هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

يكون ذلك مراد الشارع من خطابه ، ولا أن يكون ذلك هو الحكم بحسب الواقع ، كيف ولو كان كذلك لزم القول بالتصويب ، بل هو في ظاهر الشرع مكلّف بما أدّى إليه اجتهاده فإن طابق الواقع وإلّا كان مخطئا ، فالتكليف الأوّلي متعلّق بما هو مراد الشارع بحسب الواقع، ولابدّ من بذل الوسع في تحصيله. فالقول بعدم كونه مكلّفا بما هو الواقع رأسا غير متّجه. وكونه مكلّفا في الظاهر بما يؤدّى إليه اجتهاده غير نافع في المقام ، وإنّما يفيد ذلك لو قامت الأدلّة عنده على تعيين أجزاء الصلاة ـ مثلا ـ وشرائطه ليجب عليه العمل بمقتضاه وليس كذلك ، إذ المفروض أنّ الثابت من الأدلّة هو اندراج جملة من الأفعال واعتبار عدّة من الشرائط فيه ، مع الشكّ في الزيادة القاضي بالشكّ في صدق الصلاة على تلك الأجزاء المعلومة المستجمعة للشرائط المعيّنة فالثابت بالدليل اعتبار الأجزاء والشرائط المذكورة في ذلك الفعل ، لا صدق ذلك الفعل على تلك الأجزاء كذلك ، فكيف يصحّ القول بتحقّق الامتثال بمجرّد الإتيان بها مع الشكّ المذكور وعدم قيام دليل شرعي على كون ذلك المأمور به في المقام.

والقول بأنّ الواجب في الظاهر هو خصوص ما قام الدليل على اعتباره جزء كان أو شرطا فينفى غيره بالأصل كما يقال في سائر التكاليف مع عدم ارتباط بعضها بالبعض مدفوع ، بأنّه أوّل الكلام ، إذ الكلام في تعلّق الأمر حينئذ بذلك المقدار الّذي يشكّ في حصول الماهيّة بحصوله. فالقول بأنّه القدر المسلّم ممّا تعلّق التكليف به واضح الفساد ، إذ لا تكليف هناك بخصوص الأجزاء ، إذ المفروض ارتباط بعضها بالبعض بحيث لو ارتفع واحد منها ارتفع التكليف بالباقي.

فقضيّة الأصل حينئذ أن يقال : إنّ التكليف الواقعي بما هو مؤدّى اللفظ واقع في المقام ، وحصوله بمجرّد الإتيان بتلك الأجزاء المعلومة المستجمعة للشرائط المعيّنة غير معلوم بالنظر إلى الأدلّة الظاهريّة ، فلابدّ من الحكم ببقاء التكليف وعدم سقوطه إلّا مع الإتيان بكلّ جزء أو شرط شكّ فيه مع الإمكان ليعلم معه بحصول البراءة وأداء الواجب ، وهو واضح لا خفاء فيه.

٥٨١

وأمّا الرابع : فبأنّ شمول الأخبار لمحلّ الكلام غير معلوم ، بل لا يبعد انصرافها إلى غيره ، وهو ما إذا كان أصل التكليف بالشيء مجهولا أو كان جاهلا به بالمرّة ـ كما إذا لم يخطر بباله ـ أو قام عنده دليل شرعي على عدم اعتباره ، دون ما إذا حصل اليقين بالتكليف وشكّ في حصول المكلّف به بما يؤدّيه ، سيّما مع علمه بحصوله في الفرد الآخر المستجمع للجزء أو الشرط المشكوكين ، بل علمه بحصوله في الفرد المذكور دون غيره ممّا يعيّن الإتيان به ، فليس ذلك مندرجا في الجهالة المسقطة للتكليف ، ولا أقلّ من الشكّ في اندراجه في الأخبار وهو كاف في المقام. ولو سلّم شمول إطلاقها لذلك فهو معارض بما دلّ على عدم نقض اليقين بالشكّ ، ولزوم تحصيل اليقين بالفراغ بعد اليقين بالشغل ، ومع تعارض القاعدتين المذكورتين لا يمكن الحكم بمشروعيّة الفعل المذكور والحكم بسقوط التكليف به كما لا يخفى.

ومن عجيب الكلام ما صدر عن بعض الأعلام : من أنّه لا فائدة في الإتيان بالجزء أو الشرط المشكوكين لتحصيل اليقين بالفراغ ، مع أنّ سائر الأجزاء والشرائط إنّما ثبتت أو نفيت بالأدلّة الظنّية الغير البالغة حدّ اليقين ، فأيّ فائدة في مراعاة اليقين في جزء أو شرط مخصوص مع انتفائه في سائر الأحوال والشرائط.

وكيف يعقل تحصيل اليقين من جهة الإتيان بالجزء أو الشرط المشكوك مع أنّه لا يقين في سائر الشرائط والأجزاء ، إذ قد عرفت أنّ المطلوب من اليقين في المقام ما قام عليه الدليل المعتبر المنتهي إلى اليقين لا ما حصل اليقين بكونه عين المكلّف به بحسب الواقع ، لوضوح عدم اعتباره في الشرعيّات لا حكما ولا موضوعا ، والمفروض أنّ سائر الأجزاء والشرائط ممّا ثبت بالدليل المعتبر بخلاف ما هو محلّ الكلام ، فاعتبار اليقين الواقعي فيه على فرضه ليس لتحصيل اليقين بأداء المكلّف به كذلك بالنحو المذكور ، بل المقصود منه تحصيل فرد يقوم الدليل الشرعي على الاكتفاء به ، إذ المفروض عدم قيام دليل شرعي على كون الفاقد لذلك الجزء أو الشرط من أفراد ذلك الواجب حتّى يقال بصدقه عليه.

٥٨٢

والقول بان الأصل المذكور من الأدلّة على نفيه مدفوع ، بأنّ ذلك أوّل الكلام وقد عرفت عدم نهوض شيء من الأدلّة عليه ، كيف ولو سلّم قيام دليل شرعي على اعتباره في المقام لم يعقل معه القول بوجوب الاحتياط كما لا يخفى.

وأمّا الخامس : فبأنّ المكلّف به في المقام هو ما استعمل فيه اللفظ ومدلوله ، وهو من هذا الاعتبار ليس من الأحكام الشرعيّة ، بل هو من الامور العاديّة الجارية على نحو المخاطبات العرفيّة سواء قلنا بثبوت الحقيقة الشرعيّة أو لا.

وسنقرّر أنّ أصل العدم من حيث هو لا يتفرّع عليه ثبوت الأحكام الغير الشرعيّة ممّا يجعل موضوعا للأحكام الشرعيّة. ونقول أيضا : إنّ الماهيّات المفروضة امور جعليّة توقيفيّة ، ومثل ذلك لا مدخل لأصل العدم فيه ، كيف ولو كان كذلك لجاز إثبات بساطة الموضوع له بالأصل لو دار الوضع بين كونه للبسيط أو للمركّب منه ومن غيره ، وكذا بساطة اللفظ الموضوع لو دار بين كون اللفظ الموضوع بسيطا أو مركّبا ، كما إذا شكّ في كون اللفظ الموضوع بإزاء شخص لفظ «عبد» أو «عبد الله» فيحكم بالأوّل بمقتضى الأصل.

ومن البيّن : أنّ الاستناد إليه في ذلك يشبه الهذيان في وضوح البطلان ، ثمّ مع الغضّ عن ذلك كلّه فأصل العدم على فرض حجّيته في سائر المقامات إنّما ينهض حجّة فيما يدور الأمر بين وجود الشيء وعدمه ، سواء تعلّق الشكّ بوجود شيء استقلالا أو مع امور اخر ، وليس المقام من ذلك ، فإنّ المفروض دوران المطلوب بين شيئين ، لا قطع بتعلّق التكليف بأحدهما من (١) التكليف بالآخر كما قدّمنا القول فيه ، فهو نظير ما إذا دار التكليف بين مركّبين مختلفين وكان أحدهما أقلّ جزء من الآخر ، فإنّ عاقلا لا يتخيّل هناك ترجيح الأقلّ بالأصل ، مع أنّه لا فرق بينه وبين ما نحن فيه سوى اشتمال الأكثر في المقام على الأقلّ ، ولا ثمرة يترتّب عليه ، لما عرفت من عدم اقتضاء التكليف بالأكثر للتكليف بالأقلّ إلّا في ضمنه لا مطلقا ،

__________________

(١) مع ، خ ل.

٥٨٣

فيتردّد المكلّف به بين شيئين لا يقطع بتعلّق التكليف بأحدهما على كلّ من التقديرين كما هو الحال في الفرض المذكور.

وأمّا السادس : فبأنّ المرجع في الأصل المذكور إلى أصالة البراءة أو أصل العدم وقد عرفت الحال فيها.

وأمّا السابع : فبأنّه لا يحكم في المقام بكون المشكوك جزء أو شرطا بحسب الواقع فيكون الحكم به من غير دليل ، وإنّما يحكم بوجوب الإتيان في الظاهر ، وليس المستند فيه مجرّد الاحتمال كما توهّم ، بل تحصيل اليقين بالفراغ بعد اليقين بالاشتغال الواجب مراعاته في المقام ، حسب ما عرفت من قيام الأدلّة عليه. كيف ولا تأمّل في رجحان الاحتياط في المقام إن لم نقل بوجوبه ، وذلك أيضا حكم من الأحكام الشرعيّة والمنشأ فيه قيام الاحتمال المذكور.

وأمّا الثامن : فبأنّه لو صحّ ذلك وكانت الأوامر المتوجّهة إلى المكلّفين متعلّقة في الواقع بما قام الدليل عليه عند المكلّف لزم القول بالتصويب ، لاختلاف المكلّفين في ذلك وتفاوت الأفهام في تعرّف الأحكام ، وهو مخالف لإجماع الشيعة. ودعوى فهم العرف في ذلك ممنوعة بل فاسدة ، إذ ليس ما استعمل فيه اللفظ عندهم إلّا ما أراده المتكلّم بحسب الواقع على مقتضى قانون الاستعمال ، فإن أخطأ أحد في الفهم أو لم يصل إليه شيء لم يلزم منه عدم تعلّق التكليف به بحسب الواقع.

غاية الأمر أن يكون ذلك عذرا له في الترك ، فغاية ما في المقام فهم العرف كون العلم طريقا إلى الواقع في تعيين ما تعلّق التكليف به في الفروض المذكورة ونحوها ، فيكون التكليف الظاهري منوطا بالعلم. فلو تمّ ذلك لزم القول بوجوب مراعاة الاحتياط في المقام وكان ذلك حجّة لما اخترناه ، إذ الفرد المعلوم اندراجه في المأمور به حينئذ هو ما كان جامعا لجميع الأجزاء والشرائط المشكوكة والحاصل : أنّه يكون الأمر بالصلاة بحسب أنّه أمر بما علم أنّه صلاة لا علم

٥٨٤

إلّا بالإتيان به (١) على النحو المذكور ، وأين ذلك من الاقتصار على القدر المعلوم اعتباره في الصلاة؟ وجواز الاقتصار على القدر المعلوم في الأمثلة المذكورة إنّما هو لكون التكليف بكلّ منها مستقلّا ، فينحلّ الأمر المذكور الى أوامر يحصل الامتثال في كلّ منها بجنسه من غير ارتباط بينها في الامتثال ، ولذا يكتفي بالقدر المعلوم من غير حاجة إلى مراعاة الاحتياط حسب ما مرّ تفصيل القول فيه.

وأمّا التاسع : فبأنّ غاية ما يفهمه أهل العرف في المقام هو المعاني الإجماليّة وأمّا التفصيل وتعيين الأجزاء والشرائط بالخصوص فيرجع فيه أهل العرف إلى الفقهاء وحملة الشرع.

فإن قلت : أيّ فرق بين هذه الألفاظ وغيرها حيث يصحّ الرجوع في تعيين معاني سائر الألفاظ إلى العرف ولا يصحّ في المقام.

قلت : إنّما يرجع إلى العرف في تعيين المفهوم الّذي وضع اللفظ بإزائه دون تعيين مصاديقه ، بل لابدّ هناك من مراعاة العلم باندراجه في مسمّى اللفظ ، سواء حصل ذلك من الرجوع إلى العرف أو الحسّ أو العقل ، فاللازم من الدليل المذكور صحّة الرجوع إلى العرف في معرفة مسمّى الألفاظ المذكورة في الجملة وهو كذلك ، ولذا رجعوا في كونها موضوعة بإزاء الصحيحة أو الأعمّ منها إلى العرف. وأمّا تمييز أجزاء المعنى وشرائطه على التفصيل فليس مأخوذا في وضع اللفظ حتّى يرجع فيه إلى العرف ـ حسب ما فصّل في محلّه ـ فلابدّ من تمييزه بمقتضى الأدلّة القائمة ، وهو ممّا يختلف باختلاف الأوضاع والأحوال. ألا ترى أنّ الصلاة الصحيحة أيضا من الألفاظ المستعملة في العرف ولا يمكن الرجوع في تفاصيله إلى العرف ، وإنّما يرجع إليه في كونه العبادة المخصوصة المبرئة للذمّة ، ويختلف أجزاؤه وشرائطه بحسب اختلاف المقامات على نحو ما قامت عليه الأدلّة

__________________

(١) هكذا وجدنا العبارة في جميع ما عندنا من النسخ ، والصواب فيها هكذا :

والحاصل أنّه يكون الأمر بالصلاة حسب ما ذكر أمرا بما علم أنّه صلاة ولا علم إلّا بالإتيان. هامش المطبوع.

٥٨٥

الشرعيّة ، وكذا الحال في مطلق الصلاة ، فإنّما يرجع إلى العرف في كونها عبارة عن العبادة المعروفة المختلفة أجزاؤها وشرائطها بحسب اختلاف الأحوال ، وليس من شأن العرف تميّز ذلك ، وإنّما يرجعون فيه إلى الفقهاء وهم يرجعون إلى الأدلّة الشرعيّة ، ولذلك يحكم فيه كلّ منهم على حسب ما فهمه من الأدلّة.

وأمّا العاشر : فبأنّ معرفة أجزاء الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات ومعرفة شرائطها وموانعها من عمد الأحكام الشرعيّة ، ومعظم المسائل الفقهيّة ، وأكثرها ممّا خفيت على معظم الامّة ، لوقوع الفتنة المعروفة ، واختلاف الأخبار المأثورة ، وخفاء دلالتها بالذات ، أو بملاحظة مجموع الأدلّة. ولذا صار كثير منها معارك للآراء واختلف فيه أساطين الفقهاء وقصاراهم الاستناد فيها إلى الظنّ إن أمكن ، وليت شعري كيف يمكن دعوى الوضوح في المقام مع أنّ الفقهاء الأعلام من قديم الأيّام بل من عصر أئمّتنا عليهم‌السلام لا زالوا مختلفين في ذلك ، وكلّ يبذل وسعه في تحصيل المدارك ويستنهض الأدلّة على ما يرجّحه هناك لعموم البلوى بتلك المسائل.

ولو أفاد وضوح الأمر فإنّما يفيده بالنسبة إلى الامور الإجماليّة أو بعض الأجزاء أو الشرائط الواضحة. وأمّا الخصوصيّات المعتبرة وسائر الأجزاء والشرائط المرعيّة فلا ، كما هو المعلوم من ملاحظة أجزاء الصلاة وشرائطها مع أنّها أهمّ التكليفات الشرعيّة وأعمّ من جميع العبادات بليّة. وما ادّعي من حصول الظنّ بحقيقة الصلاة من ملاحظة ما ذكره ممنوع ، إذ ليست المعرفة بالمجملات المذكورة كالمعرفة بسائر الأحكام الشرعيّة من الرجوع في استفادتها إلى الضوابط المرعيّة سواء أفادت ظنّا بالحكم أو لا؟

ومن الواضح : أنّ ادّعاء حصول الظنّ نظرا إلى الوجه المذكور بمعرفة تفاصيل أجزاء الصلاة وشرائطها الواقعيّة من غير زيادة عليها ولا نقيصة بعيد جدّا ، سيّما بالنسبة إلى الظواهر الواردة لأحكام الشكوك ونحوها ، بل يمكن دعوى القطع بفساده ، على أنّك قد عرفت أنّ تعيين تلك الخصوصيّات ليس من قبيل إثبات

٥٨٦

الموضوع له بالظنّ المكتفى فيه بمطلق الظنّ ، بل الظاهر أنّه إثبات للمصداق ، والموضوع له هو المعنى الإجمالي الأعمّ حسب ما فصّل في محلّه فلا يكتفى في تعيين المصداق بمطلق الظنّ ، بل لابدّ فيه من العلم ، أو الأخذ بطريق ينتهي إلى العلم ، كما هو معلوم من ملاحظة سائر المقامات. وما قام الإجماع على حجّية الظنّ فيه إنّما هو موضوعات الألفاظ دون سائر الموضوعات كما قد يتوهّم.

وأمّا الحادي عشر : فبما قرّر في محلّه من فساد الدعوى المذكورة ، وكون ذلك الألفاظ موضوعة بإزاء الصحيحة كما بيّناه في محلّه.

وأمّا الثاني عشر : فبأنّ ما لم يبيّنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا يحتمل جزئيّته أو شرطيّته وقد حضر وقت العمل به محكوم بعدمه قطعا ، إذ ليس نصب الأنبياء إلّا لبيان الأحكام وإرشاد الأنام ، لا لأن يأتونهم بالتكاليف المجملة ، ويكلون بيانها على مراعاة الاحتياط كما مرّت الإشارة إليه.

وبالجملة : أنّ بيان الأحكام من الواجبات عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا ترك البيان زيادة على المفروض دلّ على انحصار الأمر فيه ، إذ لا يترك ما هو واجب عليه سيّما في أمر التبليغ. وقد نصّ الاصوليّون على أنّه لو وقع تكليف بالمجمل ثمّ صدر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل يمكن أن يكون بيانا له ولم يفعل غيره وحضر وقت الحاجة تعيّن أن يكون ذلك بيانا له ، وإلّا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو بعينه جار في المقام ، فكما أنّ بيان الأجزاء المفروضة دليل على جزئيّتها كذلك عدم ذكره لما يزيد عليها دليل على عدم اعتباره ، وهذا بخلاف ما نحن فيه من قيام احتمال عدم الوصول ، ومقايسة أحدهما بالآخر ممّا لا وجه له ، إذ لا يجب على الله تعالى إيصال آحاد الأحكام إلى آحاد العباد ، كيف! ومن البيّن خلافه ، وحينئذ بعد تعلّق التكليف بالمجمل كيف! يمكن الحكم بحصول البراءة بالناقص استنادا إلى عدم وصول القدر الزائد ، لما عرفت من أنّ الإيصال ليس من الواجب على الله تعالى ولا على الرسول حتّى يدلّ انتفاؤه على انتفاء الزيادة.

وما ذكر : من أنّ النائين عن حضرته عليه‌السلام لم يكونوا يحتاطون في شيء من

٥٨٧

المجملات بل يأتون ما يصل من البيانات ويتركون ما لم يثبت عندهم وإن احتملوا وروده عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدفوع.

بأنّه إن كان عندهم من البيان ما حصلوا به معنى ذلك المجمل والمدلول عليه بالخطاب ثمّ شكّوا في تغيير حصل هناك وشكّ وروده في المقام فلا شكّ إذن في الجريان على الحكم السابق ، وهو غير محلّ النزاع ، لثبوت الدليل الشرعي إذن على نفي الزائد.

وأمّا إذا لم يكن كذلك ـ بل وصل إليهم عدّة أجزاء حصلوها من أماكن متعدّدة ، ولم يعلموا صدق ذلك المجمل عليه ، وتيقّنوا بحصولها مع انضمام عدّة اخرى من الأفعال المشكوكة جزئيّتها أو شرطيّتها ـ فالقول بجريان طريقتهم على الأوّل والاكتفاء في أداء التكليف رجم بالغيب ، بل جرأة بلا ريب ، وكان الأظهر خلافه كيف! ومن المستبين عند عامّة ذوي العقول توقّف اليقين بالاشتغال على اليقين بالفراغ هذا.

ولنتمّم الكلام في المرام برسم امور :

أحدها : أنّ الكلام المذكور كما يجري في الشكّ في الأجزاء كذا يجري في الشكّ في الشرائط والموانع ، من غير فرق لجريان جميع ما ذكر في الجميع ، وقد أشرنا إليه في ضمن الأدلّة. وقد يتخيّل التفصيل بين الأجزاء وغيرها فيقال : بعدم جريان الأصل في الأوّل ويحكم بجريانه في الشرائط والموانع.

وقد يقال : بعدمه في الأوّلين وجريانه في الأخير. وربما يظهر من بعضهم ندرة الخلاف في عدم جريانه في الأخير حيث ذكر الخلاف في جريانه في الأجزاء والشرائط ، وربما تجاوز بعضهم إلى المانع.

وأنت خبير : بأنّ عدم المانع من جملة الشرائط في الحقيقة ، فتوهّم الفرق بينه وبين الشرط في المقام من الغرائب ، وكأنّ وجه الفرق بينهما : أنّ الفعل يتمّ وجوده باجتماع الأجزاء والشرائط ، ومانعيّة المانع يتوقّف على الدليل فينفى بالأصل. ولا يخفى وهنه ، إذ انتفاء المانع أيضا مأخوذ في تحقّق الفعل على نحو الشروط ،

٥٨٨

ولا علم بحصول الفعل مع فرض الشكّ فيه. والقول بأنّ المعتبر فيه لمّا كان عدما كان موافقا للأصل واضح الفساد ، إذ ليس الكلام في الشكّ في تحقّق المانع ، وإنّما الكلام في الشكّ المتعلّق بنفس المانعيّة ، كما إذا علم تحقّق شيء وشكّ في مانعيّته. والقول بأصالة عدم المانعية إن تمّ جرى بعينه في عدم الشرطيّة.

فظهر أنّ توهّم الفرق بين الشرط والمانع في المقام موهون جدّا.

بقي الكلام في الفرق بين الشكّ فيهما وبين الشكّ في الأجزاء. وقد حكي عن بعض أفاضل المحقّقين التفصيل بين الأمرين فحكم بعدم إجراء الأصل في الأجزاء وجريانه في الآخرين ، والوجه في ذلك : أنّ قضيّة الجزئيّة اندراجه في الكلّ وعدم تحقّق الكلّ بدون تحقّق كلّ من الأجزاء ، فالشكّ في الجزء شكّ في تحقّق الكلّ.

وبالجملة : أنّ كلّ واحد من الأجزاء لاندراجه في الموضوع له ممّا انيط به التسمية فلا يتصوّر حصول الموضوع له بدونه ، فلا يمكن العلم بإيجاده من دون الإتيان به ، وذلك بخلاف الشرائط والموانع ، لخروجها عن ماهيّة العبادة.

والقول بأنّ الشغل اليقيني يحتاج إلى اليقين بالفراغ ـ ولا يحصل إلّا بالإتيان بما لم يعلم عدم شرطيّته ، وترك ما لم يعلم عدم مانعيّته ـ مدفوع بأن ذلك إنّما يجري بالنسبة إلى الأجزاء لدخولها في المسمّى ، بخلاف الامور الخارجيّة من الشرائط والموانع ، لأنّ المشكوك في شرطيّته ومانعيّته معلوم عدم جزئيّته فلا دخل له بمسمّى اللفظ. فامتثال الأمر بالصلاة وغيرها من العبادات إنّما يتوقّف على اليقين بحصول الأجزاء ، ومع تحقّق حصولها يصدق المسمّى ، ومعه يحصل الامتثال القاضي بحصول الفراغ شرعا ما لم يدلّ على خلافه ـ على نحو ما يذكر في المعاملات ـ وهو المراد باليقين بالفراغ ، إذ المقصود منه هو الفراغ الشرعي.

وما يقال : من أنّ الشكّ في الشرط يقتضي الشكّ في المشروط ففيه : أنّ العبارة المذكورة لا يخلو عن إجمال ، وهي على بعض معانيها لا كلام فيها ، لكنّه غير مرتبط بالمقام.

٥٨٩

توضيح ذلك : أنّ المراد بالشكّ في الشرط إمّا الشكّ في وجوده أو في شرطيّته ، وكذا الشكّ في المشروط إمّا أن يراد به الشكّ في وجوده أو في مشروطيّته. فإذا لوحظ كلّ من الاحتمالين الأوّلين مع كلّ من الأخيرين تكون الوجوه أربعة.

فإن اريد به : أنّ الشكّ في وجود الشرط يقتضي الشكّ في وجود المشروط فحقّ ، ولا ربط له بالمقام.

وإن اريد به : أنّ الشكّ في الشرطيّة قاض بالشكّ في المشروطيّة فهو واضح أيضا ، ولا نفع له في المرام ، إذ الحاصل منه هو الشكّ في مشروطيّة الفعل به ، لا الشكّ في وجوده ، كيف! والمفروض تحقّق الأجزاء بأجمعها ، ومع العلم به كيف يعقل الشكّ في نفس وجود المشروط الّذي هو عين تلك الأجزاء.

وأمّا الوجهان الآخران فلا وجه لإرادتهما : إذ لا ارتباط بين الشكّين المفروضين حتّى يستلزم أحدهما الآخر.

قلت : هذا الكلام مبنيّ على كون أجزاء المأمور به بأجمعها معتبرة في التسمية بحيث يرتفع المسمّى بارتفاع أيّ منها ، كما هو قضيّة الجزئيّة في بادئ النظر ، نظرا إلى قضاء الضرورة بانتفاء الكلّ عند انتفاء جزئه ، فإذا تعلّق الشكّ بجزئيّة شيء كان شكّا في حصول الكلّ بدونه ، فلا يعلم حصول مسمّى اللفظ من دونه ، بخلاف الشرط والمانع ، لإحراز المكلّف أداء المسمّى عند أداء الأجزاء بتمامها ، فإذا علم شرطيّة شيء أو مانعيّته وجب التزام التقييد في المطلق على القدر المعلوم ، وإذا حصل الشكّ فيه دفع ذلك بالأصل ، لقضاء الإطلاق بحصول الامتثال من دونه.

وأنت خبير : بأنّ مرجع ذلك إلى القول بكون تلك الألفاظ أسامي للصحيحة بحسب الأجزاء دون الشرائط ، فاستجماع جميع الأجزاء معتبر عنده في التسمية بخلاف استجماع الشرائط ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه في محلّه ، وهو أضعف الوجوه في تلك المسألة. ومع البناء عليه فهو يوافق ما اخترناه من عدم إجراء الأصل في المجملات ، فإنّ مقتضى القول المذكور التزام الإجمال في تلك الألفاظ

٥٩٠

بالنسبة إلى الأجزاء دون الشرائط ، بل هي مطلقة بالنسبة إليها ، لتوهّم قضاء الدخول والخروج بذلك ، وحينئذ فجريان الأصل بالنسبة إلى الثاني في غير البيان ، وإنّما الكلام في المقام في جريانه بالنسبة إلى الأوّل ، نظرا إلى إجمال اللفظ ، وقد منع منه القائل المذكور حسب ما اخترناه.

ولو سلّم القائل المذكور إجمال اللفظ بالنسبة إلى الشروط أيضا لم يتحصّل عنده المفهوم الّذي تعلّق الأمر به ، مع الشكّ في حصول جميع الشرائط المعتبرة فيه فلا يمكنه الحكم بالامتثال ، لعين ما ذكره في الأجزاء من غير فرق أصلا في بيان الحال في شبهة الموضوع ، والمراد به ما إذا اشتبه موضوع الحكم ودار الأمر فيه بين تقسيم الحلال والحرام وإن علم تفصيلا حكم تلك الأقسام ، فيكون الجهل بالحكم في المقام ناشئا عن الجهل المذكور ، حيث لا يعلم كون الحاصل هناك أيّ قسم منها.

وأمّا إذا كان الحال بعكس ذلك بأن تعيّن الموضوع بجميع خصوصيّاته لكن شكّ مع ذلك في اندراجه في الحلال أو الحرام من جهة الشكّ فيما انيط به الحلّ والحرمة في الشريعة ، كالمذبوح على غير القبلة أو من دون التسمية ، فإنّ الفعل الحاصل من المكلّف حينئذ ممّا لا شبهة فيه ، وإنّما الاشتباه في حكمه. فالشكّ حينئذ في اندراجه تحت الميتة أو المذكّى مع العلم بحكم كلّ من القسمين لا يدرجه في شبهة الموضوع وإن كان يتراءى ذلك في بادئ الرأي.

[الشبهة الموضوعيّة]

ثمّ إنّ الشبهة في الموضوع قد يكون من جهة الشكّ في طروّ ما يقتضي تحريمه على الوجه المفروض ، كما إذا شكّ في طريان الغصب على المال الحلال ، أو طريان النجاسة على المأكول الطاهر ، أو طروّ ما يقتضي إباحته بعد العلم بتحريمه أوّلا ، كالمغصوب إذا شكّ في زوال الغصب عنه ، أو النجس إذا شكّ في طهارته.

٥٩١

وقد يكون من جهة الجهل بحال المصداق بدورانه بين الاندراج في النوع الحلال أو الحرام مع عدم العلم بحصول النوعين في المقام بل بدوران الأمر ابتداء في الفرد الحاصل (١) بين الوجهين ، كما إذا شكّ في كون المرأة رضيعة له يحرم عليه نكاحها ، أو أجنبيّة يجوز له التزويج بها ، أو وجد لحما ولم يدركونها ميتة أو مذكّاة ، أو دار بين كونه من الحيوان المأكول أو غيره ، أو رأى حيوانا وشكّ في اندراجه في النوع الحلال أو الحرام.

وقد يكون من جهة الجهل بتعيين الحلال والحرام.

وقد يكون من جهة امتزاج الحرام بالحلال واختلاطه بحيث لا يمكن التمييز ، على نحو اختلاط الدبس أو المائع المغصوب بالمباح ، وكذا السمن والطحين والسويق بل الحنطة ونحوها.

وقد يكون من جهة اشتباه الفرد الحلال بالحرام عند حصولهما معا وعدم تمايزهما في المقام ، مع الجهل بالتعيين كالإنائين المشتبهين عند العلم بنجاسة أحدهما ، والدرهم الحلال المشتبه بالحرام إذا علم حرمة أحدهما وحلّية الآخر ، ولحم الميتة والمذكّاة عند اشتباه أحدهما بالآخر. وحينئذ قد يكون الامور المردّد بينها محصورة محدودة ، وقد تكون غير محصورة ، فهذه صور المسألة.

أمّا إذا كانت الشبهة من جهة طريان ما يزيل الحكم الثابت من الحلّ أو الحرمة ، فلا ريب حينئذ في البناء على الحكم الأوّل حتّى يثبت خلافه ، سواء كان الثابت أوّلا هو الحلّ أو الحرمة من غير خلاف فيه بين الاصوليّة والأخباريّة ، فإنّ حجّية الاستصحاب فيه متّفق عليه بين الفريقين ، ولا مجال لتوهّم الحلّ في الصورة الثانية نظرا إلى عدم حصول اليقين بالحرمة حينئذ ، إذ مجرّد الاستصحاب لا يفيد العلم ، وقد انيط الحكم بالتحريم في الرواية المذكورة بعد الدوران بين الحلّ والحرمة بالعلم بالحرمة ، الظاهر في اليقين فيحكم بالحلّ من دونه ، إذ المراد من العلم في الشرعيّات هو العلم الشرعي ـ أعني ما حصل من الدليل المعتبر عند

__________________

(١) الخاصّ ، خ ل.

٥٩٢

الشارع سواء أفاد اليقين بالواقع أو لا ـ حسب ما نقول بمثله في مسألة الاستصحاب كما سيجيء بيانه.

ومع الغضّ عن ذلك فالحكم بالحلّ في الرواية مغيّى بعدم العلم بالتحريم. وبعد العلم به لو حصل الشكّ أو الظنّ بالحلّ فلا دلالة في الرواية على الحكم بحلّه أصلا ، فيستصحب التحريم من دون معارض. ولو كان ممّا توارد عليه الحالان ولم يعلم تقدّم أحدهما وتأخّر الآخر ـ ليؤخذ بمقتضاه ـ ففي جريان القاعدة المذكورة فيه نظرا إلى عدم العلم بالحرمة فيؤخذ بالحلّ إلى أن يعلم التحريم ، وعدمه نظرا إلى حصول العلم بحرمته بالخصوص في الجملة فيخرج عن مورد النصّ المذكور وجهان. وقد يؤيّد الأوّل عمومات الحلّ ، وكأنّه الأظهر.

وإن كان من الثاني (أعني ما إذا دار الأمر في المصداق بين الوجهين) فإن كان هناك قاعدة شرعيّة قاضية بالحلّ ـ كيد المسلم وإخبار ذي اليد القاضي بالحلّ والطهارة ـ فلا إشكال. أو بالمنع ـ كإخباره بحرمته أو نجاسته ، وكأصالة عدم التذكية بالنسبة إلى اللحوم والجلود ونحو ذلك ـ قضي بالمنع. وإن خلا من الأمرين فظاهر الرواية المذكورة قاضية فيه بالحلّ ، بل لا يبعد أن يكون ذلك هو مورد الرواية كما سنشير إليه.

ولو وجد حيوانا وشكّ في كونه من جنس المأكول أو غيره فهل يحكم بمجرّد ذلك بحلّه ، أو لابدّ من استعلام الحال في اندراجه في أحد الأصناف المحلّلة أو المحرّمة بالرجوع إلى أهل الخبرة والعلامات المنصوبة من الشرع؟ وكذا الحال في غير الحيوان من المأكول والمشروب الدائر بين المباح والمحرّم وجهان.

والّذي يتقوّى في النظر أن يقال : إن كان ذلك معلوم العين وكان مجهول الاسم أو مجهول الصفة ـ الّتي به يتميّز الحلال عن الحرام فيشكّ في شأنه من تلك الجهة ـ فلا يبعد كونه من الجهل بالحكم ، فيجب عليه التجسّس عنه ، ولا يجوز له البناء على الحلّ بمجرّد الجهل المفروض نظرا إلى الأصل المذكور. وهل يجوز له البناء على الحلّ مع العجز عن التجسّس وجوه : ثالثها التفصيل بين المجتهد وغيره.

٥٩٣

وأمّا إذا كان الموضوع غير معلوم العين وكان دائرا بين الأمر المحلّل والمحرّم فالظاهر اندراجه تحت الأصل المذكور فلا يجب التجسّس عنه ، فعلى هذا يجوز تناول المعاجين ونحوها ـ من المركّبات الّتي لا يعرف أجزاؤها ـ قبل التفحّص عنها والمعرفة بحالها وإن احتمل أن يكون بعض أجزائها ممّا يحرّم أكله.

هذا وما ذكر من الحكم بحلّ المشتبه في هذه الصورة ظاهر بالنسبة إلى الحكم بحلّه في نفسه.

وأمّا بالنسبة إلى حلّه في العبادات إذا دار الأمر بين المنع من التلبّس بها نظرا إلى احتمال منافاته لها وعدمه ففيه وجهان. وذلك كالجلد الدائر بين كونه من مأكول اللحم وغيره ، أو الشعر الملاصق للّباس الدائر بين الأمرين ، فيحتمل اندراجه في إطلاق الرواية المذكورة فيبنى فيه أيضا على الحلّ والجواز حتّى يتبيّن الخلاف ، ويحتمل انصراف الرواية إلى حلّ الشيء وحرمته في نفسه دون كونه مانعا من صحّة عمل آخر وعدمه ، وكما أنّ الأصل في العبادات المجملة عند الدوران بين جواز فعل فيها وعدمه بحسب الحكم هو البناء على المنع ، حسب ما عرفت من وجوب مراعاة الاحتياط نظرا إلى العلم بحصول التكليف والشكّ في أداء المكلّف به ، كذا الحال في صورة الشكّ في الحاصل في الأداء من جهة الموضوع ، بل لا يتفاوت الحال في الشكّ المفروض بين العبادات المجملة وغيرها ، إذ لا ثمرة للإطلاق بالنسبة إلى الشكّ الحاصل في أداء الشيء المعيّن أو الإتيان به لقضاء اليقين بالاشتغال في مثله باليقين بالفراغ مطلقا.

وقد يفصّل في المقام بين ما إذا كان الشكّ المفروض قاضيا بالشكّ في أداء شرط من شروط العبادة ـ كما إذا لم يدركون اللباس منسوجا من صوف المأكول أو غير المأكول وأراد ستر العورة الواجب في الصلاة به ـ وما إذا تعلّق الشكّ بوجود المانع ـ كما إذا أراد لبس الثوب المفروض في الصلاة في غير ستر العورة ـ والفرق أنّ المقتضي للصحّة غير ثابت في الأوّل للشكّ في وجود الشرط القاضي بالشكّ في وجود المشروط ، فيبقى التكليف بحاله إلى أن يتحقّق العلم بالفراغ ، بخلاف الثاني ، لوجود المقتضي هناك.

٥٩٤

غاية الأمر احتمال وجود المانع ، وهو مدفوع بالأصل.

ويشكل ذلك : بأنّ مرجع المانع إلى الشرط فإنّ عدم المانع شرط في الصحّة وحينئذ فالشكّ فيه أيضا قاض بالشكّ في وجود المشروط به كغيره من الشروط الوجوديّة ، وقد يدفع : بأنّه وإن كان مرجع المانع إلى الشرط إلّا أنّ الملحوظ في الشرط وجود الشيء ، وفي المانع عدمه ، فتحقّق الأوّل مخالف للأصل بخلاف الثاني ، وكفى به فارقا بين المقامين.

ألا ترى أنّه لو شكّ في تحقّق الحدث في الصلاة بنى على عدمه. ولو شكّ في تحقّق الطهارة أو الاستقبال بنى على عدمهما أيضا.

وقد يشكل ذلك : بالفرق بين ما إذا دار الأمر بين وجود الشيء المانع وعدمه ، وبين وجود الشيء والشك في مانعيّته ـ أي الشكّ في كونه هو الأمر المانع أو غيره ـ فإنّه لا شكّ في دفع الأوّل بالأصل ، وأمّا الثاني فدفعه بالأصل مشكل ، لاحتمال أن يكون ذلك هو ما اعتبر عدمه في تحقّق المطلوب وأن يكون غيره ، ونسبة الأصل إلى الأمرين على وجه واحد ، بل قد يقال : إنّ قضيّة الأصل هنا أيضا هو الأوّل نظرا إلى أنّ حصول الاشتغال بأداء المأمور به معلوم ، والخروج عنه غير معلوم ، فيبنى على عدمه.

نعم لو كان هناك أصل يقضي بانتفاء المانع صحّ الإشكال عليه ، كما لو شكّ في الشعرات الملصقة بالثوب أنّها من المأكول أو غيره ، فإنّه يمكن أن يقال : إنّ الصلاة في الثوب المفروض قبل حصول الشعرات فيه كانت صحيحة فيستصحب ذلك إلى أن يعلم المنع. هذا كلّه إذا كان تحريم الشيء في المقام على وجه المانعيّة.

أمّا إذا لم يكن مانعا ، بل كان دائرا بين الإباحة ومجرّد التحريم وإن تبعه المانعيّة ، فلا شكّ في كون الأصل فيه أيضا عدم التحريم ، كما في الصورة السابقة ، فيدفع المانعيّة من جهة نفي التحريم.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا بين العبادة المجملة وغيرها من المطلقات ، إذ المفروض ثبوت المانعيّة. غاية الأمر دوران الشيء بين كونه ذلك المانع أو غيره.

٥٩٥

وأمّا ما كان من الثالث ـ أعني ما كان الحرام ممتزجا مع الحلال على نحو لا يمتاز أحدهما عن الآخر ـ فلا إشكال في تحريم استعمال الجميع ، إذ استعمال كلّ جزء من المباح استعمال لجزء من الحرام المنضمّ إليه. وفي بعض صور المسألة يحصل الإشاعة والشركة القهريّة فيكون استعمال المباح استعمالا للحرام.

نعم في بعض صور امتزاج الحرام يحكم بالحلّ ـ كما إذا استهلك الحرام الطاهر في الماء ، أو كان نجسا ولم يتنجّس به الماء ، لاعتصامه وعدم تغيّر أحد أوصافه ـ فإنّ الظاهر حلّه وإن كان عينه موجودا بحسب الواقع.

وتوضيح الكلام في ذلك : أنّ حرمة المحرّم قد يتبع اسمه ـ كالطين ـ فإن خرج بالامتزاج عن اسمه ، كاستهلاك الطين في الماء أو غيره انتفى التحريم. وكذا لو دار مدار وصف ينتفي بالامتزاج كالاستخباث في وجه. وإن كان دائرا مدار حقيقته فإن حصل استهلاكه في الماء على الوجه المذكور قضى بحلّه ، لما دلّ على طهارة الماء وطهوريّته. وأمّا الاستهلاك في غير الماء من الجوامد فلا يقضي بالحلّ. وفي سائر المائعات إشكال ، ويقوى البناء على التحريم في غير المضاف. هذا كلّه إذا لم يكن التحريم من جهة كونه ملك الغير.

أمّا إذا كان من جهة كونه ملكا للغير ، فالظاهر عموم المنع في جميع الصور ولو كان قليلا غير متموّل في وجه قويّ ، بناء على كون التصرّف تابعا لملكيّته لا ماليّته كما هو الظاهر.

نعم لو حصل إتلافه بالامتزاج ـ كما إذا قطر قطرة من الدبس الحرام في الماء ـ فالظاهر عدم المنع ، ولو ظهر أثره فيه كماء الورد ونحوه من المعطّرات والأدوية القويّة الآثار قوي المنع وإن استهلك فيه والظاهر عدم صدق التلف فلا يبعد القول بحصول الشركة لمالكه بالنسبة. ولو كان الممازج مماثلا فالظاهر عدم حصول الاستهلاك ولو كان قليلا ، وكذا عدم صدق التلف بامتزاجه. فتأمّل.

وأمّا القسم الرابع : وهو ما إذا كانت الشبهة من جهة وجود الحلال والحرام معا واشتباه مصداق أحدهما بالآخر ، فإن كان ما وقع فيه الاشتباه من الأفراد غير محصور فلا إشكال في الحلّ وجواز التصرّف.

٥٩٦

ويدلّ عليه امور :

الأوّل : الإجماع المعلوم والمنقول في لسان جماعة ، بل الضرورة قاضية به في الجملة ، فإنّ وجود ماء نجس في العالم إذا احتمل أن يكون ما عندنا من الماء هو ذلك النجس وكذا حرمة شيء كذلك لا يقضي بالمنع من التصرّف فيما عندنا من جهة الاحتمال المذكور إذا لم نعلم نجاسته أو حرمته ، وهو ظاهر.

الثاني : لزوم العسر والحرج لولاه وهو منفيّ في هذه الشريعة آية ورواية.

وما يورد في المقام أوّلا : من أنّ لزوم العسر والحرج لا يقضي بالحلّ والطهارة ، غاية الأمر جواز التصرّف من جهة الضرورة كأكل الميتة في المخمصة ، فإنّه لا يفيد حلّ الميتة حينئذ بالذات ولا طهارتها. غاية الأمر جواز الإقدام على أكلها من جهة الضرورة وأين ذلك من المقصود في المقام. وثانيا : أنّ الحلّ الحاصل بسبب العسر والحرج إنّما يتبع حصول ذلك ، ومن البيّن أنّ الاجتناب من غير المحصور ليس عسرا وحرجا في جميع الأزمان بالنسبة إلى جميع الأشخاص. ألا ترى أنّ من يزاول الصحاري المتّسعة يعسر عليه الاجتناب من جميعه بسبب علمه ببول شخص في مكان غير معيّن منه ، بخلاف من يجتاز فيها ولا يحتاج إلى ملاقاة شيء منها. وقد يتحقّق العسر والحرج في الاجتناب عن المحصور أيضا في محلّ الحاجة والضرورة إليه ، فلابدّ إذن من بناء الأمر على الدوران مدار الضرورة والحرج اللازم وعدمها دون انحصار الشبهة وعدمه مدفوع.

أمّا الأوّل : فبأنّ لزوم العسر والحرج قد ينافي تشريع الحكم ، وقد يقضي بالجواز في محلّ الضرورة ، فإن ثبت الحرج والمشقّة في أصل تشريع الحكم بأن حصل الحرج في أغلب موارده لم يقع من الشارع تشريع لمثله ، وإن لم يكن هناك حرج في أغلب موارده بل اتّفق هناك حرج وضيق في الاجتناب عنه في بعض الموارد فلا ينافي ذلك تشريع أصل الحكم ، وإنّما يقضي بالرخصة في محلّ الضرورة ، كما في أكل الميتة في المخمصة. فما ذكره من أنّ العسر والحرج لا يقضي بالحلّ والطهارة مستشهدا بأكل الميتة كما ترى.

٥٩٧

ومن ذلك يتبيّن الجواب عن الثاني أيضا : فإنّ عموم لزوم الحرج في المقام قاض بعدم تشريع الحكم ، فيعمّ الموارد النادرة أيضا ممّا لا حرج فيها ، بخلاف ما إذا كان الحرج اتّفاقيا ، فإنّه إنّما يتبع حصول الحرج والفرق بين الصورتين ظاهر لا يخفى. فما ذكره من دوران الحكم مدار حصول الحرج مطلقا ضعيف جدّا ، كما يتّضح ذلك من ملاحظة نظائره في سائر المقامات.

الثالث : أنّك قد عرفت : أنّ الأصل في الأشياء بمقتضى العمومات المتقدّمة هو الحلّ حتّى يعلم ثبوت التحريم ، والعلم الحاصل في غير المحصور بوجود الحرام في الجملة لا يعدّ في العرف علما بثبوت التحريم بالنسبة إلى شيء من الخصوصيّات حتّى يمنع من الإقدام بالنسبة إلى خصوص الموارد الدائر احتمال كون المحرّم خصوص شيء منها في نظر العرف جدّا بحيث لا يلتفت إليه في الإقدام على خصوص الموارد ، بل يعدّ التحرّز منه عن الجهة المذكورة من ظنون أصحاب السوداء ، وذلك كالتحرّز عن كثير من المطعومات لاحتمال كونه مسموما نظرا إلى حصول العلم بوجود طعام مسموم في العالم ، فقد يكون هو ذلك الّذي يريد الإقدام على أكله. وإذا لم يكن الاحتمال المذكور ملتفتا إليه بحسب العرف في شيء من الموارد الخاصّة لم يعدّ ذلك العلم الإجمالي علما في المقام ، فمقتضى العمومات المذكورة ثبوت الحلّ والإباحة بالنسبة إلى خصوص الموارد ـ كما هو المدّعى ـ ولا يجري نحو ذلك بالنسبة إلى الشبهة المحصورة كما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله فتأمّل.

بقي الكلام في المراد بغير المحصور : ففسّره بعضهم بما يكون خارجا عن حدّ الإحصاء بحسب العادة ، فيتعذّر أو يتعسّر إحصاؤه في العادة ، لكثرته وانتشاره. ويمكن أن يقال : إنّه ما يكون احتمال إصابة الحرام المعلوم بالنسبة إلى الإقدام على خصوص المصاديق الخاصّة موهونا غير ملتفت إليه بحسب العادة.

أو إنّه ما لا يكون الإقدام على المصداق الخاصّ قاضيا برفع العلم الإجمالي الحاصل بوجود الحرام ، بل مع البناء على حرمة ذلك المصداق أو حلّيته يقطع بوجود الحرام في الجملة من دون تفاوت.

٥٩٨

والوجوه الثلاثة متقاربة ، إلّا أنّ الوجه الأخير أخصّ مطلقا ، إذ قد يرتفع العلم الإجمالي على تقدير كون ذلك حراما نظرا إلى احتمال انطباق ذلك الإجمال عليه ، ومع ذلك يعدّ من غير المحصور أيضا. فأظهر الوجوه هو الأوّل إلّا أنّه لا يفارق الثاني ، بل ولا الثالث في الأغلب.

وإن كان ما وقع فيه الاشتباه محصورا فالمعروف من المذهب هو المنع من الإقدام على كلّ من الأفراد الّتي وقع فيها الاشتباه ، وعدم جواز التصرّف في شيء منها حتّى يزول الاشتباه بوجه شرعي من غير فرق بين الإقدام عليها في نفسها أو في أداء واجب يتوقّف على المباح منها ، كاستعمال أحد الإنائين المشتبهين بالمغصوب أو النجس في الوضوء أو الغسل فيسقط ذلك الواجب المتوقّف عليه ، إلّا أن يغلب جهة وجوبه على تحريم ذلك المحرّم ، كما هو الحال في بعض الواجبات. وهذا هو الّذي ذهب إليه المعظم ، بل حكاية الإجماع عليه مستفيضة في خصوص بعض المقامات كمسألة الإنائين المشتبهين.

وذهب بعض المتأخّرين إلى كون الشبهة محلّلة للحرام ، بمعنى جواز الإقدام عليه في حال الاشتباه ، بحيث لا يعلم حين ما يقدم عليه كون ذلك إقداما على الحرام فيجوز الإقدام على جميع تلك المشتبهات إلى آخرها وإن لم يجز الإقدام عليها مجموعا ، للعلم بالتعرّض للحرام في ذلك الإقدام الخاصّ. وقد ذهب إلى ذلك بعض المتأخّرين ولم نجد القول به من أحد من المتقدّمين.

وذهب بعض آخر من المتأخّرين إلى جواز الإقدام إلى أن يحصل العلم بالإقدام على الحرام ، فإن وقع الاشتباه بين الفردين جاز التصرّف في كلّ منهما انفرادا ، ومع التصرّف في أحدهما يحرم التصرّف في الآخر. وإن كان الاشتباه بين الثلاثة وكان الحرام المشتبه واحدا جاز التصرّف في كلّ منها انفرادا أيضا وفي اثنين منها انفرادا ومجتمعا ، ومع حصول التصرّف فيهما يحرّم التصرّف في الثالث. وإن كان الحرام اثنين جاز التصرّف في كلّ منها انفرادا أيضا ، إلّا أنّه مع الإقدام على واحد منها لا يجوز التصرّف في شيء من الآخرين.

٥٩٩

ومن ذلك يعرف الحال في سائر فروض المسألة ومرجع ذلك إلى القول بالتخيير بين الفردين أو الأفراد على حسب ما فيها من الحلال ، فهو مخيّر في الإقدام على كلّ منها على حسبه ، فإذا استوفى مقدار الحلال تعيّن الباقي للحرام على مقتضى اختياره ، فهو قول بتحريم التصرّف في الجميع أيضا وإن حكم بجواز التصرّف في كلّ واحد منها على سبيل التخيير.

ويعزى إلى بعض الأصحاب قول باستعمال القرعة في المقام ، فيحكم بالحلّ والحرمة على حسب ما أخرجته ، ومرجع هذا القول إلى الأوّل ، فإنّ الظاهر منعه من التصرّف قبل القرعة مطلقا. غاية الأمر أنّه يقول بحصول اليقين والخروج عن الشبهة شرعا بالقرعة ، وهو أمر آخر لا ربط له بالمقام.

وكيف كان فالأقوال المذكورة في المسألة أربعة : والمختار هو ما ذهب إليه المعظم.

ويدلّ عليه امور :

الأوّل : أنّه بعد حصول الاشتباه فإمّا أن يحكم في الظاهر بحرمة الإقدام على الأمرين وعدم جواز الإقدام على شيء منهما ، أو بجواز الإقدام على الجميع فلا يحرم في الظاهر التصرّف في شيء منهما ، أو بجواز الإقدام على أحدهما دون الآخر ، ولا سبيل إلى شيء من الوجهين الأخيرين فتعيّن الأوّل ، وهو المدّعى.

أمّا الأوّل فللزوم الحكم بحلّية المحرّم وطهارة النجس ، إذ المفروض العلم بحرمة أحدهما أو نجاسته ، والبناء على الثاني قاض بالترجيح بلا مرجّح ، إذ نسبة الإباحة والتحريم إليهما على نحو سواء. ولو فرض حصول الظنّ بالحلّ أو الحرمة فلا عبرة به في المقام ، لما دلّ على عدم الاعتداد بالظنّ في مثل المقام ، فإنّه من جملة الموضوعات الصرفة ، ولا عبرة فيها بالمظنّة. ومع الغضّ عنه فلا يجري في جميع الصور ، إذ قد يتساوى الحال بالنسبة إليهما ، كما في صورة الشكّ وهو مندرج في محلّ الكلام قطعا. ويمكن الإيراد عليه بوجوه :

الأوّل : النقض بأنّ اختيار الوجه المذكور كما يقتضي الحكم بتحليل الحرام ،

٦٠٠