تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ١

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٠

القرآن ، ثم قال بعد اسطر ، لا نسلم ان الطائفة عملت بأخبار احاد بقتضي تخصيص القرآن وعلى من ادعى ذلك ان يبينه الى ان قال : ورد عنهم ما لا خلاف فيه من قولهم : اذا جاءكم عنا حديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافق كتاب الله فخذوه وان خالفه فردوه او فاضربوا به عرض الحائط ، ويظهر من مجموع كلمات الشيخ ـ ره ـ ان للقائل بعدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ادلة اربعة :

الاول : ان عموم الكتاب يوجب العلم واليقين ، وخبر الواحد لا يوجب الا الظن ولا يجوز عقلا ان يترك العلم بالظن.

وفيه أولا : ان عموم العام لا يوجب العلم خصوصا بعد ما قلنا من أن العام ليس موضوعا للعموم ، لان اصالة العموم أصل عقلائي محاوري مقامي ، بمعنى أن مقتضى المحاورة الأخذ بالعموم ، وذلك لان مفهوم العام قابل للانطباق على كل ما يصدق عليه هذا المفهوم ، فعلى المتكلم تطبيقه على كل مصاديقه بالارادة الجدية ، واما بعد ورود بيان المراد الجدي بلسان التخصيص أو الغاية أو الاستثناء أو النهي عن نوع من أنواع العام ، يظهر بان العام ليس مرادا جديا للمتكلم ، وعلى هذا فعموم العام لا يكون قطعيا ، نعم ، الظاهر المقامي هو العموم ولذا نتمسك بأصالة العموم ، وقد عرفت أننا لا نقول انها اصالة لفظية بل مقامية وان أمكن استنادها الى اللفظ بسبب سريان المفهوم طبعا لا وضعا.

وثانيا : ان قوله : خبر الواحد لا يوجب الا الظن فمردود بأن خبر الواحد وان لم يوجب العلم الوجداني الا ان احتمال الخلاف الموجود فيه انما هو بمثابة من الضعف ، بحيث لا يعتني به العقلاء حسب فطرتهم العقلائية التي بنوا عليها جميع شؤونهم الحياتية ، وهل من المعقول أن يقال بعدم حجية خبر الموثوق به لكونه واحدا أو لانه لا يوجب القطع واليقين والمعاملة معه معاملة الظنون غير المعتبرة الحاصلة من الرؤيا أو الرمل أو نحوهما ، كلا.

٣٤١

هذا على المختار من عدم جعل الطريق تعبدا ، واما القائل بحجية خبر الواحد تعبدا كالشيخ نفسه فعليه أن يعامل معه معاملة العلم من حيث ترتيب الاثر ، وقد أطنب هو رحمه‌الله في كتاب ـ العدة ـ في تحقيق ذلك ، واذا كان خبر الواحد حجة أي محرزا لمتنه عرفا أو شرعا أو هما معا في غير مورد تخصيص الكتاب فليكن كذلك فيه أيضا لوحدة الدليل وعدم قابلية المسألة الاصولية للتخصيص ، بمعنى تبعيض الحجية بالنسبة الى تخصيص الكتاب به أو اثبات حكم منه.

فالقائل بحجية الخبر تعبدا اما أن يقول بقول الشيخ الانصاري ـ ره ـ بأن مفاد التعبد ، ألق احتمال الخلاف ، واما أن يقول بأن مفاده جعل الظن تعبدا ، مصداقا للعلم ، واما ان يقول بأن مفاده تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، أو أن مفاده ايصال الواقع في رتبة العمل وعلى كل الاقوال تكون النتيجة واحدة وهي لزوم الاخذ بمؤدى الخبر ، وان كنا في فسحة عن جميع هذه التحملات لبنائنا على ان احتمال الخلاف في خبر الموثوق به مغفول عنه عرفا غير معتنى به قطعا وان كان في قرار النفس موجودا تمكن اثارته بالتشكيك والوسواس ولكن لا يعتنى به ، ولذا يسمى الخبر الموثوق به بالعلم العادي أو الظن الاطمئناني أو العلم النظامي أو يقال بأن العلم هو سكون النفس وهو حاصل من خبر الموثوق به ، فتلخص ان عموم العام ليس قطعيا وخبر الواحد ليس ظنيا بحيث لا يمكن الاعتماد عليه في بيان المراد من عمومات الكتاب.

وقال الخراساني ـ قده ـ : ان الدوران بين اصالة العموم للكتاب والسند في الخبر وكلاهما ظنيان ، وحينئذ يكون الخبر بسنده ودلالته قرينة على التصرف في عموم العام ولا عكس لان جعل اصالة العموم موجبة للتصرف في الخبر ، مقتضاه الغاء الخبرة بالمرة لان المفروض أن الخبر خاص والكتاب عام ، فكيف يعقل أن يؤخذ بعموم الكتاب ويترك الخبر؟

٣٤٢

وفيه أنه لا دوران بين اصالة العموم الكتابي وسند الخبر ، اذ المخالفة انما هي في مدلول الخبر لا في نفس الخبر ، لانه لو لم يكن مضمون الخبر متضمنا للتخصيص ومخالفا لعموم العام بالعموم والخصوص لم يكن موجبا لهذا النزاع ، فالدوران انما هو بين الخبر الدال على التخصيص وعموم العام ، ولذا يلتزم القائل بعدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد بحجيته ما لم يكن مخالفا للكتاب ، فالجواب الصحيح ان الخاص حاكم على العام بالحكومة المقامية ومبين لمراد المتكلم الجدي من العام ، وبذلك يظهر ما في الكلام السيد عميد الدين شارح ـ التهذيب ـ من الترديد والدوران الذي ذكره ، وأن الصحيح ما ذكرنا.

الثاني : أنه لو جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، لجاز نسخ الكتاب به ولا اشكال عند القوم بأنه لا يجوز ، فكذلك لا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، وفيه أن موارد النسخ محددة ومعينة في الشرع وجميع تلك الموارد ثابتة بالكتاب ، فلا يكون شيء من الاحكام القرآنية الا وقد علم ناسخها ومنسوخها ، فلم يبق مورد للنسخ حتى يتكفله الخبر الواحد ، فلا نقول بانه لا يمكن أن يكون الناسخ موجودا عند أهل البيت (ع) كما سنشير اليه ان شاء الله في مسألة النسخ ، ولا نقول بانه لا يمكن بيانه من قبلهم بعد حين ولا نقول أيضا بانه لا يمكن أن يخبرنا بالنسخ العادل الثقة ، كيف ونحن نقول ان العلم بالاحكام الشرعية انما هو من مختصات النبي (ص) وأوصيائه (ع) فمقتضى حجية الخبر الموثوق به كونه محرزا لمؤداه وان كان ناسحا أو مخصصا الا انه لا مجال لهذا القول لعدم وجود ناسخ يتكفله الخبر.

وأجاب الخراساني ـ ره ـ بان الاجماع منعقد على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، ويرد عليه ما تفطن اليه الشيخ الطوسي ـ ره ـ في العدة ، من أن الخبر دليل شرعي لا عموم يخص بعضه ويبقى منه بعض ، ومراده من ذلك أن دليلية الدليل عبارة عن كونه حجة ووسطا في

٣٤٣

الاثبات ولا يفرق حينئذ في مؤداه بين ما اذا كان خاصا او ناسخا ، اذ طريقية الخبر لا ترتبط بمتنه ، وبعبارة اخرى المسألة الاصولية غير قابلة للتخصيص ، نعم المسألة الفرعية قابلة له والمقام ليس منها.

وقد سبق أن قال الشيخ الطوسي لم يظهر من اجماع الطائفة العمل بخبر الواحد ، ويرد عليه أخذا باعترافه بعدم جواز التبغيض في الحجية ، أن الحجية لا تتبغض ، فلا فرق بين كون الخبر مخصصا لعموم القرآن أو مقيدا لمطلقه او مفسرا له.

الثالث : ان دليل حجية خبر الواحد اجماع الطائفة المحقة على العمل بأخبار الآحاد ، لكنه لم يدل على العمل بما يخص الكتاب لاننا لا نسلم اتفاقهم على العمل بالخبر ، اذا كان مخصصا له.

وأجاب الخراساني بأن دليل حجية الخبر الواحد ليس منحصرا بالاجماع ولقد أجاد في ما أفاد ، الا أن التحقيق ما حقننا في الامر الاول من انه لا تعبد من الشارع في باب الطرق ، وأن الاخبار أيضا تدل على أن حجية الخبر امر عقلائي ، بشهادة تعليل الارجاع الى الراوي ، بكونه ثقة مأمونا على الدين والدنيا ونحو ذلك مما مر ، نعم ، حدد الشارع في بعض الموارد موضوع حكمه بما اذا ثبت بقول عدلين أو أربعة عدول اهتماما بالواقع وذلك من باب تقييد الاحكام ، لا تبعيض الحجية في باب كباب القضاء واثبات الهلال وثبوت الزنا ، دون باب آخر كغير تلك الابواب مما هو مذكور في الفقه.

الرابع : الروايات الواردة في عرض الاخبار المتعارضة على الكتاب ، وطرح ما يخالفه من تلك الاخبار ، ولعل نظر الشيخ الى هذه الروايات وهي وان اختلفت من حيث التعبير ، ففي بعضها : لم أقله ، وفي بعضها : ردوه ، وفي ثالث : اضربوه عرض الجدار ، الا انها متوافقة من حيث الجامع ، فروايات عرض الاخبار على الكتاب وطرح ما يخالفه دالة بنظر الشيخ ـ ره ـ على عدم جواز الاخذ بما يخالف الكتاب عموما وخصوصا.

٣٤٤

وعلى هذا ، يرد عليه أن الخاص مبين للمراد من العام وحاكم على مقام البيان ، لان السكوت عن بيان الخاص ، كان موضوعا للاخذ بالعموم ، وبورود الخاص تبدل السكوت بالبيان وارتفع الظهور ولم يبق مجال لتوهم العموم في لب الارادة فأين المخالفة وكيف يمكن القول بشمل اخبار العرض للمخصصات؟

وللخراساني ـ ره ـ جوابان :

أحدهما : أنه من كثرة ورود التخصيصات نقول بانصراف الاخبار المانعة عن قبول ما يخالف القرآن عن مورد التخصيص ، ويرد عليه ما قاله الشيخ الطوسي ـ ره ـ من انكار كون التخصيصات واردة من طرق الاحاد ، والانصاف وجود التخصيص في الاحاد.

ثانيهما : حمل الاخبار المانعة عن الاخذ بما يخالف القرآن على ما يخالفه ثبوتا ومن الجائز أن لا يكون الخاص مخالفا في الواقع مع العام ، ويرد عليه أن الظاهر من تلك الاخبار طرح ما يخالف القرآن في مرحلة الاثبات ، أي ما يكون في الظاهر مخالفا للقرآن.

والصحيح ما قلنا من أن الخاص بيان ، والبيان حاكم على ذي البيان وهو العام وهادم للسكوت المستلزم للعموم.

الامر السابع

هل يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد أم لا؟

وقبل بيان الحق في المقام ، لزمنا التصريح بأنه ليس لهذا البحث ثمرة فقهية لان الاحكام الشرعية بما لها من العام والخاص والناسخ والمنسوخ قد وصلت الينا من طرق أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين ، ولم يوجد فيما بأيدينا من الاخبار خبر واحد يتضمن نسخ الكتاب ، وبعد عدم وجود مصداق للخبر الواحد الناسخ للكتاب يكون البحث عن جواز نسخه بالخبر الواحد لغوا من الجهة الفقهية.

٣٤٥

فالبحث اما كلامي ، ان نظرنا الى بعض أدلة المانعين من أن الحسن حسن دائما والقبيح قبيح دائما ، واما اصولي ، ان نظرنا الى احتجاج المانعين بان القرآن قطعي وخبر الواحد ظني ولا يعارض الظني القطعي.

وكيف كان فقد أطال علماء الاسلام في البحث عن النسخ ، ونحن نقتفي آثارهم في الجملة.

قد وقع الخلاف في جواز نسخ الكتاب عقلا وسمعا ، وقبل الدخول في صميم البحث نقول : النسخ لغة عبارة عن الازالة والابطال والاعدام ، تقول : نسخت الشمس الظل ، يعني ازالته ، وتقول : نسخت الرياح آثار القدم ، يعني أزالتها ، ويراد من النسخ أيضا النقل والتحويل ، تقول : نسخت الكتاب أي نقلت كلما فيه (وتطبيق النقل على كتابة المثل مجاز عقلي) ، ونسخت النحل من خلية الى أخرى يعني حولتها من مكان الى آخر ، وبهذا المعنى يطلق النسخ على انتقال الارث من وارث الى آخر لموت بعض الورثة قبل تقسيم الميراث ويعبر عن ذلك بالمناسخات ، وبهذا المعنى ايضا يقال تناسخ الارواح ، يعني نقل الروح وتحويلها من بدن الى آخر.

واختلف اللغويون في ان المعنى الحقيقي للنسخ هل هو الازالة ، كما عن الجوهري والمطرزي والفيروز ابادي ان اول المعاني الازالة ، او هو النقل ومجاز في الازالة كما عن القفال وابن فارس وفيومي صاحب مصباح المنير ، او هو مشترك معنوي بينهما كما عن الامدى الميل اليه ، حيث قال ان الاشتراك اشبه. ان لم يوجد في حقيقة النقل خصوص لا تبدل صفة وجودية ، ثم انه توقف جماعة في ما وضع له النسخ لغة ، والمشهور انه الازالة ، وتبعهم على ذلك العلامة وابو الحسن البصري.

والتحقيق : اما من حيث الحكم فالمدار في باب الاخذ بمراد المتكلم هو الظهور العرفي سواء كان مستندا الى الوضع او كان مستندا الى القرائن الكلامية ، واما من حيث الموضوع له النسخ فلا بد وان

٣٤٦

يقال بأن الجامع القريب بين الازالة والنقل موجود ، وهو فراغ المحل عن الشاغل الوجودي ، فان لم يكن في موارد فهم النقل من الكلام خصوصية اشغال المنقول لمحل اخر بعد فراغه للمحل الاول ، كان النسخ مشتركا معنويا له مفهوم عام قابل للانطلاق على الازالة والنقل. وصح ما قاله الامدي في قوله : الاشتراك اشبه ، والا فالحق مع المشهور انه للازالة وذلك للتبادر المستند الى صميم اللفظ دون القرائن

ثم اعلم ان نسخ الكتاب (بمعنى كتابة مماثل لكتاب) مجاز لفظي ومجاز عقلي معا ، وذلك لانه قد استعمل النسخ اولا في النقل ، وهذا مجاز في الكلمة ، وطبق النقل على ايجاد المماثل للمكتوب وهذا مجاز عقلي ، وكيف كان فلا ثمرة عملية لمثل تلك التدقيقات لما عرفت من ان المدار في تفهيم المقاصد على الظهورات في المتفاهم العرفي ، نعم في مورد فقدان اي قرينة متصورة في المقام اذا سلمنا بقاعدة (الاصل في الاستعمال الحقيقة) يثمر البحث عن تشخيص الحقيقة من المجاز ، ولكن الصغرى نادرة جدا والكبرى غير مسلمة ، هذا بحسب اللغة.

واما اصطلاحا فقد عرف النسخ بتعاريف عديدة مذكورة اغلبها في شرح العضدي لمختصر الحاجبي.

١ ـ قال الفخر الرازي ، هو اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الاول.

٢ ـ وقال الغزالي هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه.

٣ ـ وقال الفقهاء هو النص الدال على انتهاء امد الحكم الشرعي مع تراخيه عن مورده.

٤ ـ وقال المعتزلة هو اللفظ الدال على ان مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل عنه على وجه لولاه لكان ثابتا.

ولم يرتض بها جل العلماء. وقد عرفه العلامة والشيخ البهائي

٣٤٧

والحاجبي وجماعة برفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ، ولما كان الغرض من التعريف المذكور هو المعرفة بالنسخ بمقدار الحاجة ، لم نر فائدة في البحث عن طرده وعكسه فهنا مطالب.

المطلب الاول

هل يجوز نسخ شريعة بتشريع شريعة أخرى أم لا؟

الحق انه نعم يجوز ، وخالف اليهود في ذلك وقالوا ان شريعة موسى عليه‌السلام خالدة غير منسوخة ، ولا ينبغي الشك في انهم لا يقولون بالاستحالة العقلية ، كيف وهي تستلزم القول ، بعدم مشروعية دين موسى الناسخ للاديان السابقة له ، وانما ذهبوا الى ذلك افتراء على موسى بأنه قال : شريعتي مؤبدة ، اذ العكس صحيح ومأثور عنه وهو البشارة بنبوة محمد ص وآله كما في التوراة وانجيل برنابا من بشارة عيسى عليه‌السلام ايضا بمجيء نبي من بعده اسمه احمد ص وآله.

والتحقيق في باب نسخ الاديان ان الاديان عبارة عن مدارس تدريجية بحيث تكون كل مدرسة مكملة للاخرى الى ان وصل الدور الى آخر مدرسة الهية صح في موردها نزول قول الله العظيم (١) : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)، وعلى هذا فيكون كل نبي مكملا ومتمما لما اتى به النبي السابق.

ويدل على ما ذكرنا قوله تعالى (١) : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ)، وقوله تعالى (٢) : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)، وقوله تعالى (٣) : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً)، وهذه الايات تدل على ان

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٤.

(٢) سورة الشورى ، الآية ١٣.

(٣) سورة البينة ، الآية ٥.

٣٤٨

الشريعة اللاحقة ليست مزيلة للشريعة السابقة على نحو الاطلاق بل مكملة لها ، ولذا نحن نؤمن بأنبياء الله وكتبه ورسله قال الله تعالى (٤) :

(وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ).

بل لا يعقل نسخ جملة من الاحكام كوجوب الاعتقاد بالمعارف الالهية الحقة ووجوب العدل وحرمة الظلم.

نعم نسخت بعض الاحكام والا فجميع الاديان مشتركة في التوحيد والنبوة والمعاد ، بل الامامة ، لانه كان لكل نبي وصي ، فالشرائع انما هي مدارس الهية تكاملية الا بالنسبة الى جملة الاحكام التي كانت ذات مصالح زمنية وكانت في اغلبها مشقة اقتضت المصلحة تحميلها على بعض الامم ، ويدل على ذلك قوله تعالى (٥) : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) ، الآية ..

وبالجملة ، نسخ الاديان بالمعنى الذي قلنا من مجيء الشرائع كل تلو الاخرى امر بديهي ضروري تاريخيا لا مجال لا نكاره ، فاليهود مجازفون في هذه الدعوى التي تكذبها حتى توراتهم المحرفة وقد سمعت ان عيسى عليه‌السلام قد بشر بمجيء نبينا ص وآله ، وقال الله تعالى (٦) ، (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)، وناهيك على ذلك معرفة الاحبار بنبوة نبينا ص وآله وعلم الرهبان بسماته وصفاته.

__________________

(٣) البقرة ، الآية ١٣٥.

(٤) البقرة ، الآية ٢٨٥.

(٥) سورة البقرة ، الآية ٢٨٦.

(٦) الصف ، الآية ٦.

٣٤٩

المطلب الثاني

في الاستدلال على امتناع النسخ في الاحكام عقلا والجواب عنه :

يمكن ان يستدل على امتناع النسخ بأمرين :

١ ـ الشيء لا يخلو اما ان يكون ذا مصلحة يؤمر به لاجلها ام لا فان كان ذا مصلحة وجب عقليا ان يؤمر به كل مكلف في كل زمان على مذهب العدلية والامامية القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين ، وان لم يكن ذا مصلحة وجب الا يؤمر به فضلا عما اذا كان فيه مفسدة اذ وجب ان ينهى عنه ، ومن المعلوم ان النسخ عبارة عن ازالة الحكم عن الوعاء المناسب له وهو وعاء التشريع ، فاذا امر الشارع بشيء في زمان لا يمكن ان ينهى عنه في زمان اخر.

والجواب عن هذا الدليل ان الافعال من حيث الحسن والقبح على نحوين :

الاول : ما يكون حسنا او قبيحا في جميع الازمنة والامكنة ، ولكل شخص وفي كل حال ، نظير الاعتقاد قلبا بالمعارف الالهية الحقة لانه حسن وعدل في عالم العبودية وموافق للبراهين العقلية التي لا تكون قابلة للتخصيص والاستثناء لان قاعدة نشوء المعلول عن العلة واحتياج الممكن المسبوق بالعدم الى الواجب الموجد له ، لا تختص بشخص دون شخص وزمان دون زمان آخر وحالة دون اخرى. وحينذاك يحكم العقل بوجوب عقد القلب بالواجب الخالق للممكنات ويحكم بقبح الجحد به تعالى وتقدس.

الثاني : ما يكون بحسب طبعه الاولى حسنا او قبيحا ولكن ربما يطرأ عليه عنوان ينقلب به عما كان عليه من الحسن او القبح ، ولذا قالوا بأن حسن الافعال وقبحها كما يكون بالذات ايضا بالوجوه والاعتبارات. وقالوا بان ضرب اليتيم من هذا القسم ، اذ ضربه بما هو

٣٥٠

ضرب ايذاء وظلم ، فهو قبيح لا محالة ، ولكن ضربه للتأديب حسن ونحن اذ نقبل ذلك نقول بان السر في انقلاب الحكم في نظير المثال المذكور انما هو لعروض عنوان حسا على الفعل يكون اولى مطابقة لعنوان العدل من أصل الفعل فالانقلاب في الحقيقة موضوعي وليس بحكمي فقط ، وتوضيح ذلك ان العدل وهو الاستواء حسا وله عنوان عام ذو مصاديق غير محصورة بمقدار الموجودات ، فالعدل قابل للانطباق على النظام الكوني من الذرة الى الذروة ، وكذا ما يقابله من الظلم وهو التجاوز عن الاستواء وله مصاديق عديدة ، فالعدل في نظام الشمس اشراقها ، والظلم وهو التعدي عن الاستواء تكويرها ، والعدل في المجموعة العلوية التصاق اجزاء كل موجود علوي فيها بعضها ببعض مع حفظ مقدار نور كل واحد منها ومقدار بعد كل عن الاخر فانفطارها وتفتت اجزاءها كالعهن المنفوش انما هو خلاف عدلها الكوني ونظامها الوجودي ، وهذا المقياس موجود في كل شيء ماديا كان او معنويا ، فالعدل في المزاج انما هو استواء نسبة كل عنصر من العناصر الموجودة في البدن مع الاخر وفقا للخلقة الالهية المتقنة ، وان شئت عبرت بتعبير القدماء من التعادل بين الاخلاط الاربعة ، بحيث لو زاد خلط ونقص آخر لانحرف المزاج وزال العدل وافضى ذلك الى الموت ، وصح للسعدي ان يقول :

جون يكى جهار شد (١) غالب

جان شيرين برآيد از قالب

والعدل في الاخلاق انما هو بتنظيم الغرائز البهيمية والسبعية والانسانية ، والظلم فيها انحرافها عن الاستواء بالانخفاض او الارتفاع غير الموزونين ، فالعدل في القوة السبعية شجاعة ، وانحرافها النزولي جبن ، وانحرافها الصعودي تهور ، وحينذاك تقول بأن ضربة اليتيم انحراف عن الحقوق البشرية والحدود النظامية ، لانه تصرف فيما ليس

__________________

(١) الاخلاط الاربعة : الصفراء ـ السوداء ـ البلغم ـ الدم.

٣٥١

للمتصرف التصرف فيه ، لان الضارب شخص واليتيم شخص اخر وليس اليتيم عبدا مقهورا للضارب فضربه ظلم والظلم قبيح. ولكن العلم بالمعارف الحقة والنظام العملي والتخلق بالاخلاق الفاضلة والتجنب عن الرذائل السيئة عدل ، والعدل حسن ، فضرب اليتيم تأديبا له اييجاد العدل في مزاجه الروحي وهذا العدل الروحي الانساني اعلى رتبة وارفع درجة من العدل البدني ، فايراد الضرب على البدن وان كان جورا ، الا انه لما كان سببا لايجاد الفضائل في الروح ـ وهو العدل المعنوي ـ كان حسنا ، فالوجوه والاعتبارات المغيرة للحسن او القبح الى ضديهما كلها من هذا القبيل فتفطن ، وبعد ذلك نقول بان الحسن ما دام حسنا يكون مأمورا به ، وكذلك القبيح مادام قبيحا يكون منهيا عنه ، والاحكام المنسوخة حيث كانت متعلقاتها ذات مصالح زمنية صارت مأمورا بها في تلك الظروف والازمنة ونسخت بعد ذلك بالمعنى الصحيح للنسخ الذي سنوافيك به.

ولا سبيل للاشكال في نسخها من ناحية المصلحة والملاك ، ولكمال التوضيح دقق النظر في امر ابراهيم عليه‌السلام بذبح ولده ثم نسخ هذا الامر بعد حضور وقت العمل والشروع في مقدماته القريبة المسببة للقتل نعم ربما يقال بأن الاوامر الاختبارية التي تنسخ ليست من مقولة النسخ المصطلح المبحوث عنه ، لان الحكم المنسوخ. لا بد وان يكون متعلقا بالمتعلق به حقيقة : لا على نحو الوصف بحال متعلق الموصوف ، والامر سهل بعد عدم التفاوت الا من ناحية ان في الاوامر الاختبارية الامر الواقعي ومتعلقه ظاهري وفي النسخ المصطلح متعلق الحكم واقعي والاستمرار ظاهري.

وتوضيح ذلك ان في كليهما يراد اشكال الملاك ، فيقال في مورد الامر بالذبح مثلا ملاك الذبح موجود بدليل الامر به ، فلم لم يتحقق الذبح واكتفى الامر بمقدماته مصرحا بأنك قد صدقت الرؤيا ، وان لم

٣٥٢

يكن فيه ملاك ، فلم امر ابراهيم كما سمعت هذا الاشكال في مورد النسخ المصطلح؟ والجواب عن الاشكال في الاول ان الغرض هو الاختبار وقد حصل ، وعن الاشكال في الثاني ان الملاك قابل للتغيير فربما يتغير ، وملخص الكلام انه يمكن ان تكون في الشيء بحسب الظروف الزمانية مصلحة الى ان يأتي زمان اخر ، وربما تتحقق للشيء مصلحة قاهرة بالنسبة الى المصلحة الموجودة فيه سابقا ، كما اذا اقتضت مصلحة التسهيل رفع اليد عن جملة الاحكام الشاقة ، ويشهد على ذلك ما نطلبه من الله سبحانه بقولنا حاكيا لكلام الله (١) : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا).

٢ ـ ان النسخ يستلزم البدء وهو ملازم للجهل ، فنسخ الاحكام يستلزم جهل الله بالعواقب ، وهذا محال لان التشريع ينشأ من علمه بالاصلح وعلمه تعالى بالاشياء تكوينا وتشريعا عين ذاته القديمة ، والجهل يستلزم النقص اولا والواجب منزه عنه والانقلاب ثانيا والواجب ليس محلا للتغيير ، فالاحكام المطلقة زمانا ـ غير المحدودة بغاية وغير المؤقتة بوقت ـ وجب استمرارها في عمود الزمان واستحلل طروء الزوال ـ النسخ ـ عليها.

والجواب ان الاطلاق الزماني ليس من المداليل الالتزامية للجمل الانشائية الامرة بشيء او الناهية عنه ، وانما هو نتيجة الاطلاق في مقام البيان ـ الخالي عن التقييد بزمان دون زمان ـ وتوضيح ذلك ان للجمل المسوقة لبيان الاحكام اطلاقات ثلاثة بحسب طباعها الاولية ، واعني بالطباع الارسال من النواحي الاتية وعدم التقييد باحدى القيود الثلاثة :

الاول : الاطلاق من جهة الأفراد.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٨٦.

٣٥٣

الثاني : الاطلاق من جهة الاحوال.

الثالث : الاطلاق من جهة الزمان.

ونحن اذ نأخذ بالاطلاق الافرادي للاشخاص في مثل : اكرم العلماء ، وللاشياء في مثل : اغرس شجرة ، ولا نفرق بين النحوي والصرفي في الأول ، ولا بين العنب الرطب في الثاني فكذلك لنا ان نأخذ بالاطلاق الزماني ونقول ان وجوب الصدقة حال نجوى النبي ص وآله مستمر بحسب الأزمنة ، ولكن تلك الاطلاقات ليست مداليل التزامية للجمل المذكورة ، كما انها ليست مداليل مطابقية او تضمنية لها بالضرورة ولما كان للمتكلم ان يخصص العام ويقيد المطلق فكذلك له ان ينسخ ولذا قال الشيخ الانصاري بان النسخ تخصيص ازماني ولكننا نقول ان دليل النسخ حاكم على دليل المنسوخ حكومة مقامية.

وتلخيص الكلام ان النسخ اذا كان بحسب الامر وفي الواقع يكون مستلزما لجهل الباري جل وعلا ولكنه ليس كذلك ، بل هو ازالة للحكم في مرحلة الظاهر على نحو الحكومة المقامية كما مر ، وهو انه في مورد النسخ لما كان المقام مقام الاطلاق من ناحية بيان زمان الحكم اخذ العرف بهذا الأطلاق وحكم بالاستمرار واسنده الى الشارع تطبيقا للظاهر على الواقع واستدلالا بعالم الاثبات على عالم الثبوت واستمرار حكم العرف باستمرار حكم الشارع الى زمان ورود دليل النسخ وظهر للعرف ما كان مختفيا عليهم وهو ان الحكم كان محدودا من جهة الزمان الى الحد الخاص الذي بينه دليل النسخ ، فالنسخ والبداء متوافقان في انهما ظهور بعد الخفاء ، وان شئت قلت ابداء من الله للناس ما اخفى عليهم او كان مختفيا عنهم ، وليسا بحدوث علم له تعالى شأنه بعد عدم علمه كما هو واضح واما المصحح للتعبير بالنسخ فلانه ازالة للحكم في مرحلة الظاهر ، فلا يرد الاشكال بأن دليل النسخ على ما ذكرتم انما جاء لبيان انتهاء امد الحكم ، فالحكم لم يكن في نفس الامر دائما ، بل

٣٥٤

كان مؤقتا اذ يقال في الجواب بأن النسخ ظاهري صوري ، نعم لو ذهب احد الى ان النسخ واقعي ورد عليه اشكال حدوث العلم للباري تعالى بعد جهله المستلزم لمحذور محدودية علم الله ولمحذور وقوع التغير في ذات الله وكلاهما مناف لوجوب وجوده ، وقد يقرر الدليل العقلي على امتناع النسخ بتقريب يجمع بين الدليلين السابقين فيقال ان نسخ الحكم اما ان يكون لحكمة ظهرت لله تعالى بعد ان لم تكن ظاهرة له ، واما مع عدم الحكمة فان كان الاول لزم البداء في علم الله تعالى ، ومعنى البداء نشوىء رأي لم يكن. فلا بد حينئذ من أن يكون الله جاهلا بالحكم والمصالح وتعالى الله عن ذلك لان علمه بالمصالح الفردية والعائلية والنوعية ـ النظامية ـ عبارة عن العلم بالاصلح ، والعلم بالاصلح ـ فرديا او عائليا او نظاميا ـ ذاتي له ، ولا يكون بين ذاته المقدسة وبين علمه وسائر صفاته اثنينية وميز وتفاوت اذ الصفات الذاتية لله تعالى لا تنفك عنه ولا تتعدد ولا تتكثر ، فلا تكون صفاته زائدة على ذاته فيستحيل حدوث التغير في الصفات كما في الذات لأن الصفات عين الذات.

وان كان الثاني لزم اللغو والعبث في التشريع ، لان التشريع كان على نحو الدوام أولا ثم نسخ ثانيا وهذا عبث ، والحكيم تعالى منزه عن العبث اذ أن افعاله طرا معللة بالاغراض ، وان كانت واصلة للبشر ونافعة لهم ولم تكن عائدة اليه تعالى وهو الغني بالذات ، ولذا قلنا في محله بأن الله تعالى فاعل بالعناية والرضا ، بل لا بتهاج الذات بالذات أبدع وشرع معا.

والجواب أن الاحكام ناشئة عن الحكم والمصالح الا أنها ليست أبدية مطلقا ، بل بعضها مؤقتة وبعضها تجددية وبعضها دائمية حيث تعترف بوجدانك ان شرب الخمر قبيح بحسب الطبع وحسن لحفظ الحياة ، فالمراد من ظهور الحكمة بعد الخفاء ان كان عبارة عن عدم علمه تعالى بذلك فهو ممنوع ومستحيل ، وان كان انكشاف محدودية المصلحة السابقة أو

٣٥٥

تجددها فيما سيأتي من الزمان فهو حق ولا محيص عن الاعتراف به ، فتلخص أن النسخ عبارة عن بيان انتهاء أمد الحكم ، الا ان صياغة الحكم على نحو العموم والقائه لا مؤقتا كان لمصلحة مختفية علينا ، كما في قوله تعالى :

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) (١) الآية .. اذ أن المصلحة كانت في ابداء الحكم مطلقا من جهة الافراد ونسخه الله تعالى بعد نجوى علي (ع) للنبي (ص) وتصدقه ، وكانت تلك المصلحة هي توجيه الاراء ولفت الانظار الى مقام علي (ع) ، وان من اختص بهذه الميزة والفضيلة يكون أولى الناس بالخلافة وأبرزهم في المنقبة وأقربهم الى النبي (ص) ، ونحن لا نقول بأن المصلحة متمحضة في اعلامنا بالمنافقين التاركين للعمل بهذه الآية حتى يشكل علينا باستلزام ذلك نفاق كبار الصحابة بل يكفي في مصلحة النسخ اظهار أولوية علي (ع) بالمناقب والمكرمات من الصحابة.

وقد يستشكل في النسخ بأن دليل النسخ ان كان ناظرا الى أن الحكم كان من الاول محدودا بغاية ومؤقتا بوقت ، لزم ألا يكون هناك نسخ في الواقع لان النسخ هو الازالة ، ولا ازالة في الحكم المحدود بغاية حين تحقق الغاية ، وان كان ناظرا الى أن الحكم المؤبد في الواقع أزيل من لوح التشريع لزم التناقض ، والجواب اختيار الشق الاول ، وأن النسخ قطع وازالة في مرحلة الظاهر لا في نفس الامر والواقع وأن المصلحة كانت في ابراز العموم أفرادا أو أزمانا فلا يكون في النسخ محذور كما لا يكون في التخصيص محذور.

تبصرة :

ذهب أبو مسلم بن بحر الاصفهاني الى عدم وقوع النسخ في

__________________

(١) المجادلة : الاية ١٢.

٣٥٦

الاحكام وتجشم في موارد النسخ أمورا تخرج تلك الموارد عن كونها نسخا الا ان انكار النسخ مكابرة محضة ومحاولة لاخفاء ما هو بديهي ، نعم قد استدل على عدم وقوعه في الخارج بقوله تعالى (١) : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)، بتوهم أن النسخ ابطال للقرآن.

والجواب ان بيان الغاية ممن بيده البيان ليس ابطالا ، كيف والقرآن ينص على جواز النسخ في قوله تعالى (٢) : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) فلا مانع عقلا من النسخ ولا دليل سمعا على عدم وقوعه.

المطلب الثالث

قد أطال العلماء البحث في موارد النسخ ولا سيما علماء العامة ، ففي ـ الاتقان ـ للسيوطي في المسألة السابعة من النوع السابع والاربعين في ناسخه ومنسوخه : النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب :

أحدها ما نسخ تلاوته وحكمه معا ، قالت عائشة : كان في ما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات ، فتوفى رسول الله (ص) وهن مما يقرأ من القرآن : رواه الشيخان. وقد تكلموا في قولها وهن مما يقرأ من القرآن فان ظاهره بقاء التلاوة وليس كذلك.

وأجيب بأن المراد قارب الوفاة أو أن التلاوة نسخت أيضا ولم يبلغ ذلك كل الناس الا بعد وفاة رسول الله (ص) فتوفى وبعض الناس يقرؤها.

وقال ابو موسى الاشعري نزلت ثم رفعت ، وقال مكي هذا المثال

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية ٤٢.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٠٦.

٣٥٧

فيه المنسوخ غير متلو والناسخ أيضا غير متلو ، ولا أعلم له نظيرا (١).

الضرب الثاني : ما نسخ حكمه دون تلاوته ، وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة وهو على الحقيقة قليل جدا وان أكثر الناس من تعديد الآيات فيه فان المحققين منهم كالقاضي أبي بكر بن العربي بين ذلك وأتقنه ، والذي أقوله ان الذي أورده المكثرون أقسام ، قسم ليس من النسخ في شيء ولا من التخصيص ولا له بهما علاقة بوجه من الوجوه ، وذلك مثل قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)، «وأنفقوا مما رزقناكم» ونحو ذلك .. قالوا انه منسوخ بآية الزكاة وليس كذلك بل هو باق.

اما الاولى فانها خبر في معرض الثناء عليهم بالانفاق ، وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة وبالانفاق على الاهل وبالانفاق في الامور المندبة كالاعانة والاضافة ، وليس في الاية ما يدل على انها نفقة واجبة غير الزكاة .. والاية الثانية يصلح حملها على الزكاة ، وقد فسرت بذلك.

وكذا قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)، قيل انها مما نسخ بآية السيف وليس كذلك ، لانه تعالى أحكم الحاكمين ابدا لا يقبل هذا الكلام والنسخ وان كان الامر بالتفويض وترك المعاقبة ، وقوله في البقرة : وقولوا للناس حسنا ، عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف ، وقد غلطه ابن الحصار بأن الاية حكاية عما أخذه على بني اسرائيل من الميثاق فهو خبر ، فلا نسخ فيه ، وقس على ذلك ..

__________________

(١) ذكرنا في باب الرضاع أن قول المعصوم عليه‌السلام : كان يقال عشر رضعات : محمول على التقية بقرينة أن هذا هو قول العامة ، والشاهد على صدق قولنا ما ترى من أن عائشة أسندت عشر رضعات الى القرآن ، ثم لم تقتنع حتى اكتفت في الرضاع المحرم الى خمس رضعات وقد اخذنا بموثقة زياد بن سوقة الدالة على أن العدد المحرم خمس عشرة رضعة ، ومن العجيب ما عن بعض من المصير الى العشرة وطرح خمسة عشر رضعة.

٣٥٨

وقسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ : وقد اعتنى ابن العربي بتحريره فأجاد كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ، وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) الا الذين آمنوا ، (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ)، وغير ذلك من الايات التي خصت باستثناء أو غاية ، وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ ، ومنه قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ).

قيل أنه نسخ بقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)، وانما هو مخصوص به ، وقسم رفع ما كان عليه الامر في الجاهلية او في شرائع من قبلنا أو في أول الاسلام ولم ينزل في القرآن كابطال نكاح نساء الاباء ومشروعية القصاص والدية وحصر الطلاق في الثلاث وهذا ادخاله في قسم الناسخ قريب ولكن عدم ادخاله أقرب ، وهو الذي رجحه المكي وغيره ، ووجهوه بأن ذلك لو عد في الناسخ لعد جميع القرآن منه ، اذ كله أو أكثره رافع لما كان عليه الكفار وأهل الكتاب.

قالوا وانما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت آية ، انتهى. نعم ، النوع الاخر منه وهو رافع ما كان في الاسلام ادخاله أوجه من القسمين قبله ، اذا علمت ذلك فقد خرج من الايات التي أوردها المكثرون الجم الغفير مع آيات الصفح والعفو ان قلنا ان آية السيف لم تنسخها وبقي مما يصلح لذلك عدد يسير ، وقد أفردته بأدلته في تأليف لطيف ، وها أنا اورده هنا محررا ، فمن البقرة قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) الآية ، منسوخة قبل بآية المواريث وقيل بحديث : ألا لا وصية لوارث ، وقيل بالاجماع ، حكاه ابن العربي ، وقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ)، قيل منسوخة بقوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، وقيل محكمة ولا مقدرة ، قوله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ ،) ناسخة قوله : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، لان مقتضاها الموافقة فيما كان عليهم من

٣٥٩

تحريم الاكل والوطء بعد النوم ، ذكره ابن العربي ، وحكى قولا آخر انه نسخ لما كان بالسنة ، قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) الآية ، منسوخة بقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) الآية ، أخرجه ابن جرير عن عطاء ابن ميسرة ، قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) الى قوله : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ)، منسوخة بآية أربعة أشهر وعشرا والوصية منسوخة بالميراث ، والسكنى ثابتة عند قوم منسوخة عند آخرين بحديث ولا سكنى ، قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)، منسوخة بقوله بعده : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)، ومن آل عمران قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)، قيل انه منسوخ بقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، وقيل : لا ، بل هو محكم وليس فيها آية يصح فيها دعوى النسخ غير هذه الاية ، ومن النساء قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ)، منسوخة بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ)، قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) الآية ، قيل منسوخة وقيل لا ولكن تهاون الناس في العمل بها ، قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) الآية ، منسوخة بآية النور ، من المائدة قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ)، منسوخة باباحة القتال فيه ، قوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)، منسوخة بقوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ)، قوله تعالى : «وآخران من غيركم» منسوخ بقوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)، ومن الانفال قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ) ومن الانفال قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ) الآية ، منسوخة بالاية بعدها ، ومن براءة قوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً)، منسوخة بآيات العذر وهو قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) الآية ، وقوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) الآيتين ، وبقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)، ومن النور قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) الآية ، منسوخة بقوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ)، قوله تعالى : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الاية قيل منسوخة وقيل لا ، ولكن تهاون الناس في العمل بها ، ومن الاحزاب قوله تعالى :

٣٦٠