك فأرسل الله سبحانه وتعالى إليهم يونس عليه‌السلام يدعوهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأصنام فدعاهم فأبوا عليه فقيل له أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث فأخبرهم بذلك فقالوا إنا لم نجرب عليه كذبا قط فانظروا فإن بات فيكم الليلة فليس بشيء وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم فلما كان جوف الليل خرج يونس من بين أظهرهم فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم. قال ابن عباس : إن العذاب كان أهبط على قوم يونس حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل فلما دعوا كشف الله عنهم ذلك.

وقال مقاتل : قدر ميل ، وقال سعيد بن جبير : غشي قوم يونس العذاب كما يغشى الثوب القبر ، وقال وهب : غامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا فهبط حتى غشي مدينتهم واسودت أسطحتهم فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا نبيهم يونس عليه‌السلام فلم يجدوه فقذف الله سبحانه وتعالى في قلوبهم فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم فلبسوا المسوح وأظهروا الإسلام والتوبة وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والدواب فحن البعض إلى البعض فحن الأولاد إلى الأمهات والأمهات إلى الأولاد وعلت الأصوات وعجوا جميعا إلى الله وتضرعوا إليه وقالوا آمنا بما جاء به يونس وتابوا إلى الله وأخلصوا النية فرحمهم ربهم فاستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب بعد ما أظلهم وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة.

٤٦٢

قال ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم فيما بينهم حتى أن كان الرجل ليأتي إلى الحجر وقد وضع أساس بنيانه عليه فيقلعه فيرده.

وروى الطبري بسنده عن أبي الجلد خيلان قال : لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا له إنه قد نزل بنا العذاب فما ترى قال قولوا يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت فقالوها فكشف الله عنهم العذاب ومتعوا إلى حين.

وقال الفضيل بن عياض : إنهم قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله ، قال : وخرج يونس وجعل ينتظر العذاب فلم ير شيئا فقيل له ارجع إلى قومك قال وكيف أرجع إليهم فيجدوني كذابا وكان من كذب ولا بينة له قال فانصرف عنهم مغاضبا فالتقمه الحوت وستأتي القصة في سورة والصافات إن شاء الله تعالى فإن قلت كيف كشف العذاب عن قوم يونس بعد ما نزل بهم وقبل توبتهم ولم يكشف العذاب عن فرعون حين آمن ولم يقبل توبته.

قلت : أجاب العلماء عن هذا بأجوبة :

أحدها : أن ذلك كان خاصا بقوم يونس والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

الجواب الثاني : أن فرعون ما آمن إلا بعد ما باشر العذاب وهو وقت اليأس من الحياة وقوم يونس دنا منهم العذاب ولم ينزل بهم ولم يباشرهم فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية.

الجواب الثالث : أن الله عزوجل علم صدق نياتهم في التوبة فقبل توبتهم بخلاف فرعون فإنه ما صدق في إيمانهم ولا أخلص فلم يقبل منه إيمانه والله أعلم.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١))

قوله سبحانه وتعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) يقول الله عزوجل لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو شاء ربك يا محمد لآمن بك وصدقك من في الأرض كلهم جميعا ولكن لم يشأ أن يصدقك ويؤمن بك إلا من سبقت له السعادة في الأزل قال ابن عباس : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحرص أن يؤمن به جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله عزوجل أنه لا يؤمن به إلا من سبقت له من السعادة في الذكر الأول ولم يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول وفي هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان حريصا على إيمانهم كلهم فأخبره الله أنه لا يؤمن به إلا من سبقت له العناية الأزلية فلا تتعب نفسك على إيمانهم وهو قوله سبحانه وتعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) يعني ليس إيمانهم إليك حتى تكرههم عليه أو تحرص عليه إنما إيمان المؤمن وإضلال الكافر بمشيئتنا وقضائنا وقدرنا ليس ذلك لأحد سوانا (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) يعني وما كان ينبغي لنفس خلقها الله تعالى أن تؤمن وتصدق إلا بقضاء الله لها بالإيمان فإن هدايتها إلى الله وهو الهادي المضل.

وقال ابن عباس : معنى بإذن الله ، بأمر الله ، وقال عطاء : بمشيئة الله قوله تعالى : (وَيَجْعَلُ) قرئ بالنون على سبيل التعظيم أي ونجعل نحن وقرئ بالياء ومعناه ويجعل الله (الرِّجْسَ) يعني العذاب ، وقال ابن عباس :

٤٦٣

يعني السخط (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) يعني لا يفهمون عن الله أمره ونهيه.

قوله عزوجل : (قُلِ انْظُرُوا) أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يسألونك الآيات انظروا يعني انظروا بقلوبكم نظر اعتبار وتفكر وتدبر (ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني : ماذا خلق الله في السموات والأرض من الآيات الدالة على وحدانيته ففي السموات الشمس والقمر وهما دليلان على النهار والليل والنجوم سخرها طالعة وغاربة وإنزال المطر من السماء وفي الأرض الجبال والبحار والمعادن والأنهار والأشجار والنبات كل ذلك آية دالة على وحدانية الله تعالى وأنه خالقها كما قال الشاعر :

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

(وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ) يعني الرسل (عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) وهذا في حق أقوام علم الله أنهم لا يؤمنون لما سبق لهم في الأزل من الشقاء.

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦))

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ) يعني مشركي مكة (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني من مضى من قبلهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل قال قتادة يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود.

والعرب تسمي العذاب أياما والنعم أياما كقوله تعالى وذكرهم بأيام الله والمعنى فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد إلا يوما يعاينون فيه العذاب مثل ما فعلنا بالأمم السالفة المكذبة أهلكناهم جميعا فإن كانوا ينتظرون ذلك العذاب ف (قُلْ فَانْتَظِرُوا) يعني : قل لهم يا محمد فانتظروا العذاب (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) يعني : هلاككم ، قال الربيع بن أنس : خوفهم عذابه ونقمته ثم أخبرهم أنه إذا وقع ذلك بهم أنجى الله رسله والذين آمنوا معهم من ذلك العذاب وهو قوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) يعني من العذاب والهلاك (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني كما أنجينا رسلنا ، والذين آمنوا معهم من الهلاك كذلك ننجيك يا محمد والذين آمنوا معك وصدقوك من الهلاك والعذاب.

قال بعض المتكلمين : المراد بقوله حقا علينا الوجوب لأن تخليص الرسول والمؤمنين من العذاب واجب وأجيب عن هذا بأنه حق واجب من حيث الوعد والحكم لا أنه واجب بسبب الاستحقاق لأنه قد ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئا.

قوله سبحانه وتعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي قل يا محمد لهؤلاء الذين أرسلتك إليهم فشكوا في أمرك ولم يؤمنوا بك (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) يعني الذي أدعوكم إليه وإنما حصل الشك لبعضهم في أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى الآيات التي كانت تظهر على يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحصل له الاضطراب والشك فقال إن كنتم في شك من ديني الذي أدعوكم إليه فلا ينبغي لكم أن تشكوا فيه لأنه دين إبراهيم عليه‌السلام وأنتم من ذريته وتعرفونه ولا تشكون فيه وإنما ينبغي لكم أن تشكوا في عبادتكم لهذه الأصنام التي لا أصل لها البتة فإن أصررتم

٤٦٤

على ما أنتم عليه (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني هذه الأوثان وإنما وجب تقديم هذا النفي لأن العبادة هي غاية التعظيم للمعبود فلا تليق لأخس الأشياء وهي الحجارة التي لا تنفع لمن عبدها ولا تضر لمن تركها ولكن تليق العبادة لمن بيده النفع والضر وهو قادر على الإماتة والإحياء وهو قوله سبحانه وتعالى : (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) والحكمة في وصف الله سبحانه وتعالى في هذا المقام بهذه الصفة أن المراد أن الذي يستحق العبادة أعبده أنا وأنتم هو الذي خلقكم أولا ولم تكونوا شيئا ثم يميتكم ثانيا ثم يحييكم بعد الموت ثالثا ، فاكتفى بذكر الوفاة تنبيها على الباقي ، وقيل : لما كان الموت أشد الأشياء على النفس ذكر في هذ المقام ليكون أقوى في الزجر والردع وقيل إنهم لما استعجلوا بطلب العذاب أجابهم بقوله ولكن أعبد الله الذي هو قادر على إهلاككم ونصري عليكم (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يعني وأمرني ربي أن أكون من المصدقين بما جاء من عنده قيل لما ذكر العبادة وهي من أعمال الجوارح أتبعها بذكر الإيمان لأنه من أعمال القلوب (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) الواو في قوله وأن أقم واو عطف معناه وأمرت أن أقيم وجهي يعني أقم نفسك على دين الإسلام حنيفا يعني مستقيما عليه غير معوج عنه إلى دين آخر ، وقيل معناه أقم عملك على الدين الحنيفي وقيل أراد بقوله وأن أقم وجهك للدين صرف نفسه بكليته إلى طلب الدين الحنيفي غير مائل عنه (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يعني ولا تكونن ممن يشرك في عبادة ربه غيره فيهلك وقيل إن النهي عن عبادة الأوثان قد تقدم في الآية المتقدمة فوجب حمل هذا النهي على معنى زائد وهو أن من عرف الله عزوجل وعرف جميع أسمائه وصفاته وأنه المستحق للعبادة لا غيره فلا ينبغي له أن يلتفت إلى غيره بالكلية وهذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشكر الخفي (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ) يعني إن عبدته ودعوته (وَلا يَضُرُّكَ) يعني إن تركت عبادته (فَإِنْ فَعَلْتَ) يعني ما نهيتك عنه فعبدت غيري أو طلبت النفع ودفع الضر من غيري (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) يعني لنفسك لأنك وضعت العبادة في غير موضعها وهذا الخطاب وإن كان في الظاهر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمراد به غيره لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يدع من دون الله شيئا البتة فيكون المعنى ولا تدع أيها الإنسان من دون الله ما لا ينفعك ، الآية.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))

قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) يعني وإن يصبك الله بشدة وبلاء (فَلا كاشِفَ لَهُ) يعني لذلك الضر الذي أنزل بك (إِلَّا هُوَ) لا غيره (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) يعني بسعة ورخاء (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) يعني فلا دافع لرزقه (يُصِيبُ بِهِ) يعني : بكل واحد من الضر والخير (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) قيل إن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الأوثان وبين أنها لا تقدر على نفع ولا ضر بين تعالى أنه هو القادر على ذلك كله ، وأن جميع الكائنات محتاجة إليه وجميع الممكنات مستندة إليه لأنه هو القادر على كل شيء وأنه ذو الجود والكرم والرحمة ولهذا المعنى ختم الآية بقوله (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وفي الآية لطيفة أخرى وهي أن الله سبحانه وتعالى رجح جانب الخير على جانب الشر وذلك أنه تعالى لما ذكر إمساس الضر بين أنه لا كاشف له إلا هو وذلك يدل على أنه سبحانه وتعالى يزيل جميع المضار ويكشفها لأن الاستثناء من النفي إثبات.

ولما ذكر الخير قال فيه فلا راد لفضله يعني أن جميع الخيرات منه فلا يقدر أحد على ردها لأنه هو الذي

٤٦٥

يفيض جميع الخيرات على عباده وعضده بقوله وهو الغفور يعني الساتر لذنوب عباده الرحيم يعني بهم.

قوله سبحانه وتعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني القرآن والإسلام وقيل الحق هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء بالحق من الله عزوجل (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) لأن نفع ذلك يرجع إليه (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي على نفسه لأن وباله راجع إليه فمن حكم الله له بالاهتداء في الأزل انتفع ومن حكم عليه بالضلال ضل ولم ينتفع بشيء أبدا (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) يعني وما أنا عليكم بحفيظ أحفظ عليكم أعمالكم وقال ابن عباس : هذه الآية منسوخة بآية السيف (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) يعني الأمر الذي يوحيه الله إليك يا محمد (وَاصْبِرْ) يعني على أذى من خالفك من كفار مكة وهم قومك (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) يعني ينصرك عليهم بإظهار دينك (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) يعني أنه سبحانه وتعالى حكم بنصر نبيه وإظهار دينه وبقتل المشركين وأخذ الجزية من أهل الكتاب ، وفيها ذلهم وصغارهم والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

٤٦٦

سورة هود

وهي مكية في قول ابن عباس وبه قال الحسن وعكرمة ومجاهد وابن زيد وقتادة وفي رواية عن ابن عباس أنها مكية غير آية وهي قوله سبحانه وتعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) وعن قتادة نحوه وقال مقاتل : هي مكية إلا قوله سبحانه فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وقوله أولئك يؤمنون به وقوله سبحانه وتعالى إن الحسنات يذهبن السيئات وهي مائة وثلاث وعشرون آية وألف وستمائة كلمة وتسعة آلاف وخمسمائة وسبعة وستون حرفا عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله قد شبت قال : «شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت» أخرجه الترمذي ، وقال حديث حسن غريب. وفي رواية غيره قال قلت «يا رسول الله عجل إليك الشيب قال شيبتني هود وأخواتها الحاقة والواقعة وعم يتساءلون وهل أتاك حديث الغاشية» ، قال بعض العلماء : سبب شيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذه السور المذكورة في الحديث لما فيها من ذكر القيامة والبعث والحساب والجنة والنار والله أعلم بمراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١))

قوله عزوجل : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) قال ابن عباس : لم ينسخها كتاب كما نسخت هي الكتب والشرائع (ثُمَّ فُصِّلَتْ) يعني بينت وقال الحسن : أحكمت آياته بالأمر والنهي وفصلت بالثواب والعقاب وفي رواية عنه بالعكس ، قال : أحكمت بالثواب والعقاب وفصلت بالأمر والنهي ، وقال قتادة : أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بعلمه فبين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته فيها وقيل : أحكمها الله فليس فيها تناقض ثم فصلها وبينها وقيل معناه نظمت آياته نظما رصينا محكما بحيث لا يقع فيه نقض ولا خلل كالبناء المحكم الذي ليس فيه خلل ثم فصلت آياته سورة سورة وقيل إن آيات هذا الكتاب دالة على التوحيد وصحة النبوة والمعاد وأحوال القيامة وكل ذلك لا يدخله النسخ ثم فصلت بدلائل الأحكام والمواعظ والقصص والإخبار عن المغيبات ، وقال مجاهد :

فصلت بمعنى فسرت وثم في قوله ثم فصلت ليست هي للتراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل فإن قلت كيف عم الآيات هنا بالأحكام وخص بعضها في قوله منه آيات محكمات.

قلت : إن الإحكام الذي عم به هنا غير الذي خص به هناك فمعنى الإحكام العام هنا أنه لا يتطرق إلى آياته التناقض والفساد كأحكام البناء فإن هذا الكتاب نسخ جميع الكتب المتقدمة عليه والمراد بالأحكام الخاص المذكور في قوله منه آيات محكمات أن بعض آياته منسوخة نسخها بآيات منه أيضا لم ينسخها غيره وقيل أحكمت آياته أي معظم آياته محكمة وإن كان قد دخل النسخ على البعض فأجرى الكل على البعض لأن الحكم للغالب وإجراء الكل على البعض مستعمل في كلامهم تقول أكلت طعام زيد وإنما أكلت بعضه.

٤٦٧

وقوله تعالى : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) يعني أحكمت آيات الكتاب من عند حكيم في جميع أفعاله (خَبِيرٍ) يعني بأحوال عباده وما يصلحهم.

(أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥))

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) هذا مفعول له معناه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله والمراد بالعبادة التوحيد وخلع الأنداد والأصنام وما كانوا يعبدون والرجوع إلى الله تعالى وإلى عبادته والدخول في دين الإسلام (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ) أي : قل لهم يا محمد إنني لكم من عند الله (نَذِيرٌ) ينذركم عقابه إن ثبتم على كفركم ولم ترجعوا عنه (وَبَشِيرٌ) يعني وأبشر بالثواب الجزيل لمن آمن بالله ورسوله وأطاع وأخلص العمل لله وحده (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) اختلفوا في بيان الفرق بين هذين المرتبتين فقيل معناه اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم ثم ارجعوا إليه لأن الاستغفار هو طلب الغفر وهو الستر والتوبة الرجوع عما كان فيه من شرك أو معصية إلى خلاف ذلك فلهذا السبب قدم الاستغفار على التوبة وقيل معناه استغفروا ربكم لسالف ذنوبكم ثم توبوا إليه في المستقبل وقال الفراء : ثم هنا بمعنى الواو لأن الاستغفار والتوبة بمعنى واحد فذكرهما للتأكيد (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) يعني إنكم إذا فعلتم ما أمرتم به من الاستغفار والتوبة وأخلصتم العبادة لله عزوجل بسط عليكم من الدنيا وأسباب الرزق ما تعيشون به في أمن وسعة وخير ، قال بعضهم : المتاع الحسن هو الرضا بالميسور والصبر على المقدور (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يعني يمتعكم متاعا حسنا إلى حين الموت ووقت انقضاء آجالكم.

فإن قلت قد ورد في الحديث «إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» وقد يضيق على الرجل في بعض أوقاته حتى لا يجد ما ينفقه على نفسه وعياله فكيف الجمع بين هذا وبين قوله سبحانه وتعالى يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى.

قلت أما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الدنيا سجن المؤمن» فهو بالنسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من الثواب الجزيل والنعيم المقيم فإنه في سجن في الدنيا حتى يفضي إلى ذلك المعد له وأما كون الدنيا جنة الكافر فهو بالنسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من العذاب الأليم الدائم الذي لا ينقطع فهو في الدنيا في جنة حتى يفضي إلى ما أعد الله له في الآخرة وأما ما يضيق على الرجل المؤمن في بعض الأوقات فإنما ذلك لرفع الدرجات وتكفير السيئات وبيان الصبر عند المصيبات فعلى هذا يكون المؤمن في جميع أحواله في عيشة حسنة لأنه راض عن الله في جميع أحواله.

وقوله سبحانه وتعالى : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي ويعط كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة ، قال أبو العالية : من كثرت طاعاته في الدنيا زادت حسناته ودرجاته في الجنة لأن الدرجات تكون على قدر الأعمال ، وقال ابن عباس : من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة ومن زادت سيئاته دخل النار ومن استوت حسناته وسيئاته كان من الأعراف ثم يدخلون الجنة. وقال ابن مسعود : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من حسناته العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم يقول ابن مسعود : هلك من غلبت

٤٦٨

آحاده أعشاره وقيل معنى الآية من عمل لله وفقه الله في المستقبل لطاعته (وَإِنْ تَوَلَّوْا) يعني وإن أعرضوا عما جئتم به من الهدى (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) أي : فقل لهم يا محمد إني أخاف عليكم (عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) يعني : عذاب النار في الآخرة (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) يعني في الآخرة فيثيب المحسن على إحسانه ويعاقب المسيء على إساءته (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يعني من إيصال الرزق إليكم في الدنيا وثوابكم وعقابكم في الآخرة قوله سبحانه وتعالى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) قال ابن عباس : نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر وكان يلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يحب وينطوي بقلبه على ما يكره فنزلت ألا إنهم يثنون صدورهم يعني يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة من ثنيت الثوب إذا طويته. وقال عبد الله بن شداد بن الهاد : نزلت في بعض المنافقين كان إذا مر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يراه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال قتادة : كانوا يحنون صدورهم كي لا يسمعوا كتاب الله تعالى ولا ذكره وقيل كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه ويقول هل يعلم الله ما في قلبي ، وقال السدي : يثنون صدورهم أي يعرضون بقلوبهم من قولهم ثنيت عناني (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) يعني من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال مجاهد من الله عزوجل إن استطاعوا (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) يعني يغطون رؤوسهم بثيابهم (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ومعنى الآية على ما قاله الأزهري : إن الذين أضمروا عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخفى علينا حالهم في كل حال وقد نقل عن ابن عباس غير هذا التفسير وهو ما أخرجه البخاري في إفراده عن محمد بن عياش بن جعفر المخزومي أنه سمع ابن عباس يقرأ : ألا إنهم يثنون صدورهم ، قال : فسألته عنها فقال كل أناس يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))

وقوله سبحانه وتعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) الدابة اسم لكل حيوان دب على وجه الأرض وأطلق لفظ الدابة على كل ذي أربع من الحيوان على سبيل العرف والمراد منه الإطلاق فيدخل الآدمي وغيره من جميع الحيوانات (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) يعني هو المتكفل برزقها فضلا منه لا على سبيل الوجوب فهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق وقيل إن لفظة على بمعنى أي من الله رزقها وقال مجاهد ما جاءها من رزق فمن الله وربما لم يرزقها فتموت جوعا (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) قال ابن عباس : مستقرها المكان الذي تأوي في ليل أو نهار ومستودعها المكان الذي تدفن فيه بعد الموت ، وقال ابن مسعود : مستقرها أرحام الأمهات والمستودع المكان الذي تموت فيه وقيل المستقر الجنة أو النار والمستودع القبر (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل خلقها قوله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) يعني قبل خلق السموات والأرض قال كعب خلق الله ياقوتة خضراء ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع العرش على الماء. قال ضمرة : إن الله سبحانه وتعالى كان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وخلق القلم فكتب به ما خلق وما هو خالق وما هو كائن من خلقه إلى يوم القيامة ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ومجده ألف عام قبل أن يخلق شيئا من خلقه.

وقال سعيد بن جبير سئل ابن عباس عن قوله سبحانه وتعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) على أي شيء كان الماء قال : على متن الريح ، وقال وهب بن منبه : إن العرش كان قبل أن يخلق الله السموات والأرض ثم قبض الله

٤٦٩

قبضة من صفاء الماء ثم فتح القبضة فارتفع دخان ثم قضاهن سبع سموات في يومين ثم أخذ سبحانه وتعالى طينة من الماء فوضعها مكان البيت ثم دحا الأرض منها ثم خلق الأقوات في يومين والسموات في يومين والأرض في يومين ثم فرغ آخر الخلق وفي اليوم السابع. قال بعض العلماء : وفي خلق جميع الأشياء وجعلها على الماء ما يدل على كمال القدرة لأن البناء الضعيف إذا لم يكن له أساس على أرض صلبة لم يثبت فكيف بهذا الخلق العظيم وهو العرش والسموات والأرض على الماء فهذا يدل على كمال قدرة الله تعالى (خ) عن عمران بن حصين قال «دخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعقلت ناقتي بالباب فأتى ناس من بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم فقالوا بشرتنا فأعطنا مرتين فتغير وجهه ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا قبلنا يا رسول الله ثم قالوا جئنا لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان قال كان الله سبحانه وتعالى ولم يكن معه شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ثم أتاني رجل فقال يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت فانطلقت أطلبها فإذا السراب يقطع دونها وايم الله لوددت أنها ذهبت ولم أقم» عن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال «كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء وخلق عرشه على الماء» أخرجه الترمذي ، وقال قال أحمد : يريد بالعماء أنه ليس معه شيء قال أبو بكر البيهقي : في كتاب الأسماء والصفات له قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان الله ولم يكن شيء قبله ، يعني لا الماء ولا العرش ولا غيرهما وقوله «وكان عرشه على الماء» يعني وخلق الماء وخلق العرش على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء ، وقوله في عماء وجدته في كتاب عماء مقيدا بالمد فإن كان في الأصل ممدودا فمعناه سحاب رقيق ويريد بقوله في عماء أي فوق سحاب مدبرا له وعاليا عليه كما قال سبحانه وتعالى «أأمنتم من في السماء» يعني من فوق السماء وقال تعالى : (لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) يعني على جذوعها وقوله ما فوقه هواء أي ما فوق السحاب هواء وكذلك قوله وما تحته هواء أي ما تحت السحاب هواء وقد قيل إن ذلك العمى مقصور والعمى إذا كان مقصورا فمعناه لا شيء ثابت لأنه مما عمى عن الخلق لكونه غير شيء فكأنه قال في جوابه كان قبل أن يخلق خلقه ولم يكن شيء غيره ثم قال ما فوقه هواء وما تحته هواء أي ليس فوق العمى الذي هو لا شيء موجود هواء ولا تحته هواء لأن ذلك إن كان غير شيء فليس يثبت له هواء بوجه والله أعلم وقال الهروي صاحب الغريبين : قال بعض أهل العلم معناه أين كان عرش ربنا فحذف المضاف اختصارا كقوله واسأل القرية ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) هذا آخر كلام البيهقي ، وقال ابن الأثير : العماء في اللغة السحاب الرقيق وقيل : الكثيف وقيل : هو الضباب ولا بد في الحديث من حذف مضاف ، تقديره أين كان عرش ربنا فحذف ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) وحكي عن بعضهم في العمى المقصور أنه قال هو كل أمر لا يدركه الفطن ، وقال الأزهري : قال أبو عبيد إنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم وإلا فلا ندري كيف كان ذلك العماء قال الأزهري : فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» وفي رواية «فرغ الله من المقادير وأمور الدنيا قبل أن يخلق السموات والأرض وكان عرشه على الماء بخمسين ألف سنة» قوله فرغ يريد إتمام خلق المقادير لا أنه كان مشغولا ففرغ منه لأن الله سبحانه وتعالى لا يشغله شأن عن شأن فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

قوله سبحانه وتعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ) يعني ليختبركم وهو أعلم بكم منكم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) يعني بطاعة الله وأورع عن محارم الله (وَلَئِنْ قُلْتَ) يعني ولئن قلت يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) يعني للحساب والجزاء (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) يعنون القرآن.

٤٧٠

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢))

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) يعني إلى أجل محدود وأصل الأمة في اللغة الجماعة من الناس فكأنه قال سبحانه وتعالى إلى انقراض أمة ومجيء أمة أخرى (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) يعني : أي شيء يحبس العذاب وإنما يقولون ذلك استعجالا بالعذاب واستهزاء يعنون أنه ليس بشيء قال الله عزوجل : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) يعني العذاب (لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) أي لا يصرفه عنهم شيء (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يعني ونزل بهم وبال استهزائهم.

قوله سبحانه وتعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) يعني : رخاء وسعة في الرزق والعيش وبسطنا عليه من الدنيا (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) يعني سلبناه ذلك كله وأصابته المصائب فاجتاحته وذهبت به (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) يعني يظل قانطا من رحمة الله آيسا من كل خير كفور أي جحود لنعمتنا عليه أولا قليل الشكر لربه قال بعضهم : يا ابن آدم إذا كانت بك نعمة من الله من أمن وسعة وعافية فاشكرها ولا تجحدها فإن نزعت عنك فينبغي لك أن تصبر ولا تيأس من رحمة الله فإنه العواد على عباده بالخير وهو قوله سبحانه وتعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) يعني ولئن نحن أنعمنا على الإنسان وبسطنا عليه من العيش (لَيَقُولَنَ) يعني الذي أصابه الخير والسعة (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) يعني ذهب الشدائد والعسر والضيق وإنما قال ذلك غرة بالله عزوجل وجرأة عليه لأنه لم يضف الأشياء كلها إلى الله وإنما أضافها إلى العوائد فلهذا ذمه الله تعالى فقال (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) أي إنه أشر بطر والفرح لذة تحصل في القلب بنيل المراد والمشتهى والفخر هو التطاول على الناس بتعديد المناقب وذلك منهي عنه ثم استثنى فقال تبارك وتعالى : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال الفراء : هذا استثناء منقطع معناه لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات فإنهم ليسوا كذلك فإنهم إن نالتهم شدة صبروا وإن نالتهم نعمة شكروا عليها (أُولئِكَ) يعني من هذه صفتهم (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) يعني لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) يعني الجنة.

قوله عزوجل : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول الله عزوجل لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلعلك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك ربك أن تبلغه إلى من أمرك أن تبلغ ذلك إليه (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) يعني ويضيق صدرك بما يوحى إليك فلا تبلغه إياهم وذلك أن كفار مكة قالوا ائت بقرآن غير هذا ليس فيه سب آلهتنا فهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يترك ذكر آلهتهم ظاهرا فأنزل الله عزوجل فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك يعني من ذكر آلهتهم هذا ما ذكره المفسرون في معنى هذه الآية وأجمع المسلمون على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما كان طريقه البلاغ فإنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف ما هو به لا خطأ ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغ جميع ما أنزل الله عليه إلى أمته ولم يكتم منه شيئا وأجمعوا على أنه لا يجوز على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيانة في الوحي والإنذار ولا يترك بعض ما أوحي إليه لقول أحد لأن تجويز ذلك يؤدي إلى الشك في أداء الشرائع والتكاليف لأن المقصود من إرسال الرسول التبليغ إلى من أرسل إليه فإذا لم يحصل ذلك فقد فاتت فائدة الرسالة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوم من

٤٧١

ذلك كله وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد بقوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك شيئا آخر سوى ما ذكره المفسرون.

وللعلماء في ذلك أجوبة :

أحدها : قال ابن الأنباري : قد علم الله سبحانه وتعالى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يترك شيئا مما يوحى إليه إشفاقا من موجدة أحد وغضبه ولكن الله تعالى أكد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في متابعة الإبلاغ من الله سبحانه وتعالى كما قال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) الآية.

الثاني : أن هذا من حثه سبحانه وتعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحريضه على أداء ما أنزل إليه والله سبحانه وتعالى من وراء ذلك في عصمته مما يخافه ويخشاه.

الثالث : أن الكفار كانوا يستهزئون بالقرآن ويضحكون منه ويتهاونون به وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضيق صدره لذلك وأن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويستهزئون به فأمره الله سبحانه وتعالى بتبليغ ما أوحي إليه وأن لا يلتفت إلى استهزائهم وأن تحمل هذا الضرر أهون من كتم شيء من الوحي ، والمقصود من هذا الكلام التنبيه على هذه الدقيقة لأن الإنسان إذا علم أن كل واحد من طرفي الفعل والترك مشتمل على ضرر عظيم ثم علم أن الضرر في باب الترك أعظم سهل عليه الإقدام على الفعل ، وقيل : إن الله سبحانه وتعالى مع علمه بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يترك شيئا من الوحي هيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة باستهزائهم وردهم إلى قبول قوله بقوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم مخافة ردهم واستهزائهم به وضائق به صدرك أي بأن تتلوه عليهم (أَنْ يَقُولُوا) يعني مخافة أن يقولوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) يعني يستغني به وينفقه (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يعني يشهد بصدقه وقائل هذه المقالة هو عبد الله بن أمية المخزومي.

والمعنى أنهم قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كانت صادقا في قولك بأنك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء وأنت عزيز عنده مع أنك فقير فهلا أنزل عليك ما تستغني به أنت وأصحابك وهل أنزل عليك ملكا يشهد لك بالرسالة فتزول الشبهة في أمرك فأخبر الله عزوجل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نذير بقوله عزوجل : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) تنذر بالعقاب لمن خالفك وعصى أمرك وتبشر بالثواب لمن أطاعك وآمن بك وصدقك (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) يعني أنه سبحانه وتعالى حافظ يحفظ أقوالهم وأعمالهم فيجازيهم عليها يوم القيامة.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥))

قوله سبحانه وتعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) يعني بل يقول كفار مكة اختلقه يعني ما أوحي إليه من القرآن (قُلْ) أي قل لهم يا محمد (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) لما قالوا له افتريت هذا القرآن واختلقته من عند نفسك وليس هو من عند الله تحداهم وأرخى لهم العنان وفاوضهم على مثل دعواهم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم هبوا أني اختلقته من عند نفسي ولم يوح إلي شيء وأن الأمر كما قلتم وأنتم عرب مثلي من أهل الفصاحة وفرسان البلاغة وأصحاب اللسان فأتوا أنتم بكلام مثل هذا الكلام الذي جئتكم به مختلق من عند أنفسكم فإنكم تقدرون على مثل ما أقدر عليه من الكلام فلهذا قال سبحانه وتعالى : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) في مقابلة قولهم افتراه.

فإن قلت قد تحداهم بأن يأتوا بسورة مثله فلم يقدروا على ذلك وعجزوا عنه فكيف قالوا فأتوا بعشر سور

٤٧٢

مثله مفتريات ومن عجز عن سورة واحدة فهو عن العشرة أعجز.

قلت : قد قال بعضهم إن سورة هود نزلت قبل سورة يونس ، وأنه تحداهم أولا بعشر سور فلما عجزوا تحداهم بسورة يونس وأنكر المبرد هذا القول وقال : إن سورة يونس نزلت أولا ، قال : ومعنى قوله في سورة يونس فأتوا بسورة مثله يعني مثله في الإخبار عن الغيب والأحكام والوعد والوعيد وفي قوله في سورة هود فأتوا بعشر سور مثله يعني في مجرد الفصاحة والبلاغة من غير خبر عن غيب ولا ذكر حكم ولا وعد ولا وعيد فلما تحداهم بهذا الكلام أمره بأن يقول لهم (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) حتى يعينوكم على ذلك (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعني في قولكم إنه مفترى (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) اعلم أنه لما اشتملت الآية المتقدمة على أمرين وخطابين :

أحدهما : أمر وخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قوله سبحانه وتعالى قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات. والثاني : أمر وخطاب للكفار وهو قوله تعالى وادعوا من استطعتم من دون الله ثم أتبعه بقوله تبارك وتعالى فإن لم يستجيبوا لكم احتمل أن يكون المراد أن الكفار لم يستجيبوا في المعارضة لعجزهم عنها واحتمل أن يكون المراد أن من يدعون من دون الله لم يستجيبوا للكفار في المعارضة فلهذا السبب اختلف المفسرون في معنى الآية على قولين أحدهما أنه خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين معه كانوا يتحدون الكفار بالمعارضة ليتبين عجزهم فلما عجزوا عن المعارضة قال الله سبحانه وتعالى لنبيه والمؤمنين فإن لم يستجيبوا لكم فيما دعوتموهم إليه من المعارضة وعجزوا عنه (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) يعني فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقينا وثباتا لأنهم كانوا عالمين بأنه منزل من عند الله ، وقيل : الخطاب في قوله فإن لم يستجيبوا لكم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده وإنما ذكره بلفظ الجميع تعظيما له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

القول الثاني : أن قوله سبحانه وتعالى فإن لم يستجيبوا لكم خطاب مع الكفار وذلك أنه سبحانه وتعالى لما قال في الآية المتقدمة وادعوا من استطعتم من دون الله قال الله عزوجل في هذه الآية فإن لم يستجيبوا لكم أيها

الكفار ولم يعينوكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأنه ليس مفترى على الله بل هو أنزله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) يعني الذي أنزل القرآن هو الله الذي لا إله إلا هو لا من تدعون من دونه (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) فيه معنى الأمر أي أسلموا وأخلصوا لله العبادة وإن حملنا معنى الآية على أنه خطاب مع المؤمنين كان معنى قوله فهل أنتم مسلمون الترغيب أي دوموا على ما أنتم عليه من الإسلام.

قوله عزوجل : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) يعني بعمله الذي يعمله من أعمال البر نزلت في كل من عمل عملا يبتغي به غير الله عزوجل : (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) يعني أجور أعمالهم التي عملوها لطلب الدنيا وذلك أن الله سبحانه وتعالى يوسع عليهم في الرزق ويدفع عنهم المكاره في الدنيا ونحو ذلك (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) يعني أنهم لا ينقصون من أجور أعمالهم التي عملوها لطلب الدنيا بل يعطون أجور أعمالهم كاملة موفرة.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧))

٤٧٣

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) يعني وبطل ما عملوا في الدنيا من أعمال البر (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لأنه لغير الله واختلف المفسرون في المعنى بهذه الآية فروى قتادة عن أنس أنها في اليهود والنصارى وعن الحسن مثله ، وقال الضحاك : من عمل عملا صالحا في غير تقوى يعني من أهل الشرك أعطي على ذلك أجرا في الدنيا وهو أن يصل رحما أو يعطي سائلا أو يرحم مضطرا أو نحو هذا من أعمال البر فيجعل الله له ثواب عمله في الدنيا يوسع عليه في المعيشة والرزق ويقر عينه فيما خوله ويدفع عنه المكاره في الدنيا وليس له في الآخرة نصيب ويدل على صحة هذا القول سياق الآية وهو قوله أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار الآية وهذه حالة الكافر في الآخرة وقيل نزلت في المنافقين الذين كانوا يطلبون بغزوهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغنائم لأنهم كانوا لا يرجون ثواب الآخرة وقيل إن حمل الآية على العموم أولى فيندرج الكافر والمنافق الذي هذه صفته والمؤمن الذي يأتي بالطاعات وأعمال البر على وجه الرياء والسمعة قال مجاهد في هذه الآية هم أهل الرياء وهذا القول مشكل لأن قوله سبحانه وتعالى أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار لا يليق بحال المؤمن إلا إذا قلنا إن تلك الأعمال الفاسدة والأفعال الباطلة لما كانت لغير الله استحق فاعلها الوعيد الشديد وهو عذاب النار ويدل على هذا ما روي عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول قال الله تبارك وتعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه أخرجه مسلم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار» أخرجه الترمذي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» يعني ريحها أخرجه أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تعوذوا بالله من جب الحزن قالوا يا رسول الله وما جب الحزن قال واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم ألف مرة قيل يا رسول الله من يدخله قال القراء المراؤون بأعمالهم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب قال البغوي وروينا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما الشرك الأصغر قال الرياء» أخرجه بغير سند والرياء هو أن يظهر الإنسان الأعمال الصالحة ليحمده الناس عليها أو ليعتقدوا فيه الصلاح أو ليقصدوه بالعطاء فهذا العمل هو الذي لغير الله نعوذ بالله من الخذلان قال البغوي وقيل هذا في الكفار يعني قوله من كان يريد الحياة وزينتها أما المؤمن فيريد الدنيا والآخرة وإرادته الآخرة غالبة فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة وروينا عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا» أخرجه البغوي بغير سند.

قوله سبحانه وتعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) لما ذكر الله سبحانه وتعالى : في الآية المتقدمة الذين يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها ذكر في هذه الآية من كان يريد بعمله وجه الله تعالى والدار الآخرة فقال سبحانه وتعالى أفمن كان على بينة من ربه أي كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار وإنما حذف هذا الجواب لظهوره ودلالة الكلام عليه وقيل معناه أفمن كان على بينة من ربه وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه كمن هو في ضلالة وكفر والمراد بالبينة الدين الذي أمر الله به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل المراد بالبينة اليقين يعني أنه على يقين من ربه أنه على الحق (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) يعني ويتبعه من يشهد له بصدقه واختلفوا في الشاهد من هو ، فقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم ومجاهد وعكرمة والضحاك وأكثر المفسرين : أنه جبريل عليه‌السلام يريد أن جبريل يتبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويؤيده ويسدده ويقويه وقال الحسن وقتادة هو لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروي عن محمد بن الحنفية قال قلت لأبي يعني علي بن أبي طالب رضي الله تعالى : عنه أنت التالي؟ قال : وما تعني بالتالي؟ قلت : قوله سبحانه وتعالى ويتلوه شاهد منه قال وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجه هذا القول إن اللسان لما كان يعرف

٤٧٤

عما في الجنان ويظهره جعل كالشاهد له لأن اللسان هو آلة الفصل والبيان وبه يتلى القرآن وقال مجاهد الشاهد هو ملك يحفظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسدده وقال الحسين بن الفضل : الشاهد هو القرآن لأن إعجازه وبلاغته وحسن نظامه يشهد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنبوته ولأنه أعظم معجزاته الباقية على طول الدهر ، وقال الحسين بن علي وابن زيد : الشاهد منه هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجه هذا القول أن من نظر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعين العقل والبصيرة علم أنه ليس بكذاب ولا ساحر ولا كاهن ولا مجنون ، وقال جابر بن عبد الله قال علي بن أبي طالب : ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه الآية والآيتان فقال له رجل وأنت أي آية نزلت فيك فقال على ما تقرأ الآية التي في هود ويتلوه شاهد منه فعلى هذا القول يكون الشاهد علي بن أبي طالب وقوله يعني من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد تشريف هذا الشاهد وهو علي لاتصاله بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل يتلوه شاهد منه يعني الإنجيل وهو اختيار الفراء والمعنى أن الإنجيل يتلو القرآن في التصديق بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمر بالإيمان به وإن كان قد نزل قبل القرآن.

وقوله سبحانه وتعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ) يعني ومن قبل نزول القرآن وإرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كِتابُ مُوسى) يعني التوراة (إِماماً وَرَحْمَةً) يعني أنه كان إماما لهم يرجعون إليه في أمور الدين والأحكام والشرائع وكونه رحمة لأنه الهادي من الضلال وذلك سبب حصول الرحمة وقوله تعالى : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعني أن الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم هم المشار إليهم بقوله أولئك يؤمنون به يعني بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل أراد الذين أسلموا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) يعني بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنَ الْأَحْزابِ) يعني من جميع الكفار وأصحاب الأديان المختلفة فتدخل فيه اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وغيرهم والأحزاب الفرق الذين تحزبوا وتجمعوا على مخالفة الأنبياء (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) يعني في الآخرة روى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» قال سعيد بن جبير : ما بلغني حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله عزوجل حتى بلغني هذا الحديث لا يسمع بي أحد من هذه الأمة الحديث ، قال سعيد : فقلت أين هذا في كتاب الله حتى أتيت على هذه الآية (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) إلى قوله سبحانه وتعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) قال فالأحزاب أهل الملل كلها ثم قال سبحانه وتعالى : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) فيه قولان أحدهما أن معناه فلا تك في شك من صحة هذا الدين ومن كون القرآن نازلا من عند الله فعلى هذا القول يكون متعلقا بما قبله من قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) والقول الثاني : إنه راجع إلى قوله (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) يعني فلا تك في شك من أن النار موعد من كفر من الأحزاب والخطاب في قوله (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به غيره لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشك قط ويعضد هذا القول سياق الآية وهو قوله سبحانه وتعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) يعني لا يصدقون بما أوحينا إليك أو من أن موعد الكفار النار.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠))

قوله عزوجل : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) يعني أي الناس أشد تعديا ممن اختلق على الله كذبا فكذب عليه وزعم أن له شريكا أو ولدا وفي الآية دليل على أن الكذب على الله من أعظم أنواع الظلم لأن قوله

٤٧٥

تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ورد في معرض المبالغة (أُولئِكَ) يعني المفترين على الكذب (يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) يعني يوم القيامة فيسألهم عن أعمالهم في الدنيا (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ، قاله مجاهد وقال ابن عباس : هم الأنبياء والرسل وبه قال الضحاك وقال قتادة : الأشهاد الخلق كلهم (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) يعني : في الدنيا وهذه الفضيحة تكون في الآخرة لكل من كذب على الله (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) يعني يقول الله ذلك يوم القيامة فيلعنهم ويطردهم من رحمته (ق). عن صفوان بن محرز المازني قال : بينما ابن عمر يطوف بالبيت إذ عرض له رجل فقال يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النجوى قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «يدنو المؤمن من ربه عزوجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا وكذا فيقول أعرف رب أعرف مرتين فيقول سترتها عليه في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته» وفي رواية «ثم تطوى صحيفة حسناته» وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد وفي رواية «فينادى بهم على رؤوس الأشهاد من الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» قوله سبحانه وتعالى : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) هذه الآية متصلة بما قبلها والمعنى ألا لعنة الله على الظالمين ثم وصفهم فقال الذين يصدون عن سبيل الله يعني يمنعون الناس من الدخول في دين الله الذي هو دين الإسلام (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) يعني ويطلبون إلقاء الشبهات في قلوب الناس وتعويج الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) يعني وهم مع صدهم عن سبيل الله يجحدون البعث بعد الموت وينكرونه (أُولئِكَ) يعني من هذه صفتهم (لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) قال ابن عباس يعني سابقين وقيل هاربين وقيل فائتين في الأرض والمعنى أنهم لا يعجزون الله إذا أرادهم بالعذاب والانتقام منهم ولكنهم في قبضته وملكه لا يقدرون على الامتناع منه إذا طلبهم (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) يعني وما كان لهؤلاء المشركين من أنصار يمنعونهم من دون الله إذا أراد بهم سوءا وعذابا (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) يعني في الآخرة يزاد عذابهم بسبب صدهم عن سبيل الله وإنكارهم البعث بعد الموت (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) قال قتادة صموا عن سماع الحق فلا يسمعون خيرا فينتفعون به ولا يبصرون خيرا فيأخذون به.

وقال ابن عباس أخبر الله سبحانه وتعالى أنه أحال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فإنه قال ما كانوا يستطيعون السمع وهي طاعته وما كانوا يبصرون وأما في الآخرة فإنه قال لا يستطيعون خاشعة أبصارهم.

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥))

(أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦))

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) يعني أن هؤلاء الذين هذه صفتهم هم الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) يعني وبطل كذبهم وإفكهم وفريتهم على الله وادعاؤهم أن الملائكة والأصنام تشفع لهم (لا جَرَمَ) يعني حقا وقال الفراء لا محالة (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) لأنهم باعوا منازلهم في الجنة واشتروا عوضها منازل في النار وهذا هو الخسران المبين.

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) لما ذكر الله عزوجل أحوال الكفار

٤٧٦

في الدنيا وخسرانهم في الآخرة أتبعه بذكر أحوال المؤمنين في الدنيا وربحهم في الآخرة والإخبات في اللغة هو الخشوع والخضوع وطمأنينة القلب ولفظ الإخبات يتعدى بإلى وباللام فإذا قلت أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه وإذا قلت أخبت له فمعناه خشع وخضع له فقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إشارة إلى جميع أعمال الجوارح وقوله وأخبتوا إشارة إلى أعمال القلوب وهي الخضوع والخشوع لله عزوجل يعني أن هذه الأعمال الصالحة لا تنفع في الآخرة إلا بحصول أعمال القلب وهي الخشوع والخضوع فإذا فسرنا الإخبات بالطمأنينة كان معنى الكلام يأتون بالأعمال الصالحة مطمئنين إلى صدق وعد الله بالثواب والجزاء على تلك الأعمال أو يكونون مطمئنين إلى ذكره سبحانه وتعالى وإذا فسرنا الإخبات بالخشوع والخضوع كان معناه أنهم يأتون بالأعمال الصالحة خائفين وجلين أن لا تكون مقبولة وهو الخشوع والخضوع (أُولئِكَ) يعني الذين هذه صفتهم (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أخبر عن حالهم في الآخرة بأنهم من أهل الجنة التي لا انقطاع لنعيمها ولا زوال.

قوله سبحانه وتعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) لما ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال الكفار وما كانوا عليه من العمى عن طريق الهدى والحق ومن الصمم عن سماعه وذكر أحوال المؤمنين وما كانوا عليه من البصيرة وسماع الحق والانقياد للطاعة ضرب لهم مثلا فقال تبارك وتعالى مثل الفريقين يعني فريق المؤمنين وفريق الكافرين كالأعمى وهو الذي لا يهتدي لرشده والأصم وهو الذي لا يسمع شيئا البتة ، والبصير وهو الذي يبصر الأشياء على ماهيتها ، والسميع وهو الذي يسمع الأصوات ويجيب الداعي فمثل المؤمنين كمثل الذي يسمع ويبصر وهو الكامل في نفسه ومثل الكافر كمثل الذي لا يسمع ولا يبصر وهو الناقص في نفسه (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) قال الفراء لم يقل هل يستوون لأن الأعمى والأصم في حيز كأنهما واحد وهما من وصف الكافر والبصير والسميع في حيز كأنهما واحد وهما من وصف المؤمن (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) يعني فتتعظون.

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) يعني أن نوحا عليه‌السلام قال لقومه حين أرسله الله إليهم إني لكم أيها القوم نذير مبين يعني بين النذارة أخوف بالعقاب من خالف أمر الله وعبد غيره ؛ وهو قوله سبحانه وتعالى : (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) يعني مؤلم موجع قال ابن عباس : بعث نوح بعد أربعين سنة ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة فكان عمره ألفا وخمسين سنة.

وقال مقاتل : بعث وهو ابن مائة سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة.

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠))

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) يعني الأشراف والرؤساء من قوم نوح (ما نَراكَ) يا نوح (إِلَّا بَشَراً

٤٧٧

مِثْلَنا) يعني آدميا مثلنا لا فضل لك علينا لأن التفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع اشتهاره إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطاعة على جميع العالم وإنما قالوا هذه المقالة وتمسكوا بهذه الشبهة جهلا منهم لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدعوة إلى الله تعالى بإقامة الدليل والبرهان على ذلك ويظهر المعجزة الدالة على صدقه ولا يأتي ذلك إلا من آحاد البشر وهو من اختصه الله بكرامته وشرفه بنبوته وأرسله إلى عباده ثم قال سبحانه وتعالى إخبارا عن قوم نوح (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) يعني سفلتنا والرذل الدون من كل شيء قيل هم الحاكة والأساكفة وأصحاب الصنائع الخسيسة وإنما قالوا ذلك جهلا منهم أيضا لأن الرفعة في الذين ومتابعة الرسول لا تكون بالشرف ولا بالمال والمناصب العالية بل للفقراء الخاملين وهم أتباع الرسل ولا يضرهم خسة صنائعهم إذا حسنت سيرتهم في الدين (بادِيَ الرَّأْيِ) يعني أنهم اتبعوك في أول الرأي من غير تثبت وتفكر في أمرك ، ولو تفكروا ما اتبعوك.

وقيل : معناه ظاهر الرأي ، يعني أنهم اتبعوك ظاهرا من غير أن تفكروا باطنا (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) يعني بالمال والشرف والجاه وهذا القول أيضا جهل منهم لأن الفضيلة المعتبرة عند الله بالإيمان والطاعة لا بالشرف والرياسة (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) قيل الخطاب لنوح ومن آمن معه من قومه وقيل هو لنوح وحده فعلى هذا يكون الخطاب بلفظ الجمع للواحد على سبيل التعظيم (قالَ) يعني نوحا (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) يعني على بيان ويقين من ربي بالذي أنذرتكم به (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) يعني هديا ومعرفة ونبوة (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) يعني خفيت وألبست عليكم (أَنُلْزِمُكُمُوها) الهاء عائدة إلى الرحمة والمعنى أنلزمكم أيها القوم قبول الرحمة يعني أنا لا نقدر أن نلزمكم ذلك من عند أنفسنا (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) وهذا استفهام معناه الإنكار أي لا أقدر على ذلك والذي أقدر عليه أن أدعوكم إلى الله وليس لي أن أضطركم إلى ذلك قال قتادة والله لو استطاع نبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) يعني لا أسألكم ولا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلا (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) وذلك أنهم طلبوا من نوح أن يطرد الذين آمنوا وهم الأرذلون في زعمهم فقال ما يجوز لي ذلك لأنهم يعتقدون (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) فلا أطردهم (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) يعني عظمة الله ووحدانيته وربوبيته وقيل معناه إنكم تجهلون أن هؤلاء المؤمنين خير منكم (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) يعني من يمنعني من عذاب الله إن طردتهم عني لأنهم مؤمنون مخلصون (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) يعني فتتعظون.

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) هذا عطف على قوله لا أسألكم عليه مالا والمعنى لا أسألكم عليه مالا ولا أقول لكم عندي خزائن الله يعني التي لا يفنيها شيء فأدعوكم إلى اتباعي عليها لأعطيكم منها وقال ابن الأنباري الخزائن هنا بمعنى غيوب الله وما هو منطو عن الخلق وإنما وجب أن يكون هذا جوابا من نوح عليه

٤٧٨

السلام لهم لأنهم قالوا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وادعوا أن المؤمنين إنما اتبعوه في ظاهر ما يرى منهم وهم في الحقيقة غير متبعين له فقال مجيبا لهم ولا أقول لكم عندي خزائن الله التي لا يعلم منها ما ينطوي عليه عباده وما يظهرونه إلا هو وإنما قيل للغيوب خزائن لغموضها عن الناس واستتارها عنهم والقول الأول أولى ليحصل الفرق بين قوله ولا أقول لكم عندي خزائن الله وبين قوله (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) يعني ولا أدعي علم ما يغيب عني مما يسرونه في نفوسهم فسبيل قبول إيمانهم في الظاهر ولا يعلم ما في ضمائرهم إلا الله (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) وهذا جواب لقولهم ما نراك إلا بشرا مثلنا أي لا أدعي أني من الملائكة بل أنا بشر مثلكم أدعوكم إلى الله وأبلغكم ما أرسلت به إليكم.

(فصل)

استدل بعضهم بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء قال لأن نوحا عليه‌السلام قال ولا أقول إني ملك لأن الإنسان إذا قال أنا لا أدعي كذا وكذا لا يحسن إلا إذا كان ذلك الشيء أشرف وأفضل من أحوال ذلك القائل فلما قال نوح عليه‌السلام هذه المقالة وجب أن يكون الملك أفضل منه والجواب أن نوحا عليه‌السلام إنما قال هذه المقالة في مقابلة قولهم ما نراك إلا بشرا مثلنا لما كان في ظنهم أن الرسل لا يكونون من البشر إنما يكونون من الملائكة فأعلمهم أن هذا ظن باطل وأن الرسل إلى البشر إنما يكونون من البشر فلهذا قال سبحانه وتعالى : (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) ولم يرد أن درجة الملائكة أفضل من درجة الأنبياء والله أعلم.

وقوله سبحانه وتعالى : (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) يعني تحتقر وتستصغر أعينكم يعني المؤمنين وذلك لما قالوا إنهم أراذلنا من الرذالة وهي الخسة (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) يعني توفيقا وهداية وإيمانا وأجرا (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) يعني من الخير والشر (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) يعني إن طردتهم مكذبا لظاهرهم ومبطلا لإيمانهم يعني أني إن فعلت هذا فأكون قد ظلمتهم وأنا لا أفعله فما أنا من الظالمين (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا) يعني خاصمتنا (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) يعني خصومتنا (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) يعني من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) يعني في دعواك أنك رسول الله إلينا (قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) يعني قال نوح لقومه حين استعجلوه بإنزال العذاب إن ذلك ليس إليّ إنما هو إلى الله ينزله متى شاء وعلى من يشاء إن أراد إنزال العذاب بكم (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) يعني وما أنتم بفائتين إن أراد الله نزول العذاب بكم (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) يعني ولا ينفعكم إنذاري وتحذيري إياكم عقوبته ونزول العذاب بكم (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) يعني يضلكم وقيل يهلككم وهذا معنى وليس بتفسير لأن الإغواء يؤدي إلى الهلاك (هُوَ رَبُّكُمْ) يعني أنه سبحانه وتعالى هو يملككم فلا تقدرون على الخروج من سلطانه (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يعني في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي اختلقه وجاء به من عند نفسه والضمير يعود إلى الوحي الذي جاءهم به (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) أي اختلقته (فَعَلَيَّ إِجْرامِي) أي إثم إجرامي والإجرام اقتراف السيئة واكتسابها يقال جرم وأجرم بمعنى أنه اكتسب الذنب وافتعله (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) يعني من الكفر والتكذيب وأكثر المفسرين على أن هذا من محاورة نوح قومه فهي من قصة نوح عليه‌السلام وقال مقاتل «أم يقولون» يعني المشركين من كفار مكة افتراه يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختلق القرآن من عند نفسه فعلى هذا القول تكون هذه الآية معترضة في قصة نوح ثم رجع إلى القصة فقال سبحانه وتعالى : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) قال ابن عباس إن قوم نوح كانوا يضربون نوحا حتى يسقط فيلفونه في لبد ويلقونه في بيت يظنون أنه قد مات فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله ويروي أن شيخا منهم جاء متكئا على عصاه ومعه ابنه فقال يا بني لا يغرنك هذا الشيخ المجنون فقال يا أبت أمكني من العصا فأخذه من أبيه وضرب بها نوحا عليه‌السلام حتى شجه شجة منكرة فأوحى الله إليه أنه لن يؤمن

٤٧٩

من قومك إلا من قد آمن (فَلا تَبْتَئِسْ) يعني فلا تحزن عليهم فإني مهلكهم (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) يعني بسبب كفرهم وأفعالهم فحينئذ دعا نوح عليه‌السلام عليهم فقال «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا» وحكى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عمير الليثي أنه بلغه أنهم كانوا يبسطون نوحا فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى تمادوا في المعصية واشتد عليه منهم البلاء وهو ينتظر الجيل بعد الجيل فلا يأتي قرن إلا كان أنحس من الذي قبله ولقد كان يأتي القرن الآخر منهم فيقول قد كان هذا الشيخ مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونا فلا يقبلون منه شيئا فشكا نوح إلى الله عزوجل فقال يا رب «إني دعوت قومي ليلا ونهارا» الآيات حتى بلغ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه.

(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨))

(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) يعني السفينة والفلك لفظ يطلق على الواحد والجمع (بِأَعْيُنِنا) قال ابن عباس بمرأى منا وقيل بعلمنا وقيل بحفظنا (وَوَحْيِنا) يعني بأمرنا (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) يعني بالطوفان والمعنى ولا تخاطبني في إمهال الكفار فإني قد حكمت بإغراقهم وقيل ولا تخاطبني في ابنك كنعان وامرأتك واعلة فإنهما هالكان مع القوم وقيل إن جبريل أتى نوحا فقال له إن ربك يأمرك أن تصنع الفلك فقال كيف أصنعها ولست نجارا فقال إن ربك يقول اصنع فإنك بأعيننا فأخذ القدوم وجعل ينجر ولا يخطئ فصنعها مثل جؤجؤ الطير وهو قوله سبحانه وتعالى : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) يعني كما أمره الله سبحانه وتعالى قال أهل السير لما أمر الله سبحانه وتعالى نوحا بعمل السفينة أقبل على عملها ولها عن قومه وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد ويهيئ القار وكل ما يحتاج إليه في عمل الفلك وجعل قومه يمرون وهو في عمله فيسخرون منه ويقولون يا نوح قد صرت نجارا بعد النبوة وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم ولد قال البغوي وزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه وأن يجعل طوله ثمانين ذراعا وعرضه خمسين ذراعا وطوله في السماء ثلاثين ذراعا والذراع إلى المنكب وأن يجعله ثلاث طباق سفلى ووسطى وعلينا وأن يجعل فيه كوى فصنعه نوح كما أمره الله سبحانه وتعالى وقال ابن عباس اتخذ نوح السفينة في سنتين فكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا وطولها في السماء ثلاثين ذراعا وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون فجعل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام وركب هو ومن معه في البطن الأعلى وجعل معه ما يحتاج إليه من الزاد وغيره قال قتادة وكان بابها في عرضها ، وروي عن الحسن : أنه كان طولها ألف ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع والقول الأول أشهر وهو أن طولها ثلاثمائة ذراع وقال زيد بن أسلم : مكث نوح مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها ومائة سنة يصنع الفلك ، وقال كعب الأحبار : عمل نوح عليه‌السلام السفينة في ثلاثين سنة وروي أنها ثلاثة أطباق الطبقة السفلى للدواب والوحوش والطبقة الوسطى للإنس والطبقة العليا للطير فلما كثرت رواث الدواب أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح عليه‌السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة ومسح على الخنزير فوقع منه الفأر فأقبلوا على الروث فأكلوه فلما أفسد الفأر في السفينة فجعل يقرضها ويقرض حبالها أوحى الله سبحانه وتعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة وهي القطة والقط فأقبلا على الفأر فأكلاه.

قوله سبحانه وتعالى : (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ) أي جماعة من قومه (سَخِرُوا مِنْهُ) يعني استهزءوا به وذلك أنهم قالوا إن هذا الذي كان يزعم أنه نبي قد صار نجارا وقيل قالوا يا نوح ماذا تصنع قال أصنع بيتا يمشي

٤٨٠