هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

ثمّ إنّ قضيّة ما ذكرناه في بيان المختار اختصاص القول بالعموم بالجمع المضاف إلى المعرفة ليتحصّل به تعريف المضاف ، وأمّا المضاف إلى النكرة فلا يجزي فيه الوجه المذكور ، فالظاهر عدم إفادته للعموم ، ولو قيل بكون دلالته عليه من جهة الوضع التركيبي فربما يقال بتعميم الحكم للأمرين ، وقد يشير إلى ذلك إطلاق بعضهم بكون الجمع المضاف للعموم ـ كما في كلام شيخنا البهائي في الزبدة وغيره ـ.

وقد يحتجّ عليه بالتبادر ، لكنّك خبير بأنّ التأمّل في العرف قاض بالفرق ، ودعوى التبادر بالنسبة إلى المضاف إلى النكرة ممنوعة والمسلّم منه إنّما هو بالنسبة إلى المضاف إلى المعرفة ، وليس مستندا إلى نفس اللفظ ليفيد الوضع وإنّما هو مستند إلى ما ذكرناه من الوجه ـ حسب ما مرّ القول فيه ـ.

وأقصى ما يسلّم في المضاف إلى النكرة هو الإطلاق الراجع إلى العموم في كثير من المقامات من جهة دليل الحكمة ولا ربط له بالمقام. والحقّ في المفرد المضاف ما ذكرناه في المفرد المعرّف بالأداة.

ثانيها : أنّه قد يتوهّم أنّ انصراف المطلق إلى الشائع بحصول النقل وكون اللفظ منقولا في العرف إلى خصوص ما يعمّ الأفراد الشائعة وهجره من المعنى العامّ الشامل للجميع ، نظرا إلى تبادر غيره منه في العرف ، فيكون حقيقة عرفيّة في الشائع مجازا في غيره أخذا بمقتضى العلامتين ، فلابدّ إذن من الحمل عليه لتقديم الحقيقة العرفيّة على اللغويّة القديمة قطعا ، وانصراف كلام الشارع إليه مع دورانه بين الأمرين ، لتقديم العرف على اللغة حسب ما قرّر في محلّه.

وهذا الوجه فاسد جدّا ، إذ دعوى كونه مجازا في المعنى العامّ وحصول الهجر بالنسبة إليه ممّا ينافيه صريح العرف ، كيف! ولو كان كذلك لم يكن هناك فرق بين العمومات والمطلقات ، إذ العموم إنّما يعرض اللفظ بالنسبة إلى ما وضع بإزائه ، ودعوى دلالة التبادر على كونه حقيقة في خصوص الشائع وعدم تبادر المعنى الأعمّ منه ومن النادر على كونه مجازا فيه فاسدة ، إذ التبادر في المقام ليس

٢٢١

مستندا إلى نفس اللفظ بل من جهة غلبة الإطلاق ، فهو نظير تبادر المجاز الراجح على الحقيقة بملاحظة الشهرة ، فلا يكون علامة على الحقيقة ولا عدمه علامة للمجاز حسب ما مرّ بيانه ، ومع الغضّ عن ظهور ذلك في المقام فمجرّد الشكّ في استناده إلى اللفظ أو الغلبة الظاهرة كاف في دفع ذلك ، لأصالة عدم النقل. ودعوى أنّ الأصل في التبادر أن يكون مستندا إلى نفس اللفظ وكونه أمارة على الحقيقة على إطلاقها فاسدة ، بل الأصل في المقام قاض بخلافه ، لظهور حصول الشهرة الباعثة على الفهم ، فالأصل عدم حصول سبب آخر ليستند الفهم إلى الوضع. وقد مرّ بيان ذلك في محلّه.

ويظهر من بعض الأفاضل القول بثبوت الوضع الجديد العرفي لخصوص ما يعمّ الأفراد الشائعة من غير هجر المعنى القديم الشامل للجميع ، فيكون اللفظ مشتركا بين المعنيين ، إذ حصول الشهرة لاستعماله في خصوص الجامع بين الأفراد الشائعة ليكون مجازا مشهورا فيه من غير أن يبلغ إلى حدّ الحقيقة ، فعلى الوجهين لا يتّجه الحمل على الأفراد الشائعة ، بل لابدّ من التوقّف بين المعنيين ، لعدم مدخليّة مجرّد شهرة أحد معاني المشترك في ترجيح الحمل عليه ، لمعارضة الشهرة في المجاز المشهور بأصالة الحقيقة ، إلّا أنّه لمّا كانت الأفراد الشائعة مندرجة في المعنيين كان الحكم ثابتا بالنسبة إليها قطعا ، فيحكم بثبوت الحكم بالنسبة إليها دون غيرها ، لعدم إفادة اللفظ حينئذ ما يزيد على ثبوت الحكم بالنسبة إلى الأفراد الشائعة من جهة الإجمال المفروض.

وفيه : أنّ القول بثبوت الوضع الجديد بعيد جدّا ولا شاهد عليه سوى التبادر المذكور، وقد عرفت الحال فيه ، وهو أيضا مدفوع بالأصل ـ كما عرفت ـ والتزام التجوّز في إطلاقه على الأفراد الشائعة ـ كما جرى عليه مسلّم الاستعمالات ـ موهون جدّا. ويدفعه الأصل أيضا مع عدم الحاجة إلى التزامه ، كيف ولو كان الوجه فيه ما ذكر لم يكن اللفظ منصرفا إلى الشائع بحيث يفهم منه عرفا إرادة الشائع ، بل يكون مجملا في مقام الفهم ، وإنّما يثبت الحكم للشائع من جهة

٢٢٢

اندراجه في المفهوم على الوجهين وهو خلاف ما يقتضيه الرجوع إلى المخاطبات العرفيّة ، حيث إنّ المفهوم منها إرادة الشائع دون الحكم به من جهة الإجمال ـ حسب ما قرّرنا ـ وهو ظاهر. وأيضا لو كان الوجه فيه ما ذكر لزم الرجوع إلى الأصل ، وهو كما يقتضي الاقتصار على الأفراد الشائعة فقد يقتضي التعميم ـ كما إذا كان الحكم المدلول عليه موافقا للأصل ـ فيكون ذلك قاضيا في مقام الفقاهة بثبوت الحكم للأعمّ ، بل قد يقال بكون الأصل مرجّحا لحمله عليه أيضا.

ويمكن أن يقال : إنّ الكلام في المقام في بيان ما يستفاد من اللفظ والأصل المذكور إنّما يعمل عليه في مقام الفقاهة ولا يقضي باستفادته من اللفظ ، فلا يصحّ جعله مرجّحا لحمل اللفظ عليه. وأمّا ثبوت الحكم للأفراد الشائعة فهو مستفاد من اللفظ دون غيره نظرا إلى الوجه المذكور من جهة الإجمال المفروض ، فيكون القدر الثابت من اللفظ هو ثبوت الحكم للأفراد الشائعة دون غيره ، فمقتضاه الأصل بثبوت الحكم للأعمّ غير أن يكون ذلك هو القدر المستفاد من اللفظ كما يقتضيه الوجه المذكور وذلك هو الملحوظ في المقام.

وفيه : أنّ ذلك لا يتمّ على التقرير المذكور أيضا ، إذ قد يكون قضيّة الأخذ بالمتيقّن حمله على الأعمّ فيكون ذلك هو القدر المستفاد عن اللفظ كما إذا علّق عليه تكليف وجودي ـ كما إذا قال «إذا لم يأتك الإنسان فاقتل زيدا» فإنّه إن حمل على الأفراد الشائعة وجب القتل عند عدم مجيئه ولو جاءه غير الشائع ، وهو خلاف الأصل ، فالقدر الثابت من الإجمال هو وجوب القتل عند عدم مجيء الشائع وغيره ، ولابدّ من الاقتصار عليه حتّى يقوم دليل على الوجوب عند عدم مجيء الشائع ـ نظير ما قرّرنا هناك ـ.

فالحقّ أن يقال : إنّ انصراف المطلق إلى الشائع إنّما هو من جهة غلبة إطلاق المطلق عليه من دون لزوم تجوّز ولا نقل ولا التزام وضع جديد.

وتوضيح الكلام فيه : أنّك قد عرفت أنّ إطلاق الكلّي على الفرد غير استعماله في خصوص الفرد ، وأنّه لا يستلزم ذلك تجوّزا في اللفظ وإن كانت الخصوصيّة

٢٢٣

ملحوظة للمستعمل إذا لم يقحمه في معنى اللفظ وإنّما يريدها من الخارج ، وأنّه قد ينتهي الغلبة المذكورة إلى حدّ النقل فيتعيّن اللفظ لمّا اطلق عليه ويكون حقيقة فيه بخصوصه من غير أن يكون نقله إليه مسبوقا بالتجوّز ، فحينئذ نقول : إنّه إذا لم ينته إلى حدّ النقل ـ بحيث يكون اللفظ منصرفا إليه من دون ملاحظة الشهرة ـ فقد يكون بحيث ينصرف إليه بملاحظة الشهرة نظير المجاز المشهور فيما يستعمل اللفظ فيه ، وحينئذ يكون اللفظ باقيا على الحقيقة الأصليّة منصرفا إلى الشائع بملاحظة الشهرة المفروضة. والقول بأنّ الشهرة لا تكون باعثة على الحمل وأنّها معارضة بأصالة الحقيقة ـ كما في كلام الفاضل المذكور ـ قد عرفت فساده ممّا قرّرناه في محلّه ، إذ ذاك ممّا يتبع درجة الشهرة كما عرفت الحال فيه.

غاية الأمر تردّد الذهن عند عدم بلوغها إلى تلك الدرجة إذا كانت مطابقة لما يقتضيه ظاهر الإطلاق ، وأمّا إذا كان الظنّ الحاصل من الشهرة راجحا على الحاصل من ظاهر الإطلاق ـ كما هو الحال في موارد انصراف المطلق إلى الشائع ـ فلا ريب في ترجيحها عليه ـ نظير ما ذكرناه في درجات المجاز المشهور ـ.

فغاية الأمر أن يكون الأفراد الشائعة في بعض الصور ممّا يتردّد الذهن بين حمل اللفظ عليها أو على الأعمّ ، نظرا إلى معادلة ظاهر الإطلاق للظهور الحاصل من الغلبة ، ولا ينافي ذلك ما قرّرناه من الانصراف إلى الشائع في محلّ الكلام ، ولو ادرجت تلك الصور في محلّ الكلام فغاية الأمر أن يقال : حينئذ بالتفصيل المذكور نظير ما ذكر في المجاز المشهور. ثمّ إنّ عدم كون الشهرة قرينة لحمل المشترك على المعنى المشهور ضعيف جدّا ، كدعوى معارضة الشهرة لأصالة الحقيقة في المجاز المشهور ، فإنّه إنّما يصحّ إذا تكافأ الظنّان ، وأمّا إذا ترجّح ظنّ الشهرة لقوّته فلا محيص عن الأخذ بمقتضاه.

والحاصل : أنّه بعد قيام الإجماع على حجّية الظنّ في مباحث الألفاظ وجريان المخاطبات عليه لا محيص من الاكتفاء به في القرائن الظنّية المعيّنة والصارفة ، ومن جملتها الشهرة بل هي من أقوى الامور الباعثة على المظنّة ، فلا وجه لعدم جواز الاتّكال عليها.

٢٢٤

فإن قلت : إنّ غلبة إطلاق المطلق على الشائع إن كان مع ملاحظة الخصوصيّة لزمه التجوّز في الإطلاق ، وإن كان من دون ملاحظة الخصوصيّة بأن لا يلاحظ في المقام إلّا المفهوم العامّ الّذي وضع اللفظ بإزائه فلا ثمرة لغلبة الإطلاق في انصراف المطلق إلى الشائع ، إذ لا يراد من اللفظ إلّا معناه العامّ الشامل للأمرين. غاية الأمر أن يكون ذلك المفهوم حاصلا في الغالب في ضمن مصاديقه الشائعة دون غيرها ، وذلك لا يقضي بعدم ثبوت الحكم بمقتضى مدلول ذلك اللفظ لغير الشائع إذا فرض تحقّقه فيه.

ألا ترى أنّ غلبة إطلاق الماء على المياه الموجودة عندنا أو الموجودة في زمان الشارع لا يقضي بانصراف إطلاقه عندنا وفي كلام الشارع إليه ، وكذا الحال في سائر المفاهيم بالنسبة إلى غلبة إطلاقها على الأفراد الموجودة المتداولة ، إذ لا يلاحظ في الإطلاق خصوصيّة ذلك الوجود أصلا ، بل لا يلاحظ فيه إلّا المفهوم العامّ ، ولذا لا يقال بانصراف الإطلاق إلى الشائع في مثل ذلك قطعا ، فندور وجوده بل وعدمه حينئذ لا يقضي بانصراف الإطلاق عنه ، ولذا لو فرض حصوله في المقام على خلاف المتعارف اندرج في الإطلاق قطعا.

ألا ترى أنّه لو قال المولى لعبده «اسقني الماء» فأتاه بماء السيل من طيّ الأرض ـ مثلا ـ كان ممتثلا قطعا ، فغلبة الإطلاق على الوجه المذكور لا يقضي بانصراف الإطلاق إلى الغالب أصلا.

قلت : إنّا لا نقول بعدم ملاحظة الخصوصيّة في المقام أصلا حتّى لا يكون شيوع الإطلاق قاضيا بالانصراف ـ كما في الصورة المذكورة ـ بل نقول بملاحظتها في المقام إلّا أنّ تلك الملاحظة لا تستلزم المجازيّة ، وتوضيح ذلك : أنّ الخصوصيّة قد تقحم في المفهوم الّذي يراد من نفس اللفظ ويستعمل اللفظ فيه ، وقد لا يقحم فيه ولكن يراد الخصوصيّة من الخارج ويلحظ في الاستعمال وإن لم يكن مرادا من نفس اللفظ ، وقد لا يكون الخصوصيّة ملحوظة أصلا ، إلّا أنّه قد اطلق عليه لأنّه الموجود على سبيل الاتّفاق أو لغلبة وجوده ، فلا تكون

٢٢٥

الخصوصية ملحوظة للمستعمل لا بأخذها جزءا للمفهوم الّذي استعمل اللفظ فيه ولا بإرادة الخصوصيّة من القرائن القاضية به ، فاستعمال اللفظ على الوجه الأوّل مجاز قطعا ، وحصول الشهرة على الوجه المذكور قاض بالنقل أو شهرة المجاز ، وعلى الوجه الثاني لا تجوّز فيه ، إذ لا يراد من نفس اللفظ إلّا المفهوم الّذي وضع بإزائه.

غاية الأمر إرادة الخصوصيّة من الخارج وإطلاق اللفظ على ذلك الخاصّ إنّما هو من جهة حصول ذلك المعنى فيه وانطباقه عليه ، إلّا أنّ غلبة ذلك الإطلاق يقضي بالانصراف فتقوم تلك الغلبة مقام سائر القرائن الخاصّة القائمة عليه قبل حصولها. وقد ينتهي الأمر فيه إلى النقل ـ حسب ما مرّ ـ والوجه الثالث لا تجوّز فيه أيضا ولا يقضي بالانصراف أصلا ، إذ ليست تلك الخصوصيّة ملحوظة في إطلاق اللفظ من الوجوه ، ولذا لا يكون مجرّد ندور الفرد قاضيا بانصراف الإطلاق عنه.

والفرق بين الوجوه الثلاثة ظاهر للمتأمّل ومورد انصراف الإطلاق إلى الشائع هو القسم الثاني ما لم يتحقّق النقل. وأمّا القسم الأوّل فهو مندرج في المجاز المشهور قبل حصول النقل. وأمّا الثالث فلا انصراف للإطلاق إليه ـ كما بيّنّاه ـ وقد يقع الخلط بين الأقسام في كلمات الأعلام وتحقيق الحال ما ذكرنا ، حسب ما يقتضيه التأمّل في المقام.

ثالثها : أنّه إذا دار الأمر في المفرد المعرّف بين كونه للعهد أو الجنس أو العموم فإن كان هناك معهود حمل عليه ، لانصراف التعريف إليه كما عرفت ، إلّا إذا كان في المقام ما يفيد إرادة غيره ، كما إذا قال : لا تنقض يقين الطهارة بالشكّ في الحدث فإنّ اليقين لا ينقض بالشكّ ، إذ التعليل ظاهر في إرادة العموم. وإن لم يكن هناك معهود انصرف إلى الجنس ، والقدر اللازم منه ثبوت الحكم لذلك الجنس على سبيل الإهمال الراجع إلى الجزئيّة على ما هو الحال في القضايا المهملة ، كما إذا قلت : جاء الإنسان وأكرمت الرجل ، وكذا الحال فيما إذا نذر اكرام الإنسان أو دفع

٢٢٦

الدرهم إلى الفقير ونحو ذلك. ولو لم يصحّ حمله على ذلك لزم حمله على العموم ، ومن ذلك قضاء المقام به ـ حسب ما قرّرناه في إرجاع المفرد المحلّى إلى العموم من جهة الحكمة ـ بأن يجعل المعنى الجنسي مرآتا لملاحظة الأفراد المندرجة تحته ، ويحكم عليه من حيث اتّحاده بها فيراد به استغراق الأفراد الشائعة ـ حسب ما مرّ ـ كما في البيع حلال ، واليقين لا ينقض بالشكّ ، والشكّ لا عبرة به بعد الفراغ ، ونحوها.

قال الشهيد رحمه‌الله في التمهيد : إذا احتمل كون «ال» للعهد وكونها لغيره ، كالجنس أو العموم ، حملت على العهد ، لأصالة البراءة عن الزائد ، ولأنّ تقدّمه قرينة مرشدة إليه ، ومن فروعها : ما لو حلف أن لا يشرب الماء ، فإنّه يحمل على المعهود ، حتّى يحنث بنقضه إذ لو حمل على العموم لم يحنث. ومنها : أنّه إذا حلف أن لا يأكل البطّيخ ، قال بعضهم : لا يحنث بالهندي ، وهو الأخضر. وهذا يتمّ حيث لا يكون الأخضر معهودا عند الحالف إطلاقه عليه إلّا مقيّدا. ومنها : الحالف بأن لا يأكل الجوز ، لا يحنث بالجوز الهندي. والكلام فيه كالسابق ، إذ لو كان إطلاقه عليه معهودا في عرفه حنث به ، إلّا أنّ الغالب خلافه ، بخلاف السابق ، فإنّه على العكس.

قلت : أمّا ما ذكره من تقديم العهد على المعنيين فهو المتّجه ، كما عرفت لكن الوجه فيه ما ذكرنا ، وكأنّه أشار بتعليله الثاني إليه ، وأمّا تعليله الأوّل : فهو إن تمّ فلا يفيد انصراف اللفظ ودلالته عليه ، بل غاية ما يدلّ عليه أنّه بعد الدوران بين العهد والعموم يكون المعهود متعلّقا للتكليف على الوجهين ، وتعلّق التكليف بغيره مبنيّ على احتمال كونه للعموم ، وبمجرّد الاحتمال لا يثبت التكليف فيدفع الزائد بالأصل ، فيكون القدر الثابت من اللفظ هو ثبوت الحكم للمعهود دون غيره ، ولا بأس بذكره في المقام لموافقته للأوّل في الثمرة.

وأورد عليه بعض الأفاضل : أنّه لا يقتضي ما ذكره إلّا عدم ثبوت التكليف في غير المعهود ، لعدم العهد بأزيد منه ، لا أنّ المتكلّم استعمل اللفظ في العهد. فالأولى أن يقال : في موضع أصالة البراءة أصالة عدم ثبوت الحكم إلّا في المعهود ، يعني

٢٢٧

إذا دار الأمر بين إرادة الجنس والعهد فالمعهود مراد بالضرورة ، لدخوله تحتهما ، والأصل عدم ثبوت الحكم في غيره.

وأنت خبير بأنّه لا يعقل فرق بين الوجهين فيما ذكره بعده ، بل ما أورده على الأوّل وارد على الثاني بعينه ، لوضوح عدم دلالة الأصل المذكور على استعمال اللفظ في خصوص العهد ، كيف! ولو دلّ عليه الأصل المذكور لدلّ عليه أصالة البراءة أيضا من غير فرق بينهما في ذلك أصلا ، فكون القدر الثابت من اللفظ تعلّق الحكم بالمعهود مشترك بينهما.

ثمّ أورد عليه حينئذ إنّه إنّما يتمّ لو لم يحتمل الجنس إرادة وجوده في ضمن فرد مّا ، فإنّ المعهود حينئذ غير معلوم المراد جزما.

وفيه أنّ المعهود أيضا مندرج في المراد لكونه من أحد الأفراد غاية الأمر أن لا يتعيّن الإتيان به بناء على الجنسيّة ، فهو مطلوب إمّا بخصوصه أو لحصول المطلوب به ، ومطلوبيّة غيره مع أحد الوجهين غير معلومة فهي أيضا مدفوعة بالأصل ، ويوضح الحال في ذلك ما لو تعذّر عليه الإتيان بالمعهود ، فإنّ الحكم بوجوب إتيانه بفرد من غير المعهود ممّا لا دليل عليه ، إذ لا يفيد وجوبه إلّا مجرّد الاحتمال ، وهو لا يثبت التكليف ، وأصالة عدم وجوب خصوصيّة المعهود لا يثبت التكليف به ، فإنّ الأصل أيضا عدمه.

فالحقّ أن يقال : إنّ التكليف ثابت في المقام ويقين الامتثال حاصل بأداء المعهود دون غيره ، فيتعيّن الإتيان به عند التمكّن منه ، ولا يثبت تكليف بغيره ، ومع عدمه فتحقّق التكليف بغيره غير معلوم ، فهو مدفوع بالأصل. هذا وكان مقصود الشهيد من التمسّك بأصالة البراءة هو قضاء الأصل به في الجملة فيما إذا تعلّق التكليف به ، كما إذا قال «أكرم العالم ، وأغن المسكين ، وتصدّق بالدينار» إذا تقدّمه المعهود ، فإنّ حمله على العموم على خلاف الأصل في مقابلة حمله على المعهود ، وإلّا فمن البيّن أنّه لو تعلّق به الإباحة أو رفع التكليف ، كما إذا قال «لا يجب عليك إكرام المسكين ، أو يباح لك إعطاء الدرهم» لا معنى حينئذ لدفع العموم بأصل البراءة.

٢٢٨

نعم لو تمسّك حينئذ بأصالة عدم إرادة غيره في دفع الزائد حيث إنّ ارادة المتكلّم ثبوت الحكم المعهود مستفاد من اللفظ مدلول له ، فإنّه إمّا أن يكون هو المراد أو يكون مندرجا في المراد ، وأمّا إرادته ثبوت الحكم لغيره فغير ظاهر من اللفظ ، فهو مدفوع بالأصل في مورد التكليف وغيره ، إلّا أنّ التمسّك بذلك في بيان مداليل الألفاظ وحملها على معانيها غير متّجه ، والحكم بكون المعهود مرادا في الجملة ولو تبعا غير كونه هو المراد. ألا ترى أنّه لو كان لفظ مشتركا بين الكلّ والبعض واستعمل مجرّدا عن القرائن لم يصحّ ترجيح إرادة البعض بالأصل المذكور ، بل يتوقّف في مقام الحمل كما هو قضيّة الاشتراك ، وحينئذ لو كان ثبوت الحكم للكلّ قاضيا بثبوته للبعض حكم به لثبوته حينئذ على الوجهين ، وليس ذلك قاضيا بحمل المشترك على البعض ، كما هو المقصود في المقام ، لكنّك خبير بأنّ دلالته على ثبوت الحكم للبعض لا يتمّ أيضا في جميع الموارد ، بل إنّما يتمّ فيما يكون ثبوت الحكم للكلّ قاضيا بثبوته للبعض دون غيره ، وحينئذ لا حاجة إلى ضميمة الأصل في بيان مفاد اللفظ. أو يقال حينئذ : إنّ القدر المستفاد من اللفظ عند التجرّد من القرائن إرادة الأقلّ ، لكونه مرادا على كلّ من الوجهين المحتملين بخلاف ما يزيد عليه لابتناء إرادته على مجرّد الاحتمال ، فلا يكون مدلوله عند الإطلاق إلّا ما ذكرناه.

وقوله : «من فروعه ما لو حلف إلى آخره». أراد به أنّه يحمل الماء في المثال على المعهود من إطلاق الماء إذا تعلّق به الشرب ولذا يحنث بشرب بعض المياه ، ولو أراد به العموم لم يحنث بشرب البعض ، لعدم وقوع الحلف حينئذ إلّا على ترك شرب الجميع.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره إنّما يتمّ إذا أخذ عموم المفرد المعرّف من قبيل العموم المجموعي ، فيكون قد نذر ترك شرب مجموع المياه فلا يحنث بشرب البعض ، أو جعل النفي واردا على نفس العموم لا على الجزئيات المندرجة في العام ، كما تقول : ما كلّ إنسان أبيض ، فيكون قد نذر ترك شرب كلّ واحد من المياه ، فيكون

٢٢٩

منذوره شيئا واحدا وهو ترك الكلّ ، والمعنيان المذكوران كما ترى في غاية البعد عن المفرد ، بل الظاهر فساد الحمل عليهما ، أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلأنّه إنّما يتمّ إذا كان هناك أداة للعموم ليتعلّق النفي به ، فيكون سببا للعموم ، كما في قولك : ما جائني كلّ واحد من الناس إذا جاءك بعضهم.

وأمّا إذا كان مفاد اللفظ نفس الوحدات ، كما إذا قلت : ما جائني العالم ، مريدا بالعالم خصوص عالم عالم ، بأن تجعل ذلك المفهوم مرآتا لملاحظة الأفراد المندرجة تحته ، فلا يكون مفاده إلّا عموم السلب.

وعلى هذا فيكون مفاد العبارة في المقام الحلف على عدم شرب آحاد المياه ، فيحنث إذا شرب واحدا منها ، كما إذا نذر أن لا يتزوّج الثيّبات ، فإنّه يحنث بتزويج واحدة منها على التحقيق ، إذ ثبت منها على القول الآخر. فما ذكره من التفريع لا يتمّ إلّا على أحد الوجهين ، وقد عرفت ضعف إرادتهما في المقام.

ثمّ لا يخفى أنّه لم يتعرّض في المثال لحمله على الجنس ، مع أنّ الحمل عليه أظهر في المقام ، لما عرفت من أنّ حمل المفرد على الجنس أوضح من غيره ، بعد انتفاء معهود خاصّ يحمل عليه ، كما في المقام وحمله على المتعارف بين الناس ليس من العهد ، بل من حمل المطلق على المتعارف إن سلّم الشيوع في المقام في إطلاق الماء ، لكن لا يذهب عليك أنّ حمله على الجنس في المقام يرجع إلى العموم على الوجه الثالث ، حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله ، فيتحقّق الحنث بشرب البعض قطعا.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ ما ذكره ـ من قضاء أصالة البراءة عن الزائد بحمله على المعهود ـ ليس جاريا في جميع الموارد ، ولا يريد أنّ الاحتجاج بها على ذلك كلّها ، بل إنّما أراد به قضاء الأصل به في الجملة ، كما عرفت الحال فيه في الأمثلة المتقدّمة ، فلا يرد عليه عدم جريانه في المثال المذكور ، لكون حمله للعموم هنا أوفق بالأصل ، إذ لا يجب عليه حينئذ ترك شرب شيء من المياه.

فالإيراد المذكور عليه ـ بأنّ لزوم الكفّارة في الحنث يعني عند شرب البعض عند إرادة العهد مخالف لأصل البراءة ـ ليس على ما ينبغي.

٢٣٠

وما ذكر في توجيه قضاء أصالة البراءة بحمله على العهد «من أنّه لو حمل على المعهود المتعارف يحصل الحنث بشرب بعض المياه فينحلّ اليمين ، فلا يبقى مانع من الشرب، بخلاف ما لو حمل على العموم لعدم انحلال اليمين» أغرب شيء ، لوضوح أنّ ما يشرب بعد الانحلال وقبله أنّه هو بعض من المياه ، فعلى العموم لا مانع منه قبل الانحلال لا بعده ، فكيف يصحّ بذلك كون العموم موافقا للأصل دون العهد ، على أنّ الأصل بعد ثبوت التكليف عدم ارتفاعه عن المكلّف إلّا بعد قيام الدلالة ، فالحكم بارتفاع التكليف بمجرّد الاحتمال من جهة الأصل المذكور غير متّجه ، بل قضيّة الأصل حينئذ خلافه.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ تعلّق التكليف بترك شيء يستحيل صدوره من المكلّف ـ كالطيران في الهواء واجتماع النقيضين ـ ممّا لا وجه له ، فانعقاد النذر على الوجه المذكور غير متّجه ، فهو أقوى دليل على عدم إرادة العموم في المثال على الوجه المذكور. وأصالة حمل فعل المسلم على الصحّة يقتضي عدم قصده ذلك من غير حاجة إلى ملاحظة ما ذكر لو صحّ التمسّك به هذا.

وما ذكره في الفرع الثاني : إنّه إذا حلف لا يأكل البطّيخ قال بعضهم لا يحنث بالهندي إلى آخره. وتوضيحه : أنّ هناك معهودا في أكل البطّيخ بحسب المقدار ومعهودا بحسب الجنس منه ، من الهندي وغيره ، فلو حمل البطّيخ على العموم بالنسبة إلى الأوّل لم يحنث بأكل شيء منه لا من الهندي ولا من غيره. ولو حمل ذلك على المعهود ، كما ذكره في الفرع الأوّل ، فإن كان هناك جنس خاص معهود حنث بالأكل منه دون غيره ، وإن لم يكن يحنث بأكل أيّ من القسمين. وملحوظ الشهيد في المقام هو ملاحظة المعهودية الثانية وعدمها ، وإلّا فهو محمول عنده على المعهود الأوّل كما في مثال الماء من غير فرق. وكذا الحال في الفرع الثالث.

وبذلك يندفع ما أورد على قوله في المثال السابق ، إذ لو حمل على العموم لم يحنث بأن في صورة العموم يحصل الحنث ، كما إذا جعل البطّيخ أعمّ من الهندي على سبيل المساواة ، لما عرفت من عدم ارتباط أحد المعهودين بالآخر ، وحصول

٢٣١

الحنث بالهندي أو بغيره مبني على حمل البطّيخ على المعهود بحسب المقدار ، لا على جميع أفراده ، حسب ما ذكر في الماء وإن لم يحصل الحنث بشيء منهما كما في الماء. والمعهودية الملحوظة في المقام إثباتا أو نفيا انّما هي في جنس البطّيخ حسب ما ذكرنا.

ثمّ إنّ ما قرّره الشهيد رحمه‌الله من ـ أنّه يتمّ حيث لا يكون الأخضر معهودا عند المخاطب ـ غير متّجه ، فإنّ حمل البطّيخ على غير الأخضر حينئذ ليس من العهد في شيء، وإنّما هو من قبيل حمل الإطلاق على الشائع من غير فرق بين ما يكون معرّفا باللام وغيره حسب ما مرّ تفصيل القول فيه.

فالحقّ حمل البطّيخ في المقام على الجنس الراجع إلى العموم في المقام ، من جهة ورود النفي عليه ، إلّا أنّه يحمل على الشائع في الإطلاق ـ أعني غير الهندي ـ إذا ورد في كلام من يكون ذلك هو الشائع عنده في الإطلاقات وإن كان الشائع في الإطلاق عنده القسمان، كما هو المتعارف في بعض البلدان شمول النوعين ، وكذا الحال في الفرع الثالث ربما يجعل الجوز من قبيل المشترك اللفظي ، فلا ربط له بالمقام.

[النكرة في سياق النفي]

واعلم أنّ من ألفاظ العموم النكرة في سياق النفي ، ولا خلاف ظاهرا بين الاصوليّين ـ ممّن قال بأنّ للعموم صيغة تخصّه كما هو المعروف ـ أنّها تفيد العموم إذا كان إسما لا وصفا ، وهي مختلفة في وضوح الدلالة وعدمه ، فالكائنة بعد لا النافية للجنس نحو «لا رجل» أو ما زيد عليها «من» الزائدة ، نحو ما من رجل في الدار ، أو كانت النكرة مثل لفظ «أحد» و «بدّ» ممّا لا يستعمل إلّا مع النفي صريحة في العموم ، والحق بها ما إذا كانت النكرة صادقة على القليل والكثير ، كالشيء والماء والدهن والدبس ونحوها.

وقد ذكر الشهيد رحمه‌الله في التمهيد : أنّ الكائنة بعد «ليس» و «ما» و «لا»

٢٣٢

المشبّهتين به ظاهر فيه ، وألحق بعضهم النكرة الواقعة بعد «لم» أو «لن» بالأوّل ، قالوا : والفرق بين المعنيين أنّه لا يصحّ إثبات الزائد على الواحد في الأوّل بخلاف الثاني ، فلا يقال «لا رجل عندي بل رجلان» أو «ما من رجل عندي بل رجلان» بخلاف «ليس عندي رجل بل رجلان» أو «ما عندي رجل بل رجلان أو رجال».

وأنت خبير بأنّ نصوصية الأوّل وظهور الثاني إنّما هي في الدلالة على العموميّة مطلقا ، وأمّا الدلالة على العموم بالنسبة إلى المعنى المراد بالنكرة فلا فرق بينهما في ذلك كما مرّت الإشارة إليه.

نعم قد يقال : إنّ النكرة في قولك : «ليس عندي رجل» يحتمل أن يراد به الفرد المعيّن في الواقع ، المبهم عند المخاطب ، كما في النكرة الواقعة متعلّقا بالخبر المثبت في كلام بعضهم ، حسب ما مرّت الإشارة إليه ، وحينئذ فلا دلالة فيها على العموم أصلا. وربما كان المفرد في قولك : «عندي رجل» ظاهرا في العموم ، من جهة احتمال أن يراد بالتنوين في «رجل» الوحدة البدليّة المقابلة للتثنية والجمع ، ولذا صحّ أن يقول : «بل رجلان أو رجال» كما مرّت الإشارة إليه. وأمّا لو اريد به الوحدة المطلقة فلا فرق بينه وبين «لا رجل» إذ لا فرق بين نفي الطبيعة ونفي فرد مّا في إفادة العموم ، حسب ما عرفت. وهذا الاحتمال قائم في الجمع الأفراد (١) ، إذ لا يصحّ أن يراد بالتنوين فيه الإشارة إلى جمع (٢) واحد ، ولذا لا يجوز أن يقابله بنفي الستّة أو التسعة ـ مثلا ـ وإن أمكن أن ينفي الجميع (٣) ، فإنّ ذلك من الامور النادرة ولا يلحظ بالتنوين المقابلة لهما.

فإن قلت : إنّه يحتمل أن يكون قد أطلق رجالا على عدّة معيّنة وحكم بنفيها فلا يفيد نفي الجميع فلذا لا يكون نصّا في العموم.

قلت : إنّ الكلام في النصوصيّة من جهة دلالة اللفظ لا من جهة الإرادة ،

__________________

(١) في المخطوطتين : في الجميع ، بدون لفظ «الأفراد».

(٢) في المخطوطتين : جميع.

(٣) في المخطوطتين زيادة : أو يجمع.

٢٣٣

وإلّا فليس «لا رجل» نصّا فيه أيضا كما مرّ ، ولا ريب أنّ قضيّة ظاهر اللفظ هو الإطلاق ، ونفي ذلك يفيد العموم قطعا ، كما هو الحال في لا رجل. وأمّا احتمال إطلاقه على الخاصّ وورود النفي عليه فهو قائم في «لا رجال» أيضا ، بأن يكون قد أطلقه على رجال مخصوصين وأورد النفي عليها ، ثمّ يأتي بعد ذلك بقرينة تدلّ على ذلك ، كما هو الحال في قوله : ليس عندي رجال.

والحاصل : أنّ ذلك خروج عمّا يقتضيه مدلول اللفظ ورجوع إلى ما يقتضيه القرائن ، ولا ينافي ذلك النصوصيّة الملحوظة في المقام ، فتأمّل. وينقل فيه خلاف عن النحاة فيما إذا كان الدالّ على النفي «ليس» ومشابهتاه في نحو قولك : ليس في الدار رجل و «ما في الدار رجل» و «لا رجل قائما» فالمحكيّ عن سيبويه أنّها للعموم ، والمحكيّ عن المبرّد والجرجاني والزمخشري أنّها ليست للعموم لا نصّا ولا ظاهرا ، وعن اليمني في المغني أنّ «ما من رجل» و «لا رجل في الدار» و «لا رجل قائما» جواب لسؤال مطابق له في العموم ، منطوق به أو مقدّر ، وهو «هل من رجل» و «هل فيها رجل» و «هل رجل في الدار» وإنّ السؤال في الأوّلين كان عن الجنس فجاء الجواب بنفي الجنس ، وفي الثاني عن الواحد فجاء نافيا له.

ومن ثمّ امتنعت المخالفة في الأوّلين وصحّت في الثاني ، فيجوز بل رجلان. ثمّ ذكر أنّ هذا تحقيق مذهب النحاة ، وحكي من أرباب الاصول إطلاق القول بالعموم ، قال : والتحقيق ما قال النحاة. وظاهر كلامه إطباق النحاة عليه ، حيث أسنده إليهم من غير نقل خلاف عنهم. وظاهر ما يستفاد من كلامه أنّ استفادة العموم من النكرة في الأوّلين إنّما هي من جهة نفي الجنس القاضي بنفي جميع الآحاد لا من جهة الوضع بالخصوص ، وعدم الدلالة في الأخير من جهة كون المنفيّ خصوص الواحد ، فلا يدلّ على نفي ما عداه. ثمّ إنّ ظاهر ما حكي عن الاصوليّين إنّها تفيد العموم بالوضع ، وقد اختاره جماعة من المتأخّرين ، وحينئذ فالموضوع للعموم إمّا الهيئة التركيبيّة أو خصوص النكرة المقيّدة بالوقوع في سياق النفي.

٢٣٤

وعن السبكي والحنفيّة أنّ دلالة النكرة المنفيّة عليه التزاميّة ، وهذا هو الظاهر عندي. وقد احتجّوا على كونها للعموم بوجوه :

أحدها : التبادر فإنّ السيّد إذا قال لعبده : «لا تضرب أحدا» فضرب واحدا عدّ عاصيا ، وذمّه العقلاء ، وصحّ للمولى عقوبته.

ثانيها : صحّة الاستثناء منه مطّردا ، وهو دليل الوضع للعموم ، فإنّ الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل.

ثالثها : أنّها لو لم تكن مفيدة للعموم لكان كلمة «لا إله إلّا الله» غير مفيدة للتوحيد ، لعدم إفادتها نفي الالوهيّة عن جميع من سواه تعالى ، وهو باطل إجماعا.

رابعها : أنّ أهل اللسان إذا أرادوا تكذيب من قال : «ما أكلت شيئا» قالوا : قد أكلت كذا ، وهو موجبة جزئيّة ، فيكون الأوّل سلبا كلّيا ، وإلّا لم يكن ذلك تكذيبا له ، لجواز صدق الجزئيّتين.

خامسها : إجماع العلماء على التمسّك بقوله عليه‌السلام : «لا يقتل والد بولده ولا يقتل مؤمن بكافر» ونحوهما على العموم ، ولو لا دلالتهما عليه لما صحّ ذلك.

سادسها : ظهور الاتّفاق عليه من القائلين بوضع صيغة للعموم تخصّه ، كما هو مختار المعظم.

سابعها : أنّ النكرة المثبتة لا تفيد ثبوت الحكم على سبيل الجمع والاستغراق إجماعا ، ولا ثبوته لفرد مخصوص ، وإلّا لكان علما ، فهو إنّما يفيد ثبوت الحكم لواحد غير معيّن ، فنفيه إنّما يكون باستغراق النفي ، إذ نقيض كلّ شيء رفعه ، ولا تناقض بين الجزئين ليكون أحدهما نفيا للآخر ورفعا له.

وأنت خبير بأنّ الوجه الأخير إنّما يفيد دلالة النكرة على العموم على سبيل الالتزام ، حيث إنّ نفي فرد مّا إنّما يكون بنفي جميع الأفراد ، حسب ما هو المختار ، من غير حاجة إلى وضعها لذلك ، لحصول الإفادة المذكورة نظرا إلى ذلك مع فرض انتفاء الوضع له بالخصوص ، فمن فرض وقوع الاحتجاج بذلك في كلامه ـ كالعلّامة في النهاية ـ فالظاهر منه قوله بما اخترناه ، بل ليس القدر المسلّم من سائر

٢٣٥

الأدلّة المذكورة إلّا حصول الإفادة في الجملة ، فلا ينافي ما ذكرنا ، وبذلك يندفع دلالتها على ثبوت وضعها للعموم إجمالا.

وتفصيل القول في ذلك انّه يرد على الأوّل : المنع من كون التبادر المدّعى مستندا إلى نفس اللفظ ليكون دليلا على الوضع ، إذ يحتمل أن يستند إلى نفي الطبيعة أو نفي فرد مّا الحاصل بنفي جميع الأفراد حسب ما نقول به.

واجيب عنه : بأنّ الأصل في التبادر أن يكون من جهة اللفظ ، فمجرّد قيام الاحتمال لا يكفي في الإيراد بعد قضاء الأصل بخلافه ، مضافا إلى قضاء الدليل باستناده إلى الوضع واستفادة المعنى من نفس اللفظ ، إذ لو لم يكن العموم مستفادا من نفس اللفظ لكان هناك انتقالان أحدهما الانتقال من اللفظ إلى المعنى والآخر الانتقال منه إلى العموم ، وليس هناك انتقالان ، لشهادة الوجدان. وأيضا لو كان العموم في نحو «لا رجل» مستفادا من نفي الطبيعة لما صحّ الاستثناء منه إلّا على سبيل الانقطاع ، إذ ليست الخصوصيّة من جنس الطبيعة ، فلا يكون الفرد المركّب منها ومن الطبيعة إلّا شيئا آخر مغايرا للطبيعة ، فيكون استثناؤه منها على وجه الانقطاع وهو واضح الفساد ، ولا أقلّ من كونه على خلاف الأصل.

وفيه : أنّ دعوى كون الأصل في التبادر أن يكون مستندا إلى نفس اللفظ على إطلاقها غير متّجهة. والتحقيق كما مرّت الإشارة إليه في محلّه : أنّه لو لم يكن في الظاهر ما يمكن استناد التبادر إليه فالظاهر استناده إلى نفس اللفظ ، وأمّا لو كان هناك ما يصحّ استناد التبادر إليه مع قطع النظر عن الوضع كما في المقام حسب ما قرّرناه فلا وجه لدعوى استناده إلى الوضع ، وكون الوضع هو الباعث على الانتقال ، إذ لا دلالة في فهم ذلك من اللفظ على حصول الوضع ، بل لا حاجة إلى ارتكاب الوضع له بعد حصول الفهم من دونه.

وما ذكر مؤيّدا لاستناد التبادر إلى نفس اللفظ بيّن الاندفاع ، أمّا الأوّل : فبظهور منع عدم تعدّد الانتقال في المقام بل الظاهر تعدده ، فإنّ المستفاد أوّلا من قولك «ليس عندي رجل» نفي فرد مّا ، وقضيّة ذلك نفي جميع الأفراد فهو لازم بيّن

٢٣٦

لذلك ، ولغاية الاتّصال بين الأمرين يتراءى في جليل النظر كون مدلول اللفظ أوّلا هو نفي جميع الأفراد ، وليس كذلك بعد التأمّل الصحيح في مدلول اللفظ ، لظهور تعدّد المدلولين حسب ما ذكرنا.

وأمّا الثاني : فلوضوح أنّ نفي الماهيّة إنّما يراد به نفيها من حيث الوجود ، وظاهر أنّ نفي وجود الماهيّة مطلقا إنّما يكون بنفي جميع أفرادها ، فإذا ثبت وجود واحد منها كان إخراجا له عن مدلول اللفظ.

فإن قلت : إنّ الإخراج المذكور حينئذ إنّما يكون عن مدلوله الالتزامي فلا يكون الإخراج عمّا هو المراد من اللفظ ، وهو خروج عن قاعدة الاستثناء مخالف للظاهر ، فإنّ قضيّة الاستثناء هو الإخراج عن المستثنى منه دون الأمر اللازم له.

قلت : إن كان الأمر اللازم أمرا مباينا للمستثنى منه فالحال على ما ذكر ، وأمّا إن كان ذلك مصداقا لمدلول اللفظ حاصلا بحصوله منضمّا إلى مدلول اللفظ بيانا لخصوصيّة في ذلك المدلول ملحوظا في إطلاق اللفظ بملاحظة تلك الدلالة الالتزاميّة من غير لزوم تجوّز في الاستعمال كما في المقام فلا مانع ، فإنّ مفاد «لا رجل» بضميمة الملاحظة المذكورة اللازمة لمؤدّاه نفي جميع الآحاد ، فلا مانع من إخراج بعض الأفراد عنه ، نظرا إلى دخوله في مدلول اللفظ وإن كان استفادة ذلك منه عند النظر الدقيق بملاحظة الخارج اللازم.

وعلى الثاني : أنّ اطّراد الاستثناء دليل على فهم العموم منه عند الإطلاق ، وهو أعمّ من الوضع له ، فلا مانع من أن يكون من أجل ما قرّرناه.

ونحوه يرد على الثالث والرابع والخامس ، فإنّ أقصى ما يستفاد منها الدلالة على العموم لا خصوص كونها من جهة الوضع له.

وعلى السادس : أنّه إن اريد به دعوى الاتّفاق منهم على استفادة العموم منه عند الإطلاق فمسلّم ، ولا ينافي ما قرّرناه ، وإن اريد دعوى الاتّفاق على وضعه له فممنوع.

ثمّ إنّ الظاهر ممّا حكي عن النحاة من نفي دلالتها على العموم أنّهم أرادوا

٢٣٧

عدم دلالتها على نفي التثنية والجمع ، ولذا قالوا بجواز «ليس عندي رجل بل رجلان» فإنّه قاض بعدم دلالتها على نفي الزائد على الواحد ، ومرجع ذلك إلى اختلاف معنى النكرة ، فإنّ المراد بالنكرة إن كان مطلق الجنس كما في «لا رجل» فقد نصّوا بإفادته العموم ، وإن كان المراد بها الواحد المطلق كما في «ما من رجل» فقد قالوا به أيضا ، وإن اريد بها الواحد العددي المقابل للتثنية والجمع منعوا من دلالتها على العموم يعني العموم بالمعنى المذكور ، وأمّا دلالته على العموم بالنسبة إلى الآحاد ـ أعني نفيه جميع الوحدات العدديّة على نحو إفادة النكرة بمعناه الآخر لجميع الوحدات المندرجة فيها ـ فالظاهر أنّهم يقولون به ، ولذا لا يجوز «ليس عندي رجل بل زيد» فليس اختلافهم في المقام من جهة عدم دلالتها على العموم بالنسبة إلى ما يصدق عليه ، بل من جهة اختلاف معنى النكرة ، وهي على الوجهين تفيد نفي جميع مصاديقها ، فتفيد نفي جميع الوحدات المطلقة في الأوّلين ، وتفيد نفي جميع الوحدات العدديّة في الثالث ، فالبحث معهم حينئذ في مدلول النكرة ، والظاهر من ملاحظة الاستعمالات العرفيّة كون المنساق من النكرة في مدخولة «ليس» ومشابهتيه أيضا هو الواحد المطلق ، فلذا قلنا بظهورها في العموم على نحو الأوّلين وإن قام فيه الاحتمال المذكور دون الأوّلين ، وهم قالوا بعدم دلالتها على ذلك إمّا لدعوى ظهورها في الواحد العددي أو لدورانها بين الوجهين ، فينبغي دلالتها على الوجه المذكور من جهة قيام الاحتمال المساوي ، والفهم العرفي كما عرفت يدفع ما ذكروه.

نعم لو ذكر بعده الإضراب المذكور دلّ على إرادة الواحد العددي ، والظاهر أنّه لا تجوّز في النكرة حينئذ وإن كان ذلك خلاف الظاهر ، فإنّ الظاهر كون النكرة حقيقة في الصورتين وإن انصرفت عند الإطلاق إلى الأوّل ، وقد مرّ الكلام فيه.

هذا ، ولنتمّم الكلام في المرام بذكر امور :

أحدها : انّه يختلف الحال في النكرات وضوحا وخفاء في الدلالة على العموم ، فالكائنة بعد «لا» النافية للجنس نحو «لا رجل» وما زيد عليها «من» الزائدة نحو

٢٣٨

«ما من رجل في الدار» وما كانت النكرة مثل لفظ «بدّ» و «ديّار» و «أحد» إذا كان اسما لا وصفا ممّا لا يستعمل إلّا مع النفي صريحة في العموم ، والحق بها ما إذا كانت النكرة صادقة على القليل والكثير على نحو واحد ـ كالشيء والماء والدهن والدبس ونحوها ـ وقد نبّه عليه الشهيد رحمه‌الله في التمهيد ، والكائنة بعد «ليس» و «ما ولا» المشابهتين لها ظاهرة فيه. قالوا والفرق بين القسمين أنّه لا يصحّ إثبات الزائد على الواحد في الأوّل بخلاف الثاني ، فلا يقال «لا رجل عندي بل رجلان» أو «ما من رجل عندي بل رجلان» بخلاف «ليس عندي رجل بل رجلان أو رجال».

وأنت خبير بأنّ نصوصيّة الأوّل وظهور الثاني انّما هي في الدلالة على العموم مطلقا ، وأمّا الدلالة على العموم بالنسبة إلى المعنى المراد بالنكرة فلا فرق بينهما في ذلك ، حسب ما مرّت الإشارة إليه.

نعم يمكن أن يقال : إنّ النكرة في قولك «ليس عندي رجل» يحتمل أن يراد به الفرد المعيّن في الواقع ، المبهم عند المخاطب ، كما في النكرة الواقعة في الخبر المثبت على ما نصّ عليه بعضهم فيما مرّ ، ولا دلالة فيها على العموم أصلا ، فظهورها في العموم إنّما هو من جهة قيام الاحتمال المذكور في الصورة الثانية بخلاف الاولى.

ويشكل ذلك بأنّ الاحتمال المذكور أبعد الوجوه في النكرة في المقام ، وربما لا يكون قيام مثل هذا الاحتمال منافيا للنصوصيّة ، ولذا لم يعلّل الحكم بالظهور بذلك في كلامهم ، وكيف كان فقيام هذا الاحتمال هنا قاض بالاختلاف في وضوح الدلالة لو سلّم عدم إخراجه لها عن النصوصيّة في الجملة هذا. وألحق بعضهم بالأوّل النكرة الواقعة بعد «لم» و «لن» وهو غير متّجه ، لقيام ما ذكر من الاحتمال بالنسبة إليهما أيضا ، إذ لا مانع من أن يقال : لم يجئني رجل بل رجلان. ومثله الواقع بعد ما النافية للفعل نحو «ما جائني رجل بل رجلان» ويقوم فيها الاحتمال الأخير أيضا ، فالأظهر إلحاق الجميع بالظاهر في العموم المطلق.

٢٣٩

ثانيها : أنّه يجري ما ذكرناه في النكرة الواقعة في سياق النفي من الدلالة على العموم ـ بالنسبة إلى الواقعة في سياق النهي ، نحو «لا تضرب أحدا» و «لا تشتم رجلا» وهي أيضا مختلفة في وضوح الدلالة ، فإن كانت النكرة ممّا لا يقع إلّا بعد النفي وما بمعناه ، نحو «لا تضرب أحدا» و «لا تقتل ديّارا» كان أوضح في الدلالة. وكذا لو اشترك القليل والكثير في الإسم نحو «لا تعط زيدا شيئا» وأمّا نحو قولك : «لا تضرب رجلا» فهو دونه في الوضوح ، ويقوم فيه احتمال إرادة الوحدة العدديّة فيعقّبه بقوله : بل رجلين إلّا أنّه بعيد ، لكنّه يفيد العموم بالنسبة إلى معناه حسب ما مرّ. ويحتمل أيضا على بعد إرادة النكرة الإبهاميّة ، فلا دلالة فيه إذن على العموم أصلا ، وقد عرفت بعد إرادة ذلك من النكرة جدّا.

ثمّ إنّه يجري ما ذكرناه في النكرة المتعقّبة للنهي وغيره ، ويجري في النكرة الواحدة والمتعدّدة ، تقول : لا تعط من شتمك وشتم أباك درهما ، ولا تعط رجلا أهانك درهما.

ثالثها : أنّ النكرة الواقعة في سياق الاستفهام تفيد العموم أيضا على ما صرّح به بعضهم ، كما في قولك «هل أكرمت رجلا» فمفاده السؤال عن جميع آحاد الرجال أنّه وقع الإكرام عليه لكن على سبيل البدل فالمسؤول هو إكرام الواحد وإن وقع السؤال عن الكلّ ، ويتفرّع على ذلك أنّه لو وقع السؤال عن الماء القليل أنّه هل ينجّسه شيء؟ فقال : لا ، أفاد عدم تنجيس شيء من الأشياء له ، فإنّه لمّا وقع السؤال عن كلّ نجاسة يكون «لا» جوابا بالنسبة إلى كلّ منها ليطابق السؤال. ويمكن أن يجعل ذلك من قبيل النكرة المقدّرة في سياق النفي ، أي لا ينجّسه شيء فلا حاجة إلى ملاحظة ذلك ، نعم لو قال «لا ينجّسه ما سئلت عنه» انحصر في الوجه الأوّل ، فتأمّل.

رابعها : أنّهم اختلفوا في دلالة النكرة الواقعة في سياق الشرط على العموم ، فحكى الشهيد رحمه‌الله في التمهيد عن جماعة من الاصوليّين ذلك ، قال : وبه صرّح الجوهري في البرهان وتابعه الأنباري في شرحه واقتضاه كلام الآمدي ، والمختار عند آخرين عدم إفادته العموم.

٢٤٠