تفسير الخازن - ج ٢

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٢

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥٦٥

الأبرار المخلصين وقيل معنى وتزكيهم أي تنمي أموالهم ببركة أخذها منهم.

الحكم الخامس : قوله سبحانه وتعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) يعني ادع لهم واستغفر لهم لأن أصل الصلاة في اللغة الدعاء. قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه : السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق فيقول : آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت. وقال بعضهم : يجب على الإمام أن يدعو للمتصدق. وقال بعضهم : يستحب ذلك. وقيل : يجب في صدقة الفرض ويستحب في صدقة التطوع. وقيل : يجب على الإمام ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي. وقال بعضهم : يستحب أن يقول اللهم صلّ على فلان. ويدل عليه ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى وكان من أصحاب الشجرة قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال : اللهم صلّ عليهم فأتاه أبي بصدقته فقال «اللهم صلّ على آل أبي أوفى» أخرجاه في الصحيحين.

وقوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ صَلاتَكَ) وقرئ : صلواتك على الجمع (سَكَنٌ لَهُمْ) يعني إن دعاءك رحمة لهم. وقال ابن عباس : طمأنينة لهم. وقيل : إن الله قد قبل منهم. وقال أبو عبيدة : تثبيت لقلوبهم. وقيل : إن السكن ما سكنت إليه النفس والمعنى إن صلواتك توجب سكون نفوسهم إليها والمعنى أن الله قد قبل توبتهم أو قبل زكاتهم (وَاللهُ سَمِيعٌ) يعني لأقوالهم أو لدعائك لهم (عَلِيمٌ) يعني بنياتهم.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦))

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) هذه صيغة استفهام إلا أن المقصود منه التقرير فبشر الله عزوجل هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم ومعنى الآية ألم يعلم الذين تابوا أن الله تعالى يقبل التوبة الصادقة والصدقة الخالصة. وقيل : إن المراد بهذه الآية غير التائبين ترغيبا لهم في التوبة وبذل الصدقات وذلك أنه لما نزلت توبة هؤلاء التائبين قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين : هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما بالهم اليوم فأنزل الله هذه الآية ترغيبا لهم في التوبة. وقوله سبحانه وتعالى عن عباده قيل : لا فرق بين عن عباده ومن عباده إذ لا فرق بين قولك أخذت هذا العلم عنك أو منك. وقيل : بينهما فرق ولعل عن في هذا الموضع أبلغ لأن فيه تبشيرا بقبول التوبة مع تسهيل سبيلها وقوله سبحانه وتعالى : (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) يعني يقبلها ويثيب عليها وإنما ذكر لفظ الأخذ ترغيبا في بذل الصفقة وإعطائها الفقراء وقيل معنى أخذ الله الصدقات تضمنه الجزاء عليها.

ولما كان هو المجازي عليها والمثيب بها ، أسند الأخذ إلى نفسه وإن كان الفقير أو السائل هو الآخذ لها وفي هذا تعظيم أمر الصدقات وتشريفها وأن الله تعالى يقبلها من عبده المتصدق (ق).

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله» لفظ مسلم. وفي البخاري : «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب». وفي رواية : «ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» وأخرجه الترمذي ولفظه : «إن الله سبحانه وتعالى يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه حتى اللقمة لتصير مثل جبل أحد» وتصديق ذلك في كتاب الله سبحانه وتعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا)

٤٠١

أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ويمحق الله الربا ويربى الصدقات. وقوله : من كسب طيب. أي : حلال. وذكر اليمين والكف في الحديث كناية عن قبول الصدقة وأن الله سبحانه وتعالى قد قبلها من المعطي ، لأن من عادة الفقير أو السائل ، أخذ الصدقة بكفه اليمين ، فكأن المتصدق قد وضع صدقته في القبول والإثابة. وقوله : فتربو أي تكبر. يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد وكبر. والفلو : بضم الفاء وفتحها لغتان المهر أول ما يولد والفصيل ولد الناقة إلى أن ينفصل عنها.

وقوله سبحانه وتعالى : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تأكيد لقوله سبحانه وتعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) وتبشير لهم بأن الله هو التواب الرحيم.

قوله عزوجل : (وَقُلِ) أي : قل يا محمد لهؤلاء التائبين (اعْمَلُوا) يعني لله بطاعته وأداء فرائضه (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) فيه ترغيب عظيم للمطيعين ووعيد عظيم للمذنبين فكأنه قال اجتهدوا في العمل في المستقبل فإن الله تعالى يرى أعمالكم ويجازيكم عليها (وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) يعني ويرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون أعمالكم أيضا.

أما رؤية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فباطلاع الله إياه على أعمالكم. وأما رؤية المؤمنين ، فبما يقذف الله عزوجل في قلوبهم من محبة الصالحين وبغض المذنبين (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يعني : وسترجعون يوم القيامة إلى من يعلم سركم وعلانيتكم ولا يخفى عليه شيء من بواطنكم وظواهركم (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي فيخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يعني في الدنيا من خير أو شر فيجازيكم عن أعمالكم.

قوله سبحانه وتعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) أي مؤخرون والإرجاء التأخير (لِأَمْرِ اللهِ) يعني لحكم الله فيهم قال بعضهم إن الله سبحانه وتعالى قسم المتخلفين على ثلاثة أقسام :

أولهم : المنافقون وهم الذين مردوا على النفاق واستمروا عليه.

والقسم الثاني : التائبون وهم الذين سارعوا إلى التوبة بعد ما اعترفوا بذنوبهم وهم أبو لبابة وأصحابه فقبل الله توبتهم.

والقسم الثالث : موقوفون ومؤخرون إلى أن يحكم الله تعالى فيهم وهم المراد بقوله : وآخرون مرجون لأمر الله. والفرق بين القسم الثاني والقسم الثالث ، أن القسم الثاني سارعوا إلى التوبة فقبل الله توبتهم ، والقسم الثالث توقفوا ولم يسارعوا إلى التوبة فأخر الله أمرهم.

نزلت هذه الآية في الثلاثة الذين تخلفوا وهم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، وستأتي قصتهم عند قوله تعالى : وعلى الثلاثة الذين خلفوا وذلك أنهم لم يبالغوا في التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه فوقفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسين ليلة ونهى الناس عن كلامهم وكانوا من أهل بدر ، فجعل بعض الناس يقول هلكوا وبعضهم يقول : عسى الله أن يتوب عليهم ويغفر لهم وهو قوله سبحانه وتعالى : (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) يعني أن أمرهم إلى الله تعالى إن شاء عذبهم بسبب تخلفهم وإن شاء غفر لهم وعفا عنهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) يعني بما في قلوبهم (حَكِيمٌ) يعني بما يقضي عليهم.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧))

قوله سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً) نزلت في جماعة من المنافقين بنوا مسجدا

٤٠٢

يضارّون به مسجد قباء وكانوا اثني عشر رجلا من أهل النفاق وديعة بن ثابت وخذام بن خالد ومن داره أخرج هذا المسجد وثعلبة بن حاطب وجارية بن عمرو وابناه مجمع وزيد ومعتب بن قشير وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف وأبو حبيبة بن الأزعر ونبتل بن الحرث وبجاد بن عثمان وبحزج بنوا هذا المسجد ضرارا يعني مضارة للمؤمنين وكفرا يعني ليكفروا فيه بالله ورسوله (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) لأنهم كانوا جميعا يصلون في مسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة وكان يصلي بهم فيه مجمع بن جارية وكان شابا يقرأ القرآن ولم يدر ما أرادوا ببنائه ، فلما فرغوا من بنائه ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا وتصلي فيه وتدعو لنا بالبركة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني على جناح سفر ولو قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا فيه.

وقوله سبحانه وتعالى : (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ) يعني أنهم بنوا هذا المسجد للضرار والكفر وبنوه إرصادا يعني انتظارا وإعدادا لمن حارب الله ورسوله (مِنْ قَبْلُ) يعني من قبل بناء هذا المسجد وهو أبو عامر الراهب والد حنظلة غسيل الملائكة وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وتنصر ، فلما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة قال له أبو عامر ما هذا الدين الذي جئت به؟ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : جئت بالحنيفية دين إبراهيم. فقال أبو عامر : فأنا عليها. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك لست عليها. قال أبو عامر : بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية. فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : آمين وسماه الناس : أبا عامر الفاسق. فلما كان يوم أحد ، قال أبو عامر الفاسق للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل كذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن ، يئس أبو عامر وخرج هاربا إلى الشام ، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا ما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم ، فأخرج محمدا وأصحابه فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء ، فذلك وقوله : سبحانه وتعالى : (وَإِرْصاداً) يعني انتظارا لمن حارب الله ورسوله يعني أبا عامر الفاسق ليصلي فيه إذا رجع من الشام من قبل يعني أن أبا عامر الفاسق حارب الله ورسوله من قبل مسجد الضرار (وَلَيَحْلِفُنَ) يعني الذين بنوا المسجد (إِنْ أَرَدْنا) يعني ما أردنا ببنائه (إِلَّا الْحُسْنى) يعني إلا الفعلة الحسنى وهي : الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن الصلاة في مسجد قباء أو مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) يعني في قيلهم وحلفهم.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما انصرف من تبوك راجعا نزل بذي أوان وهو موضع قريب من المدينة فأتاه المنافقون وسألوه أن يأتي مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فأنزل الله هذه الآية وأخبره خبر مسجد الضرار وما هموا به فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ، فخرجوا مسرعين حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك : أنظروني حتى أخرج إليكم بنار ، فدخل أهله فأخذ من سعف النخل فأشعله ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فأحرقوه وهدموه وتفرق عنه أهله وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتخذ ذلك الموضع كناسة تلقى فيها الجيف والنتن والقمامة.

مات أبو عامر الراهب بالشام غريبا وحيدا. وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ، فسألوه أن يأذن لمجمع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم. فقال : لا ولا نعمة عين أليس هو إمام مسجد الضرار؟ قال مجمع : يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ فو الله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما

٤٠٣

أضمروا عليه ولو علمت ما صليت معهم فيه وكنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرءون فصليت بهم ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله ولو أعلم ما في أنفسهم فعذره عمر فصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء.

قال عطاء : لما فتح الله على عمر بن الخطاب الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأمرهم أن لا يبنوا في موضع واحد مسجدين يضار أحدهما الآخر وقوله سبحانه وتعالى :

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨))

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) قال ابن عباس : معناه لا تصلّ فيه أبدا منع الله عزوجل نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصلي في مسجد الضرار (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) اللام فيه لام الابتداء. وقيل : لام القسم تقديره والله مسجد أسس يعني بني أصله ووضع أساسه على التقوى يعني على تقوى الله عزوجل (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) يعني من أول يوم بني ووضع أساسه كان ذلك البناء على التقوى (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) يعني مصليا واختلفوا في المسجد الذي أسس على التقوى فقال عمر وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري هو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني مسجد المدينة ويدل عليه ما روي عن أبي سعيد الخدري قال : «دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت بعض نسائه فقلت يا رسول الله أي المسجدين أسس على التقوى؟ قال فأخذ كفا من حصى فضرب به الأرض ثم قال : هو مسجدكم هذا مسجد المدينة» أخرجه مسلم (ق).

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي» (ق) عن عبد الله بن زيد قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» عن أم سلمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة» أخرجه النسائي قوله رواتب يعني : ثوابت. يقال : رتب بالمكان إذا قام فيه وثبت. وفي رواية عن ابن عباس وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة أنه مسجد قباء ويدل عليه سياق الآية وهو قوله سبحانه وتعالى : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) ويدل على أنهم أهل قباء ما روي عن أبي هريرة «قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية فيهم» أخرجه أبو داود والترمذي وقال : حديث غريب. هكذا ذكره صاحب جامع الأصول من رواية أبي داود والترمذي موقوفا على أبي هريرة ورواه البغوي من طريق أبي داود مرفوعا عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين قال : كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية ومما يدل على فضل مسجد قباء ما روي عن ابن عمر قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزور قباء أو يأتي قباء راكبا وماشيا» زاد في رواية فيصلي فيه ركعتين وفي رواية «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكبا وماشيا وكان ابن عمر يفعله» أخرج الرواية الأولى والزيادة البخاري ومسلم وأخرج الرواية الثانية البخاري عن سهل بن حنيف قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من خرج حتى يأتي هذا المسجد مسجد قباء فيصلي فيه كان له كعدل عمرة» أخرجه النسائي عن أسد بن ظهير أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الصلاة في مسجد قباء كعمرة» أخرجه الترمذي.

وقوله سبحانه وتعالى : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) يعني من الأحداث والجنابات وسائر النجاسات وهذا قول أكثر المفسرين. قال عطاء : ولما كانوا يستنجون بالماء ولا ينامون بالليل على الجنابة وروى الطبري بسنده عن عويمر بن ساعدة وكان من أهل بدر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل قباء «إني أسمع الله عزوجل قد أحسن عليكم الثناء في الطهور فما هذا الطهور» قالوا : يا رسول الله ما نعمل شيئا إلا أن جيرانا لنا من اليهود

٤٠٤

رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا. وعن قتادة قال : ذكر لنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأهل قباء «إن الله سبحانه وتعالى قد أحسن عليكم بالثناء في الطهور فما تصنعون؟ قالوا : إنا نغسل عنا أثر الغائط والبول» وقال الإمام فخر الدين الرازي : المراد من هذه الطهارة الطهارة من الذنوب والمعاصي وهذا القول متعين لوجوه :

الأول : أن التطهر من الذنوب هو المؤثر في القرب من الله عزوجل واستحقاق ثوابه ومدحه.

الوجه الثاني : أن الله سبحانه وتعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والتفريق بينهم والكفر بالله وكون هؤلاء يعني أهل قباء بالضد من صفاتهم وما ذاك إلا لكونهم مبرئين من الكفر والمعاصي وهي الطهارة الباطنية.

الوجه الثالث : أن طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر عند الله إذا حصلت الطهارة الباطنية من الكفر والمعاصي وقيل يحتمل أنه محمول على كلا الأمرين يعني طهارة الباطن من الكفر والنفاق والمعاصي وطهارة الظاهر من الأحداث والنجاسات بالماء (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) فيه مدح لهم وثناء عليهم والرضا عنهم بما اختاروه لأنفسهم من المداومة على محبة الطهارة.

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩))

قوله سبحانه وتعالى : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ) يعني طلب ببنائه المسجد الذي بناه تقوى الله ورضاه. والمعنى : أن الباني لما بنى ذلك البناء كان قصده تقوى الله وطلب رضاه وثوابه (خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) الشفا : هو الشفير وشفا كل شيء حرفه ومنه يقال : أشفى على كذا إذا دنا منه وقرب أن يقع فيه. والجرف : المكان الذي أكل الماء تحته فهو إلى السقوط قريب وقال أبو عبيد : الجرف هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية فينحفر بالماء فيبقى واهيا هار أي هائر وهو الساقط فهو من هار يهور فهو هائر وقيل : هو من هاريها إذا تهدم وسقط وهو الذي تداعى بعضه في أثر بعض كما يهار الرمل والشيء الرخو (فَانْهارَ بِهِ) يعني سقط بالباني (فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) والمعنى أن بناء هذا المسجد الضرار كالبناء على شفير جهنم فيهور بأهله فيها. وهذا مثل ضربه الله تعالى للمسجدين مسجد الضرار ومسجد التقوى مسجد قباء أو مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعنى المثل : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهو الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير أم من أسس دينه على أضعف القواعد وأقلها بقاء وثباتا وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل بناء على غير أساس ثابت وهو شفا جرف هار وإذا كان كذلك كان أسرع إلى السقوط في نار جهنم ولأن الباني الأول قصد ببنائه تقوى الله ورضوانه فكان بناؤه أشرف البناء ، والباني الثاني قصد ببنائه الكفر والنفاق وإضرار المسلمين فكان بناؤه أخسّ البناء وكانت عاقبته إلى نار جهنم.

قال ابن عباس : صيرهم نفاقهم إلى النار. وقال قتادة : والله ما تناهى بناؤهم حتى وقع في النار ولقد ذكر لنا أنه حفرت بقعة منه فرؤي الدخان يخرج منها. وقال جابر بن عبد الله : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار.

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠) إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ

٤٠٥

وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١))

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً) يعني شكا ونفاقا (فِي قُلُوبِهِمْ) والمعنى : أن ذلك البنيان صار سببا لحصول الريبة في قلوبهم ، لأن المنافقين فرحوا ببناء مسجدهم ، فلما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتخريبه ، ثقل ذلك عليهم وازدادوا غما وحزنا وبغضا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان سبب الريبة في قلوبهم. وقيل : إنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه كما حبب العجل إلى بني إسرائيل فلما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتخريبه ، بقوا شاكّين مرتابين لأي سبب أمر بتخريبه. وقال السدي : لا يزال هدم بنيانهم ريبة أي حرارة وغيظا في قلوبهم (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) أي تجعل قلوبهم قطعا وتفرق أجزاء إما بالسيف وإما بالموت. والمعنى : أن هذه الريبة باقية في قلوبهم إلى أن يموتوا عليها (وَاللهُ عَلِيمٌ) يعني بأحوالهم وأحوال جميع عباده (حَكِيمٌ) يعني فيما حكم به عليهم. قوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) الآية قال محمد بن كعب القرظي : لما بايعت الأنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة وكانوا سبعين رجلا قال عبد الله بن رواحة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت. قال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا إذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : الجنة. قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فنزلت (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) قال ابن عباس : بالجنة. قال أهل المعاني لا يجوز أن يشتري الله شيئا هو له في الحقيقة لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك والأشياء كلها ملك الله عزوجل ، ولهذا قال الحسن : أنفسنا هو خلقها وأموالنا هو رزقنا إياها لكن جرى هذا مجرى التلطف في الدعاء إلى الطاعة والجهاد ، وذلك لأن المؤمن إذا قاتل في سبيل الله حتى يقتل أو أنفق ماله في سبيل الله عوّضه الله الجنة في الآخرة جزاء لما فعل في الدنيا فجعل ذلك استبدالا واشتراء فهذا معنى اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة والمراد باشتراء الأموال إنفاقها في سبيل الله وفي جميع وجوه البر والطاعة (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) هذا تفسير لتلك المبايعة. وقيل : فيه معنى الأمر أي قاتلوا في سبيل الله (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) يعني : فيقتلون أعداء الله ويقتلون في طاعته وسبيله (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) يعني ذلك الوعد بأن لهم الجنة وعدا على الله حقا (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) يعني أن هذا الوعد الذي وعده الله تعالى للمجاهدين في سبيله قد أثبته في التوراة والإنجيل كما أثبته في القرآن وفيه دليل على أن الأمر بالجهاد موجود في جميع الشرائع ومكتوب على جميع أهل الملل (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) يعني لا أحد أوفى بالعهد من الله (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) فاستبشروا أيها المؤمنون بهذا البيع الذي بايعتم الله به (وَذلِكَ) يعني هذا البيع (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأنه رابح في الآخرة. قال عمر بن الخطاب : إن الله بايعك وجعل الصفقتين لك وقال الحسن : اسمعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن وعنه قال : إن الله سبحانه وتعالى أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها. وقال قتادة : ثامنهم فأغلى لهم.

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣))

قوله سبحانه وتعالى : (التَّائِبُونَ) قال الفراء : استؤنف لفظ التائبون بالرفع لتمام الآية الأولى وانقطاع الكلام.

٤٠٦

وقال الزجاج : التائبون رفع بالابتداء وخبره مضمر. والمعنى : التائبون إلى آخره لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا غير معاندين ولا قاصدين بترك الجهاد وهذا وجه حسن فكأنه وعد بالجنة جميع المؤمنين. كما قال تعالى : وكلا وعد الله الحسنى ومن جعله تابعا للأول ، كان الوعد بالجنة خاصا بالمجاهدين الموصوفين بهذه الصفات ، فيكون رفع التائبون على المدح يعني المؤمنين المذكورين في قوله : إن الله اشترى. وأما التفسير : فقوله سبحانه وتعالى التائبون يعني الذين تابوا من الشرك وبرئوا من النفاق. وقيل : التائبون من كل معصية فيدخل فيه التوبة من الكفر والنفاق. وقيل : التائبون من جميع المعاصي ، لأن لفظ التائبين لفظ عموم فيتناول الكل. واعلم أن التوبة المقبولة إنما تحصل بأمور أربعة : أولها احتراق القلب عند صدور المعصية ، وثانيها الندم على فعلها فيما مضى ، وثالثها العزم على تركها في المستقبل ، ورابعها أن يكون الحامل له على التوبة طلب رضوان الله وعبوديته فإن كان غرضه بالتوبة تحصيل مدح الناس له ودفع مذمتهم فليس بمخلص في توبته. (الْعابِدُونَ) يعني المطيعين لله الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم وقيل هم الذين أتوا بالعبادة على أقصى وجوه التعظيم لله تعالى وهي أن تكون العبادة خالصة لله تعالى : (الْحامِدُونَ) يعني الذين يحمدون الله تعالى على كل حال في السراء والضراء.

روى البغوي بغير سند عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة ، الذين يحمدون الله في السراء والضراء. وقيل : هم الذين يحمدون الله ويقومون بشكره على جميع نعمه دنيا وأخرى (السَّائِحُونَ) قال ابن مسعود وابن عباس : هم الصائمون. قال سفيان بن عيينة : إنما سمي الصائم سائحا لتركه اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح. وقال الأزهري : قيل للصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبدا لا زاد معه فكان ممسكا عن الأكل وكذلك الصائم ممسك عن الأكل. وقيل : أصل السياحة استمرار الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المنهي وقال عطاء : السائحون هم الغزاة المجاهدون في سبيل الله ويدل عليه ما روي عن عثمان بن مظعون قال قلت يا رسول الله ائذن لي في السياحة. فقال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ذكره البغوي بغير سند. وقال عكرمة : السائحون هم طلبة العلم لأنهم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلبه وقيل إن السياحة لها أثر عظيم في تهذيب النفس وتحسين أخلاقها لأن السائح لا بد أن يلقى أنواعا من الضر والبؤس ولا بد له من الصبر عليها ويلقى العلماء والصالحين في سياحته فيستفيد منهم ويعود عليه من بركتهم ويرى العجائب وأثار قدرة الله تعالى فيتفكر في ذلك فيدله على وحدانية الله سبحانه وتعالى وعظيم قدرته (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) يعني المصلين وإنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود ، لأنهما معظم أركانها وبهما يتميز المصلي من غير المصلي بخلاف حالة القيام والقعود لأنهما حالة المصلي وغيره (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) يعني يأمرون الناس بالإيمان بالله وحده (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) يعني عن الشرك بالله. وقيل : إنهم يأمرون الناس بالحق في أديانهم واتباع الرشد والهدى والعمل الصالح وينهونهم عن كل قول وفعل نهى الله عباده عنه أو نهى عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الحسن : أما أنهم لم يأمروا الناس بالمعروف حتى كانوا من أهله ولم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه وأما دخول الواو في والناهون عن المنكر فإن العرب تعطف بالواو على السبعة ومنه قوله سبحانه وتعالى : وثامنهم كلبهم وقوله تعالى في صفة الجنة : وفتحت أبوابها. وقيل : فيه وجه آخر وهو أن الموصوفين بهذه الصفات الست هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، فعلى هذا يكون قوله تعالى التائبون إلى قوله الساجدون مبتدأ خبره الآمرون يعني هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) قال ابن عباس : يعني القائمين بطاعة الله وقال الحسن : الحافظون لفرائض الله وهم أهل الوفاء ببيعة الله. وقيل : هم المؤدون فرائض الله المنتهون إلى أمره ونهيه فلا يضيعون شيئا من العمل الذي ألزمهم به ولا يرتكبون منهيا نهاهم عنه (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني بشر يا محمد المصدقين بما وعدهم الله به

٤٠٧

إذا وفوا الله تعالى بعهده فإنه موف لهم بما وعدهم من إدخال الجنة. وقيل : وبشر من فعل هذه الأفعال التسع وهو قوله تعالى التائبون إلى آخر الآية بأن له الجنة وإن لم يغز.

قوله عزوجل : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) الآية واختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية فقال قوم : نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والد علي وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يستغفر له بعد موته فنهاه الله عن ذلك ويدل على ذلك ما روي عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حزن «قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة : أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرضها عليه ويعودان لتلك المقالة حتى قالوا : أبو طالب آخر ما كلمهم أنا على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى وأنزل الله في أبي طالب «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء» أخرجاه في الصحيحين.

فإن قلت قد استبعد بعض العلماء نزول هذه الآية في شأن أبي طالب وذلك أن وفاته كانت بمكة أول الإسلام ونزول هذه السورة بالمدينة وهي من آخر القرآن نزولا.

«قلت الذي نزل في أبي طالب قوله تعالى إنك لا تهدي من أحببت فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» كما في الحديث فيحتمل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستغفر له في بعض الأوقات إلى أن نزلت هذه الآية فمنع من الاستغفار والله أعلم بمراده وأسرار كتابه (م).

عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمه عند الموت : «قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة فأبى فأنزل الله إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء» الآية وفي رواية قال : «لولا تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله» الآية» (ق).

«عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر عنده عمه طالب فقال «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه تغلى منه أم دماغه» وفي رواية : «يغلى منه دماغه من حرارة نعليه» (ق) عن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قلت يا رسول الله ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك قال : هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» وفي رواية قال قلت يا رسول الله إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل ينفعه ذلك قال «نعم وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح» وقال أبو هريرة وبريدة «لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة أتى قبر أمه آمنة فوقف حتى حميت الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين» الآية وروى الطبري بسنده عن بريدة : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم مكة أتى رسم قال وأكثر ظني أنه قال قبر أمه فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبرا فقلنا : يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت قال إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يؤذن لي فما رؤي باكيا أكثر من يومئذ».

وحكى ابن الجوزي «عن بريدة قال إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بقبر أمه فتوضأ وصلى ركعتين ثم بكى فبكى الناس لبكائه ثم انصرف إليهم فقالوا : ما أبكاك؟ قال : مررت بقبر أمي فصليت ركعتين ثم استأذنت ربي أن أستغفر لها فنهيت فبكيت ثم عدت فصليت ركعتين فاستأذنت ربي أن أستغفر لها فزجرت زجرا فأبكاني ثم دعا براحلته فركبها فما سار إلا هنيهة حتى قامت الناقة لثقل الوحي فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى» الآية (ق) «عن أبي هريرة قال زار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت

٤٠٨

ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت» وقال قتادة قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» فأنزل الله هذه الآية وروى الطبري بسنده عنه قال : «ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم أفلا نستغفر لهم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلى والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل الله عزوجل ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين» الآية ثم عذر الله إبراهيم فقال تعالى وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه الآية عن علي بن أبي طالب قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان فقال : استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية أخرجه النسائي والترمذي. وقال : حديث حسن وأخرجه الطبري. وقال فيه : فأنزل الله عزوجل وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه الآية ومعنى الآية ما كان ينبغي للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وليس لهم ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لا يغفر للمشركين ولا يجوز أن يطلب منه ما لا يفعله ففيه النهي عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى لأن النهي عن الاستغفار للمشركين عام فيستوي فيه القريب والبعيد ثم ذكر عزوجل سبب المنع فقال تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) يعني تبين لهم أنهم ماتوا على الشرك فهم من أصحاب الجحيم وأيضا فقد قال تبارك وتعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به والله تعالى لا يخلف وعده أما قوله سبحانه وتعالى :

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤))

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) فمعناه وما كان طلب إبراهيم لأبيه المغفرة من الله إلا من أجل موعدة وعدها إبراهيم إياه أن يستغفر له رجاء إسلامه قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : «لما أنزل الله خبرا عن إبراهيم» أنه قال سلام عليك سأستغفر لك ربي سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان فقلت أتستغفر لأبويك وهما مشركان فقال أولم يستغفر إبراهيم لأبيه فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله عزوجل : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) إلى قوله إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك» يعني أن إبراهيم ليس بقدوة في هذا الاستغفار لأنه إنما استغفر لأبيه وهو مشرك لمكان الوعد الذي وعده أن يسلم (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) فعلى هذا الهاء في إياه راجعة إلى إبراهيم والوعد كان من أبيه وذلك أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم أن يسلم فقال إبراهيم : سأستغفر لك ربي يعني إذا أسلمت. وقيل : إن الهاء راجعة إلى الأب وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه. ويؤكد هذا قوله : سأستغفر لك ربي ويدل عليه أيضا قراءة الحسن وعدها أباه بالباء الموحدة فلما تبين له أنه عدو لله ، تبرأ منه يعني : فلما ظهر لإبراهيم وبان له أن أباه عدو لله يعني بموته على الكفر تبرأ منه عند ذلك وقيل يحتمل أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى إبراهيم أن أباه عدو له فتبرأ منه وقيل لما تبين له في الآخرة أنه عدو لله تبرأ منه ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : يلقى إبراهيم عليه‌السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي فيقول الله تبارك وتعالى إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» أخرجه البخاري زاد غيره فتبرأ منه والقترة غبرة يعلوها سواد والذيخ بذال معجمة ثم ياء مثناة من تحت ثم خاء معجمة هو ذكر الضباع والأنثى ذيخة.

٤٠٩

وقوله تبارك وتعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) جاء في الحديث إن الأواه الخاشع المتضرع. وقال ابن مسعود : الأواه الكثير الدعاء وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هو المؤمن التواب ، وقال الحسن وقتادة : الأواه الرحيم بعباد الله وقال مجاهد : الأواه الموقن وقال كعب الأحبار : هو الذي يكثر التأوه وكان إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يقول أوه من النار قبل أن لا ينفع أوه وقال عقبة بن عامر : الأواه الكثير الذكر لله عزوجل وقال سعيد بن جبير هو المسبح وعنه أنه المعلم للخير. وقال عطاء : هو الراجع عما يكره الله الخائف من النار. وقال أبو عبيدة : هو المتأوه شفقا وفرقا المتضرع إيقانا ولزوما للطاعة. وقال الزجاج : انتظم في قول أبي عبيدة جميع ما قيل في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوت تنفس الصعداء والفعل منه أوه هو قول الرجل عند شدة خوفه وحزنه أوه والسبب فيه أن عند الحزن تحمي الروح داخل القلب ويشتد حرها فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق في القلب ليخف بعض ما به من الحزن والشدة وأما الحليم : فمعناه ظاهر وهو الصفوح عمن سبه أو أتاه بمكروه ثم يقابله بالإحسان واللطف كما فعل إبراهيم بأبهى حين قال لئن لم تنته لأرجمنك ، فأجابه إبراهيم بقوله سلام عليك سأستغفر لك ربي. وقال ابن عباس : الحليم : السيد ، وإنما وصف الله عزوجل إبراهيم عليه‌السلام بهذين الوصفين وهما شدة الرقة والخوف الوجل والشفقة على عباد الله ليبين سبحانه وتعالى أنه مع هذه الصفات الجميلة الحميدة تبرأ من أبيه لما ظهر له إصراره على الكفر فاقتدوا به أنتم في هذه الحالة أيضا.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥))

وقوله سبحانه وتعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) يعني : وما كان الله ليقضي عليكم بالضلال بسبب استغفاركم لموتاكم المشركين بعد أن رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله وذلك أنه لما منع المؤمنين من الاستغفار للمشركين وكانوا قد استغفروا لهم قبل المنع خافوا ما صدر منهم فأعلمهم أن ذلك ليس بضائرهم (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) يعني ما يأتون وما يذرون وهو أن يقدم إليهم النهي عن ذلك الفعل فأما قبل النهي فلا حرج عليهم في فعله وقيل : إن جماعة من المسلمين كانوا قد ماتوا قبل النهي عن الاستغفار للمشركين فلما منعوا من ذلك وقع في قلوب المؤمنين خوف على من مات على ذلك فأنزل الله عزوجل هذه الآية وبين أنه لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم ما يجب عليهم أن يتقوه ويتركوه. وقال مجاهد : بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة. وقال الضحاك : وما كان الله ليعذب قوما حتى يبين لهم ما يأتون وما يذرون. وقال مقاتل والكلبي : هذا في أمر المنسوخ وذلك أن قوما قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسلموا قبل تحريم الخمر وصرف القبلة إلى الكعبة ورجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة إلى الكعبة ولا علم لهم بذلك ثم قدموا بعد ذلك إلى المدينة فوجودا الخمر قد حرمت والقبلة قد صرفت إلى الكعبة فقالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن على ضلال فأنزل الله عزوجل : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) يعني وما كان الله ليبطل عمل قوم وقد عملوا بالمنسوخ حتى بين الناسخ (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعني أنه سبحانه وتعالى عليم بما خالط نفوسكم من الخوف عند ما نهاكم عن الاستغفار للمشركين ويعلم ما يبين لكم من أوامره ونواهيه.

(إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ

٤١٠

يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧))

(إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني أنه سبحانه وتعالى هو القادر على ملك السموات والأرض وما فيهما عبيده وملكه يحكم فيهم بما يشاء (يُحْيِي وَيُمِيتُ) يعني أنه تعالى يحيي من يشاء على الإيمان ويميته عليه ويحيي من يشاء على الكفر ويميته عليه لا اعتراض لأحد عليه في حكمه وعبيده (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) يعني أنه تعالى هو وليكم وناصركم ليس لكم غيره يمنعكم من عدوكم وينصركم عليهم.

قوله عزوجل : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) الآية تاب الله بمعنى تجاوز وصفح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرين والأنصار ومعنى توبته على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عدم مؤاخذته بإذنه للمنافقين بالتخلف في غزوة تبوك وهي كقوله سبحانه وتعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) فهو من باب ترك الأفضل لا أنه ذنب يوجب عقابا. وقال أصحاب المعاني : هو مفتاح كلام للتبرك كقوله سبحانه وتعالى فأن لله خمسه. ومعنى هذا : أن ذكر النبي بالتوبة عليه تشريف للمهاجرين والأنصار في ضم توبتهم إلى توبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ضم اسم الرسول إلى اسم الله في قوله فإن لله خمسه وللرسول فهو تشريف له. وأما معنى : توبة الله على المهاجرين والأنصار ، فلأجل ما وقع في قلوبهم من الميل إلى القعود عن غزوة تبوك لأنها كانت في وقت شديد وربما وقع في قلوب بعضهم أنا لا نقدر على قتال الروم وكيف لنا بالخلاص منهم فتاب الله عليهم وعفا عنهم ما وقع في قلوبهم من هذه الخواطر والوساوس النفسانية. وقيل : إن الإنسان لا يخلو من زلات وتبعات في مدة عمره إما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأفضل. ثم إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين معه لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه وصبروا على تلك الشدائد العظيمة التي حصلت لهم في ذلك السفر غفر الله لهم وتاب عليهم لأجل ما تحملوه من الشدائد العظيمة في تلك الغزوة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما ضم ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذكرهم تنبيها على عظم مراتبهم في الدين وأنهم قد بلغوا إلى الرتبة التي لأجلها ضم ذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذكرهم (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في تلك الغزوة من المهاجرين والأنصار وقد ذكر بعض العلماء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سار إلى تبوك في سبعين ألفا ما بين راكب وماش من المهاجرين والأنصار وغيرهم من سائر القبائل (فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) يعني في وقت العسرة ولم يرد ساعة بعينها والعسرة الشدة والضيق وكانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة والجيش الذي سار فيه يسمى جيش العسرة لأنه كان عليهم عسرة في الظهر والزاد والماء قال الحسن كان العشرة : منهم يخرجون على بعير واحد يعتقبونه بينهم يركب الرجل منهم ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك وكان زادهم التمر المسوس والشعير المتغير وكان النفر منهم يخرجون وما معهم إلا التمرات اليسيرة بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يخرجها من فيه ويعطيها صاحبه ثم يشرب عليها جرعة من الماء ويفعل صاحبه كذلك حتى تأتي على آخرهم ولا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم. وقال عمر بن الخطاب : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستقطع وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده ، وحتى أن الرجل كان يذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستقطع فقال أبو بكر الصديق : يا رسول الله إن الله عزوجل قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله قال أتحب ذلك قال : نعم فرفع يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يرجعا حتى أرسل الله سحابة فمطرت فملأوا ما معهم من الأوعية ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر أسنده الطبري عن عمر.

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) يعني من بعد ما قارب أن تميل قلوب بعضهم عن الحق من أجل المشقة والشدة التي نالتهم والزيغ في اللغة الميل. وقيل : همّ بعضهم أن يفارق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند تلك الشدة التي نالتهم لكنهم صبروا واحتسبوا وندموا على ما خطر في قلوبهم فلأجل ذلك قال تعالى : (ثُمَّ تابَ

٤١١

عَلَيْهِمْ) يعني أنه سبحانه وتعالى علم إخلاص نيتهم وصدق توبتهم فرزقهم الإنابة والتوبة.

فإن قلت قد ذكر التوبة أولا ثم ذكرها ثانيا فما فائدة التكرار؟

قلت إنه سبحانه وتعالى ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب تفضلا منه وتطييبا لقلوبهم ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى تعظيما لشأنهم وليعلموا أنه سبحانه وتعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم ثم أتبعه بقوله (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) تأكيدا لذلك ومعنى الرؤوف في صفة الله تعالى أنه الرفيق بعباده لأنه لم يحملهم ما لا يطيقون من العبادات وبين الرؤوف والرحيم فرق لطيف وإن تقاربا في المعنى. قال الخطابي : قد تكون الرحمة مع الكراهة للمصلحة ولا تكاد الرأفة تكون مع الكراهة.

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠))

قوله سبحانه وتعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) هذا معطوف على ما قبله تقديره لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة الذين خلفوا وفائدة هذا العطف بين قبول توبتهم وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكلهم من الأنصار وهم المرادون بقوله سبحانه وتعالى وآخرون مرجون لأمر الله وفي معنى خلفوا قولان : أحدهما أنهم خلفوا عن توبة أبي لبابة وأصحابه وذلك أنهم لم يخضعوا كما خضع أبو لبابة وأصحابه فتاب الله على أبي لبابة وأصحابه وأخر أمر هؤلاء الثلاثة مدة ثم تاب عليهم بعد ذلك والقول الثاني أنهم تخلفوا عن غزوة تبوك ولم يخرجوا مع رسول الله فيها وأما حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه ، فقد روي عن ابن شهاب الزهري قال : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال : وكان أعلم قومه وأوعاهم لأحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : سمعت كعب بن مالك بن عبد الله بن مالك بن كعب يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك. قال : لم أتخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حتى تخلفت عنه في تلك الغزوة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حين جمعتهما في تلك الغزوة ولم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ يريد بذلك الديوان قال كعب : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله عزوجل وغزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر فتجهز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع

٤١٢

ولم أقض شيئا فأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت ثم لم يقدر لي ذلك فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا مما عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبينما هو كذلك ، رأى رجلا مبيضا يزول به السراب فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون قال كعب : فلما بلغني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غدا واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا فأجمعت صدقه فأصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قادما وكان إذا قدم من سفره بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله عزوجل حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال لي تعالى فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك قال قلت يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله ، وفي رواية عفو الله عزوجل ، والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما اعتذر إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لك قال فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكذب نفسي. قال : ثم قلت لهم هل لقي هذا أحد معي قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك قلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي قال فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدوا بدرا ففيهما أسوة قال فمضيت حين ذكروهما لي ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه قال : فاجتنبنا الناس أو قال تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه فو الله مارد علي السلام فقلت : يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلم أني أحب الله ورسوله قال : فسكت فعدت فناشدته فسكت فعدت فناشدته فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل عليّ كعب بن مالك قال فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك قال : فقلت حين قرأتها وهذه أيضا

٤١٣

من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي وإذا رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتيني فقال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل قال لا بل اعتزلها ولا تقربها قال وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك قال فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر قال فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خدام فهل تكره أن أخدمه قال لا ولكن لا يقربنك فقالت إنه والله ما به حركة إلى شيء وو الله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه قال فقلت لا استأذن فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يدريني ما يقول لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب قال فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا. قال ثم صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عزوجل عنا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر قال فخررت ساجدا وعرفت أنه قد جاء فرج قال وآذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلى فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته والله ما أملك غيرهما واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أتأمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة ويقولون ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حوله الناس فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلا رجل من المهاجرين غيره. قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور : أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك. قال : قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟فقال : لا بل من عند الله. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سرّ استنار وجهه حتى كان وجهه قطعة قمر قال وكنا نعرف ذلك منه قال فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله رسوله فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قال فقلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر قال وقلت يا رسول الله إن الله إن أنجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت قال فو الله ما علمت أن أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحسن مما أبلاني الله،والله ما تعمدت كذبه منذ قلت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي قال فأنزل الله عزوجل لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة حتى بلغ أنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت حتى بلغ اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال كعب : والله ما أنعم الله عليهم الأرض بما رحبت حتى بلغ اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال كعب : والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا إن الله عزوجل قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال الله سبحانه وتعالى : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)قال كعب : كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرنا حتى قضى الله تعالى فيه فبذلك قال الله عزوجل : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) وليس الذي ذكر مما خلفنا عن الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه وفي رواية ونهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كلامي وكلام صاحبي ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا فاجتنب الناس كلامنا فلبثت كذلك حتى طال علي الأمر فما

٤١٤

من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي علي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو يموت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي علي ولا يسلم علي قال : وأنزل الله عزوجل توبتنا على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند أم سلمة. وكانت أم سلمة محسنة في شأني معتنية بأمري فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أم سلمة تيب على كعب بن مالك قالت : أفلا أرسل إليه فأبشره قال : إذا يحطمكم الناغس فيمنعونكم النوم سائر الليل حتى إذا صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الفجر آذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوبة الله علينا أخرجه البخاري ومسلم. (شرح غريب هذا الحديث) ..

قوله حين تواثقنا على الإسلام : التواثق تفاعل من الميثاق وهو العهد. والراحلة : الجمل أو الناقة القويان على الحمل والسفر. وقوله : ورى بغيرها يقال : ورى عن الشيء إذا أخفاه وأظهره غيره. والمفازة : البرية القفراء سميت بذلك تفاؤلا بالفوز والنجاة منها قوله فجلا هو بالتخفيف يعني كشف لهم مقصدهم وأظهره لهم والأهبة الجهاز وما يحتاج إليه المسافر قوله فأنا إليها صعر هو بالعين المهملة أي أميل والصعر الميل. قوله : وتفارط الغزو أي تباعد ما بيني وبين الجيش من المسافة وطفق مثل جعل والمغموص المعيب المشار إليه بالعيب. يقال : فلان ينظر في عطفيه إذا كان معجبا بنفسه ويقال : زال به السراب يزول إذا ظهر شخص الإنسان خيالا فيه من بعد. والسراب : هو ما يظهر للإنسان في البرية في وقت الهاجرة كأنه ماء والمبيض بكسر الياء لابس البياض. قوله : كن أبا خيثمة معناه أنت أبو خيثمة وقيل معناه : اللهم اجعله أبا خيثمة أي لتوجد يا هذا الشخص أبا خيثمة حقيقة قوله الذي لمزه المنافقون يعني عابوه واحتقروه والقافل الراجع من سفره إلى وطنه قوله حضرني بثني البث أشد الحزن كأنه لشدته يظهر قوله زاح عني الباطل أي زال وذهب عني وأجمعت صدقه أي عزمت عليه لقد أعطيت جدلا أي فصاحة وقوة في الكلام بحيث أخرج عن عهدة ما أردت بما أشاء من الكلام والمغضب بفتح الضاد هو الغضبان قوله فما زالوا يؤنبونني أي يلومونني أشد اللوم قوله حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي الأرض التي أعرف : معناه تغير علي كل شيء من الأرض وتوحشت عليّ وصارت كأنها أرض لا أعرفها وقوله فأما صاحباي فاستكانا يعني خضعا وسكنا قوله تسورت حائط أبي قتادة أي علوته وصعدت سوره وهو أعلاه والأنباط الفلاحون والزراعون وهم من العجم والروم والمضيعة مفعلة من الضياع والأطراح ، وقوله فتيممت بها التنور فسجرته بها أي فقصدت بالصحيفة التي أرسل بها ملك غسان فأحرقتها في التنور وسلع جبل بالمدينة معروف وقوله وانطلقت أتأمم يعني أقصد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والفوج : الجماعة من الناس. يقال : برق وجهه إذا لمع وظهر عليه أمارات الفرح والسرور قوله أنخلع من مالي أي أخرج منه جميعه وأتصدق به كما يخلع الإنسان قميصه. قوله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني البلاء. والابتلاء : يكون في الخير وفي الشر وإذا أطلق كان في الشر غالبا فإذا أريد به الخير قيد به كما قيد هنا بقوله أحسن مما أبلاني أن أنعم على قوله أن لا أكون كذبته ، هذا هو في جميع روايات الحديث بزيادة لفظ لا قال بعض العلماء لفظة لا زائدة ومعناه أن أكون كذبته وقوله فأهلك هو بكسر اللام وإرجاؤه أمرنا تأخيره وقوله في الرواية الأخرى يحطمكم الناس أي يطؤكم ويزدحمون عليكم وأصل الوطء الكسر وقوله سائر الليل يعني باقي الليل وقوله وآذن بتوبة الله علينا أي أعلم والأذان الإعلام والله أعلم.

قوله عزوجل : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) يعني بما اتسعت والرحب سعة المكان والمعنى أنه ضاق عليهم المكان بعد أن كان واسعا (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) يعني من شدة الغم والحزن ومجانبة الناس إياهم وترك كلامهم (وَظَنُّوا) يعني وأيقنوا وعلموا (أَنْ لا مَلْجَأَ) يعني لا مفزع ولا مفر (مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) ولا عاصم من عذابه إلا هو (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) فيه إضمار وحذف تقديره وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا

٤١٥

إليه فرحمهم ثم تاب عليهم وإنما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه وقوله ثم تاب عليهم تأكيد لقبول توبتهم لأنه قد ذكر توبتهم في قوله تعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) كما تقدم بيانه وأنه عطف على قوله (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) أي وتاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار أي وتاب الله على الثلاثة الذين خلفوا.

وقوله تعالى : (لِيَتُوبُوا) معناه : أن الله سبحانه وتعالى تاب عليهم في الماضي ليكون ذلك داعيا لهم إلى التوبة في المستقبل فيرجعوا ويداوموا عليها وقيل إن أصل التوبة الرجوع ومعناه ثم تاب عليهم ليرجعوا إلى حالتهم الأولى يعني إلى عادتهم في الاختلاط بالناس ومكالمتهم فتسكن نفوسهم بذلك (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) يعني على عباده (الرَّحِيمُ) بهم وفيه دليل على أن قبول التوبة بمحض الرحمة والكرم والفضل والإحسان وأنه لا يجب على الله تعالى شيء.

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) يعني في مخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) يعني مع من صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه في الغزوات ولا تكونوا مع المتخلفين من المنافقين الذين قعدوا في البيوت وتركوا الغزو. وقال سعيد بن جبير : مع الصادقين يعني مع أبي بكر وعمر. قال ابن جريج : مع المهاجرين. وقال ابن عباس : مع الذين صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك بإخلاص نية. وقيل : كونوا مع الذين صدقوا في الاعتراف بالذنب وهم يعتذرون بالأعذار الباطلة الكاذبة وهذه الآية تدل على فضيلة الصدق لأن الصدق يهدي إلى الجنة والكذب إلى الفجور كما ورد في الحديث. وقال ابن مسعود : الكذب لا يصلح في جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صاحبه شيئا ثم لا ينجزه اقرءوا إن شئتم وكونوا مع الصادقين.

وروي أن أبا بكر الصديق احتج بهذه الآية على الأنصار في يوم السقيفة وذلك أن الأنصار قالوا : منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر : يا معشر الأنصار إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه للفقراء المهاجرين إلى قوله أولئك هم الصادقون من هم قالت الأنصار : أنتم هم فقال أبو بكر : إن الله تعالى يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) فأمركم أن تكونوا معنا ولم يأمرنا أن نكون معكم نحن الأمراء وأنتم الوزراء وقيل مع بمعنى من والمعنى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا من الصادقين قوله سبحانه وتعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) يعني لساكني المدينة من المهاجرين والأنصار : (وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) يعني سكان البوادي من مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار وقيل : هو عام في كل الأعراب لأن اللفظ عام وحمله على العموم أولى (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) يعني إذا غزا وهذا ظاهر خبر ومعناه النهي أي ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا يَرْغَبُوا) يعني ولا أن يرغبوا (بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) يعني ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يختاره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويرضاه لنفسه ولا يختاروا لأنفسهم الخفض والدعة ويتركوا مصاحبته والجهاد معه في حال الشدة والمشقة وقال الحسن : لا يرغبوا بأنفسهم أن يصيبهم من الشدائد فيختاروا الخفض والدعة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مشقة السفر ومقاساة التعب (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ) في سفرهم وغزواتهم (ظَمَأٌ) أي عطش (وَلا نَصَبٌ) أي تعب (وَلا مَخْمَصَةٌ) يعني مجاعة شديدة (فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) يعني ولا يضعون قدما على الأرض يكون ذلك القدم سببا لغيظ الكفار وغمهم وحزنهم (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) يعني أسرا أو قتلا أو هزيمة أو غنيمة أو نحو ذلك قليلا كان أو كثيرا (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) يعني إلا كتب الله لهم بذلك ثواب عمل صالح قد ارتضاه لهم وقبله منهم (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) يعني أن الله سبحانه وتعالى لا يدع محسنا من خلقه قد أحسن في عمله وأطاعه فيما أمره به أو نهاه عنه أن يجازيه على إحسانه وعمله الصالح وفي الآية دليل

٤١٦

على أن من قصد معصية الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله من قصد معصية الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها سيئات إلا أن يغفرها الله بفضله وكرمه واختلف العلماء في حكم هذه الآية. فقال قتادة : هذا الحكم خاص برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا غزا بنفسه لم يكن لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر فأما غيره من الأئمة والولاة فيجوز لمن شاء من المؤمنين أن يتخلف عنه إذا لم يكن للمسلمين إليه ضرورة. وقال الوليد بن مسلم : سمعت الأوزاعي وابن المبارك وابن جابر وسعيدا يقولون في هذه الآية إنها لأول هذه الأمة وآخرها فعلى هذا تكون هذه الآية محكمة لم تنسخ. وقال ابن زيد : هذا حين كان أهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها الله عزوجل وأباح التخلف لمن شاء بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة ونقل الواحدي عن عطية أنه قال : وما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دعاهم وأمرهم. وقال : هذا هو الصحيح لأنه لا تتعين الطاعة والإجابة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا إذا أمر وكذا غيره من الأئمة والولاة قالوا إذا ندبوا أو عينوا لأنّ لو سوغنا للمندوب أن يتقاعد ولم يختص بذلك بعض دون بعض لأدى ذلك إلى تعطيل الجهاد والله أعلم.

(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١))

وقوله عزوجل : (وَلا يُنْفِقُونَ) يعني في سبيل الله (نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) يعني تمرة فما دونها أو أكثر منها حتى علاقة سوط (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) يعني ولا يجاوزون في مسيرهم واديا مقبلين أو مدبرين فيه (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) يعني كتب الله لهم آثارهم وخطاهم ونفقاتهم (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) يعني يجازيهم (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) قال الواحدي : معناه بأحسن ما كانوا يعملون. وقال الإمام فخر الدين الرازي : فيه وجهان : الأول : أن الأحسن من صفة أفعالهم وفيها الواجب والمندوب والمباح فالله سبحانه وتعالى يجزيهم على الأحسن وهو الواجب والمندوب دون المباح. والثاني : أن الأحسن صفة للجزاء أي يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل وهو الثواب وفي الآية دليل على فضل الجهاد وأنه من أحسن أعمال العباد (ق) عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها وفي رواية وما فيها (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو فأقتل في سبيل الله ثم أغزو فأقتل ثم أغزوا فأقتل» لفظ مسلم وللبخاري بمعناه (ق).

عن أبي سعيد الخدري قال : «أتى رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أي الناس أفضل قال مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله قال ثم من قال ثم رجل في شعب من الشعاب يعبد الله» وفي رواية «يتقي الله ويدع الناس من شره» (خ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» يعني حسنات (خ) عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار» (م) عن أبي مسعود الأنصاري البدري قال : «جاء رجل بناقة مخطومة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة» عن خريم بن

٤١٧

فاتك قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أنفق نفقة في سبيل الله كتب الله له سبعمائة ضعف أخرجه الترمذي والنسائي.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢))

قوله سبحانه وتعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) الآية. قال عكرمة : لما نزلت هذه الآية ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله قال ناس من المنافقين. هلك من تخلف فنزلت هذه الآية ومن كان المؤمنون لينفروا كافة. وقال ابن عباس : أنها ليست في الجهاد ولكن لما دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مضر بالسنين أجدبت بلادهم فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ويقبلوا بالإسلام وهم كاذبون فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجهدوهم فأنزل الله عزوجل الآية يخبر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم ليسوا مؤمنين فردهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم إذا رجعوا إليهم فذلك قوله سبحانه وتعالى : (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال : «كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة فيأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ويتفقهون في دينهم ويقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تأمرنا أن نفعله وأخبرنا عما نقول لعشائرنا إذا انطلقنا إليهم فيأمرهم نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطاعة الله وطاعة رسوله ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة فكانوا إذا أتوا قومهم نادوا أن من أسلم فهو منا وينذرونهم حتى أن الرجل ليفارق أباه وأمه وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبرهم بما يحتاجون إليه من أمر الدين وأن ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ويدعوهم إلى الإسلام وينذروهم ويبشروهم بالجنة وقال مجاهد : إن ناسا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا ومن الحطب ما ينتفعون به ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى فقال الناس لهم ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم تحرجا وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال الله عزوجل (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) يبتغون الخير وقعد طائفة (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ليسمعوا ما أنزل الله (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) من الناس (إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وقال ابن عباس : ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة يعني عصبة يعني السرايا ولا يسيرون إلا بإذنه فإذا رجعت السرايا وقد نزل في بعضهم قرآن تعلمه القاعدون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا إن الله قد أنزل على نبيكم من بعدكم قرآنا وقد تعلمناه فمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم وتبعث سرايا أخرى فذلك قوله سبحانه وتعالى ليتفقهوا في الدين يقول ليتعملوا ما أنزل الله على نبيهم ويعلموا السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون نقل هذه الأقوال كلها الطبري وأما تفسير الآية فيمكن أن يقال إنها من بقية أحكام الجهاد ويمكن أن يقال إنها كلام مبتدأ لا تعلق له بالجهاد فعلى الاحتمال الأول فقد قيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا خرج للغزو ولم يتخلف عنه إلا منافق أو صاحب عذر فلما بالغ الله في الكشف عن عيوب المنافقين وفضحهم في تخلفهم عن غزوة تبوك قال المؤمنون والله لا نتخلف عن شيء من الغزوات مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا عن سرية يبعثها فلما قدم المدينة وبعث السرايا نفر المسلمون جميعا إلى الغزو وتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده فنزلت هذه الآية فيكون المعنى ما كان ينبغي للمؤمنين ولا يجوز لهم أن ينفروا بكليتهم إلى الجهاد ويتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل يجب أن ينقسموا إلى قسمين فطائفة يكونون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطائفة ينفرون إلى الجهاد لأن ذلك الوقت كانت الحاجة داعية إلى انقسام أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قسمين : قسم للجهاد ، وقسم لتعلم العلم والتفقه في الدين ، لأن الأحكام والشرائع كانت تتجدد شيئا بعد شيء فالملازمون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحفظون ما نزل من الأحكام وما تجدد من الشرائع فإذا قدم الغزاة أخبروهم بذلك فيكون معنى الآية وما كان المؤمنون لينفروا

٤١٨

كافة فلولا يعني فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة للجهاد وقعد طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم الذين نفروا إلى الجهاد إذا رجعوا إليهم من غزوهم لعلهم يحذرون يعني مخالفة أمر الله وأمر رسوله وهذا معنى قول قتادة. وقيل : إن التفقه صفة للطائفة النافرة قال الحسن : ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ومعنى ذلك أن الفرقة النافرة إذا شاهدوا نصر الله لهم على أعدائهم وأن الله يريد إعلاء دينه وتقوية نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن الفئة القليلة قد غلبت جمعا كثيرا ، فإذا رجعوا من ذلك النفير إلى قومهم من الكفار ، أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر والفتح والظفر لهم لعلهم يحذرون فيتركوا الكفر والنفاق وأورد على هذا القول أن هذا النوع لا يعد تفقها في الدين ويمكن أن يجاب عنه بأنهم إذا علموا أن الله هو ناصرهم ومقويهم على عدوهم كان ذلك زيادة في إيمانهم فيكون ذلك فقها في الدين. وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يقال إن هذه الآية كلام مبتدأ لا تعلق له بالجهاد وهو ما ذكرناه عن مجاهد أن ناسا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجوا إلى البوادي فأصابوا معروفا ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى فقال الناس لهم : ما نراكم إلا قد تركتم صاحبكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجا فأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله هذه الآية والمعنى هلا نفر من كل فرقة طائفة وقعد طائفة ليتفقهوا في الدين ويبلغوا ذلك إلى النافرين لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون يعني بأس الله ونقمته إذا خالفوا أمره في الآية دليل على أنه يجب أن يكون المقصود من العلم والتفقه دعوة الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم فكل من تفقه وتعلم بهذا القصد كان المنهج القويم والصراط المستقيم ومن عدل عنه وتعلم العلم لطلب الدنيا كان من الأخسرين أعمالا الآية (ق).

عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم ويعطى الله ولم يزل أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة وحتى يأتي أمر الله» (ق).

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا». عن ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد». أخرجه الترمذي وأصل الفقه في اللغة الفهم يقال فقه الرجل إذا فهم وفقه فقاهة إذا صار فقيها. وقيل : الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم وفي الاصطلاح الفقه عبارة عن العلم بأحكام الشرائع وأحكام الدين وذلك ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية ففرض العين معرفة أحكام الطهارة وأحكام الصلاة والصوم فعلى كل مكلف معرفة ذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طلب العلم فريضة على كل مسلم» ذكره البغوي بغير سند وكذلك كل عبادة وجبت على المكلف بحكم الشرع يجب عليه معرفة علمها مثل علم الزكاة إذا صار له مال يجب في مثله الزكاة وعلم أحكام الحج إذا وجب عليه.

وأما فرض الكفاية من الفقه ، فهو أن يتعلم حتى يبلغ رتبة الاجتهاد ودرجة الفتيا وإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعا وإذا قام به من كل بلد واحد فتعلم حتى بلغ درجة الفتيا سقط الفرض عن الباقين وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث.

عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» أخرجه الترمذي مع زيادة فيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة» أخرجه الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع» أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة» أخرجه أبو داود.

٤١٩

الآية المحكمة هي التي لا اشتباه فيها ولا اختلاف في حكمها أو ما ليس بمنسوخ ، والسنة القائمة هي المستمرة الدائمة التي العمل بها متصل لا يترك ، والفريضة العادلة هي التي لا جور فيها ولا حيف في قضائها. قال الفضيل بن عياض : عالم عامل معلم يدعى عظيما في ملكوت السموات. وأخرجه الترمذي موقوفا وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه : «طلب العلم أفضل من صلاة النافلة» قوله سبحانه وتعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب قال ابن عباس : مثل قريظة والنضير وخيبر ونحوها. وقال ابن عمر : هم الروم لأنهم كانوا مكان الشأم والشأم أقرب إلى المدينة من العراق. وقال بعضهم : هم الديلم. وقال ابن زيد : كان الذين يلونهم من الكفار العرب فقاتلوهم حتى فرغوا منهم فأمروا بقتال أهل الكتاب وجهادهم حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد. ونقل عن بعض العلماء أنه قال : نزلت هذه الآية قبل الأمر بقتال المشركين كافة فلما نزلت : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) صارت ناسخة لقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) وقال المحققون من العلماء : لا وجه للنسخ ، لأنه سبحانه وتعالى لما أمرهم بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطريق الأصوب الأصلح وهو أن يبدؤوا بقتال الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد وبهذا الطريق يحصل الغرض من قتال المشركين كافة لأن قتالهم في دفعة واحدة لا يتصور ، ولهذا السبب قاتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا قومه ، ثم انتقل منهم إلى قتال سائر العرب ثم انتقل إلى قتال أهل الكتاب وهم : قريظة ، والنضير ، وخيبر ، وفدك ، ثم انتقل إلى غزو الروم في الشأم فكان فتح الشأم في زمن الصحابة ثم إنهم انتقلوا إلى العراق ثم بعد ذلك إلى سائر الأمصار لأنه إذا قاتل الأقرب تقوى بما ينال منهم من الغنائم على الأبعد.

قوله سبحانه وتعالى : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) يعني شدة وقوة وشجاعة والغلظة ضد الرقة. وقال الحسن : صبرا على جهادهم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) يعني بالعون والنصرة.

قوله عزوجل : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) يعني : وإذا أنزل الله سورة من سور القرآن فمن المنافقين من يقول يعني يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه يعني السورة إيمانا يعني تصديقا ويقينا وإنما يقول ذلك المنافقون استهزاء وقيل : يقول ذلك المنافقون لبعض المؤمنين فقال سبحانه وتعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) يعني تصديقا ويقينا وقربة من الله ، ومعنى الزيادة ، ضم شيء إلى آخر من جنسه مما هو في صفته فالمؤمنون إذا أقروا بنزول سورة القرآن عن ثقة واعترفوا أنها من عند الله عزوجل زادهم ذلك القرار والاعتراف إيمانا وقد تقدم بسط الكلام على زيادة الإيمان في أول سورة الأنفال (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يعني أن المؤمنين يفرحون بنزول القرآن شيئا بعد شيء لأنهم كلما نزل ازدادوا إيمانا وذلك يوجب مزيد الثواب في الآخرة كما تحصل الزيادة في الإيمان بسبب نزول القرآن كذلك تحصل الزيادة في الكفر وهو قوله سبحانه (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ونفاق سمي الشك في الدين مرضا لأنه فساد في القلب يحتاج إلى علاج كالمرض في البدن إذا حصل يحتاج إلى العلاج (فَزادَتْهُمْ) يعني السورة من القرآن (رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) يعني

٤٢٠