تفسير الخازن - ج ٢

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٢

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥٦٥

فإن قلت كيف تصح هذه الكفالة مع أن السارق لا يستحق شيئا.

قلت لم يكونوا سراقا في الحقيقة فيحمل ذلك على مثل رد الضائع فيكون جعالة أو لعل مثل هذه الكفالة كانت جائزة عندهم في ذلك الزمان فيحمل عليه (قالُوا) يعني إخوة يوسف (تَاللهِ) التاء بدل من الواو ولا تدخل إلا على اسم الله في اليمين خاصة تقديره والله (لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) قال المفسرون : إن أخوة يوسف حلفوا على أمرين :

أحدهما : أنهم ما جاءوا لأجل الفساد في الأرض والثاني أنهم ما جاءوا سارقين وإنما قالوا هذه المقالة لأنه كان قد ظهر من أحوالهم ما يدل على صدقهم وهو أنهم كانوا مواظبين على أنواع الخير والطاعة والبر حتى بلغ من أمرهم أنهم شدوا أفواه دوابهم لئلا تؤذي زرع الناس ومن كانت هذه صفته فالفساد في حقه ممتنع.

وأما الثاني : وهو أنهم ما كانوا سارقين فلأنهم قد كانوا ردوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم ولم يستحلوا أخذها ومن كانت هذه صفته فليس بسارق فلأجل ذلك قالوا لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين فلما تبينت براءتهم من هذه التهمة (قالُوا) يعني أصحاب يوسف وهو المنادي وأصحابه (فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) يعني فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين في قولكم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين.

(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦))

(قالُوا) يعني إخوة يوسف (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) يعني جزاء السارق الذي وجد في رحله أن يسلم برقبته إلى المسروق منه فيسترقه سنة وكان ذلك سنة آل يعقوب في حكم السارق وكان في حكم ملك مصر أن يضرب السارق ويغرم ضعفي قيمة المسروق وكان هذا في شرعهم في ذلك الزمان يجري مجرى القطع في شرعنا فأراد يوسف أن يأخذ بحكم أبيه في السارق فلذلك رد الحكم إليهم ، والمعنى أن جزاء السارق أن يستعبد سنة جزاء له على جرمه وسرقته (فَهُوَ جَزاؤُهُ) يعني هذا الجزاء جزاؤه (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) يعني مثل هذا الجزاء وهو أن يسترقّ السارق سنة نجزي الظالمين ثم قيل إن هذا الكلام من بقية كلام إخوة يوسف وقيل هو من كلام أصحاب يوسف فعلى هذا إن إخوة يوسف لما قالوا جزاء السارق أن يسترق سنة قال أصحاب يوسف كذلك نجزي الظالمين يعني السارقين.

قوله عزوجل : (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) قال أهل التفسير إن إخوة يوسف لما أقروا أن جزاء السارق أن يسترق سنة قال أصحاب يوسف لا بد من تفتيش رحالكم فردوهم إلى يوسف فأمر بتفتيشها بين يديه فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه لإزالة التهمة فجعل يفتش أوعيتهم واحدا واحدا.

قال قتادة : ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر وعاء إلا استغفر تأثما مما قذفهم به حتى لم يبق إلا رحل بنيامين قال ما أظن هذا أخذ شيئا قال إخوته والله لا نتركك حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا فلما فتحوا متاعه وجدوا الصواع فيه فذلك قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) إنما أنّث الكناية لأنه ردها إلى السقاية ، وقيل : إن الصواع يذكر ويؤنث فلما أخرج الصواع من رحل بنيامين نكس إخوة يوسف رؤوسهم من الحياء وأقبلوا على بنيامين يلومونه ويقولون له ما صنعت بنا فضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل ما زال لنا منكم بلاء حتى أخذت هذا الصواع ، فقال بنيامين : بل بنو راحيل ما زال لهم منكم بلاء ذهبتم بأخي فأهلكتموه

٥٤١

في البرية إن الذي وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم قالوا فأخذ بنيامين رقيقا ، وقيل : إن المنادي وأصحابه هم الذين تولوا تفتيش رحالهم وهم الذين استخرجوا الصواع من رحل بنيامين فأخذه برقبته وردوه إلى يوسف (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) يعني ومثل ذلك الكيد كدنا ليوسف وهو إشارة إلى الحكم الذي ذكره إخوة يوسف باسترقاق السارق أي مثل ذلك الحكم الذي ذكره إخوة يوسف حكمنا ليوسف ولفظ الكيد مستعار للحيلة والخديعة وهذا في حق الله عزوجل محال فيجب تأويل هذه اللفظة بما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى فنقول الكيد هنا جزاء الكيد يعني كما فعلوا بيوسف بأن حكموا أن جزاء السارق أن يسترق كذلك ألهمنا يوسف حتى دس الصواع في رحل أخيه ليضمه إليه على ما حكم به إخوته ، وقال ابن الأعرابي : الكيد التدبير بالباطل وبحق فعلى هذا يكون المعنى كذلك دبرنا ليوسف وقيل : صنعنا ليوسف ، وقال ابن الأنباري : كدنا وقع خبرا من الله عزوجل عليّ خلاف معناه في أوصاف المخلوقين فإنه إذا أخبر به عن مخلوق كان تحته احتيال وهو في موضع فعل الله معرى من المعاني المذمومة ويخلص بأنه وقع بمن يكيده تدبير ما يريده به من حيث لا يشعر ولا يقدر على دفعه فهو من الله مشيئة بالذي يكون من أجل أن المخلوق إذا كاد المخلوق في ستر عنه ما ينويه ويضمره له من الذي يقع به من الكيد فهو من الله تعالى أستر إذ هو ما ختم به عاقبته والذي وقع بإخوة يوسف من كيد الله هو ما انتهى إليه شأن يوسف من ارتفاع المنزلة وتمام النعمة وحيث جرى الأمر على غير ما قدر من إهلاكه وخلوص أبيهم له بعده وكل ذا جرى بتدبير الله تعالى وخفي لطفه سماه كيدا لأنه أشبه كيد المخلوقين فعلى هذا يكون كيد الله عزوجل ليوسف عليه الصلاة والسلام عائدا إلى جميع ما أعطاه الله وأنعم به عليه على خلاف تدبيره وإخوته من غير أن يشعروا بذلك وقوله تعالى : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) يعني في حكم الملك وقضائه لأنه كان في حكم الملك أن السارق يضرب ويغرم ضعفي قيمة المسروق يعني في حكم الملك وقضائه فلم يتمكن يوسف من حبس أخيه عنده في حكم الملك فالله تعالى ألهم يوسف ما دبره حتى وجد السبيل إلى ذلك (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) يعني أن ذلك الأمر كان بمشيئة الله وتدبيره لأن ذلك كله كان إلهاما من الله ليوسف وإخوته حتى جرى الأمر على وفق المراد (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) يعني بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته وفي هذه الآية دلالة على أن العلم الشريف أشرف المقامات وأعلى الدرجات لأن الله تعالى مدح يوسف ورفع درجته على إخوته بالعلم وبما ألهمه على وجه الهداية والصواب في الأمور كلها (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) قال ابن عباس : فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فوق كل عالم لأنه هو الغني بعلمه عن التعليم وفي الآية دليل على أن إخوة يوسف كانوا علماء وكان يوسف أعلم منهم ، قال ابن الأنباري : يجب أن يتهم العالم نفسه ويستشعر التواضع لمواهب ربه تعالى ولا يطمع نفسه في الغلبة لأنه لا يخلو عالم من عالم فوقه.

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨))

قوله تعالى : (قالُوا) يعني إخوة يوسف (إِنْ يَسْرِقْ) يعني بنيامين الصواع (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) يعني يوسف ظاهر الآية يقتضي أن إخوة يوسف قالوا للملك إن هذا الأمر ليس بغريب منه فإن أخاه الذي هلك كان سارقا أيضا وكان غرضهم من هذا الكلام أنّا لسنا على طريقته ولا على سيرته بل هذا وأخوه كان على هذه الطريقة وهذه السيرة لأنهما من أم أخرى غير أمنا.

٥٤٢

واختلفوا في السرقة التي نسبوها إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فقال سعيد بن جبير وقتادة : وكان لجده أبي أمه صنم وكان يعبده فأخذه يوسف وكسره وألقاه في الطريق لئلا يعبده ، وقال مجاهد : إن يوسف جاءه سائل يوما فأخذ بيضة من البيت فناولها له ، وقال سفيان بن عيينة أخذ دجاجة من الطير الذي كان في بيت يعقوب فأعطاها سائلا ، وقال وهب : كان يخبئ الطعام من المائدة للفقراء.

وذكر محمد بن إسحاق : إن يوسف كان عند عمته ابنة إسحاق بعد موت أمه راحيل فحضنته عمته وأحبته حبا شديدا فلما ترعرع وكبر وقعت محبة يعقوب عليه فأحبه فقال لأخته يا أختاه سلمي إلي يوسف فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة واحدة فقالت لا أعطيكه فقال لها والله ما أنا بتاركه عندك فقالت دعه عندي أياما أنظر إليه لعل ذلك يسليني عنه ففعل ذلك فعمدت إلى منطقة كانت لإسحاق وكانوا يتوارثونها بالكبر وكانت أكبر أولاد إسحاق فكانت عندها فشدت المنطقة على وسط يوسف تحت ثيابه وهو صغير لا يشعر ثم قالت لقد فقدت منطقة إسحاق ففتشوا أهل البيت فوجودها مع يوسف فقالت إنه لسلم لي يعني يوسف فقال يعقوب إن كان قد فعل فهو سلم لك فأمسكته عندها حتى ماتت فلذلك قال إخوة يوسف إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل يعنون هذه السرقة قال ابن الأنباري : وليس في هذه الأفعال كلها ما يوجب السرقة ولكنها تشبه السرقة فعيروه بها عند الغضب (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) في هاء الكناية ثلاثة أقوال : أحدها : أن الضمير يرجع إلى الكلمة التي بعدها وهي قوله تعالى (قالَ) يعني يوسف (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس والثاني أن الضمير يرجع إلى الكلمة التي قالوها في حقه وهي قولهم فقد سرق أخ له من قبل وهذا معنى قول أبي صالح عن ابن عباس ، فعلى هذا القول يكون المعنى فأسر يوسف جواب الكلمة التي قالوها في حقه ولم يجبهم عليها والثالث أن الضمير يرجع إلى الحجة فيكون المعنى على هذا القول فأسر يوسف الاحتجاج عليهم في ادعائهم عليه السرقة ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا يعني منزلة عند الله ممن رميتموه بالسرقة لأنه لم يكن من يوسف سرقة في الحقيقة وخيانتكم حقيقة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) يعني بحقيقة ما تقولون.

قوله عزوجل : (قالُوا) يعني إخوة يوسف (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) يخاطبون بذلك الملك (إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) قال أصحاب الأخبار والسير إن يوسف عليه الصلاة والسلام لما استخرج الصواع من رحل أخيه بنيامين نقره وأدناه إلى أذنه ثم قال إن صواعي هذا يخبرني أنكم اثنا عشر رجلا لأب واحد وإنكم انطلقتم بأخ لكم من أبيكم فبعتموه قال بنيامين أيها الملك سل صواعك هذا من جعله في رحلي فنقره ثم قال إن صواعي غضبان وهو يقول كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت قالوا فغضب روبيل لذلك وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء وكان إذا صاح ألقت كل حامل حملها إذا سمعت صوته وكان من هذا إذا مسه أحد من ولد يعقوب يسكن غضبه وكان أقوى الإخوة وأشدهم ، وقيل : كانت هذه صفة شمعون بن يعقوب ، وقيل : إنه قال لإخوته كم عدد الأسواق بمصر قالوا عشرة قال اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق فدخلوا على يوسف فقال روبيل أيها الملك لتردن علينا أخانا أو لأصيحن صيحة لا يبقى بمصر امرأة حامل إلا وضعت ولدها وقامت كل شعرة في جسد روبيل حتى خرجت من ثيابه فقال يوسف لابن له صغير قم إلى جنب هذا فمسه أو خذ بيده فأتى له فلما مسه سكن غضبه فقال لإخوته : من مسني منكم قالوا لم يصبك منا أحد فقال روبيل إن هذا بذر من بذر يعقوب وقيل إنه غضب ثانيا فقام إليه يوسف فوكزه برجله وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض وقال أنتم يا معشر العبرانيين تزعمون أن لا أحد أشد منكم فلما رأوا ما نزل بهم ورأوا أن لا سبيل إلى تخليصه خضفوا وذلوا وقالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا يعني في السن ويحتمل أن يكون كبيرا في القدر لأنه نبي من أولاد الأنبياء (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) يعني

٥٤٣

بدلا عنه لأنه يحبه ويتسلى به عن أخيه الهالك (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) يعني في أفعالك كلها وقيل من المحسنين إلينا في توفية الكيل وحسن الضيافة ورد البضاعة إلينا وقيل إن رددت بنيامين إلينا وأخذت أحدنا مكانه كنت من المحسنين.

(قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠))

(قالَ مَعاذَ اللهِ) يعني : قال يوسف أعوذ بالله معاذا (أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) لم يقل سرق تحرزا عن الكذب لأنه يعلم أخاه ليس بسارق (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) يعني إن أخذنا بريئا بذنب غيره فإن قلت كيف استجاز يوسف أن يعمل مثل هذه الأعمال بأبيه ولم يخبره بمكانه وحبس أخاه أيضا عنده مع علمه بشدة وجد أبيه عليه ففيه ما فيه من العقوق وقطيعة الرحم وقلة الشفقة وكيف يجوز ليوسف مع علو منصبه من النبوة والرسالة أن يزور على إخوته ويروج عليهم مثل هذا مع ما فيه من الإيذاء لهم فكيف يليق به هذا كله قلت قد ذكر العلماء عن هذا السؤال أجوبة كثيرة وأحسنها وأصحها أنه إنما فعل ذلك بأمر الله تعالى له لا عن أمره وإنما أمره الله بذلك ليزيد بلاء يعقوب فيضاعف له الأجر على البلاء ويلحقه بدرجة آبائه الماضين ولله تعالى أسرار لا يعلمها أحد من خلقه فهو المتصرف في خلقه بما يشاء وهو الذي أخفى خبر يوسف عن يعقوب في طول هذه المدة مع قرب المسافة لما يريد أن يدبره فيهم والله أعلم بأحوال عباده.

قوله عزوجل : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) يعني أيسوا من يوسف أن يجيبهم لما سألوه ، وقيل : أيسوا من أخيهم أن يرد عليهم ، وقال أبو عبيدة : استيأسوا أي استيقنوا أن الأخ لا يرد إليهم (خَلَصُوا نَجِيًّا) يعني خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون ليس فيهم غيرهم (قالَ كَبِيرُهُمْ) يعني في العقل والعلم لا في السن ، قال ابن عباس : الكبير يهوذا وكان أعقلهم وقال مجاهد هو شمعون وكانت له الرئاسة على إخوته ، وقال قتادة والسدي والضحاك : هو روبيل وكان أكبرهم سنا وأحسنهم رأيا في يوسف لأنه نهاهم عن قتله (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ) يعني يعقوب (قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً) يعني عهدا (مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) يعني قصرتم في أمر يوسف حتى ضيعتموه (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) يعني الأرض التي أنا فيها وهي أرض مصر والمعنى فلن أخرج من أرض مصر ولا أفارقها على هذه الصورة (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) يعني في الخروج من أرض مصر فيدعوني إليه (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) برد أخي عليّ أو بخروجي معكم وترك أخي أو يحكم الله لي بالسيف فأقاتلهم حتى أسترد أخي (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنه يحكم بالحق والعدل والإنصاف ، والمراد من هذا الكلام الالتجاء إلى الله تعالى في إقامة عذره عند والده يعقوب عليه الصلاة والسلام.

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣))

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ) يعني يقول الأخ الكبير الذي عز على الإقامة بمصر لإخوته الباقين ارجعوا إلى أبيكم يعقوب (فَقُولُوا) له (يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) إنما قالوا هذه المقالة ونسبوه إلى السرقة لأنهم شاهدوا الصواع وقد أخرج من متاع بنيامين فغلب على ظنهم أنه سرق فلذلك نسبوه إلى السرقة في ظاهر الأمر لا في حقيقة

٥٤٤

الحال ويدل على أنهم لم يقطعوا عليه بالسرقة قولهم (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) يعني ولم نقل ذلك إلا بعد أن رأينا إخراج الصواع وقد أخرج من متاعه وقيل معناه ما كانت منا شهادة في عمرنا على شيء إلا بما علمناه وهذه ليست بشهادة إنما هو خبر عن صنيع ابنك أنه سرق بزعمهم فيكون المعنى أن ابنك سرق في زعم الملك وأصحابه لا أنّا نشهد عليه بالسرقة : وقرأ ابن عباس والضحاك : سرق بضم السين وكسر الراء وتشديدها أي نسب إلى السرقة واتهم بها وهذه القراءة لا تحتاج إلى تأويل ومعناها أن القوم نسبوه إلى السرقة إلا أن هذه القراءة ليست مشهورة فلا تقوم بها حجة والقراءة الصحيحة المشهورة هي الأولى وقوله وما شهدنا إلا بما علمنا يعني وما قلنا هذا إلا بما علمنا فيما رأينا إخراج الصواع من متاعه ، وقيل : معناه ما كانت منا شهادة في عمرنا على شيء إلا بما عملناه وليست هذه شهادة وإنما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم. وقيل : قال لهم يعقوب هب أنه سرق فما يدري هذا الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته إلا بقولكم قالوا ما شهدنا عنده أن السارق يسترق إلا بما علمنا من الحكم وكان الحكم كذلك عند الأنبياء قبله ويعقوب وبنيه.

وأورد على هذا القول كيف جاز ليعقوب إخفاء هذا الحكم حتى ينكر على بنيه ذلك.

وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون ذلك الحكم كان مخصوصا بما إذا كان المسروق منه مسلما فلهذا أنكر عليهم إعلام الملك بهذا الحكم لظنه أنه كافر (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) قال مجاهد وقتادة : يعني ما كنا نعلم أن ابنك سرق ويصير أمرنا إلى هذا ولو عملنا ذلك ما ذهبنا به معنا وإنما قلنا ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه منه سبيل ، و

قال ابن عباس : ما كنا لليله ونهاره ومجيئه وذهابه حافظين وقيل معناه إن حقيقة الحال غير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله فلعل الصواع دس في رحله ونحن لا نعلم بذلك (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) يعني واسأل أهل القرية إلا أن حذف المضاف للإيجاز ومثل هذا النوع من المجاز مشهور في كلام العرب والمراد بالقرية مصر ، وقال ابن عباس : هي قرية من قرى مصر كان قد جرى فيها حديث السرقة والتفتيش (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) يعني واسأل القافلة التي كنا فيها وكان صحبهم قوم من كنعان من جيران يعقوب (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) يعني فيما قلناه وإنما أمرهم أخوهم الذي أقام بمصر بهذه المقالة مبالغة في إزالة التهمة عن أنفسهم عند أبيهم لأنهم كانوا متهمين عنده بسبب واقعة يوسف (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) فيه اختصار تقديره فرجعوا إلى أبيهم فأخبروه بما جرى لهم في سفرهم ذلك وبما قال لهم كبيرهم وأمرهم أن يقولوه لأبيهم فعند ذلك قال لهم يعقوب بل سولت يعني بل زينت لكم أنفسكم أمرا وهو حمل أخيكم معكم إلى مصر لطلب نفع عاجل فآل أمركم إلى ما آل ، وقيل : معناه بل خيلت لكم أنفسكم أنه سرق ما سرق (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) تقدم تفسيره في أول السورة.

وقوله (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) يعني بيوسف وبنيامين والأخ الثالث الذي أقام بمصر وإنما قال يعقوب هذه المقالة لأنه لما طال حزنه واشتد بلاؤه ومحنته علم أن الله سيجعل له فرجا ومخرجا عن قريب فقال ذلك على سبيل حسن الظن بالله عزوجل لأنه إذا اشتد البلاء وعظم كان أسرع إلى الفرج ، وقيل : إن يعقوب علم بما يجري عليه وعلى بنيه من أول الأمر وهو رؤيا يوسف وقوله «يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا» فلما تناهى الأمر قال عسى الله أن يأتيني بهم جميعا (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) يعني بحزني ووجدي عليهم (الْحَكِيمُ) فيما يدبره ويقضيه.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦))

٥٤٥

قوله تعالى : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) يعني وأعرض يعقوب عن بنيه حين بلغوه خبر بنيامين فحينئذ تناهى حزنه واشتد بلاؤه وبلغ جهده وهيج حزنه على يوسف فعند ذلك أعرض عنهم (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) الأسف أشد الحزن وإنما جدد حزنه على يوسف عند وجود هذه الواقعة لأن الحزن القديم إذا صادفه حزن آخر كان ذلك أوجع للقلب وأعظم لهيجان الحزن الأول كما قال متمم بن نويرة لما رأى قبرا جيدا جدد حزنه على أخيه مالك :

يقول أتبكي كل قبر رأيته

لقد ثوى بين اللوى والدكادك

فقلت له إن الأسى يبعث الأسى

فدعني فهذا كله قبر مالك

فأجاب بأن الحزن يجدد الحزن ، وقيل : إن يوسف وبنيامين لما كانا من أم واحدة كان يعقوب يتسلى عن يوسف ببنيامين فلما حصل فراق بنيامين زاد حزنه عليه ووجده وجدد حزنه على يوسف لأن يوسف كان أصل المصيبة ، وقد اعترض بعض الجهال على يعقوب عليه‌السلام في قوله يا أسفا على يوسف فقال هذه شكاية وإظهار جزع فلا يليق بعلو منصبه ذلك وليس الأمر كما قال هذا الجاهل المعترض لأن يعقوب عليه الصلاة والسلام شكا إلى الله لا منه فقوله يا أسفا على يوسف معناه يا رب ارحم أسفي على يوسف وقد ذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال : نداء يعقوب بالأسف في اللفظ من المجاز يعني به غير المظهر في اللفظ وتلخيصه يا إلهي ارحم أسفي أو أنت رائي أسفي أو هذا أسفي فنادى الأسف في اللفظ والمنادى سواه في المعنى ولا مأثم إذ لم ينطلق اللسان بكلام مؤثم لأنه لم يشك إلا إلى ربه عزوجل فلما كان قوله يا أسفا على يوسف شكوى إلى ربه كان غير ملوم في شكواه وقيل إن يعقوب لما عظمت مصيبته واشتد بلاؤه وقويت محنته قال يا أسفا على يوسف أي أشكو إلى الله شدة أسفي على يوسف ولم يشكه إلى أحد من الخلق بدليل قوله إنما أشكو بثي وحزني إلى الله (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي عمي من شدة الحزن على يوسف قال مقاتل لم يبصر شيئا ست سنين ، وقيل : إنه ضعف بصره من كثرة البكاء وذلك أن الدمع يكثر عند غلبة البكاء فتصير العين كأنها بيضاء من ذلك الماء الخارج من العين (فَهُوَ كَظِيمٌ) أي مكظوم وهو الممتلئ من الحزن الممسك عليه لا يبثه ، قال قتادة : وهو الذي يردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيرا ، وقال الحسن : كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقيا ثمانون سنة لم تجف عينا يعقوب وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله منه. وقال ثابت البناني ووهب بن منبه والسدي : إن جبريل عليه الصلاة والسلام دخل على يوسف وهو في السجن فقال هل تعرفني أيها الصديق قال يوسف أرى صورة طاهرة قال إني رسول رب العالمين وأنا الروح الأمين فقال يوسف فما أدخلك مدخل المذنبين وأنت أطيب الطيبين ورأس المقربين وأمين رب العالمين قال ألم تعلم يا يوسف أن الله يطهر الأرض بطهر النبيين وأن الأرض التي يدخلونها هي أطهر الأرضين وأن الله قد طهر بك الأرض والسجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين المخلصين قال يوسف كيف لي باسم الصديقين وتعدني من الصالحين المخلصين الطاهرين وقد أدخلت مدخل المذنبين قال له إنه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربك فلذلك سماك الله من الصديقين وعدك من المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين قال يوسف فهل لك علم من يعقوب أيها الروح الأمين قال نعم قد ذهب بصره وابتلاه الله بالحزن عليك فهو كظيم ووهب له الصبر الجميل قال فما قدر حزنه قال حزن سبعين ثكلاء قال فما له من الأجر يا جبريل قال أجر مائة شهيد قال أفتراني لاقيه قال نعم فطابت نفس يوسف وقال ما أبالي مما لقيت إن رأيته.

قوله عزوجل : (قالُوا) يعني إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام لأبيهم (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) يعني لا تزال تذكر يوسف ولا تفتر عن حبه يقال ما فتئ يفعل كذا أي ما زال ولا محذوفة في جواب القسم لأن موضعها معلوم فحذفت للتخفيف كقول امرئ القيس :

٥٤٦

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

أي لا أبرح قاعدا وقوله (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) قال ابن عباس يعني دنفا وقال مجاهد الحرض ما دون الموت يعني قريبا من الموت ، وقال ابن إسحاق : يعني فاسدا لا عقل له والحرض الذي فسد جسمه وعقله وقيل ذائبا من الهم وأصل الحرض الفساد في الجسم والعقل من الحزن أو الهم ومعنى الآية حتى تكون دنف الجسم مخبول العقل يعني لا تنتفع بنفسك من شدة الحزن والهم والأسف (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) يعني من الأموات.

فإن قلت كيف حلفوا على شيء لم يعلموا حقيقته قطعا؟.

قلت : إنهم بنوا الأمر على الأغلب الظاهر أي نقوله ظنا منا أن الأمر يصير إلى ذلك (قالَ) يعني يعقوب عند ما رأى قولهم له وغلظتهم عليه (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) أصل البث إثارة الشيء وتفريقه وبث النفس ما انطوت عليه من الغم والشر ، قال ابن قتيبة : البث أشد الحزن وذلك لأن الإنسان إذا ستر الحزن وكتمه كان هما فإذا ذكره لغيره كان بثا فالبث أشد الحزن والحزن الهم فعلى هذا يكون المعنى إنما أشكو حزني العظيم وحزني القليل إلى الله لا إليكم.

قال ابن الجوزي : روى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه من حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «كان ليعقوب أخ مؤاخ فقال له ذات يوم يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك وما الذي قوس ظهرك قال أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين فأتاه جبريل فقال يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك أما تستحي أن تشكو إلى غيري فقال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فقال جبريل الله أعلم بما تشكو» وقيل : إنه دخل على يعقوب جار له فقال له يا يعقوب مالي أراك قد تهشمت بالضعف وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك فقال هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف فأوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي قال قد غفرتها لك فكان بعد ذلك إذا سئل يقول إنما أشكو بثي وحزني إلى الله تعالى وقيل إن الله أوحى إليه وعزتي وجلالي لا أكشف ما بك حتى تدعوني فعند ذلك قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله تعالى ثم قال أي رب أما ترحم الشيخ الكبير أذهبت بصري وقوست ظهري فاردد على ريحانتي أشممها شمة قبل أن أموت ثم اصنع ما شئت فأتاه جبريل فقال يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك أبشر فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك أتدري لم وجدت عليك لأنكم ذبحتم شاة فقام على بابكم فلان المسكين وهو صائم فلم تطعموه منها شيئا وإن أحب عبادي إلي الأنبياء ثم المساكين اصنع طعاما وادع إليه المساكين فصنع طعاما ثم قال من كان صائما فليفطر الليلة عند آل يعقوب وكان بعد ذلك إذا تغدى أمر مناديا ينادي من أراد أن يتغدى فليأت آل يعقوب وإذا أفطر أمر أن ينادي من أراد أن يفطر فليأت آل يعقوب فكان يتغدى ويتعشى مع المساكين ، وقال وهب بن منبه أوحى الله تعالى إلى يعقوب أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة قال يا رب لا قال لأنك شويت عناقا وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه وقيل إن سبب ابتلاء يعقوب أنه ذبح عجلا بين يدي أمه وهي تخور فلم يرحمها.

فإن قلت هل في هذه الروايات ما يقدح في عصمة الأنبياء؟

قلت : لا وإنما عوقب يعقوب بهذا لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين وإنما يطلب من الأنبياء من الأعمال على قدر منصبهم وشريف رتبتهم ويعقوب عليه الصلاة والسلام من أهل بيت النبوة والرسالة ومع ذلك فقد ابتلى الله كل واحد من أنبيائه بمحنة فصبر وفوض أمره إلى الله فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ألقي في النار فصبر ولم يشك إلى أحد وإسماعيل ابتلي بالذبح فصبر وفوض أمره إلى الله وإسحاق ابتلي بالعمى فصبر ولم يشك إلى أحد ويعقوب ابتلي بفقده ولده يوسف وبعده بنيامين ثم عمي بعد ذلك أو ضعف بصره من كثرة البكاء

٥٤٧

على فقدهما وهو مع ذلك صابر لم يشك إلى أحد شيئا مما نزل به وإنما كانت شكايته إلى الله عزوجل بدليل قوله إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فاستوجب بذلك المدح العظيم والثناء الجميل في الدنيا والدرجات العلى في الآخرة مع من سلف من أبويه إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام.

وأما دمع العين وحزن القلب فلا يستوجب به ذما ولا عقوبة لأن ذلك ليس إلى اختيار الإنسان فلا يدخل تحت التكليف بدليل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكى على ولده إبراهيم عند موته وقال «إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وما نقول إلا ما يرضي ربنا» فهذا القدر لا يقدر الإنسان على دفعه عن نفسه فصار مباحا لا حرج فيه على أحد من الناس وقوله (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) يعني أنه تعالى من رحمته وإحسانه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب وفيه إشارة إلى أنه كان يعلم حياة يوسف ويتوقع رجوعه إليه وروى أن ملك الموت زار يعقوب فقال له يعقوب أيها الملك الطيب ريحه الحسن صورته الكريم على ربه هل قبضت روح ابني يوسف في الأرواح فقال لا فطابت نفس يعقوب وطمع في رؤيته فلذلك قال وأعلم من الله ما لا تعلمون وقيل معناه وأعلم أن رؤيا يوسف حق وصدق وإني وأنتم سنسجد له وقال السدي لما أخبره بنوه بسيرة ملك مصر وكمال حاله في جميع أقواله وأفعاله أحسست نفس يعقوب وطمع أن يكون هو يوسف فعند ذلك قال يعني يعقوب.

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩))

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) التحسس طلب الخبر بالحاسة وهو قريب من التجسس بالجيم وقيل إن التحسس بالحاء يكون في الخير وبالجيم يكون في الشر ومنه الجاسوس وهو الذي يطلب الكشف عن عورات الناس قال ابن عباس التمسوا قال ابن الأنباري يقال تحسست عن فلان ولا يقال من فلان وقال هنا من يوسف وأخيه لأنه أقيم من مقام عن قال ويجوز أن يقال من للتبعيض ويكون المعنى تحسسوا خبرا من أخبار يوسف وأخيه ، روي عن عبد الله بن يزيد عن أبي فروة أن يعقوب كتب كتابا إلى يوسف عليهما الصلاة والسلام حين حبس عنده بنيامين : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى ملك مصر أما بعد فإنا أهل بيت وكل بنا البلاء أما جدي إبراهيم فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله بردا وسلاما وأما أبي فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه ففداه الله وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي ثم كان لي ابن آخر وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به وإنك حبسته وزعمت أنه سرق وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته إليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك فلما قرأ يوسف كتاب أبيه اشتد بكاؤه وعيل صبره وأظهر نفسه لإخوته على ما سنذكره إن شاء الله تعالى فذلك قوله تعالى يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه (وَلا تَيْأَسُوا) أي ولا تقنطوا (مِنْ رَوْحِ اللهِ) يعني من رحمة الله وقيل من فضل الله وقيل من فرج الله (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) يعني أن المؤمن على خير يرجوه من الله فيصبر عند البلاء فينال به خيرا ويحمد عند الرخاء فينال به خيرا والكافر بضد ذلك.

قوله تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) فيه حذف واختصار تقديره فخرجوا من عند أبيهم قاصدين مصر فلما

٥٤٨

دخلوا عليه يعني على يوسف (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) يعنون يا أيها الملك والعزيز القادر الممتنع وكان العزيز لقب ملك مصر يومئذ (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) أي الشدة والفقر والجوع وأرادوا بأهلهم من خلفهم ومن وراءهم من العيال (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي ببضاعة رديئة كاسدة لا تنفق في ثمن الطعام إلا بتجوز من البائع.

وأصل الإزجاء في اللغة : الدفع قليلا قليلا والتزجية دفع الشيء لينساق كتزجية الريح السحاب ومنه قول الشاعر :

وحاجة غير مزجاة من الحاج

يعني هي قليلة يسيرة يمكن دفعها وسوقها لقلة الاعتناء بها وإنما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إما لنقصانها أو لرداءتها أو لمجموعهما فلذلك اختلفت عبارات المفسرين في معنى هذه البضاعة المزجاة ، فقال ابن عباس : كانت دراهم رديئة زيوفا وقيل كانت خلق الغرائر والحبال ، وقيل : كانت من متاع الأعراب من الصوف والأقط ، وقال الكلبي ومقاتل : كانت حبة الخضراء وقيل كانت سويق المقل وقيل كانت الأدم والنعال ، وقال الزجاج : سميت هذه البضاعة القليلة الرديئة مزجاة من قولهم : فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل من العيش والمعنى جئنا ببضاعة مزجاة لندافع بها الزمان وليست مما يتسع بها ، وقيل : إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن يدفعها (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) يعني أعطنا ما كنت تعطينا من قبل بالثمن الجيد الوافي والمعنى إنا نريد أن تقيم لنا الزائد مقام الناقص والجيد مقام الرديء (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) يعني وتفضل علينا بما بين الثمين الجيد والرديء ولا تنقصنا ، هذا قول أكثر المفسرين قال ابن الأنباري : وكان الذي يسألونه من المسامحة يشبه الصدقة وليس به واختلف العلماء هل كانت الصدقة حلالا للأنبياء قبل نبينا أم لا فقال سفيان بن عيينة : إن الصدقة كانت حلالا للأنبياء قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستدل بهذه الآية وأنكر جمهور العلماء ذلك وقالوا إن حال الأنبياء كلهم واحد في تحريم الصدقة عليهم لأنهم ممنوعون من الخضوع للمخلوقين والأخذ منهم ، والصدقة أوساخ الناس فلا تحل لهم لأنهم مستغنون بالله عمن سواه.

وأجيب عن قوله وتصدق علينا أنهم طلبوا منه أن يجريهم على عادتهم من المسامحة وإيفاء الكيل ونحو ذلك مما كان يفعل بهم من الكرامة وحسن الضيافة لا نفس الصدقة وكره الحسن ومجاهد أن يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق علينا لأن الصدقة لا تكون إلا ممن يبتغي الثواب وروي أن الحسن سمع رجلا يقول اللهم تصدق عليّ فقال إن الله لا يتصدق إنما يتصدق من يبغي الثواب قل اللهم أعطني وتفضل عليّ ، وقال ابن جريج والضحاك وتصدق علينا يعني برد أخينا علينا (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) يعني بالثواب الجزيل وقال الضحاك لم يقولوا إن الله يجزيك لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن (قالَ) يعني قال يوسف لإخوته (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) وقد اختلفوا في السبب الذي من أجله حمل يوسف وهيجه على هذا القول ، فقال ابن إسحاق : ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام أدركته رقة على إخوته فباح بالذي كان يكتم ، وقيل : إنه أخرج لهم نسخة الكتاب الذي كتبوه ببيعه من مالك وفي آخره وكتبه يهوذا فلما قرءوا الكتاب اعترفوا بصحته وقالوا يا أيها الملك إنه كان لنا عبد فبعناه منه فغاظ ذلك يوسف وقال : إنكم تستحقون العقوبة وأمر بقتلهم فلما ذهبوا بهم ليقتلوهم قال يهوذا كان يعقوب يبكي ويحزن لفقد واحد منا فكيف إذا أتاه الخبر بقتل بنيه كلهم ثم قالوا إن كنت فاعلا ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا فإنه بمكان كذا وكذا فذلك حين أدركته الرقة عليهم والرحمة فبكى وقال هذا القول ، وقيل : إن يوسف لما قرأ كتاب أبيه لم يتمالك أن بكى وقال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه وهذا استفهام يفيد تعظيم أمر هذه الواقعة ومعناه ما أعظم ما ارتكبتم من أمر يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه من قطيعة الرحم وتفريقه من أبيه وهذا كما يقال للمذنب هل تدري من عصيت وهل تعرف من خالفت ولم يرد بهذا نفس الاستفهام ولكنه أراد

٥٤٩

تفظيع الأمر وتعظيمه ويجوز أن يكون المعنى هل علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم الله إياهما من المكروه.

واعلم أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فإن قلت الذي فعلوه بيوسف معلوم ظاهر فما الذي فعلوه بأخيه من المكروه حتى يقول لهم هذه المقالة فإنهم لم يسعوا في حبسه ولا أرادوا ذلك.

قلت : إنهم لما فرقوا بينه وبين أخيه يوسف نغصوا عليه عيشه وكانوا يؤذونه كلما ذكر يوسف ، وقيل : إنهم قالوا له لما اتهم بأخذ الصواع ما رأينا منكم يا بني راحيل خيرا (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) هذا يجري مجرى العذر لهم يعني أنكم أقدمتم على هذا الفعل القبيح المنكر حال كونكم جاهلين وهو وقت الصبا وحالة الجهل وقيل جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف.

(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢))

قوله عزوجل : (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) قرئ على سبيل الاستفهام وحجة هذه القراءة قال ابن عباس لما قال لهم هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه تبسم فرأوا ثناياه كاللؤلؤ تشبه ثنايا يوسف فشبهوه بيوسف فقالوا استفهاما أإنك لأنت يوسف؟ ، وقرئ على الخبر وحجته ما قال ابن عباس أيضا في رواية أخرى عنه : إن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج على رأسه وكان له في قرنه علامة تشبه الشامة وكان ليعقوب مثلها ولإسحاق مثلها ولسارة مثلها فعرفوه بها وقالوا أنت يوسف ، وقيل : قالوه على سبيل التوهم ولم يعرفوه حتى (قالَ أَنَا يُوسُفُ) قال بعض العلماء إنما أظهر الاسم في قوله أنا يوسف ولم يقل أنا هو تعظيما لما نزل به من ظلم إخوته له وما عوضه الله من النصر والظفر والملك فكأنه قال أنا يوسف المظلوم الذي ظلمتموني وقصدتم قتلي بأن ألقيتموني في الجب ثم بعتموني بأبخس الأثمان ثم صرت إلى ما ترون فكانت تحت ظهور الاسم هذه المعاني كلها ولهذا قال (وَهذا أَخِي) وهم يعرفونه لأنه قصد به أيضا وهذا أخي المظلوم كما ظلمتموني ثم صرت أنا وهو إلى ما ترون وهو قوله : (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بأن جمع بيننا وقيل منّ علينا بكل عز وخير في الدنيا والآخرة ، وقيل : منّ علينا بالسلامة في ديننا ودنيانا (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) يعني يتقي الزنا ويصبر على العزوبة قاله ابن عباس ، وقال مجاهد : يتقي المعصية ويصبر على السجن ، وقيل : يتقي الله بأداء فرائضه ويصبر عما حرم الله (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) يعني أجر من كان هذا حاله (قالُوا) يعني قال إخوة يوسف معتذرين إليه مما صدر منهم في حقه (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) أي اختارك وفضلك علينا يقال آثرك الله إيثارا أي اختارك ويستعار الأثر للفضل والإيثار للتفضيل والمعنى لقد فضلك الله علينا بالعلم والعقل وقال الضحاك عن ابن عباس بالملك وقال أبو صالح عنه بالصبر وقيل بالحلم والصفح علينا وقيل بالحسن وسائر الفضائل التي أعطاها الله عزوجل له دون إخوته وقيل فضله عليهم بالنبوة وأورد على هذا القول بأن إخوته كانوا أنبياء أيضا فليس له عليهم فضل في ذلك وأجيب عنه بأن يوسف فضل عليهم بالرسالة مع النبوة فكان أفضل منهم بهذا الاعتبار لأن من جمعت له النوبة والرسالة كان أفضل ممن خص بالنبوة فقط (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) يعني وما كنا في صنعنا بك إلا خاطئين ولهذا اختير لفظ الخاطئ على المخطئ والفرق بينهما أن يقال خطئ خطأ إذا تعمد وأخطأ إذا كان غير متعمد وقيل يجوز أن يكون آثر لفظ خاطئين على مخطئين لموافقة رؤوس الآي لأن خاطئين أشبه بما قبلها (قالَ) يعني

٥٥٠

يوسف (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) يعني لا تعيير ولا توبيخ عليكم ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يوبخها ولا يثرب» أي لا يعيرها بالزنا بعد إقامة الحد عليها وفي محل قوله (الْيَوْمَ) قولان أحدهما أنه يرجع إلى ما قبله فيكون التقدير لا تثريب عليكم اليوم والمعنى أن هذا اليوم التثريب والتقريع والتوبيخ وأنا لا أقرعكم اليوم ولا أوبخكم ولا أثرب عليكم ، فعلى هذا يحسن الوقف على قوله لا تثريب عليكم اليوم ويبتدئ بقوله (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ).

والقول الثاني : أن اليوم متعلق بقوله يغفر الله لكم فعلى هذا يحسن الوقف على قوله لا تثريب عليكم ويبتدئ باليوم يغفر الله لكم كأنه لما نفى عنهم التوبيخ والتقريع بقوله لا تثريب عليكم بشرهم بقوله اليوم يغفر الله لكم (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ولما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن حال أبيه فقال ما حال أبي بعدي؟ قالوا ذهب بصره من كثرة البكاء عليك فأعطاهم قميصه وقال.

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥))

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) قال الضحاك كان هذا القميص من نسج الجنة ، وقال مجاهد : أمره جبريل أن يرسل إليه قميصه وكان ذلك القميص قميص إبراهيم وذلك أنه لما جرد من ثيابه وألقي في النار عريانا أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فكان ذلك القميص عند إبراهيم ، فلما مات ورثه إسحاق فلما مات ورثه يعقوب فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في قصبة من فضة وسد رأسها وجعلها في عنق يوسف كالتعاويذ لما كان يخاف عليه من العين وكانت لا تفارقه فلما ألقي يوسف في البئر عريانا أتاه جبريل وأخرج ذلك القميص وألبسه إياه فلما كان هذا الوقت جاءه جبريل فأمره أن يرسل هذا القميص إلى أبيه لأن فيه ريح الجنة فلا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي في الوقت فدفع ذلك القميص يوسف إلى إخوته وقال اذهبوا بقميصي هذا (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) قال المحققون : إن علم يوسف أن إلقاء ذلك القميص على وجه يعقوب يوجب رد البصر كان بوحي الله إليه ذلك ويمكن أن يقال إن يوسف لما علم أن أباه قد عمي من كثرة البكاء عليه وضيق الصدر بعث إليه قميصه ليجد ريحه فيزول بكاؤه وينشرح صدره ويفرح قلبه فعند ذلك يزول الضعف ويقوى البصر فهذا القدر تمكن معرفته من جهة العقل وقوله (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) قال الكلبي : كانوا نحوا من سبعين إنسانا ، وقال مسروق : كانوا ثلاثة وسبعين ما بين رجل وامرأة (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) يعني خرجت من مصر وقيل من عريش مصر متوجهين إلى أرض كنعان (قالَ أَبُوهُمْ) يعني : قال يعقوب لولد ولده (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) قيل : إن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير ، وقال مجاهد : أصابت يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة أيام ، وقال ابن عباس : من مسيرة ثمان ليال وقال الحسن كان بينهما ثمانون فرسخا ، وقيل : هبت ريح فاحتملت ريح القميص إلى يعقوب فوجد يعقوب ريح الجنة فعلم أنه ليس في الأرض من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص فعلم بذلك أنه من ريح يوسف فلذلك قال : إني لأجد ريح يوسف (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أصل التفنيد من الفند وهو ضعيف الرأي وقال ابن الأنباري أفند الرجل إذا خرف وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه وقال الأصمعي : إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو الفنيد والفند فيكون المعنى لولا أن تفندوني أي تنسبوني إلى الخرف وقيل تسفهوني وقيل : تلوموني وقيل تجهلوني وهو قول ابن عباس ، وقال الضحاك تهرموني فتقولون شيخ كبير قد خرف وذهب عقله (قالُوا) يعني أولاد أولاد يعقوب وأهله

٥٥١

الذين عنده لأن أولاده لصلبه كانوا غائبين عنه (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) يعني من ذكر يوسف ولا تنساه لأنه كان عندهم أن يوسف قد مات وهلك ويرون أن يعقوب قد لهج بذكره فلذلك قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم من ذكره والضلال الذهاب عن طريق الصواب.

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨))

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) وهو المبشر بخبر يوسف ، قال ابن مسعود : جاء البشير بين يدي العير قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما هو يهوذا ، قال السدي : قال يهوذا أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إلى يعقوب وأخبرته أن يوسف أكله الذئب فأنا أذهب اليوم بالقميص وأخبره أنه حي فأفرحه كما أحزنته. قال ابن عباس : حمله يهوذا وخرج به حافيا حاسرا يعدو ومعه سبعة أرغفة فلم يستوف أكلها حتى أتى أباه وكانت المسافة ثمانين فرسخا (أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ) يعني فألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب (فَارْتَدَّ بَصِيراً) يعني فرجع بصيرا بعد ما كان قد عمي وعادت إليه قوته بعد الضعف وسروره بعد الحزن (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) يعني من حياة يوسف وأن الله يجمع بيننا ، وروي أن يعقوب قال للبشير كيف تركت يوسف قال تركته ملك مصر قال يعقوب ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال على دين الإسلام قال الآن تمت النعمة.

قوله تعالى : (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) يعني قال أولاد يعقوب حين وصلوا إليه وأخذوا يعتذرون إليه مما صنعوا به وبيوسف استغفر لنا أي اطلب لنا غفر ذنوبنا من الله (إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) يعني في صنيعنا (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) قال أكثر المفسرين : إن يعقوب أخر الدعاء والاستغفار لهم إلى وقت السحر لأنه أشرف الأوقات وهو الوقت الذي يقول الله فيه هل من داع فأستجيب له فلما انتهى يعقوب إلى وقت السحر قام إلى الصلاة متوجها إلى الله تعالى فلما فرغ رفع يديه إلى الله تعالى وقال اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لأولادي ما أتوا إلى أخيهم يوسف فأوحى الله إليه أني قد غفرت لك ولهم أجمعين قال عكرمة عن ابن عباس : إنه أخر الاستغفار لهم إلى ليلة الجمعة لأنها أشرف الأوقات قال وهب كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة نيفا وعشرين سنة وقال طاوس أخر الاستغفار إلى وقت السحر من ليلة الجمعة فوافق ذلك ليلة عاشوراء وقال الشعبي سوف أستغفر لكم ربي قال حتى أسأل يوسف فإن كان قد عفا عنكم أستغفر لكم ربي (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ) يعني لذنوب عباده (الرَّحِيمُ) بجميع خلقه قال عطاء الخراساني طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منه إلى الشيوخ ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته لا تثريب عليكم الآية وقول يعقوب سوف أستغفر لكم ربي ، قال أصحاب الأخبار إن يوسف عليه الصلاة والسلام بعث مع إخوته إلى أبيه مائتي راحلة وجهازا كثيرا ليأتوه بيعقوب وجميع أهله إلى مصر فلما أتوه تجهز يعقوب للخروج إلى مصر فجمع أهله وهم يومئذ اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وقال مسروق كانوا ثلاثة وسبعين فلما دنا يعقوب من مصر كلم يوسف الملك الأكبر يعني ملك مصر وعرفه بمجيء أبيه وأهله فخرج يوسف ومعه الملك في أربعة آلاف من الجند وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب عليه الصلاة والسلام وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يد ابنه يهوذا فلما نظر إلى الخيل والناس قال يا يهوذا هذا فرعون مصر قال لا بل هذا ابنك يوسف فلما دنا كل واحد من صاحبه أراد يوسف أن يبدأ يعقوب بالسلام فقال له جبريل لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام فقال يعقوب السلام عليك يا مذهب الأحزان ، وقيل : إنهما نزلا وتعانقا وفعلا كما يفعل الوالد بولده والولد بوالده وبكيا ، وقيل : إن يوسف قال لأبيه يا أبت بكيت حتى

٥٥٢

ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا قال بلى ولكن خشيت أن يسلب دينك فيحال بيني وبينك فذلك قوله تعالى :

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠))

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ) يعني ضم إليه (أَبَوَيْهِ) قال أكثر المفسرين : هو أبوه يعقوب وخالته ليا وكانت أمه قد ماتت في نفاس بنيامين وقال الحسن هما أبوه وأمه وكانت حية بعد ، وقيل : إن الله أحياها ونشرها من قبرها حتى تسجد ليوسف تحقيقا لرؤياه والأول أصح (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ) قيل المراد بالدخول الأول في قوله فلما دخلوا على يوسف أرض مصر وذلك حين استقبلهم ثم قال ادخلوا مصر يعني البلد وقيل إنه أراد بالدخول الأول دخولهم مصر وأراد بالدخول الثاني الاستيطان بها أي أدخلوا مصر مستوطنين فيهما (إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) قيل إن هذا الاستثناء عائد إلى الأمن لا إلى الدخول والمعنى ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله وقيل إنه عائد إلى الدخول فعلى هذا يكون قد قال ذلك لهم قبل أن يدخلوا مصر ، وقيل : إن هذا الاستثناء يرجع إلى الاستغفار فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير تقديره سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله وقيل إن الناس كانوا يخافون من ملوك مصر فلا يدخلها أحد إلا بجوارهم فقال لهم يوسف ادخلوا مصر آمنين على أنفسكم وأهليكم إن شاء الله فعلى هذا يكون قوله إن شاء الله للتبرك فهو كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» مع علمه أنه لا حق بهم (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) يعني على السرير الذي كان يجلس عليه يوسف والرفع النقل إلى لعلو (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) يعني يعقوب وخالته ليا وإخوته وكانت تحية الناس يومئذ السجود وهو الانحناء والتواضع ولم يرد به حقيقة السجود من وضع الجبهة على الأرض على سبيل العبادة.

فإن قلت كيف استجاز يوسف عليه‌السلام أن يسجد له أبوه وهو أكبر منه وأعلى منصبا في النبوة والشيخوخة؟ قلت : يحتمل أن الله تعالى أمر بذلك لتحقيق رؤياه ، ثم في معنى هذا السجود قولان : أحدهما أنه كان انحناء على سبيل التحية كما تقدم فلا إشكال فيه ، والقول الثاني أنه كان حقيقة السجود وهو وضع الجبهة على الأرض وهو مشكل لأن السجود على هذه الصورة لا ينبغي أن يكون إلا لله تعالى ، وأجيب عن هذا الإشكال بأن السجود كان في الحقيقة لله تعالى على سبيل الشكر له وإنما كان يوسف كالقبلة كما سجد الملائكة لآدم ويدل على صحة هذا التأويل قوله ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وظاهر هذا يدل على أنهم لما صعدوا على السرير خروا سجدا لله تعالى ولو كان ليوسف لكان قبل الصعود لأن ذلك أبلغ في التواضع.

فإن قلت يدفع صحة هذا التأويل قوله «رأيتهم لي ساجدين» وقوله «خروا له سجدا» فإن الضمير يرجع إلى أقرب المذكورات وهو يوسف عليه الصلاة والسلام.

قلت : يحتمل أن يكون المعنى وخروا لله سجدا لأجل يوسف واجتماعهم به وقيل يحتمل أن الله أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية وهي أن إخوة يوسف ربما احتملتهم الأنفة والتكبر عن السجود ليوسف فلما رأوا أن أباهم قد سجد له سجدوا له أيضا فتكون هذه السجدة على سبيل التحية والتواضع لا على سبيل العبادة وكان ذلك جائزا في ذلك الزمان فلما جاء الإسلام نسخت هذه الفعلة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه (وَقالَ)

٥٥٣

يعني وقال يوسف عند ما رأى ذلك (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) يعني هذا تصديق الرؤيا التي رأيت في حال الصغر (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) يعني في اليقظة واختلفوا فيما بين رؤياه وتأويلها فقال سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد أربعون سنة ، وقال أبو صالح عن ابن عباس : اثنتان وعشرون سنة ، وقال سعيد بن جبير وعكرمة والسدي : ست وثلاثون سنة ، وقال قتادة : خمس وثلاثون سنة ، وقال عبد الله بن سودون : سبعون سنة ، وقال الفضيل بن عياض : ثمانون سنة ، حكى هذه الأقوال كلها ابن الجوزي وزاد غيره عن الحسن : أن يوسف كان عمره حين ألقي في الجب سبع عشرة سنة وأقام في العبودية والسجن والملك مدة ثمانين سنة وأقام مع أبيه وإخوته وأقاربه مدة ثلاث وعشرين سنة وتوفاه الله وهو ابن مائة وعشرين سنة وقوله (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) يعني أنعم عليّ يقال أحسن بي وإليّ بمعنى واحد (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) إنما ذكر إنعام الله عليه في إخراجه من السجن وإن كان الجب أصعب منه استعمالا للأدب والكرم لئلا يخجل إخوته بعد أن قال لهم لا تثريب عليكم اليوم ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن كانت أعظم من إخراجه من الجب وسبب ذلك أن خروجه من الجب كان سببا لحصوله في العبودية والرق وخروجه من السجن كان سببا لوصوله إلى الملك وقيل إن دخوله الجب كان لحسد إخوته ودخوله السجن كان لزوال التهمة عنه وكان ذلك من أعظم نعمه عليه (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) يعني من البادية وأصل البدو هو البسيط من الأرض يبدو الشخص فيه من بعد يعني يظهر والبدو خلاف الحضر والبادية خلاف الحاضرة وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية فسكنوا البادية (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) يعني أفسد ما بيننا بسبب الحسد وأصل النزغ دخول في أمر لافساده واستدل بهذه الآية من يرى بطلان الجبر من المبتدعة قالوا لأن يوسف أضاف الإحسان إلى الله وأضاف النزغ إلى الشيطان ولو كان من فعل الله لوجب أن ينسب إليه كما في الإحسان والنعم ، والجواب عن هذا الاستدلال أن إسناد الفعل إلى الشيطان وإضافته إليه على سبيل المجاز وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي إضافة الفعل إلى الشيطان لا على الحقيقة لأن الفاعل المطلق المختار هو الله تعالى في الحقيقة «قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا» فثبت بذلك أن الكل من عند الله وبقضائه وقدره ليس للشيطان فيه مدخل إلا بإلقاء الوسوسة والتحريش لإفساد ذات البين وذلك بإقدار الله إياه على ذلك (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) يعني أنه تعالى ذو لطف عالم بدقائق الأمور وخفياتها.

قال صاحب المفردات : وقد يعبر باللطف عما تدركه الحاسة ويصح أن يكون وصف الله تعالى به على هذا الوجه وأن يكون لمعرفة بدقائق الأمور وأن يكون لرفقه بالعباد في هدايتهم ، وقوله : إن ربي لطيف لما يشاء ، أي حسن الاستخراج تنبيها على ما أوصل إلى يوسف حين ألقاه إخوته في الجب.

وقيل إن اجتماع يوسف بأبيه وإخوته بعد طول الفرقة وحسد إخوته له وإزالة ذلك مع طيب الأنفس وشدة المحبة كان من لطف الله بهم حيث جعل ذلك كله لأن الله تعالى إذا أراد أمرا هيأ أسبابه (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) يعني بمصالح عباده (الْحَكِيمُ) في جميع أفعاله.

قال أصحاب الأخبار والتواريخ : إن يعقوب عليه الصلاة والسلام أقام عند يوسف بمصر أربعا وعشرين سنة في أهنأ عيش وأنعم بال وأحسن حال فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند قبر أبيه إسحاق في الأرض المقدسة بالشام فلما مات يعقوب عليه‌السلام بمصر فعل يوسف ما أمره به أبوه فحمل جسده في تابوت من ساج حتى قدم به الشام فوافق ذلك موت العيص أخي يعقوب وكانا قد ولدا في بطن واحد فدفنا في قبر واحد وكان عمرهما مائة وسبعا وأربعين سنة فلما دفن يوسف أباه وعمه رجع إلى مصر.

قالوا لما جمع الله شمل يوسف عليه الصلاة والسلام بأبيه وإخوته علم أن نعيم الدنيا زائل سريع الفناء لا يدوم فسأل الله حسن العاقبة والخاتمة الصالحة فقال :

٥٥٤

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١))

(رَبِ) أي يا رب (قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) يعني من ملك مصر ومن هنا للتبعيض لأنه لم يؤت ملك مصر كله بل كان فوقه ملك آخر والملك عبارة عن الاتساع في المقدور لمن له السياسة والتدبير (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) يعني تعبير الرؤيا (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق.

وأصل الفطر الشق يقال فطر ناب البعير إذا شق وظهر وفطر الله الخلق أوجده وأبدعه (أَنْتَ وَلِيِّي) يعني معيني ومتولي أمري (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً) أي اقبضني إليك مسلما.

واختلفوا هل هو طلب للوفاة في الحال أم لا على قولين :

أحدهما : أنه سأل الله الوفاة في الحال ، قال قتادة : لم يسأل نبي من الأنبياء الموت إلا يوسف قال أصحاب هذا القول وإنه لم يأت عليه أسبوع حتى توفي.

والقول الثاني : أنه سأل الوفاة على الإسلام ولم يتمن الموت في الحال قال الحسن إنه عاش بعد هذه سنين كثيرة فعلى هذا القول يكون معنى الآية توفني إذا توفيتني على الإسلام فهو طلب لأن يجعل الله وفاته على الإسلام وليس في اللفظ ما يدل على أنه طلب الوفاة في الحال ، قال بعض العلماء وكلا القولين محتمل لأن اللفظ صالح للأمرين ولا يبعد من الرجل العاقل الكامل أن يتمنى الموت لعلمه أن الدنيا ولذاتها فانية زائلة سريعة الذهاب وأن نعيم الآخرة باق دائم لا نفاذ له ولا زوال ولا يمنع من هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يتمن أحدكم الموت لضر نزل به» فإن تمني الموت عند وجود الضر ونزول البلاء مكروه والصبر عليه أولى وقوله : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أراد به بدرجة آبائه وهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام قال علماء التاريخ عاش يوسف مائة وعشرين سنة وفي التوراة مائة وعشر سنين وولد ليوسف من امرأة العزيز ثلاثة أولاد أفراثيم وميشا ورحمة امرأة أيوب وقيل عاش بعد أبيه ستين سنة وقيل أكثر.

ولما مات يوسف عليه الصلاة والسلام دفنوه في النيل في صندوق من رخام وقيل من حجارة المرمر وذلك أنه لما مات يوسف تشاحن الناس فيه فطلب كل أهل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته حتى هموا أن يقتتلوا ثم رأوا أن يدفنوه في النيل بحيث يجري الماء عليه ويتفرق عنه وتصل بركته إلى جميعهم وقال عكرمة إنه دفن في الجانب الأيمن من النيل فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب وأجدب الجانب الأيمن فدفنوه في وسط النيل وقدروه بسلسلة فأخصب الجانبان فبقي إلى أن أخرجه موسى عليه الصلاة والسلام وحمله معه حتى دفنه بقرب آبائه بالشام في الأرض المقدسة.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦))

قوله عزوجل : (ذلِكَ) يعني الذي ذكرت لك يا محمد من قصة يوسف وما جرى له مع إخوته ، ثم إنه صار إلى الملك بعد الرق (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) يعني أخبار الغيب (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) يعني الذي أخبرناك به من أخبار يوسف وحي أوحيناه إليك يا محمد وفي هذه الآية دليل قاطع على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه كان رجلا أميا لم

٥٥٥

يقرأ الكتب ولم يلق العلماء ولم يسافر إلى بلد آخر غير بلده الذي أنشأ فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه نشأ بين أمة أمية مثله ، ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بهذه القصة الطويلة على أحسن ترتيب وأبين معان وأفصح عبارة فعلم بذلك أن الذي أتى به هو وحي إلهي ونور قدسي سماوي فهو معجزة له قائمة إلى آخر الدهر.

وقوله تعالى : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) يعني وما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) يعني حين عزموا على إلقاء يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجب (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) يعني بيوسف (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى وما أكثر الناس يا محمد لو حرصت على إيمانهم بمؤمنين وذلك أن اليهود وقريشا سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصة يوسف فلما أخبرهم بها على وفق ما عندهم في التوراة لم يسلموا فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك فقيل له إنهم لا يؤمنون ولو حرصت على إيمانهم ففيه تسلية له (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) يعني على تبليغ الرسالة والدعاء إلى الله من أجر يعني أجرا وجعلا على ذلك (إِنْ هُوَ) أي ما هو يعني القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ) يعني عظة وتذكيرا (لِلْعالَمِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) يعني وكم من آية دالة على التوحيد (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها) يعني لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) أي لا يلتفتون إليها والمعنى ليس إعراضهم عن هذه الآيات الظاهرة الدالة على وحدانية الله تعالى بأعجب من إعراضهم عنك يا محمد (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) يعني أن من إيمانهم أنهم إذا سئلوا من خلق السموات والأرض قالوا الله وإذا قيل لهم من ينزل المطر قالوا الله وهم مع ذلك يعبدون الأصنام.

وفي رواية عن ابن عباس : إنهم يقرون أن الله خالقهم فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره فذلك شركهم ، وفي رواية أخرى عنه أيضا أنها نزلت في تلبية مشركي العرب وذلك أنهم كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ، وقال عطاء هذا في الدعاء وذلك أن الكفار نسوا ربهم في الرخاء فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء.

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩))

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) يعني عقوبة مجللة تعمهم وقال مجاهد عذاب يغشاهم ، وقال قتادة : وقيعة وقال الضحاك يعني الصواعق والقوارع (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) يعني فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) يعني بقيامها قال ابن عباس : تهيج الصيحة بالناس وهم في أسواقهم (قُلْ) أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين (هذِهِ سَبِيلِي) يعني طريقي التي (أَدْعُوا) إليها وهي توحيد الله عزوجل ودين الإسلام وسمي الدين سبيلا لأنه الطريق المؤدي إلى الله عزوجل وإلى الثواب والجنة (إِلَى اللهِ) يعني إلى توحيد الله والإيمان به (عَلى بَصِيرَةٍ) يعني على يقين ومعرفة والبصيرة هي المعرفة التي يميز بها بين الحق والباطل (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يعني من آمن بي وصدق بما جئت به أيضا يدعو إلى الله ، وهذا قول الكلبي وابن زيد قال : حق على من اتبعه وآمن به أن يدعو إلى ما دعا إليه ويذكر بالقرآن وقيل تم الكلام عند قوله أدعو إلى الله ثم استأنف على بصيرة أنا ومن اتبعني بعدي أنا على بصيرة ومن اتبعني أيضا على بصيرة قال ابن عباس إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه كانوا على أحسن طريقة وأفضل هداية وهم معدن العلم وكنز الإيمان وجند الرحمن.

٥٥٦

وقال ابن مسعود : ومن كان مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا خير هذه الأمة وأبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطريقهم فهؤلاء كانوا على الصراط المستقيم.

وقوله (سُبْحانَ اللهِ) أي وقل سبحان الله يعني تنزيها له عما لا يليق بجلاله من جميع العيوب والنقائص والشركاء الأضداد والأنداد (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يعني وقل يا محمد وما أنا من المشركين الذين أشركوا بالله غيره.

قوله عزوجل : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) يعني وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رجالا مثلك ولم يكونوا ملائكة (نُوحِي إِلَيْهِمْ) هذا جواب لأهل مكة حيث قالوا هلا بعث الله ملكا والمعنى كيف تعجبوا من إرسالنا إياك يا محمد وسائر الرسل الذين كانوا من قبلك بشر مثلك حالهم كحالك (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) يعني من أهل الأمصار والمدن لا من أهل البوادي لأن أهل الأمصار أفضل وأعلم وأكمل عقلا من أهل البوادي ، قال الحسن : لم يبعث نبي من بدو ولا من الجن ولا من النساء ، وقيل : إنما لم يبعث الله نبيا من البادية لغلظهم وجفائهم (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) يعني هؤلاء المشركين المكذبين (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني كانت عاقبتهم الهلاك لما كذبوا رسلنا فليعتبر هؤلاء بهم وما حل بهم من عذابنا (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) يعني فعلنا هذا بأوليائنا وأهل طاعتنا إذ أنجيناهم عند نزول العذاب بالأمم المكذبة وما في الدار الآخرة خير لهم يعني الجنة لأنها خير من الدنيا وإنما أضاف الدار إلى الآخرة وإن كانت في الآخرة لأن العرب تضيف الشيء إلى نفسه كقولهم حق اليقين والحق هو اليقين نفسه (أَفَلا تَعْقِلُونَ) يعني يتفكرون ويعتبرون بهم فيؤمنون.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

قوله عزوجل : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) قال صاحب الكشاف : حتى متعلقة بمحذوف دلّ عليه الكلام كأنه قيل وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فتراخى نصرهم حتى إذا استيأس الرسل عن النصر ، وقال الواحدي : حتى هنا حرف من حروف الابتداء يستأنف بعدها والمعنى حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) قرأ أهل الكوفة وهم عاصم وحمزة والكسائي كذبوا بالتخفيف ووجه هذه القراءة على ما قاله الواحدي أن معناه ظن الأمم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم وإهلاك أعدائهم وهذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد ، وقال أهل المعاني كذبوا من قولهم كذبتك الحديث أي لم أصدقك ومنه قوله تعالى وقعد الذين كذبوا الله ورسوله قال أبو علي والضمير في قوله وظنوا على هذه القراءة للمرسل إليهم والتقدير وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم وإهلاك أعدائهم وهذا معنى قول ابن عباس إنهم لم يؤمنوا حتى نزل بهم العذاب وإنما ظنوا ذلك لما شاهدوا من امهال الله إياهم ولا يمتنع حمل الضمير في ظنوا على المرسل إليهم وإن لم يتقدم لهم ذكر لأن ذكر الرسل يدل على ذكر المرسل إليهم وإن شئت قلت إن ذكرهم جرى في قوله أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم أي مكذبي الرسل والظن هنا على معنى التوهم والحسبان وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال : حتى إذا استيأس الرسل من قومهم الإجابة وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا من نصرهم وإهلاك من كذبهم وقيل معناه وتيقن الرسل أنهم قد كذبوا في وعد قومهم إياهم الإيمان أي وعدوا أن يؤمنوا ثم لم يؤمنوا

٥٥٧

وقال صاحب الكشاف وظنوا أنهم قد كذبوا أي كذبتهم أنفسهم حتى حدثتهم بأنهم لا ينصرون أو رجاؤهم كقولهم رجاء صادق ورجاء كاذب والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة وانتظار النصر من الله تعالى وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب ، وعن ابن عباس : وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله به من النصر قال وكانوا بشرا وتلا قوله وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله. قال صاحب الكشاف : فإن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه الطبيعة البشرية وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم وأنه متعال عن خلف الميعاد وحكى الواحدي عن ابن الأنباري أنه قال هذا غير معول عليه من جهتين إحداهما أن التفسير ليس عن ابن عباس لكنه من متأول تأول عليه والأخرى أن قوله جاءهم نصرنا دال على أن أهل الكفر ظنوا ما لا يجوز مثله واستضعفوا رسل الله ونصر الله للرسل ولو كان الظن للرسل كان ذلك منهم خطأ عظيما ولا يستحقون ظفرا ولا نصرا وتبرئة الأنبياء وتطهيرهم واجب علينا إذا وجدنا إلى ذلك سبيلا وقرأ الباقون وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وظنوا أنهم قد كذبوا بالتشديد ووجه ظاهر وهو أن معناه حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنوا يعني وأيقنوا يعني الرسل أن الأمم قد كذبوهم تكذيبا لا يرجى بعده إيمانهم فالظن بمعنى اليقين وهذا معنى قول قتادة وقال بعضهم معناه حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم أن يصدقوهم وظنوا أن من قد آمن بهم من قومهم قد فارقوهم وارتدوا عن دينهم لشدة المحنة والبلاء واستبطئوا النصر أتاهم النصر وعلى هذا القول الظن بمعنى الحسبان والتكذيب مظنون من جهة من آمن بهم يعني وظنوا بالرسل ظن حسبان أن ربهم قد كذبهم في وعد الظفر والنصر لإبطائه وتأخره عنهم ولطول البلاء بهم لا أنهم كذبوهم في كونهم رسلا وقيل إن هذا التكذيب لم يحصل من أتباعهم المؤمنين لأنه لو حصل لكان نوع كفر ولكن الرسل ظنت بهم ذلك لبطء النصر وعلى هذا القول الظن بمعنى اليقين والتكذيب المتيقن هو من جهة الكفار وعلى القولين جميعا فالكناية في وظنوا للرسل (خ) عن عروة بن الزبير : أنه سأل عائشة عن قوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا أو كذبوا ، قالت : بل كذبهم قومهم فقلت والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم وما هو بالظن فقالت يا عروة أجل لقد استيقنوا بذلك فقلت لعلها قد كذبوا فقالت : معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك من ربهم قلت فما هذه الآية قالت هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنوا أن أتباعهم كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك. وفي رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة قال : قال ابن عباس حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا خفيفة قال ذهب لها هنالك وتلا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب قال فلقيت عروة بن الزبير وذكرت ذلك له فقال قالت عائشة معاذ الله والله ما وعد الله ورسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يموت ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون معهم من قومهم من يكذبوهم فكانت تقرؤها وظنوا أنهم قد كذبوا مثقلة.

وقوله تعالى : (جاءَهُمْ نَصْرُنا) يعني جاء نصر الله النبيين (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) من عبادنا يعني عند نزول العذاب بالكافرين فننجي المؤمنين المطيعين (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) يعني عذابنا (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) يعني المشركين قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) يعني في خبر يوسف وإخوته (عِبْرَةٌ) أي موعظة (لِأُولِي الْأَلْبابِ) يعني يتعظ بها أولو الألباب والعقول الصحيحة ومعناه الاعتبار والعبرة الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد والمراد من التأمل والتفكر ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه وإخراجه من السجن وتمليكه مصر بعد العبودية وجمع شمله بأبيه وإخوته بعد

٥٥٨

المدة الطويلة واليأس من الاجتماع لقادر على إعزاز محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإعلاء كلمته وإظهار دينه وأن الإخبار بهذه القصة العجيبة جار مجرى الإخبار عن الغيوب فكانت معجزة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : إن الله تعالى قال في أول هذه السورة نحن نقص عليك أحسن القصص وقال في آخرها لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب فدل على هذه القصة من أحسن القصص وإن فيها عبرة لمن اعتبرها (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) يعني ما كان هذا القرآن حديثا يفتري ويختلق لأن الذي جاء به من عند الله وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يصح منه أن يفتريه أو يختلقه لأنه لم يقرأ الكتب ولم يخلط العلماء ثم إنه جاء بهذا القرآن المعجز فدل ذلك على صدقه وأنه ليس بمفتر (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) يعني ولكن كان تصديق الذي بين يديه من الكتب الإلهية المنزلة من السماء من التوراة والإنجيل وفيه إشارة إلى أن هذه القصة وردت على وجه الموافق لما في التوراة من ذكر قصة يوسف (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) يعني أن هذا القرآن المنزل عليك يا محمد تفصيل كل شيء تحتاج إليه من الحلال والحرام والحدود والأحكام والقصص والمواعظ والأمثال وغير ذلك مما يحتاج إليه العباد في أمر دينهم ودنياهم (وَهُدىً) يعني إلى كل خير (وَرَحْمَةً) يعني أنزلناه رحمة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم هم الذين ينتفعون به والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

تم الجزء الثالث من تفسير الخازن ويليه الجزء الرابع وأوله : تفسير سورة الرعد

٥٥٩

فهرس المحتويات

تفسير سورة المائدة

الآيتان : ٤٩ ، ٥٠

٥١

الآية : ١

٣

الآيتان : ٥١ ، ٥٢

٥٢

الآية : ٢

٤

الآيتان : ٥٣ ، ٥٤

٥٤

الآية : ٣

٧

الآيتان : ٥٥ ، ٥٦

٥٦

الآية : ٣

٩

الآيات : ٥٧ ـ ٥٩

٥٧

الآية : ٤

١١

الآيات : ٦٠ ـ ٦٣

٥٨

الآية : ٥

١٣

الآية : ٦٤

٥٩

الآية : ٦

١٥

الآيات : ٦٥ ـ ٦٧

٦٢

الآيات : ٧ ـ ٩

٢٠

الآيات : ٦٨ ـ ٧١

٦٤

الآيتان : ١٠ ، ١١

٢١

الآيات : ٧٢ ـ ٧٥

٦٥

الآية : ١٢

٢٢

الآيات : ٧٦ ـ ٧٠

٦٧

الآيتان : ١٣ ، ١٤

٢٣

الآيات : ٨٠ ـ ٨٢

٦٨

الآيات : ١٥ ـ ١٧

٢٤

الآيات : ٨٣ ـ ٨٧

٧٠

الآيات : ١٨ ـ ٢٠

٢٥

الآيتان : ٨٨ ، ٨٩

٧٢

الآيتان : ٢١ ، ٢٢

٢٧

الآيتان : ٩٠ ، ٩١

٧٥

الآيات : ٢٣ ـ ٢٦

٢٨

الآيات : ٩٢ ـ ٩٤

٧٦

الآية : ٢٧

٣٢

الآية : ٩٥

٧٧

الآيات : ٢٨ ـ ٣٠

٣٣

الآية : ٩٦

٨٠

الآية : ٣١

٣٤

الآيتان : ٩٧ ، ٩٨

٨١

الآية : ٣٢

٣٦

الآيات : ٩٩ ـ ١٠١

٨٢

الآية : ٣٣

٣٧

الآيتان : ١٠٢ ، ١٠٣

٨٣

الآيات : ٣٤ ـ ٣٨

٣٩

الآية : ١٠٤

٨٤

الآيات : ٣٩ ـ ٤١

٤٢

الآية : ١٠٥

٨٥

الآية : ٤٢

٤٥

الآية : ١٠٦

٨٦

الآية : ٤٣

٤٦

الآيتان : ١٠٧ ، ١٠٨

٨٨

الآية : ٤٤

٤٧

الآيتان : ١٠٩ ، ١١٠

٨٩

الآية : ٤٥

٤٨

الآيتان : ١١١ ، ١١٢

٩١

الآيات : ٤٦ ـ ٤٨

٥٠

الآيات : ١١٣ ـ ١١٥

٩٢

٥٦٠